بحثٌ في حكم ما يسمى بعملية تفريق السحب
للشيخ ذياب الغامدي وفقه الله
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
السُّؤالُ : مَا حُكْمُ تَفْرِيْقِ السُّحُبِ؟
الجَوَابُ : الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبْدِهِ ورَسُوْلِهِ الأمِيْنِ .
وبَعْدُ : فَقَدْ كَثُرَ السُّؤالُ مُؤخَّرًا عَنْ عَمَلِيَّةِ تَفْرِيْقِ السُّحُبِ، وهُوَ مَا تَقُوْمُ بِهِ بَعْضُ الجِهَاتِ المَعْنِيَّةِ، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ رَشِّ السُّحُبِ بمَادَّةٍ كِيْمَاوِيَّةٍ لغَرَضِ مَنْعِ نُزُوْلِ المَطَرِ، بحُجَّةِ مَنْعِ الضَّرَرِ في بَعْضِ المَنَاطِقِ!
قُلْتُ : لا شَكَّ أنَّ عَمَلِيَّةَ «تَفْرِيْقِ السُّحُبِ»، وكَذَا عَمَلِيَّةَ «الاسْتِمْطَارِ » مِنَ النَّوازِلِ العَصْرِيَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلى بَعْضِ التَّفْصِيْلِ العِلْمِيِّ، الأمْرُ الَّذِي يُحَدِّدُ لَنَا صُوْرَتَهَا، ويُبِيِّنُ للجَمِيْعِ حُكْمَهَا الشَّرْعِيَّ، وهَذَا مَا نُحَاوِلُ بَيَانَهُ بشَيءٍ مِنَ الاخْتِصَارِ، لأنَّ صُوْرَةَ الجَوَابِ هُنَا لا تَحْتَمِلُ أكْثَرَ مِنْ جَوَابٍ مُخْتَصَرٍ عَنْ حُكْمِ عَمَلِيَّةِ تَفْرِيْقِ السُّحُبِ فَقَط، واللهُ المُوَفِّقُ .
وقَبْلَ الجَوَابِ؛ أحْبَبْتُ أنْ أذْكُرَ بَعْضَ المُقَدِّمَاتِ الَّتي مِنْ خِلالِها نَسْتَطِيْعُ أنْ نَتَصَوَّرَ عَمَلِيَّةَ تَفْرِيْقِ السُّحُبِ، ومِنْ ثَمَّ بَيَانَ حُكْمِهَا الشَّرعِي .
المُقَدِّمَةُ الأُوْلى : أنَّ اللهَ تَعَالى على كُلِّ شَيءٍ قَدِيْرٌ، وأنَّهُ فَعَّالٌ لمَا يُرِيْدُ، بيَدِهِ مَقَالِيْدُ السَّمَواتِ والأرْضِ، فَلا رَادَّ لحُكْمِهِ، ولا مَانِعَ لأمْرِهِ، ألَا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ .
قَالَ تَعَالى : «إنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (البقرة: 20)، وقَالَ تَعَالى : «اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» (الزمر: 62)، وقَالَ تَعَالى : «ومَا تَشَاءُونَ إلَّا أنْ يَشَاءَ اللهُ إنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا» (الإنسان: 30)، وقَالَ تَعَالى : «واللهُ خَلَقَكُمْ ومَا تَعْمَلُونَ» (الصافات: 96)، والآيَاتُ في هَذَا المَعْنَى كَثِيْرَةٌ جِدًّا .
وعَلَيْهِ؛ فَإنَّ نُزُوْلَ الأمْطَارِ، أو مَنْعَهَا (الاسْتِمْطَارُ وتَفْرِيْقُ السُّحُبِ) لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أحَدٌ سِوَى اللهِ تَعَالى، كَمَا قَالَ تَعَالى : «أفَرَأيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أأنْتُمْ أنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ» (الواقعة: 70)، وقَالَ تَعَالى : «قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ أصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ» (الملك: 30)، وقَالَ تَعَالى : «أمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العَزِيزِ الوَهَّابِ» (ص: 9)، وقَالَ تَعَالى : «أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا» (الزخرف: 32)، وغَيْرُهَا مِنَ الآيَاتِ .
المُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ : أنَّ عَمَلِيَّةَ تَفْرِيْقِ السُّحُبِ، أو مَا يُسَمَّى بالتَّفْرِيْقِ الصِّنَاعِي : هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُرَكَّبَاتٍ كِيْمَاوِيَّةٍ تَتِمُّ مِنْ خِلالِ تَزْوِيْدِ طَائِرَاتِ الشَّحْنِ بحُمُولاتٍ كَبِيْرَةٍ مِنْ عَنَاصِر «أيُودِيْد» الفِضَّةِ، و«النِّتْرُوجِي ْن» السَّائِلِ، ومَسْحُوْقِ «الإسْمِنْتِ»؛ لتَفْرِيْقِ السُّحُبِ؛ حَيْثُ تُشَكِّلُ تِلْكَ المَوَادُ حَاجِزًا لمَنْعِ «البُرُوْتُونَا ت»، و«الإلِكْتُرْون َات» في الجَوِّ مِنْ إحْدَاثِ احْتِكَاكٍ في السَّحَابِ، ونُزُوْلِ المَطَرِ .
ويُقَالُ أيْضًا أنَّ عَمَلِيَّةَ «الاسْتِمْطَارِ »، و«التَّفْرِيْقِ الصِّنَاعِيِّ» وُجِدَتَا لحَلِّ مُشْكِلَتَيْ احْتِبَاسِ المَطَرِ، أو الخَوْفِ مِنْ ضَرَرِهِ، وتَكْمُنُ هَذِهِ العَمَلِيَّةُ في تَقْنِيَةٍ يُطْلَقُ عَلَيْهَا مُصْطَلَحُ : «الكِيْمَتْريل» ، ذَلِكَ المُرَكَّبُ الكِيْمِيَائِي الَّذِي تُزَوَّدُ بِهِ الطَّائِرَاتُ لتَضُخَّهُ على ارْتِفَاعٍ كَبِيْرٍ مِنْ سَطْحِ الأرْضِ؛ فَيُشَكِّلُ سَحَابَةً بَيْضَاءَ طَوِيْلَةً جِدًّا تَعْمَلُ على خَفْضِ دَرَجَةِ حَرَارَةِ الهَوَاءِ إلى أكْثَرَ مِنْ عِشْرِيْنَ دَرَجَةٍ مَئَويَّةٍ في ظَرْفِ سَاعَةٍ تَقْرِيْبًا، كَمَا يُمْكِنُهَا تَفْرِيْقَ السُّحُبِ، في أيَّةِ مَنْطَقَةٍ مِنَ العَالَمِ؛ مُفَسِّرِيْنَ بذَلِكَ الخَلَلَ الَّذِي نَرَاهُ تَارَةً في الصَّحْرَاءِ، وتَارَةً في المَنَاطِقِ شَدِيْدَةِ البُرُوْدَةِ .
قُلْتُ : إذَا تَحَقَّقَ للجَمِيْعِ أنَّ عَمَلِيَّةَ التَّفْرِيْقِ الصِّنَاعِيِّ هُوَ مَا ذَكَرُوْهُ مِنْ كُوْنِهَا عَمَلِيَّةً مُرَكَّبَةً تَتِمُّ مِنْ خِلالِ عَنَاصِرَ كِيْمَاوِيَّةٍ خَطِيْرَةٍ على البَشَرِ والبِيْئَةِ على حَدٍّ سَوَاءٍ، فَإنَّهُ ـ والحَالَةُ هَذِهِ ـ لا يَجُوْزُ اسْتِعْمَالُهَا ، لأُمُوْرٍ سَيَأتي بَيَانُهَا إنْ شَاءَ اللهُ .
كَمَا أنَّهَا عَمَلِيَّةٌ غَيْرُ مُجْدِيَةٍ، بَلْ لَيْسَ لهَا مُسْتَنَدٌ عِلْمِيٌّ يتَحَقَّقُ مِنْ خِلالِهِ مَنْعُ نُزُوْلِ الأمْطَارِ، لأنَّ هُنَاكَ مُنْخَفَضًا جَوِّيًّا تُوْجَدُ بِهِ سُحُبٌ وأمْطَارٌ لا يُمْكِنُ تَفْرِيْقُهَا، الأمْرُ الَّذِي يَدُلُّ على أنَّ هَذِهِ العَمَلِيَّةَ وَلِيْدَةٌ لتَجَارِبَ غَيْرِ عِلْمِيَّةٍ، لكَوْنِهَا لم تُحَقِّقْ نَجَاحًا يُقَلِّلُ مِنْ نِسْبَةِ فَشَلِهَا الكَبِيْرِ، وهَذَا مَا قَالَهُ كَثِيْرٌ مِنَ المُتَخَصِّصِيْ نَ .
