لم يكن ياسين ذو الاثني عشرة سنة طفلا كباقي الأطفال, بل كان مثالا يحتدى به في الشجاعة والجرأة والعزيمة القوية. لم تمنعه يوما تلك التأتأة التي صاحبته منذ أن تعلم لسانه الغض أبجديات الكلام أن يرفع أصبعه في ثقة و أن يشارك أصدقاءه مهارات التعلم. ولم تثنه ضحكاتهم التي كانت تملأ أرجاء الفصل, كلما أشرت إليه أن يجيب, عن إتمام كلامه. كانت أوداجه تنتفخ وتحمر وجنتاه الصغيرتان .. ينظر شزرا لأولئك الأشقياء الصغار, ثم يكمل بمشقة وجهد حديثه المتقطع الذي يتمنع عنه ويأبى إلا أن يخرج حروفا مكسرة تتكسر معها روحه الأبية, و يتمزق قلبه الصغير المرهف لسماع تعليقات ساخرة من أناس لم يربوا على الرحمة, ولم يعلموا أدبيات قبول الآخر. وقد كانت تلك الثقة التي أمنحه تشجعه على المواصلة و تعقيباتي الصادقة على حديثه تزيد من ثقته بنفسه.
يومها أخذت عهدا على نفسي أن أحميه من لعنتهم التي ستجعله يوما يصمت إلى الأبد, فتصمت بداخله بهجة الحياة .. أحميه من نفسه التي بين جنبيه كي لا ينظر يوما بعين الازدراء والتسخط إلى اختلافه عن البقية فيتنكر لها ويتبرأ منها.
كانت فرصتي لأعلم أولئك الذين سلمت ألسنتهم لكنهم أغمدوها وقت الجد و غطوا عن ذلك بثرثرة تذكرهم دوما أن لهم ألسنة أن وحده العقل يصنع المفارقات ووحده الإباء يصنع المستحيل ..
لم يتكرر مشهد ضحكهم منذ ذلك اليوم الذي توجهت فيه إليهم بخطبة عصماء قاسية اللهجة, بعدما تركته يكمل حديثه وهم يتغامزون و يوزعون بينهم ضحكاتهم المستفزة, فلقنتهم درسا في أدبيات الحوار وأدبيات حق الجوار و اغتنمت الفرصة لأذكرهم بقوله تعالى "لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم», وختمت كلامي بوعيد لمن سيعيد الكرة وبعقوبة بحجم الجرم الذي كانوا يقترفونه طيشا ونزقا.
استمر الأمر قرابة شهرين, أعلق خلالها على إجاباته سلبا وإيجابا بكل صدق ومن غير مجاملة, وأصبر نفسي على سماع مداخلاته حتى النهاية من غير أن أبدي تضايقي من ذلك الوقت الثمين الذي كان يأخذ منه حيزا أكثر مما يجب, يعيد حروفه وكلماته ويحاول, في جهدجهيد, ترتيب كل ذلك كي يخرج إلى النور فكرته مرتبة و أنيقة .. وكنت حينها أشجعه وأخرس عنه تمتمات الجيران لأختم تعليقي بكلمة كنت ارددها على مسامعه في كل مرة: "ستصل إن شاء الله, حاول أكثر فشجاعتك كنز ستعلم قيمته يوما. "
كانت دموعي تغرق مآقي وأنا أرى دموعه الحرى تنسكب على وجنتيه, ولسانه لا يفتر عن شكري كلما أتحت له فرصة المشاركة, ولم أكن أفهم حينها لم يشكرني على أقل ما يمكنني أن أقدمه له بل هو واجبي ومسئوليتي أمام الله أن أعامله كما باقي زملائه وأن أتيح له فرصة التعبير عن ذاته بحرية. وأن أصبر على تلعثمه كما أصبر على شقاوة الآخرين. وأن أعلمه ان الحياة في ادق تفاصيلها كفاح .. إلى أن اخبرني يوما أنني كنت الوحيدة من مدرسيه التي لا تهمشه ولا تصرخ في وجهه وهو يصارع عيه طالبة منه أن ينهي كلامه و أن يترك فرصة لمن هو أفصح منه .. أخبرني أنهم كانوا يتحاشونه ويفضلون عنه من لا يضيع وقتهم الثمين ويشاركون لمزات وغمزات و ازدراء زملائه له ويثمنونها .. علمت حينها أنه كان فعلا في كفاح مستميت ويستحق بجدارة تلك الأوصاف التي كان لساني لا يفتر عن تشجيعه بها ..
كم كانت فرحتي عارمة و أنا أرى تقدمه الملحوظ, حتى بات يفاجئني في الكثير من المرات, بكلام متصل لا تشوبه تأتأة, فأقابل جهده بالثناء عليه أمام زملائه وأقول له: "ألم أقل لك ستصل إن شاء الله? لا فضل لأحد عليك بل هي قوتك وإباؤك بعد توفيق الله .. "
نفسها تلك الدموع كانت تذرف من عينيه العسليتين الصغيرتين. يطلع إلى وجهي بين دمعة و أخرى بنظرات امتنان, فأتحاشى النظر إليه وهو يشفي روحه العليلة من ألم دفين كان يقطع أوصاله, خشية أن يكتشف ضعفي وقلة حيلتي أمام تسلط الآخرين وتجبرهم ..
كم كنت حينها أتمنى لو استطعت أن أحضنه وان أمسح عن عينيه عبراته الساخنة, و أن أجعله يفصح لي عن ذلك الذي يبكيه .. أن أستمد منه شجاعته كي أواجه أنا أيضا تلك الألسنة الأشحة الحداد التي تأبى أن تتركني أعيش كما أريد أنا وبما قدر الله علي, لما كما خططوا لي وكما يريدون .. أن أفصح له عن تلك الإعاقات التي تكتسحنا جميعا وتقف دون تحقيق طموحاتنا .. تجردنا من إنسانيتنا ومن براءاتنا ..
لكنني كنت أتركه يغتسل فالدموع على كل حال شفاء .. وأشغل نفسي عن الحديث إليها كيلا أنكشف ..