كشف السترة عن حكم أهل الفترة
تأليف
محمد بن محمود بن مصطفى الإسكندري
تقديم العلامة
عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العلمين،والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه .
أمابعد:
فان حضرت الشيخ محمد مصطفى السكندرانى له ايادي، بيضاء بارك الله فيه ونفع الله به ونفعه.
هذه المقاله "كشف الستره"
قد اجاد وافاد واطال النفَس ولايحتاج لتزكيه وقد زكاه الشيخ الفوزان.
ولاشك ان النصوص في هذا الموضوع "اهل الفترة"تكلم فيها بعض العلماء بلا درايه ولاروايه وانما اعملواالعقل حتي منهم، كبار مثل "السيوطي" الا انه كان حاطب ليل،وان كان من اهل الصناعه لكنه غلب عليه التعصب كما تعصب في مواضع ومقامات كثيره بلا علم نافع وإنما بالضعيف والموضوع والمنامات ومنهم كذلك الكوثري المتعصب تعصباً أعمى لارائه ولو خالفت الامةُ. حتي سبَََََ على القارئ الحنفي مثله عند حديث "نجاه والدي النبي صلي الله عليه وسلم " مع انه سبقه أي القارئ جماعات منهم مسلم والنسائى وابو داود وبقية من روى الاحاديث في هذا الباب والبيهقي والنواوى وغير واحد،ومنهم الشيخ العلامه "محمد الامين الشنقطي"صاحب اضواء البيان وكانت حجته الايات دون الرجوع للسنة وقد اخطأ خطاً فادحاً لاننا لانفقه القران الابمشكاته السنة وقد وردت الفاظ وان كانت افرادا في مواضع شتى دلالاتها تدل علي شهرة هذا الامر ان لم يكن متواتراً.
اللهم الا مذهب اهل الكلام ، ذكر الالباني في كتابه الذي جمعه بعض محبيه "فوائد الشوارد لما في كتب الالباني من فوائد "في بحث علمي اجاد فيه ولعله لا يستطيع احد ان يجمع فيه ما جمّع وجوب الاخذ بحديث الاحاد في العقيده "من"ص"335 الي"ص"362"،وفي هذه الصفحات من العلم ما فيه نقضٌ لما يقوله علماء الكلام والاصول مثل عذاب القبر والدجال "اذا جلس احدكم في التشهد فليستعذ بالله من اربع،يقول اللهم اني اعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب جهنم ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال "رواه الشيخان ،وعلماء الكلام والاصول وحتي كثيراً من الفقهاء عندهم هذا من الاحاد" ولايفيد إلا الظن ،ويعملون به مع انه علي قاعدتهم لاينبغي العمل به (لانه عقيدة) فنقضوا قاعدتهم والحق ان الحديث عن عذاب القبر والدجال متواتراً،لانهم لاعلم لهم وليس من صناعتهم،ولذلك كما قال ابن القيم في الصواعق "وقول القادحين في اخباره وسنته يجوز ان يكون رواه هذه الأخبار كاذبين أو غالطين، بمنزلة قول أعدائه :يجوز أن يكون الذي جاءه شيطان كاذب!وكل أحد يعلم أن أهل الحديث أصدق أهل الطوائف كما قال عبد الله ابن المبارك: "وجدت الدين لاهل الحديث، والكلام للمعتزلة، والكذب للرافضة، والحيل لاهل الرأي".
وتكفي هذه الشهادة ومعلوم أن النبي لم يُخلف ولم يُورث إلاَّ أقواله وأفعاله وتقريراته التي هي "السنة" المبيَنة للقرآن. صلى الله عليه واله وصحبه وسلم .
وجزى الله خيرا الاسكندراني
كتبه مساعد بشير علي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العليم الخبير، العالم بمواقع الفضل في عباده ومواضع التقصير، الذي أحاط علمه بجميع المعلومات من ماض وآت، وظاهر وباطن، ومتحرك وساكن، وجليل وحقير، الذي علم بسابق علمه عدد أنفاس خلقه وأعمالهم ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل السعير، كل ذلك في كتاب، إن ذلك على الله يسير، الواسع الذي وسع كل شيء علما، يعلم كل شيء ولا يحيطون به علما، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وهو سبحانه الجامع لشتات الأمور، وهو جامع الناس ليوم لا ريب فيه، لا فرق فيه بين غني وفقير، وعظيم وحقير،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الكبير، تعالى سبحانه في ألوهيته عن الشريك والوزير، وتقدس عن الصاحبة والولد، والولي والنصير، وعز في سلطانه عن المنازع والمغالب والمعين والمشير،
وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا محمدا عبد الله ورسوله، البشير النذير، والرسول النحرير، الذي أرسل إلى الناس كافة بالهدي المنير، والمنهج المستنير، في وقت ارتفع فيه أمر الشرك، واضطرمت ناره، وطار شراره، وارتفع غباره ،لا مغير له ولا نكير، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى علت كلمة الله، وأسفر فجر الإسلام، وجاء الحق وزهق الباطل، ونشرت أعلام التوحيد، ونكست راية الشرك، وانكسرت شوكته، وخمدت ناره، ورمي بناؤه بالهدم والتكسير والتدمير، صلى الله عليه، وعلى أله وصحبه، وتابعيهم، ومن سلك طريقهم، واقتفى أثاراهم، وجعلنا الله بمنه وكرمه من المتمسكين بالكتاب والسنة، نقف بوقوفهما، وبسيرهما نسير
أما بعد،
فإن من نعمة الله تعالى أن أكمل لهذه الأمة المحمدية أمر دينها، وأتم عليها نعمته، وظهر أمر الله تعالى رغم أنف المعاندين والحاقدين والحاسدين، فقال تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المائدة :3)
وذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه، وقد بلغ البلاغ المبين، وترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها ،لا يزيغ عنها إلا هالك،
وقام بعده الخليفة الصديق، رضي الله عنه، بالأمر أكمل قيام، وأتم نهوض، حتى قويت شوكة الإسلام.