ويَدُلُّ على ذَلِكَ أنَّ عَمَلِيَّةَ التَّفْرِيْقِ الصِّنَاعِيِّ لَوْ كَانَتْ طَرِيْقَةً صَحِيْحَةً لاسْتُخْدِمَتْ في الدُّوَلِ الكُبْرَى الَّتِي تَتَعَرَّضُ للكَثِيْرِ مِنَ الكَوَارِثَِ النَّاجِمَةِ عَنْ هُطُوْلِ الأمْطَارِ، والفَيَضَانَاتِ المُدَمِّرَةِ .
ومَعَ كَوْنِهَا عَمَلِيَّةً غَيْرَ نَاجِحَةٍ بإطْلاقٍ؛ إلَّا أنَّ نَجَاحَهَا النِّسْبِيَّ مَرْهُوْنٌ أيْضًا بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالى أوَّلًا وآخِرًا، كَمَا مَرَّ مَعَنَا .
لأجْلِ هَذَا؛ فَإنَّ عَمَلِيَّةَ التَّفْرِيْقِ الصِّنَاعِيِّ لم تَأخُذْ حَظَّهَا مِنَ الانْتِشَارِ عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنَ الدُّوَلِ المُتَقَدِّمَةِ ؛ لأنَّهَا تَتَعَارَضُ مَعَ أهْدَافِهِم الصِّنَاعِيَّةِ والتَّنْمَوِيَّ ةِ الَّتِي تَرْتَكِزُ على جَلْبِ المِيَاهِ واكْتِنَازِهَا، سَوَاءٌ في شَقِّهِم لِقَنَوَاتِ الأنْهَارِ، أو بِنَائِهِم للسُّدُوْدِ العِمْلاقَةِ، أو غَيْرِهَا مِمَّا شَأنُهُ الاحْتِفَاظُ بالمِيَاهِ، ولَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُم على حِسَابِ نُشُوْبِ حُرُوْبٍ بَيْنَهُم، وهُوَ مَا يُسَمَّى : بحَرْبِ المِيَاهِ!
وذَلِكَ في الوَقْتِ الَّذِي تُصَنَّفُ فِيْهِ كَثِيْرٌ مِنْ هَذِهِ الدُّوَلِ المُتَقَدِّمَةِ بأنَّهَا مِنْ أغْنَى الدُّوَلِ ثَرْوَةً للمِيَاهِ، وغَزَارَةً للأمْطَارِ، ورُبَّما اسْتَمَرَّتْ أمْطَارُ بَعْضِهِم أكْثَرَ أيَّامِ السَّنَةِ!
في حِيْن أنَّ عَمَلِيَّةَ التَّفْرِيْقِ الصِّنَاعِيِّ لا تُحَقِّقُ تَفْرِيْقًا كَبِيْرًا للسُّحُبِ؛ بَلْ غَايَتُهَا تَفْرِيْقٌ قَلِيْلٌ غَيْرُ مُنَظَّمٍ، لا يَتَنَاسَبُ مَعَ الدَّعْوَى الكَبِيْرَةِ لظَاهِرَةِ التَّفْرِيْقِ الصِّنَاعِيِّ، لاسِيَّما وأنَّ جَدْوَى نَجَاحِ التَّفْرِيْقِ فِيْهَا مُتَوَقِّفٌ على مُسَاعَدَةِ الرِّيَاحِ الَّتِي لا يَنْضَبِطُ لهَا اتِّجَاهٌ، والَّتِي بإمْكَانِهَا أنْ تُعِيْدَ مَا فَرَّقَتْهُ العَمَلِيَّةُ إلى حَالَتِهِ الأُوْلى في زَمَنٍ يَسِيْرٍ .
هَذَا إذَا عَلِمَ الجَمِيْعُ أنَّ التَّفْرِيْقَ الصِّنَاعِيَّ لا يَتَجَاوَزُ عُمُرُهُ أرْبَعَةً وعِشْرِيْنَ سَاعَةً (يَوْمًا ولَيْلَةً)، بشَرْطِ سُكُوْنِ الرِّيَاحِ، في حِيْن أنَّ هَذَا الشَّرْطَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ؛ لأنَّهُ لا وُجُوْدَ للسُّحُبِ المُمْطِرَةِ غَالِبًا إلَّا ومَعَهَا رِيَاحٌ تَسُوْقُهَا بقُدْرَةِ اللهِ تَعَالى، لِذَا فَلا يُفْرَحُ حِيْنَئِذٍ بالتَّفْرِيْقِ الصِّنَاعِيِّ!
