**احتفتْ سورةُ الكهفِ - العجيبةُ في إعجازها -ببناياتٍ وَجُدُرٍ عجيبَة الدلالاتِ ... عجيبة الاستدراج إلى التأمّل والتدبّر الذي لا ينتهي ، وإنْ انتهى - فإلى العُجبِ والشجنِ والإشفاق على النفسِ من اقتدار الله ، ... وعظيمِ قدرته ...وعظيم جهل النّفسِ بهذه القدرة ... !
***البِنَايُةُ الـ أُمّ في هذه السورة العظيمة هي الكهفُ ... هذا البناءُ الصخريّ الذي لم يكُن ليعني شيئاً في قصّة أصحابِ الكهف لولا أنْ حوّلته القدرة الإلهيّةُ إلى رمزٍ دلاليٍّ للحماية والأمنِ والنّجاة والخلاص ... هذا الكهفُ الماديّ الذي لجأ إليه الفتيةُ حاملينَ إيمانَهُم بالله ويقينهم به واستعدادهم التّام لفداء هذا اليقين بالروح ؛ فكان إيمانُهم هو كهفهم الأوّل الذي حملوه في قلوبهم وهم يَأوُون إلى كهف العراء... ، فآزرهُم اللهُ سبحانه وأوْدَع في كهف الصحراء سرَّ قدرته ، وجَعل منه أعجوبةًومعجزة خالدةً على مرّ التاريخ الإنسانيّ ، حوّله إلى رمزٍ دالٍّ على مدى قدرة اللهِ على أنْ يقولَ للشئ " كُنْ فـ يكون " ... ، دالاًّ على قدرتِه على خلقِ الأسبابِ وتسخيرِ هذه الأسبابِ لغاية يريدُها وحكمةٍ يُسيِّرُها ، وصِدقِ وعدِه في نُصرةِ المؤمنين ... أصبحَ الكهفُ رمزاً لكلِّ رحلةٍ وهجرةٍ مباركةٍ تفرُّ فيها الروحُ بيقينها بالله لجوءاً إلى اللهِ ...فيجُيرُها اللهُ بأعظم ممّا تتخيّل أو تتوقَّعُ المُخيِّلةُ البشريّة من رقيّ الإجارة وسموّها ...
*** بناياتُ أخرى وَجُدُرٌ أخرى جعلها اللهُ - سبحانه - فيهذه السورة الكريمة رمزاً دالاَّ على رحمتِه وقدرته وحسنِ تدبيره أمور عباده ، ورائعِ حكمته في إمدادهم بأسباب الخير والهداية ... من هذه الجُدُر :- الجدارُ الذي أقامَهُ العبدُ الصالحُ ، وموسى - عليه الصلاة والسلام - في القرية التي أبى أهلُها أنْ يُضيِّفُوهُما ...! ، والذي أظهرَ اللهُ لنبيّه موسى الحكمة من بنائه هذه الحكمةُ التي تلخّصت في رحمة الله السّاهرة على حقِّ غلامين يتيمين أرادَ اللهُ أنْ يحفظ كنزَهما حتّى يبلغا الإدراكَ ... قالَ تعالى :" وأمَّأ الجدارً فكانَ لغُلامينِ يتيمينِ في المدينةِ وكانَ تحتَهُ كنزٌ لهما وكانَ أَبُوهُما صالحاً فأَرادَ رّبُّكَ أنْ يَبْلُغَا أَشُّدَّهُمَا ويَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رحمةً من ربِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عنْ أمْري ذلكَ تأويلُ ما لم تسطِع عليه صبراَ "
سورةُ الكهف / الآية 82
***كذلك كانَ الجدارُ الذي بناهُ " ذو القرنين " للقومِ الذين استجاروا به من جبروتِ " يأجوجَ ومأجوج " وبأسِهِما ... لقد كانَ الجدارُ أو السدُّ هو الحاجزُ أو الفاصلُ بين كتلتين من الناّس : كتلةٍ مؤمنةٍ وأخرى مشركة مُعتدية ... لم يكن مجرّد فواصل من النحاس والحديد بل كان فواصل من
صبغة الروح المؤمنة التي أرادت أنْ تنأى عن أرواحٍ معتمة بالشرك -أي