وقاد عمر، رضي الله عنه، الأمة إلى أن ملكت من الخليج إلى المحيط ،وهكذا في القرون الخيرية الأولى، حتى تحقق فيهم موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم)، ثم خلف من بعدهم خلوف أعجب كل امرئ رأيه، وقدم البعض منهم عقله ،وبعضهم قدم مشاعره وعاطفته، والأخير قدم هواه، فصادم كل واحد منهم شرع ربه، برأيه وعقله ومشاعره وعاطفته وهواه ( فكلا أخذنا بذنبه) (العنكبوت:40)، فتكالبت على الأمة الأهواء والفتن، من كل حدب وصوب، ولولا رعاية الله تعالى للأمة لتخطفتها هذه الأهواء إلى كل جانب،
فخوارج، ونواصب، وروافض، ومرجئة، ومعتزلة، وجهمية، ومشبهة، وقدرية، وأشعرية، وصوفية ......إلى آخر هذه المذاهب الفاسدة، والعقائد الباطلة، التي أثرت على المسلمين، حتى خرج كثير منهم، إلا من رحمه الله، من دائرة الإسلام إلى غياهب الكفر والشرك، وظلمات الفتن والضلال، وأدركت الأمة عناية الله ورحمته، فانطفأت كثير من نار هذه الفرق، وكسرت شوكة الكثير منها ،وبقت فلول الهزائم، وكتائب الخسارة، الذين لم يتجاسروا أن يقاتلوا قتال الشجعان، ولا أن يتشبهوا بالكرام، في مقارعة الأبطال من العلماء، حيث لا بيان عندهم ولا حجج فــ (حجتهم داحضة عند ربهم) (الشورى:16)، ولكن تلاعبوا بمشاعر عوام المسلمين الذين لا تأصيل عندهم لمعرفة دقائق الحق من دقائق الباطل، وأتوا بتلبيسات وتوهيمات ليخدعوا فطر المسلمين النقية، وقلوبهم الصفية( ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم)(الأنعام:137 )
وهؤلاء الدعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، إما أنهم جهلاء متجرئون على شرع رب العالمين، وهدي سيد المرسلين، فحق الجاهل أن يتعلم، وحق المتجرئ أن يؤدب، وإما أنهم معاندون، يعرفون الحق ويخالفونه؛ لمجرد اتباع الهوى والرأي، وحب الظهور والشهرة، اتباعا للأمة الغضبية؛ اليهود الذين عرفوا الحق وعاندوه.
فالله سبحانه وتعالى نسأل، وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى نتوسل، أن يهدينا إلى صراطه المستقيم: صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
وهذه الثلة الخاسرة، والفلول المهزومة، تخرج على الأمة بين الحين والآخر بمسألة عقيمة، كان يجب أن يكلوا العلم فيها إلى العليم الخبير، وهي من الأغلوطات؛ التي نهى الشرع عن الخوض فيها (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب)(النحل:116)
أو يخرجوا بمسألة حسم النزاع فيها، واستقر فيها الأمر بين علماء أهل السنة والجماعة؛
وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك
وقد كتبت هذه السطور بعد ما نما إلى سمعي: خبر متصوف مشعوذ جديد، يحدث الناس بالأغلوطات على ساحات الإعلام الوسيعة الرحبة، ويتبجح بطلب المجادل، والعالم المعترض؛ ليقرع حجته بالحجة، وقوله بالبرهان، وقد سمعته عبر هذه الوسائل؛ التي أصبح مشاركا في أغلبها .
وأقسم بالذي له الملك والملكوت ، لكلامه أوهى من بيت العنكبوت.
وحسن الظن به أنه جاهل متجرئ، وسبق وذكرت أن حق الجاهل: التعليم، وهذا ما سأفعله ،بحول الله تعالى، وأما التأديب فمسؤولية من بيدهم أمور البلاد، وأحوال العباد، فإن فرط قسم فلا يفرط الأخر.
فالله عز و جل يقول (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر)(الأنعام:74) ،والرجل يقول: بل هو عمه.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أبي وأباك في النار )، وهو يقول: ليس في النار.
وخلط خلطا عجيبا في أحكام أهل الفترة، وهم: قوم بين بعثة رسولين، لم يعاصروا الأول، ولم يدركوا الثاني؛ كزيد بن عمرو بن نفيل ،وورقة بن نوفل، وقس بن ساعدة، وغيرهم، وكل من مات قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ( فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون)(الحديد:26)
فأردت، بحول الله تعالى، أن أجلي هذا الأمر بالآية والحديث وبالنقول عن سلف الأمة الصالحين، والعلماء القدوة المتبعين ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة)(الأنفال:42)
ولله الأمر من قبل ومن بعد، وإليه يرجع الأمر كله ، ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون
وقسمت كتابي هذا إلى فصول :
الأول : بيان أن العرب لا تطلق لفظ الأب وتريد به العم حقيقة أبدا.