* * *
ومِنْ خِلالِ هَاتَيْنِ المُقَدِّمَتَيْ نِ وغَيْرِهَا مِمَّا سَيَأتي ذِكْرُهُ، فَإنَّ التَّفْرِيْقَ الصِّنَاعِيَّ لا يَجُوْزُ لعِدَّةِ أُمُوْرٍ، يَكْفِي بَعْضُهَا للمَنْعِ مِنْهُ، فَضْلًا عَنْ مَجْمُوْعِهَا، فكَانَ مِنْهَا مَا يَلي :
الأمْرُ الأوَّلُ : أنَّ الخَيْرَ كُلَّهُ بيَدِ اللهِ، وأنَّ الشَّرَ لَيْسَ إلَيْهِ، كَمَا قَالَ ﷺ : «والْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» مُسْلِمٌ .
لِذَا؛ فلْيَعْلَمِ الجَمِيْعُ أنَّ اللهَ تَعَالى خَلَقَ المَطَرَ وأنْزَلَهُ على عِبَادِهِ رَحْمَةً مِنْهُ ونِعْمَةً، ويَدُلُّ على ذَلِكَ أنَّ اللهَ تَعَالى سَمَّاهُ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ : رَحْمَةً، وبَرَكَةً، ونِعْمَةً، وفَضْلًا، وخَيْرًا، وحَيَاةً، وشِفَاءً، وبُشْرَى، وسُقْيَا، وغَيْثًا ... وغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْطَعُ لكُلِّ عَاقِلٍ أنَّ المَطَرَ الَّذِي يُنَزِّلُهُ اللهُ تَعَالى على عِبَادِهِ لهُوَ مِنَ الخَيْرِ العَامِّ، والفَضْلِ التَّامِّ، مِمَّا هُوَ مَقْطُوْعٌ بِهِ عَقْلًا وشَرْعًا .
لأنَّ فِيْهِ حَيَاةَ الأبْدَانِ والحَيَوَانِ والنَّبَاتِ، بِلْ فِيْهِ مِنَ الخَيْرِ أضْعَافَ أضْعَافَ مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالى : «ومَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلَّا قَلِيلًا» (الإسراء: 85) .
وقَالَ تَعَالى : «وهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأنْزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (الأعراف: 57)، وقَالَ تَعَالى : «ومِنْ أيَاتِهِ أنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ ولِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ولِتَجْرِيَ الفُلْكُ بِأمْرِهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (الروم: 46)، وغَيْرُهَا .
هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ جَمِيْعَ بَنِي آدَمَ قَدِ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُم، واسْتَقَرَّتْ فِطَرُهُم : على عُمُوْمِ فَضْلِ المَطَرِ، وشُمُوْلِ خَيْرِهِ، مَا لا يَخْتَلِفُ فِيْهِ اثْنَانِ، لِذَا فَقَدْ بَاتَ أنَّ خَيْرَ المَطَرِ مَقْطُوْعٌ فِيْهِ .
الأمْرُ الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيْقَ على كُلِّ مَنْ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ، أو تَلَوَّثَتْ عَلَيْهِ فِطْرَتُهُ، أو غَلَبَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ : بأنْ يَكُوْنَ سَبَبًا في مَنْعِ نُزْوِلِ الأمْطَارِ، أو يُقَلِّلَ مِنْ هُطُوْلِهَا، ولَو بِحُجَّةِ وُجُوْدِ الضَّرَرِ المَضْنُوْنِ، وكَمَا قِيْلَ : «اليَقِيْنُ لا يَزُوْلُ بالشَّكِّ»، كَمَا سَيَأتي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *
الأمْرُ الثَّاني : أنَّ اللهَ تَعَالى قَدْ شَرَعَ للمُسْلِمِيْنَ عِنْدَ نُزُوْلِ المَطَرِ سُنَنًا قَوْلِيَّةً وفِعْلِيَّةً، مِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ عِنْدَ حَبْسِهِ وانْقِطَاعِهِ، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ مَشْرُوْعِيَّةِ صَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ .
ومِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ عِنْدَ نُزُوْلِهِ، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ مَشْرُوْعِيَّةِ بَعْضِ الأذْكَارِ والأفْعَالِ الَّتِي تُقَالُ عِنْدَ نُزُوْلِهِ وبَعْدِهِ، مِمَّا هُوَ مَوْجُوْدٌ في كُتُبِ الفِقْهِ والآدَابِ، لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ ذِكْرِهَا .