قوم يأجوج ومأجوج - ، مفتونةٍ بقوة الجسد والقدرة على الاعتداء ...ومن هنا قيّض اللهُ - سبحانه - لهذه الفئة المؤمنة عبداً من عباده المؤمنين يبتني لهم السدَّ وهو " ذو القرنين " ... ومن هنا نزعمُ أنّ المادّة الأولى التي تمّ بناءُ السدّ منها لم تكن الحديدَ والنحاسَ المنصهر بل كانت الإيمانُ بالله أوَّلا ، ثمَّ كان الحديدُ والنُّحاسُ أسباباً ظاهريَّة لبناء السدِّ تخاطبُ وتُقنعُ من لا يرون غيرَ المادّة الثقيلة الغليظة ، ولا يصدّقون أنّ الإيمان يستطيع وحده أنْ يكون سدّا منيعا حافظا بأمرِ الله ... لقد كان الدّافعُ إلى بناء السد هو الرغبةُ في حفظ الإيمان ... ، وكذلك تمَّ بناء السد بكيفية إيمانية ... فقد استحضر ذو القرنين إيمانه بالله واستحضر فضلَ الله عليه وإحسَانَه إليه ، وأدرك - وهو يبتني السدّ - أنّ هذا تمكينٌ من الله له ، وأعلنَ حين عرض عليه القومُ أجرا أنّ ما مكّنه اللهُ فيه خيرٌ من هذا الأجر ... ، وحين أتّم السدّ أعلنَ أمامَ الملأ أنّ هذه القدرةُ إنّما هي رحمةُ الله وليست قوّته الجسدية أو خبرته ومهارتُه ... وهكذا كان الإيمانُ هو اللبِنةُ الأساسيّة في بناء السد مثلما كان الإيمانُ هو الكهفُ الأول الذي أوى إليه أصحابُ الكهف ... يقول تعالى يسوق مجرياتِ الإيمان على لسان ذي القرنين - سورة الكهف - :
" قالَ ما مكَّنّي فيه ربِّي خيرٌ فأَعيونُني بقوةٍ أجعل بينَكُم وبيْنَهُم رَدْما 95) آتونِي زُبُرَ الحديدِ حتَّى إذا سَاوى بينَ الصَّدَفينِ قالَ انْفُخُوا حتّى إذا جَعَلَهُ نَاراَ قالَ آتُوني أُفْرُغً عليه قِطْراَ 96) فَما اسْطَاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ وما اسّطَاعُوا لهُ نَقْبَا 97) قالَ هذا رحمةٌ من ربِّي فإذا جاءَ وعدُ ربِّي جَعَلَهُ دَكَّا وكانَ وعدُ ربِّي حقَّا 98) ...
*** كذلك تعرضُ السورةُ الكريمةُ بناياتِ الرّحمةِ والإثابة والإكرام التي أعدّها اللهُ لعباده الصالحين في الحياة الآخرة ... ، حيثُ يصوِّرهم مكرَّمين في نُزُلٍ في الفردوس وجنّات النّعيم ..., يقُولُ تعالى - سورة الكهفِ - :
" إنَّ الذينَ آمنُوا وعَمِلُوا الصَّالحاتِ كانتْ لهُم جنَّاتُ الفردوسِ نُزُلا 107) خَالِدِين فيها لا يَبْغُونَ عنْها حِوَلاَ 108)
******************************
يتبع الجزء الثّاني ( بِناياتُ العذاب في سورة الكهف ) ...
***********
بقلم : جاميليا حفني
مدونة " أدركتُ جلالَ القرآن "
http://greatestqoran.blogspot.com/20...og-post_6.html