الثاني : بيان الأدلة من الكتاب والسنة أن أبا إبراهيم في النار.
الثالث : بيان الأدلة من الكتاب والسنة عن حكم أهل الفترة .
الرابع : بيان الأدلة من الكتاب والسنة عن حال والدي النبي صلى الله عليه وسلم .
وكان ينبغي التقديم بعدة فصول هامة، تختص بالنهي عن الأغلوطات العلمية، وعن التجرؤ على الشريعة وأهلها، وكذلك النهي عن أن يتقمص العبد قميصا ليس له، وقد جعل الله لكل شيء قدرا، والتنبيه على اعتماد منهج أهل السنة والجماعة في ضرورة فهم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة الصالحين، وكذلك التحذير من مواقعة وموافقة أهل الوهم والتخيل، وحدثني قلبي عن ربي، من المتصوفة الغلاة، لكن هذه المسائل قد كتب فيها من قبل بعض الكتب، والرسائل العلمية، فيرجع إليها.
وقد سميته حال شروعي في كتابته: ( كشف السترة عن حكم أهل الفترة)
وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يتقبله مني، وأن ينفع به المسلمين، وأن يوفق الأمة إلى مذهب أهل السنة والجماعة.
وينبغي أن يعلم ]أنه لا يستقر للعبد قدم في الإسلام حتى يعقد قلبه على أن الدين كله لله، وأن الهدى هدى الله ،وأن الحق دائر مع الرسول وجودا وعدما، وأنه لا مطاع سواه، ولا متبوع غيره ،وأن كلام غيره يعرض على كلامه، فإن وافقه قبلناه، لا لأنه قاله، بل لأنه أخبر به عن الله ورسوله، وإن خالفه رددناه، ولا يعرض كلامه صلى الله عليه وسلم على آراء القياسيين، ولا على عقول الفلاسفة والمتكلمين، ولا أذواق المتزهدين، بل تعرض هذه كلها على ما جاء به عرض الدراهم المجهولة على أخبر الناقدين، فما حكم بصحته فهو منها المقبول، وما حكم برده فهو المردود[
وهذا أوان الشروع في المقصود
والله أرجو في أموري كلها معتصما في صعبها وسهلها
وكتب
أبو عبد الرحمن
محمد بن محمود بن مصطفى الإسكندري
الفصل الأول
بيان أن العرب لا تطلق لفظ الأب وتريد غيره حقيقة أبدا
تمهيد
الدافع إلى الاستفتاح بهذا الفصل : أن غلاة المتصوفة الزاعمين محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآل البيت، يعلمون أن الحجج الواهية، والأوهام الخيالية، لا تغني في مجال التحقيق العلمي عنهم شيئا، ويعلمون كذلك أن القول الصحيح في مبحث أحوال، وأحكام أهل الفترة ،يقضي بتكفير جماعة كبيرة ممن يحبونهم، ويترضون عنهم، بل يعتقدون فيهم أنهم من أولياء الله الأخيار، المتقين الأبرار؛ كوالد إبراهيم، عليه السلام، وكذا والدي النبي صلى الله عليه وسلم، وتمشيا مع منهج الباطنية، والشيعة الاثني عشرية، سارت الصوفية مسيرهم، وسلكت سبيلهم بأن للقرآن ظاهرا وباطنا، فقالوا : الأب المقصود في آية سورة الأنعام، هو: العم، والأب المقصود في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو: أبو لهب العم؛ لعلمهم أن هذين الدليلين هما كحجر العثرة في وجوههم، ويزعمون أن هذا القول يتنافى مع مقام الحضرة النبوية، والذات المصطفوية، ويزعمون كذلك أن تأويلهم الأب بالعم يتماشى مع مشاعر المحبين الصادقين للنبي صلى الله عليه وسلم، وآل بيته الأطهار، وأنه يتناغم مع عظيم شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم، والذي يستلزم: عدم إيذائه في والديه.
(وهي تخريفات وتحريفات للقرآن، الذي أنزله الله بلسان عربي مبين، وصرف له عن ظاهره المراد لغة وشرعا، وهؤلاء أضر على الإسلام من أعدائه، والعدو المداجي المتستر بالتشيع أو التصوف ونحوه، شر من العدو المكاشف المستعلن)
وأصحاب هذه المذاهب المبتدعة، التي أشرت إليها آنفا؛ كالشيعة، والمعتزلة، والصوفية، وأضرابهم قد نحوا بالتفسير والحديث ناحية مذهبهم، وفي سبيل ذلك حرفوا كثيرا من الآيات والأحاديث؛ لخدمة زبالة أفكارهم، وخرجوا بها عن معانيها المرادة، وعن قواعد اللغة، وأصول الشريعة، وكلما لاحت لأحد هؤلاء المبتدعة فرصة لإظهار مذهبه، والقدح في مذهب السلف، اهتبلها واغتنمها، ونفث سمومه في تفسيره للقرآن، والحديث؛ لينخدع بذلك من لا علم عنده، ويظن أنهم على الصواب،
من حيث لم يدري أن السم في الدسم
وإليك البرهان من أصحاب اللغة والبيان، وأهل التحرير والإتقان:
قال اللغوي أحمد بن محمد بن علي الفيومي في (المصباح المنير) (ص3،2):
الأب : لامه محذوفة، وهي: واو؛ لأنه يثنى أبوين، والجمع: آباء، مثل سبب وأسباب، ويطلق على الجد مجازا.......