وعَلَيْهِ؛ فَكُلُّ مَنْ يَسْعَى في تَفْرِيْقِ السُّحُبِ ليَمْنَعَ المَطَرَ، فهُوَ مِمَّنْ يُعَطِّلُ سُنَنَ المَطَرِ القَوْلِيَّةَ والفِعْلِيَّةَ، سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بفِعْلِهِ، أو جَاهِلًا بحُكْمِهِ، فلِكُلٍّ مِنْهُما جَزَاؤُهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالى، فمَنْ عَلِمَ فَهُوَ جَزَاؤُهُ، ومَنْ جَهِلَ فعَفْوُ اللهِ كَبِيْرٌ، ورَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ!
* * *
الأمْرُ الثَّالِثُ : أنَّ اللهَ تَعَالى قَدْ يَمْنَعُ بَعْضَ النِّعَمِ عَنْ بَعْضِ عِبَادِهِ؛ بسَبَبِ ذُنُوْبِهِم ومَعَاصِيْهِم، فَكَانَ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي مَنَعَهَا اللهُ عَنْ عِبَادِهِ بسَبَبِ ذُنُوْبِهِم : المَطَرُ؛ حَيْثُ قَالَ ﷺ : «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وأعُوذُ بِاللهِ أنْ تُدْرِكُوهُنَّ ـ وذَكَرَ مِنْهَا ـ ولَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أمْوَالِهِمْ، إلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، ولَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا ... الحَدِيْثَ» ابنُ مَاجَه بسَنَدٍ حَسَنٍ، وغَيْرُهَا مِنَ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَدُلُّ على أنَّ كَثِيْرًا مِنْ نِعَمِ اللهِ قَدْ تُمْنَعُ بسَبَبِ ذُنُوْبِ العِبَادِ ومَعَاصِيْهِم .
وعَلَيْهِ؛ فَإنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَفْرِيْقُ السُّحُبِ لمَنْعِ المَطَرِ، فَهُوَ ذَنْبٌ مِنَ الذُّنُوْبِ الَّتِي حَذَّرَنَا اللهُ تَعَالى مِنْهَا ـ عَيَاذًا باللهِ! ـ .
* * *
الأمْرُ الرَّابِعُ : أنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ على نَفْسِهِ : أنَّ كُلَّ مَنْ كَفَرَ بنِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ اللهِ، أو أنْكَرَهَا؛ فَإنَّهُ سُبْحَانَهُ يُجَازِيْهِ بعُقُوْبَةٍ مِنْ جِنْسِهَا، أو يَجْعَلَ هَذِهِ النِّعْمَةَ نِقْمَةً عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالى عَنِ المُنَافِقِيْنَ : «ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي ولَا تَفْتِنِّي ألَا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا وإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ » (التوبة: 49)، وقَالَ تَعَالَى : «ومَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ» (الشورى: 14)، وقَالَ تَعَالَى : «جَزَاءً وِفَاقًا» (النبأ: 26)، والأدِلَّةُ مِنَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ كَثِيْرَةٌ، وقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَنْ أنْكَرَ كَرَامَةً حُرِمَهَا يَوْمَ القِيَامَةِ .
وعَلَيْهِ؛ فَإنَّ كُلَّ مَنْ أرَادَ أنْ يَمْنَعَ نُزُوْلَ المَطَرِ، فهُوَ مِنَ الَّذِيْنَ عَصَوْا اللهَ تَعَالَى في شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، فَكَانُوا مِنَ الَّذِيْنَ اسْتَوْجَبُوا عُقُوْبَةً مِنَ اللهِ تَحُلُّ بِهِم وبِدَارِهِم، كعُقُوْبَةِ القَحْطِ والجَدْبِ، ورُبَّما كَانَ جَزَاؤُهُم مِنْ جِنْسِ مَعْصِيَتِهِم، وذَلِكَ بأنْ يُسَلِّطَ اللهُ عَلَيْهِم الغَرَقَ سَوَاءٌ بفَيَضَانَاتِ البِحَارِ والأنْهَارِ، أو بجَرَيَانِ السُّيُوْلِ المُدَمِّرَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ لكُلِّ ذِي عَيْنٍ، والوَاقِعُ أكْبَرُ شَاهِدٍ!
