بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذا بحث في مسألة مواضع رفع اليدين في الصلاة، اختصرته من بحث كنت قد كتبته قبل سنوات مضت.
أذكر فيه أقوال الأئمة الأربعة الفقهاء، وأدلة كل قول، والاعتراضات الواردة عليها، والراجح منها.
راجيا به النفع لي ولمن قرأه من إخواني، في الدنيا والآخرة.
حكم رفع اليدين في الصلاة:
رفع اليدين في الصلاة سنة بالإجماع، وإنما وقع الخلاف في المواضع التي ترفع فيها اليدين، كما سيأتي.
ولا ينبغي تعمد ترك السنن، فقد كان ابن عمر اذا رأى مصليا لا يرفع يديه في الصلاة حصبه، وأمره ان يرفع يديه. اخرجه عبدالله بن احمد في مسائله ص ٧٠، وإسحاق بن ابراهيم في مسائله أيضا ص ٥٧ وغيرهما
قال الامام احمد: من رفع فهو أتم صلاةً ممن لا يرفع، ومن ترك الرفع فقد رغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم اهـ مسائل الامام احمد رواية اسحاق بن ابراهيم ص ٥٧
الحكمة من رفع اليدين في الصلاة:
قال ابن عبد البر: رفع اليدين في المواضع المذكورة فيه، وذلك عند أهل العلم تعظيم لله، وابتهال إليه، واستسلام له، وخضوع للوقوف بين يديه، واتباع لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. التمهيد 9/212
خلاف العلماء في هذه المسألة:
اختلف العلماء في مسألة المواضع التي ترفع فيها اليدين في الصلاة على أربعة أقوال:
القول الأول: أن اليدين ترفع عند تكبيرة الإحرام فقط، وهو مذهب أبي حنيفة.
القول الثاني: أن اليدين ترفع في ثلاثة مواضع:
عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع من الركوع؛ وهو مذهب جمهور العلماء، من الصحابة، والتابعين، وأئمة الدين، مالك، والشافعي، وأحمد.
القول الثالث: أن اليدين ترفع في أربعة مواضع، هي الثلاثة السابقة، و عند القيام من التشهد الأول، وهو قول لبعض العلماء.
القول الرابع: أن اليدين ترفع عند كل تكبيرة في الصلاة.
وحرصا على الإختصار، وخشية الإطالة، فسأذكر هنا القول الثاني، والثالث، مع محاولة عدم الاسهاب إلا فيما لا بد منه.
القول الثاني: أن رفع اليدين يكون في ثلاثة مواضع:
عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع من الركوع؛ وهذا هو مذهب السلف، الذي عليه جمهور الصحابة، والتابعين، وأئمة الدين.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من إهل العلم على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإن من السنة أن يرفع المرء يديه إذا افتتح الصلاة.
واختلفوا في رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع؛ فقالت طائفة: يرفع المصلي يديه إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، روي هذا القول عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن التابعين، ومن بعدهم.
روينا عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وابن الزبير، وأنس.
وقال الحسن البصري: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم إذا كبروا، وإذا ركعوا، وإذا رفعوا رؤوسهم من الركوع، كأنها المراوح.
وروي ذلك عن جماعة من التابعين، وجماعة ممن تقدمهم.
وقال الأوزاعي: ما أجمع عليه علماء أهل الحجاز، والشام أو البصرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر لإفتتاح الصلاة، ويرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع.
قال ابن المنذر: هذا قول الليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وحكى ابن وهب عن مالك هذا القول.
وقالت طائفة: يرفع يديه حين يفتتح الصلاة، ولا يرفع فيما سوى ذلك، هذا قول سفيان الثوري، وأصحاب الرأي اهـ الإشراف على مذاهب العلماء 2/27ـ28
وقال ابن عبد البر: وبهذا قال الأوزاعي، وسفيان بن عيينة، والشافعي، وجماعة أهل الحديث، وهو قول أحمد بن حنبل، وأبي عبيد، وأبي إسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وابن المبارك، وأبي جعفر محمد بن جرير الطبري اهـ التمهيد 9/213
وقد روي عن مالك جواز الرفع في هذه الثلاثة مواضع، وروي عنه الرفع في تكبيرة الإحرام فقط. النودار والزيادات 1/170، والبيان والتحصيل 1/374
قال ابن رجب: وقد روى عامة أصحاب مالك، أنه كان يعمل به، منهم: ابن وهب، وأبو مصعب، وأشهب، والوليد بن مسلم، وسعيد بن أبي مريم اهـ فتح الباري 4/305
وجوّز ابنُ عبد البر الأمرين كليهما، رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، وترك رفعهما فيهما. الكافي في فقه أهل المدينة ص 43ـ44
احتج أصحاب هذا القول بأحاديث عدة، منها:
الحديث الأول: حديث ابن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وقبل أن يركع، وبعد أن يرفع من الركوع، ولا يرفعهما بين السجدتين.
رواه جماعة من الثقات عن الزهري عن سالم عن أبيه:
منهم: ابن عيينة، وابن جريج، وعقيل، ويونس،أخرجه مسلم برقم (390)، وأبو داود برقم (721)، والترمذي من طريق ابن عيينة فقط برقم (255و256)، والزبيدي، أخرجه أبو داود برقم (722)، ويونس، أخرجه النسائي برقم (877)، والإمام مالك، أخرجه النسائي برقم (878).
الحديث الثاني: حديث مالك بن الحويرث أنه إذا صلى كبر، ثم رفع يديه، وإذا أراد أن يركع رفع يديه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه، وحدث أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله.
رواه عن مالك بن الحويرث جماعة من الثقات:
منهم: أبو قلابة، ونصر بن عاصم، أخرجه مسلم برقم (391)، وأبو داود برقم (745)، وأخرجه النسائي برقم (880و881)، وأخرجه غير من تقدم عن أبي قلابة، ونصر بن عاصم.
الحديث الثالث: عن علقمة بن وائل بن حجر ومولى لهم عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما، ثم كبر فركع، فلما قال سمع الله لمن حمده رفع يديه، فلما سجد، سجد بين كفيه.
أخرجه مسلم برقم (401) عن همام عن محمد بن جحادة عن عبد الجبار عن علقمة به.
وأخرجه الإمام أحمد في المسند (4/317)، أبو داود برقم (726) عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر نحوه، والدارمي (1/362)، وابن خزيمة (1/345ـ346)، وابن الجارود (1/191)، والدارقطني في السنن (1/290و292و295)