وعلى اللغة المشهورة، إذا أضيف إلى غير الياء، وهو مكبر، أعرب بالحروف، فيقال: هذا أبوه، ورأيت أباه، ومررت بأبيه.
والأبوة مصدر من الأب، مثل الأمومة مصدر من الأم . انتهى
وقال أبو البقاء الكفوي في " الكليات" (ص25):
الأب هو: إنسان تولد من نطفته ولد أخر.
ولا بد من أن يذكر الابن في تعريف الأب، فالأب من حيث هو الأب، لا يمكن تصوره بدون تصور الابن.....وكل من كان سببا لإيجاد شيء، أو إصلاحه، أو ظهوره فهو أب له ...... ولا يراد بالأب: المربي أو العم من غير قرينة. انتهى
وفي" الجامع لأحكام القرآن"(7/16-17) بحث طويل في اسم أبي إبراهيم، عليه السلام، في تفسير قوله تعالى (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ) (الأنعام 74)
وخلاصته ما ذكره الشوكاني في " فتح القدير"( 2/151):
قال الجوهري: آزر اسم أعجمي، وهو مشتق من: آزر فلان فلانا، إذا عاونه، فهو مؤازر قومه على عبادة الأصنام.
وقال ابن فارس: أنه مشتق من القوة .
وقال الجويني في "النكت من التفسير " له : ليس بين الناس اختلاف في أن اسم والد إبراهيم تارخ، والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر، وقد تعقب في دعوة الاتفاق بما روي عن ابن إسحاق، والضحاك، والكلبي، أنه كان له اسمان آزر، وتارخ، وقال مقاتل : آزر لقب، وتارخ اسم ............. انتهى
قال الحافظ ابن كثير في" البداية والنهاية"(1/134) بعد ذكر الآية: وهذا يدل على أن اسم أبي إبراهيم آزر وجمهور أهل النسب، منهم: ابن عباس على أن اسم أبيه تارح ،وأهل الكتاب يقولون: تارخ، بالخاء المعجمة، فقيل: إنه لقب لصنم كان يعبده اسمه آزر.
وقال ابن جرير : والصواب أن اسمه آزر، ولعل له اسمان علمان، أو أحدهما لقب والآخر علم، وهذا الذي قاله محتمل والله أعلم . انتهى
وقال الفيروزآبادي في"القاموس المحيط"(ص1257)
والأبا لغة في الأب، وأصل الأب: أبوٌ محركة ، ج: أباء، وأبون ،
وأبوت وأبيت: صرت أباً ......انتهى
فبان مما سبق: أن العرب لا تطلق الأب وتريد غيره، إلا على سبيل المجاز، والمجاز لا يصار إليه إلا بقرينة،
حيث عرف أهل اللغة والأصول المجاز بأنه: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما وقرينة تمنع إرادة المعنى الحقيقي للفظ.
ويقصد بالقرينة : العلامة الصالحة الدالة على عدم إرادة المعنى الحقيقي للفظ من قبل المتكلم، وأنه أراد المنى المجازي .
ويحسن هنا إيراد فتوى الإمام العلم أبي عمر ابن الصلاح الشافعي بشأن هذا الأمر، فقد سئل، رحمه الله، في الأبوة هل يجوز أن يطلق في الكتاب العزيز، والحديث الصحيح على الأب من غير صلب ؟ وايش الفرق بين آدم أبي البشر، وبين إبراهيم الخليل صلى الله على نبينا وعليه وعلى النبيين والكل وسلم : أب ، فآدم أبو البشر وإبراهيم أبو الإيمان أو لمعنى آخر، ونرى مشايخ الطرق يسموهم: آباء المريدين، فيجب بيان هذا من الكتاب العزيز والحديث الصحيح........
أجاب، رضي الله عنه، قال الله تعالى ( قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل) (البقرة 133) ، وإسماعيل من أعمامه لا من آبائه، وقال سبحانه وتعالى ( ورفع أبويه على العرش)(يوسف 100)، وأمه كان قد تقدم وفاتها قالوا: والمراد: خالته، ففي هذا استعمال الأبوين من غير ولادة حقيقية، وهو مجاز صحيح في اللسان العربي، واجراء ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم، والعالم، والشيخ، والمريد: سائغ من حيث اللغة والمعنى، وأما من حيث الشرع، فقد قال سبحانه وتعالى: ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم )(الأحزاب 40) وفي الحديث الثابت عنه صلى الله عليه وسلم ( إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ) فذهب لهذا بعض علمائنا: إلى أنه لا يقال فيه صلى الله عليه وسلم أنه أبو المؤمنين، وإن كان يقال في أزواجه أمهات المؤمنين، وحجته: ما ذكرت، فعلى هذا يقال: هو مثل الأب ، أو كالأب، أو بمنزلة أبينا، ولا يقال: هو أبونا، ووالدنا، وفي هذا للمحقق مجال بحث يطول والأحوط: التورع والتحرز من ذلك .............. انتهى
فثبت لدى كل منصف عاقل: أن الأب لا يطلق لغة ولا شرعا إلا على الأب الصلبي؛ الذي تولد من نطفته إنسان آخر، ولا يطلق على غيره إلا مجازا، ولا يصح المجاز إلا بقرينة، يستحيل معها إرادة المعنى الحقيقي، كما سبق بيانه، ولو أردنا التوسع في بيان الحقيقة والمجاز لما وسعتنا هذه الصفحات، فلتراجع أمثلتهما في كتب الأصول،