ولَيْسَ عَنَّا مَا حَصَلَ في فَيَضَانَاتِ «تُسُونَامي» الَّتِي تَرَكَتْ دَمَارًا كَبِيْرًا في جُزُرِ إنْدُونِيْسِيا، ومَا حَوْلَهَا، ومَا فَعَلَتْهُ أيْضًا مِنْ تَدْمِيْرٍ في مَدِيْنَةِ «طُوْكِيُو» اليَابَانِيَّةِ ، وغَيْرِهَا مِنَ الدُّوَلِ، وذَلِكَ في الوَقْتِ الَّذِي يَعْلَمُ الجَمِيْعُ أنَّ هَذِهِ الدُّوَلَ الَّتِي شَمِلَهَا فَيَضَانُ «تُسُونَامِي» لهِيَ مِنَ الدُّوَلِ الَّتِي لا تَنْقَطِعُ عَنْهَا الأمْطَارُ والسِّيُوْلُ طَوَالَ شُهُوْرِ السَّنَةِ، الشَّيءُ الَّذِي لأجْلِهِ أخَذُوا لأنْفُسِهِم الحَذَرَ والحَيْطَةَ مِنْ كَوَارِثِ الأمْطَارِ المُتَسَاقِطَةِ عَلَيْهِم، ومِنْ جَرَيَانِ السُّيُوْلِ المَارَّةِ بَيْنَهَم، ومَعَ هَذِهِ الاحْتِرَازَاتِ والاحْتِيَاطَات ِ عِنْدَهُم إلَّا أنَّهُم كَانُوا في غَفْلَةٍ عَنْ أضْرَارِ البِّحَارِ الَّتِي تُحِيْطُ بِهِم، لِذَا لمَّا خَالَفُوا أمْرَ رَبِّهِم، أخَذَهُمُ اللهُ بَغْتَةً؛ حَيْثُ أرْسَلَ عَلَيْهِم البَحْرَ ليَأخُذَ طَرَفًا مِنْهُم عِبْرَةً وذِكْرَى لمَنْ ألْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيْدُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : «أفَأمِنَ أهْلُ القُرَى أنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وهُمْ نَائِمُونَ (97) أوَأمِنَ أهْلُ القُرَى أنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أفَأمِنُوا مَكْرَ الله فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ» (الأعراف: 97-99)، وقَالَ تَعَالى : «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإذَا هُمْ مُبْلِسُونَ» (الأنعام: 44) .
* * *
الأمْرُ الخَامِسُ : أنَّ كُلَّ مَنْ تَرَكَ الحَقَّ وَقَعَ في البَاطِلِ، ومَنْ تَرَكَ الخَيْرَ وَقَعَ في الشَّرِّ، وكَذَا مَنْ تَرَكَ عِبَادَةَ اللهِ وَقَعَ في عِبَادَةِ غَيْرِهِ، وهَكَذَا، كَمَا هِيَ سُنَّةُ اللهِ في خَلْقِهِ .
لِذَا؛ فَإنَّ مَنْ بَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ وَقَعَ في شَرِّ نِقْمَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : «ومَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإنَّ الله شَدِيدُ العِقَابِ» (البقرة: 211) .
وعَلَيْهِ؛ فكُلُّ أهْلِ بَلَدٍ أرَادُوا أنْ يُبَدِّلُوا نِعْمَةً أنْعَمَهَا اللهُ عَلَيْهِم، كمَنْعِ الأمْطَارِ المَحْمُوْلَةِ بالخَيْرِ والبَرَكَةِ، فَجَزاؤُهُم أنْ يُسَلِّطَ اللهُ عَلَيْهِم نِقَمًا مِنْ جِنْسِ الأمْطَارِ : كالفَيَضَانَاتِ والسُّيُوْلِ المُدَمِّرَةِ وغَيْرِهَا، ورُبَّما عَاقَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى : بالفَقْرِ والجَفَافِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : «وضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ أمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ الله فَأذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ» (النحل: 112) .
* * *
الأمْرُ السَّادِسُ : أنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الحَيْوَانَاتِ والنَّبَاتَاتِ والجَمَادَاتِ، كالأمْطَارِ، والبِحَارِ، والأنْهَارِ لهُوَ مِنَ الخَيْرِ الَّذِي أوْدَعَهُ اللهُ تَعَالَى في هَذَا الكَوْنِ، كما جَعَلَ اللهَ تَعَالَى بَيْنَهَا مِنَ الانْسِجَامِ والتَّرابُطِ والتَّرْكِيْبِ مَا يَقْطَعُ بحِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى في خَلْقِهِ .