وأي قرينة قوية تصلح لصرف مقصود لفظ الأب إلى العم، في هذا العدد الكبير من الآيات المثبتة أن إبراهيم حاج والده وخاصمه، سبحانك أين عقول هؤلاء ؟
قال الله تعالى (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ........) ( الأنعام 74)
وقال تعالى ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه...........) ( التوبة114)
وقال تعالى ( ولقد آتينا إبراهيم رشده..............) ( الأنبياء 51-52)
وقال تعالى ( واتل عليهم نبأ إبراهيم............) ( الشعراء 69-70)
وقال تعالى ( وإن من شيعته لإبراهيم.............) ( الصافات 83-85)
وقال عز وجل في أوضح الآيات وأصرحها دلالة ( واذكر في الكتاب إبراهيم ..............) ( مريم 41-48)
فذكر تعالى ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة، وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة، وأحسن إشارة، بين له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان؛ التي لا تسمع دعاء عابدها؛ ولا تبصر مكانه، فكيف تغني عنه شيئا، أو تفعل به خيرا؛ من رزق أو نصر، ثم قال منبها على ما أعطاه الله من الهدى، والعلم النافع، وإن كان أصغر سنا من أبيه ( يا أبت إني قد جاءني من العلم مالم يأتك فاتبعني أهديك صراطا سويا ) أي : مستقيما واضحا سهلا حنيفا، يفضي بك إلى الخير في دنياك وأخراك، فلما عرض هذا الرشد عليه، وأهدى هذه النصيحة إليه، لم يقبلها منه، ولا أخذها عنه، بل تهدده وتوعده قال( أراغب أنت عن آلهتي .............لأرجمنك ) قيل: بالمقال، وقيل: بالفعال ( واهجرني مليا) أي: واقطعني، وأطل هجراني، فعندها قال له خيرا فقال( سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا) قال ابن عباس وغيره: أي: لطيف، يعني: في أن هداني لعبادته والإخلاص له ولهذا قال ( وأعتزلكم ........) وقد استغفر له إبراهيم، عليه السلام، كما وعده في أدعيته، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه
فواضح بين، لا إشكال، في أن الآيات تضافرت، مع أقوال أهل العلم المعتبرين من اللغويين والمفسرين: أن المقصود في هذه الآيات، هو: أبو إبراهيم الصلبي، لا المجازي؛ المراد به العم.
والسؤال الآن: أين هي القرينة الصالحة لصرف نص قرآني صريح يقول ( لأبيه) إلى معنى آخر مجازي ( لعمه)؟
ولماذا قال إبراهيم في دعائه( واغفر لأبي إنه كان من الضالين)(الشعراء 86) ولم يقل لعمي؟!
وهنا سؤال أخير وهام : هل يقتنع الصوفية الغلاة، أصحاب التأويلات الباطنية، بهذه النصوص القرآنية، وهذه الأقوال من أئمة العربية والتفسير ؟!!!!
الفصل الثاني
بيان الأدلة من الكتاب والسنة أن أبا إبراهيم في النار
إن الأدلة في هذا الموضوع كثيرة وواضحة، لمن يسر الله تعالى له سبيل الاهتداء، والتوفيق لما عليه سلف الأمة الصالحون، من التوقف عند مدلولات الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة:
قال تعالى: ( ما كان للنبي والذين أمنوا أن يستغفروا للمشركين ............)(التوبة 113-114)
والشاهد: قوله تعالى: ( فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه)
قال ابن عباس: مازال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه
وفي رواية: لما مات تبين له أنه عدو لله، وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم، رحمهم الله
وإن تعجب فعجب لأقوام غضبوا لوالد إبراهيم، عليه السلام، ولوالدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ بزعم أن هذا قدح في مقام النبوة، ولم يغضبوا لابن نوح، عليه السلام، حيث قال تعالى ( ونادى نوح ربه .........)(هود 45-46)
بل ولم يغضبوا لولد آدم، عليه السلام، القاتل الذي قتل أخاه؛ حيث قال تعالى ( فأصبح من الخاسرين)(المائد ة30)
ولم يغضبوا لزوجتا نوح ولوط، عليهما السلام، حيث قال تعالى ( ضرب الله مثلا للذين كفروا ...)( التحريم 10) فكان حريا بهم أن يغضبوا لهؤلاء تمشيا مع قاعدتهم: أن هذا قدح في مقام النبوة، بل ويجب عليهم أن يغضبوا لمقام فرعون، قبحه الله، حيث تربى موسى، عليه السلام، في بيته، وأكل من أكله، وشرب من شربه، ولبس من ملبسه، وكفله ورعاه، حتى قال له (ألم نربك فينا وليدا...........)(الش راء 18)
والأصل على قاعدتهم: أن ابن نوح لم يكن ابنه على الحقيقة، بل هو مجاز في أبناء الرعية، وزوجتي نوح ولوط ليس المقصود بهما الزوجة، وإنما هو مجاز في أي امرأة أخرى، غير الزوجتين، فنصل معهم إلى إنكار القرآن بالكلية، واتباع التأويلات الشيعية الباطنية، وأن لكل شيء ظاهرا وباطنا، وواضحا وخفيا، وشريعة وحقيقة.