فَكُلُّ مَا نَسْمَعُهُ ونَرَاهُ مِنِ اجْتِهَادَاتِ خَاطِئَةٍ عِنْدَ رِجَالِ الغَرْبِ المُخْتَصِّيْنَ بعِلْمِ الأحْيَاءِ والطَّبِيْعَةِ، مِنْ تَكَلُّفِ وتَمَحُّلٍ في دَعْوَى حِمَايَةِ بَعْضِ الحَيْوَانَاتِ والطُّيُوْرِ وغَيْرِهَا مِنَ الانْقِرَاضِ، يُعْتَبَرُ تَدَخُّلًا سَافرًا في تَنَاسُقِ البِيْئَةِ والطَّبِيْعَةِ، كَمَا يُعْتَبَرُ جَهْلًا مِنْهُم بحِكْمَةِ اللهِ تَعَالى الَّتِي تَقْتَضِي إبْقَاءَ أنْوَاعٍ مِنَ الحَيْوَانَاتِ، وانْقِرَاضَ بَعْضِهَا، كَمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ في تَارِيْخِ خَلْقِ الأُمَمِ والخَلِيْقَةِ؛ حَيْثُ كَتَبَ اللهُ تَعَالى على بَعْضِ الأُمَمِ أنْ تَبِيْدَ وتَنْقَرِضَ، كَمَا كَتَبَ على كَثِيْرٍ مِنَ الحَيْوَانَاتِ أنْ تُبَادَ وتَنْقَرِضَ، كُلَّ ذَلِكَ لأجْلِ حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لا يَعْلَمُهَا كَثِيْرٌ مِنَ البَشَرِ .
وقَدْ بَاتَ عِنْدَ حُكَمَاءِ البَشَرِ : أنَّ بِقَاءَ بَعْضِ الحَيْوَانَاتِ يَصْلُحُ في زَمَنٍ دُوْنَ زَمَنٍ، وأنَّ تَنَاقُصَ بَعْضِهَا في زَمَنٍ خَيْرٌ مِنْ تَكَاثُرِهَا، ورُبَّما كَانَ وَرَاءَ انْقِرَاضِ بَعْضِهَا : انْدِثَارُ كَثِيْرٍ مِنَ الأمْرَاضِ وغَيْرِهَا، مَا يُخِلُّ وُجُوْدُهَا بحِكْمَةِ اللهِ، وغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لا يَعْلَمُهُ كَثِيْرٌ مِنَ البَشَرِ، واللهُ تَعَالَى أعْلَمُ .
أمَّا إذَا سَألْتَ اليَوْمَ عَنْ بَعْضِ ظَوَاهِرِ الجَرَائِمِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا أكْثَرُ رِجَالِ الغَرْبِ مِنْ خِلالِ دَعْوَى حِمَايَةِ البِيْئَةِ : أنَّهُم أبَادُوا الإنْسَانَ، لاسِيَّما المُسْلِمَ، وذَلِكَ في الوَقْتِ الَّذِي يَحْمُوْنَ فِيْهِ الحَيْوَانَ، كَمَّا أنَّهُم لَوَّثُوا ودَمَّرُوا البِحَارَ والمِيَاهَ والغَابَاتِ، لاسِيَّما الَّتِي يَمْلِكُهَا المُسْلِمُوْنَ، في حِيْنَ أنَّهُم حَافَظُوا على بِحَارِهِم وأنْهَارِهِم وغَابَاتِهِم، كَمَّا أنَّهُم سَلَبُوا خَيْرَاتِ وثَرَوَاتِ أكْثَرِ بِلادِ المُسْلِمِيْنَ، إلَّا أنَّهُم أُمَنَاءُ على ثَرَوَاتِ بِلادِهِم!
فَمَا يَدَّعِيْهِ رِجَالُ الغَرْبِ مِنْ حِمَايَةِ البِيْئَةِ، هُوَ في حَقِيْقَتِهِ دَعْوَى عَرِيْضَةٌ لا يُعَزِّزُهَا دَلِيْلٌ عِلْمِيٌّ ولا عَقْليٌّ، بَلْ أكْثَرُهُ جَهْلٌ بحِكْمَةِ اللهِ في تَنَاسُقِ البِيْئَةِ وتَنَاسُبِهَا وتَرْكِيْبِهَا، وذَلِكَ مَاثِلٌ بإبْقَاءِ بَعْضِ الحَيْوَانَاتِ، وانْدِثَارِ بَعْضِهَا، وهُوَ الشَّيءُ الَّذِي يَجْهَلُهُ أكْثَرُ مُفَكِّرِي الغَرْبِ، لأجْلِ ذَلِكَ نَرَاهُم قَدْ أوْجَدُوا مِنْ خِلالِ صَنَائِعِهِمُ المَزْعُوْمَةِ : تَنَافُرًا واخْتِلالًا بَيْنَ حَيْوَانَاتِ البِيْئَةِ؛ بحُجَّةِ عَدَمِ الانْقِرَاضِ، ولَيْسَ هَذَا مَحَلَّ تَفْصِيْلِهِ .