روى البخاري في "الصحيح" في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى(واتخذ الله إبراهيم خليلا)(النساء 165)
برقم (3350) عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك، فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه، فيلقى في النار. )
ثم رواه في كتاب التفسير، باب: (ولا تخزني يوم تبعثون )، غير أنه اختصره برقم (4469) ولفظه:
(يلقى إبراهيم أباه، فيقول: يا رب، إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين)
وفي الحديث مسائل:
الأولى: أن السنة وافقت ظاهر القرآن؛ بأن المقصود بالأب في الآيات، هو: الأب الصلبي، حيث قال في الحديث (يلقى إبراهيم أباه)، ولم يقل (عمه).
الثانية: وصف أبيه بالأبعد، فهي صفة لأبيه؛ لأنه شديد البعد من رحمة الله تعالى، فإذا كان الفاسق بعيدا منها، فالكافر منها أبعد، وقيل: الأبعد بمعنى البعيد، والمراد: الهالك، وهو نطق العرب .
الثالثة : في تفسير الذيخ، وهو بكسر الذال المعجمة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم خاء معجمة : ذكر الضباع، وقيل: لا يقال له ذيخ إلا إذا كان كثير الشعر. "فتح الباري"(8/359)
الرابعة : قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري":
الحكمة في مسخ آزر أبي إبراهيم إلى ضبع؛ لتنفر نفس إبراهيم منه ،ولئلا يبقى في النار على صورته، فيكون فيه غضاضة على إبراهيم.
وقيل: الحكمة في مسخه ضبعا : أن الضبع من أحمق الحيوان، وآزر كان من أحمق البشر؛ لأنه بعد أن ظهر له من ولده من الآيات البينات، أصر على الكفر حتى مات، واقتصر في مسخه على هذا الحيوان؛ لأنه وسط في التشويه بالنسبة إلى مادونه؛ كالكلب والخنزير، وإلى ما فوقه كالأسد مثلا ،ولأن إبراهيم بالغ في الخضوع له، وخفض الجناح، فأبى واستكبر، وأصر على الكفر، فعومل بصفة الذل يوم القيامة، ولأن للضبع عوجا، فأشير إلى أن آزر لم يستقم فيؤمن، بل استمر على عوجه في الدين. انتهى
وفي الحديث مسائل أخرى يراجع لها المصدر المذكور، وقد اخترت منها ما يدل على المقصود، وهو: أن والد إبراهيم، عليه السلام، آزر أو تارح، كما سبق بيانه، هو من أهل الكفر، وهو من الضالين؛ الذين خرجوا عن منهج الأنبياء والمرسلين، وعن عقيدة التوحيد،وهو يوم القيامة كالذيخ المتلطخ، يؤخذ بقوائمه، فيلقى في النار، كما ثبت في الكتاب والسنة، رغم أنف المعاندين المتوهمين، والله يقضي ما يشاء، لايسأل عما يفعل وهم يسألون،
وإبراهيم، عليه السلام، هو: أبو الأنبياء، وإمام التوحيد، وشيخ العقيدة، وقدوة المرسلين، لا يضره ضلال من ضل، ولا إعراض من أعرض، ولا إباء من أبى، ولا كفر من كفر.
( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ..........)(الأنعام125)
والله تعالى أعلم بمواقع الخير في عباده، وأبصر بمواطن الفضل فيهم، والحمد لله على توفيقه .
الفصل الثالث
بيان الأدلة من الكتاب والسنة عن حكم أهل الفترة
ينبغي هنا أن يعلم : أن النصوص الواردة في كفر بعض العرب، وتعذيبهم قبل البعثة، أخطأ فيها فريقان :
فريق ردها بدعوى أنها أخبار آحاد، ووقائع أعيان، لا تعارض النصوص القطعية في أنه لا يعذب أحد حتى تبلغه الحجة الرسالية.
وفريق أثبتها، واستدل بها على أنهم عذبوا قبل الحجة الرسالية، بما قام عليهم من حجة الميثاق، فالفريقان مخطئان، في أنه لم تقم على هؤلاء حجة رسالية، وأخطأ الفريق الثاني بأنهم عذبوا بإقامة حجة الميثاق عليهم.
وإليك البيان، فإنه تندرج تحت هذا الفصل جملة مسائل:
الأولى : حجة الله تعالى على خلقه تقوم بالرسل، عليهم الصلاة والسلام. وأدلة هذا الأمر مستفيضة من الكتاب والسنة، وستظهر هذه الأدلة في ثنايا كلام أهل العلم؛ الذي سأنقله بعد قليل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، كما في " مجموع الفتاوى" (2/403):
وتقرير الحجة في القرآن بالرسل كثير كقوله ( لئلا يكون للناس .............)( النساء:165)،
وقوله ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)( الإسراء:15)،
وقوله ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب ........)(طه: 134)،
إلى قوله ( وما كان ربك مهلك القرى ............)(القصص:59)،
وقوله ( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها......)(الملك :8)،
وقوله: ( وسيق الذين كفروا.............)(ال مر:71)،
وقوله ( يا معشر الجن والإنس.................) ( الأنعام: 130) .
ولهذا كان طائفة من أئمة المصنفين للسنة على الأبواب، إذا جمعوا فيها أصناف العلم، ابتدؤوها بأصل العلم والإيمان، كما ابتدأ البخاري" صحيحه" ببدء الوحي ونزوله، فأخبر عن صفة نزول العلم والإيمان على الرسول أولا، ثم أتبعه بكتاب الإيمان الذي هو الإقرار بما جاء به ، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به، فرتبه الترتيب الحقيقي، وكذلك الإمام أبو محمد الدارمي صاحب " المسند": ابتدأ كتابه بدلائل النبوة، وذكر في ذلك طرفا صالحا. انتهى
وقال ، رحمه الله في" الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (1/309-310):
وهنا أصل لا بد من اتباعه، وهو: أنه قد دلت النصوص على أن الله لا يعذب إلا من أرسل إليه رسولا، تقوم به الحجة عليه،
قال تعالى( وكل إنسان............)(الإ سراء: 13-15)
وقال تعالى(رسلا........... ...)(النساء:165)
وقال تعالى عن أهل النار ( كلما ألقي فيها فوج سألهم ...............)(الملك 8-9)
وذكر الآيات التي ذكرها سابقا، وزاد فيها
(يا أهل الكتاب............) ( المائدة: 19) ثم قال:
وإذا كان كذلك فمعلوم: أن الحجة إنما تقوم بالقرآن على من بلغه (لأنذركم به ومن بلغ)(الأنعام: 19 ) فمن بلغه بعض القرآن دون البعض، قامت عليه الحجة بما بلغه دون ما لم يبلغه. انتهى
وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام، وعلم الأعلام ، قدس الله ثراه، هو مذهب أهل السنة والجماعة، لا يختلفون في ذلك، : أن الحجة على الخلق إنما تقوم بالسمع، أي: عن طريق ما جاءت به الرسل، وقد حكى هذا أبو القاسم اللالكائي في "شرح مختصر اعتقاد أهل السنة"(1/196)
الثانية من المسائل : حكم من لم تبلغه دعوة الرسل في الدنيا،
وهذا إما أن يكون حقيقة، أي: لا تبلغه الدعوة حقيقة : كالبالغ العاقل؛ الذي لم يسمع برسالة نبي أبدا، وإما أن لا تبلغه حكما : كالشخص غير القادر على فهم خطاب التكليف – كالصبي والمجنون والكبير المختل، والثاني وجدت أمامه دعوة الرسول واشتهرت.
ومذهب أهل السنة والجماعة: أن هؤلاء بنوعيهما يمتحنون يوم القيامة، وبذلك تقوم حجة الله بالرسل على جميع خلقه إما في الدنيا وإما في الآخرة.
قال شيخ الإسلام في "الجواب الصحيح" (1/312): ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة؛ كالأطفال، والمجانين، وأهل الفترات، فهؤلاء فيهم أقوال، أظهرها ماجاءت به الآثار: أنهم يمتحنون يوم القيامة، فيبعث إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب، وإن عصوه استحقوا العذاب. انتهى
وقال كما في " مجموع الفتاوى" (14/447):
ولكن لا يعذب الله أحدا حتى يبعث إليه رسولا، وكما أنه لا يعذبه، فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة، ولا يدخلها مشرك، ولا مستكبر عن عبادة ربه، فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة، ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان ، فمن لاذنب له لا يدخل النار، ولا يعذب الله بالنار أحدا إلا بعد أن يبعث إليه رسولا، فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه كالصغير والمجنون، والميت في الفترة المحضة، فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بهذا الآثار . انتهى
وهذه الآثار التي أشار إليها شيخ الإسلام ذكرها ابن كثير في تفسيره (في تفسير سورة الإسراء)
وقال ابن القيم، رحمه الله في" طريق الهجرتين"(702-706):
وقد جاءت بذلك أثار كثيرة يؤيد بعضها بعضا فمنها:
ما رواه الإمام أحمد في " مسنده"، والبزار أيضا بإسناد صحيح، فقال الإمام أحمد: حدثنا معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أربعة يمتحنون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع، ورجل هرم، ورجل أحمق، ورجل مات في الفترة، أما الأصم، فيقول : رب لقد جاء الإسلام وأنا ما أسمع شيئا، وأما الأحمق ، فيقول : رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم، فيقول: رب لقد جاء الإسلام وأنا ما أعقل، وأما الذي في الفترة، فيقول: رب ما أتاني رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار، فوالذي نفسي بيده، لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما،
قال معاذ بن هشام: وحدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، بمثل هذا الحديث، وقال في آخره: فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن لم يدخلها رد إليها –إلى أن قال-
قال الحافظ عبد الحق في حديث الأسود: قد جاء هذا الحديث، وهو صحيح فيما أعلم، والآخرة ليست دار تكليف ولا عمل، ولكن الله يخص ما يشاء بما يشاء، ويكلف من يشاء ما يشاء وحيثما شاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.......
ورواه علي بن المديني، عن معاذ بنحوه، قال البيهقي: حدثنا علي بن محمد بن بشران ، أخبرنا أبو جعفر الرازي، أخبرنا حنبل بن الحسين، أخبرنا علي بن عبد الله، وقال: هذا إسناد صحيح. انتهى
ثم ذكر العلامة ابن القيم بقية مرويات الخبر ثم قال: فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضا، وتشهد لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة، نقله عنهم الأشعري، رحمه الله، في "المقالات" وغيرها.
فإن قيل: قد أنكر ابن عبد البر هذه الأحاديث، وقال : أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب؛ لأن الآخرة ليست دار عمل ولا ابتلاء، وكيف يكلفون دخول النار، وليس في وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها؟
فالجواب من وجوه:
أحدهما : أن أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها، بل ولا أكثرهم، وإن أنكرها بعضهم، فقد صحح غيره بعضها، كما تقدم.
الثاني : أن أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة والحديث، فدل على أنهم ذهبوا إلى موجب هذه الأحاديث.