لِذَا؛ فَكُلُّ مَنْ أرَادَ أنْ يُغَيَّرَ شَيْئًا مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى في الكَوْنِ ـ دُوْنَ حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ ـ أو يُرِيْدَ أنْ يُشَكِّكَ في خَيْرِهَا، فَهُوَ أحَدُ رَجُلَيْنِ :
ـ إمَّا أنْ يَكُوْنَ جَاهِلًا بحِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى في خَلْقِهِ .
ـ أو أنَّهُ مِنَ المُفْسِدِيْنَ في الأرْضِ بتَغْيِيْرِ مَنَارَاتِهَا، والعَبَثِ بطَبِيْعَتِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى : «ولَا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا» (الأعراف: 56)، وقَالَ ﷺ : «لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ» مُسْلِمٌ .
قُلْتُ : وإنْ كَانَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَدْ جَاءَتْ في التَّحْذِيْرِ مِنَ الفَسَادِ المَعْنَوِي، كالشِّرْكِ والذُّنُوْبِ والمَعَاصِي إلَّا أنَّهَا تَعُمُّ أيْضًا الفَسَادَ الحِسِّيَّ، كإفْسَادِ الطَّبِيْعَةِ في تَغْيِيْرِ مَنَارَاتِهَا، ومَنْعِ خَيْرَاتِهَا، وحَرْقِ غَابَاتِهَا، وتَلْوِيْثِ مِيَاهِهَا، ونَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُوْمُ الفَسَادِ بالطَّبِيْعَةِ، والإضْرَارِ بمَعَالِمِ الأرْضِ .
وذَلِكَ في الوَقْتِ الَّذِي نَجِدُ فِيْهِ كَثِيْرًا مِنْ دُوَلِ الغَرْبِ لا تَألُوا جُهْدًا مِنْ إنْشَاءِ مُنَظَّمَاتٍ وهَيْئَاتٍ لحِمَايَةِ البِيْئَةِ، تَحْتَ مُسَمَّى : حِمَايَةِ الحَيَوَانَاتِ، وحِمَايَةِ الطُّيُوْرِ، وحِمَايَةِ النَّبَاتَاتِ، وحِمَايَةِ المِيَاهِ، وحِمَايَةِ الغَابَاتِ، وغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مَعْلُوْمٌ للجَمِيْعِ .
وعَلَيْهِ؛ فَكُلُّ مَنْ يَسْعَى في مَنْعِ نُزُوْلِ الأمْطَارِ تَحْتَ مُسَمَّى : «تَفْرِيْقِ السُّحُبِ» : يُعْتَبَرُ وَاحِدًا مِنَ المُفْسِدِيْنَ في الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا، لمَنْعِهِ وحَبْسِهِ لأمْطَارِهَا وخَيْرَاتِهَا .
* * *
الأمْرُ السَّابِعُ : أنَّ كُلَّ مَنْ يَسْعَى في تَفْرِيْقِ السُّحُبِ، سَوَاءٌ بقَوْلِهِ أو فِعْلِهِ فَهُوَ مِنَ الَّذِيْنَ لم يَشْكُرُوا اللهَ تَعَالَى على سَابِغِ نِعَمِهِ، وعَظِيْمِ فَضْلِهِ، كَمَا يُعْتَبَرُ مِنَ المُنْكِرِيْنَ لنِعْمَةِ اللهِ تَعَالى بَعْدَ عِلْمِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى : «وقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» (سبأ: 13)، وقَالَ تَعَالَى : «إنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ولَكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ» (غافر: 61)، وقَالَ تَعَالَى : «يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وأكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ» (النحل: 83) .
هَذَا إذَا عَلِمَ الجَمِيْعُ أنَّ المَطَرَ مِنْ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : «أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا» (الزخرف: 32)، وقَالَ تَعَالى : «وهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأنْزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ» (الأعراف: 57) .
* * *
1/2 يتبع