الثالث: أن إسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث؛ التي يحتج بها في الأحكام، ولهذا رواه الأئمة أحمد، وإسحاق، وعلي بن المديني.
الرابع : أنه قد نص جماعة من الأئمة، كعلي، على وقوع الامتحان في الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار، ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف.
الخامس : ما ثبت في " الصحيحين" من حديث أبي هريرة وأبي سعيد: في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا إليها؛ أن الله سبحانه وتعالى يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأله غير الذي يعطيه، وأنه يخالفه ويسأله غيره، ف(يقول الله تعالى: ما أغدرك )، وهذا الغدر منه، هو: مخالفته العهد الذي عاهد ربه عليه.
السادس : قوله: وليس ذلك في وسع المخلوقين، جوابه من وجهين:
أحدهما : أن ذلك ليس تكليفا بما ليس في الوسع، وإنما تكليف بما فيه مشقة شديدة، وهو كتكليف بني إسرائيل قتل أولادهم وأزواجهم وآبائهم حين عبدوا العجل، وكتكليف المؤمنين إذا رأوا الرجل ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا في الذي يرونه نارا.
والثاني : أنهم لو أطاعوه ودخلوها لم يضرهم، وكانت بردا وسلاما، فلم يكلفوا بممتنع ن ولا بما لم يستطع.
السابع : إنه قد ثبت أنه سبحانه وتعالى يأمرهم في القيامة بالسجود، ويحول بين المنافقين، وبينه،وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعا، فكيف ينكر التكليف بدخول النار في رأي العين، إذا كان سببا، كما قال أبو سعيد الخدري( هو أدق من الشعرة وأحد من السيف)رواه مسلم، فركوب هذا الصراط الذي هو في غاية المشقة كالنار، ولهذا كلاهما يفضي منه إلى النجاة، والله أعلم ..
الثامن : أن هذا استبعاد مجرد، لا ترد بمثله الأحاديث، والناس لهم طريقان: فمن سلك طريق المشيئة المجردة، لم يمكنه أن يستبعد هذا التكليف، ومن سلك طريق الحكمة والتعليل لم يكن معه حجة تنفي أن يكون هذا التكليف موافقا للحكم، بل الأدلة الصحيحة تدل على أنه مقتضى الحكمة كما ذكرناه.
التاسع : أنه في أصح هذه الاحاديث، وهو حديث الأسود؛ أنهم يعطون ربهم المواثيق ليطيعنه فيما أمرهم به، فيأمرهم أن يدخلوا نار الإمتحان، فيتركون الدخول معصية لأمره، لا بعجزهم عنه،فكيف يقال أنه ليس في الوسع؟!
فإن قيل : فالآخرة دار جزاء، وليست دار تكليف، فكيف يمتحنون في غير دار التكليف؟
فالجواب: أن التكليف إنما ينقطع بعد دخول دار القرار، وأما في البرزخ، وعرضة القيامة فلا ينقطع، وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ، وهي تكليف،
وأما في عرضة القيامة، فقال تعالى:(يوم يكشف عن ساق .....)(القلم:42)،صري في أن الله يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف بما لا يطاق حينئذ حسا عقوبة لهم؛ لأنهم كلفوا في الدنيا، وهم يطيقونه فلما امتنعوا منه، وهو مقدور لهم، كلفوا به، وهم لا يقدرون عليه حسرة عليهم وعقوبة لهم، ولهذا قال الله تعالى: (وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون)(القلم:43)، دعوا إليه في وقت حيل بينهم وبينه، كما في " الصحيح" من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد، رضي الله عنه، إن ناسا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا؟ ـــــ فذكر الحديث بطوله، إلى أن قال:( فيقول: تتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيقول المؤمنون : فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم، فيقول : أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئا- مرتين أو ثلاثا- حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول : هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها؟ فيقولون : نعم،فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم ) وذكر الحديث.
وهذا التكليف نظير تكليف البرزخ بالمسألة، فمن أجاب في الدنيا طوعا واختيارا أجاب في البرزخ، ولم يكن تكليفه في الحال، وهو غير قادر قبيحا، بل هو مقتضى الحكمة الإلاهية؛ لأنه مكلف وقت القدرة وأبى، فإذا كلف وقت العجز، وقد حيل بينه وبين الفعل كان عقوبة له وحسرة.
والمقصود : أن التكليف لا ينقطع إلا بعد دخول الجنة أو النار، وقد تقدم أن حديث الأسود بن سريع صحيح، وفيه التكليف في عرضة القيامة، فهو مطابق لما ذكرنا من النصوص الصريحة الصحيحة، فعلم أن الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة، وتأتلف به النصوص، ومقتضى الحكمة هذا القول، والله أعلم. انتهى بتمامه
وهذا التحقيق؛ الذي لا يدع مقالة لقائل، يقود إلى النصوص المثبتة والقاطعة والصريحة في أن بعض مشركي العرب في النار، وأنهم كانوا كفارا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم،
وهي نصوص كثيرة صريحة، ليس لها مدفع،
ومن ذلك:
- قوله تعالى( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) (آل عمران: 103)
- وقوله تعالى ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى........)(البنية: 1-2)
- وقوله تعالى( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا)(البقرة: 89)
أي: أن اليهود كانوا يستفتحون على الذين كفروا، وهم العرب ، بنبي يأتي من اليهود،
- قوله صلى الله عليه وسلم في حديث وفاة أبي طالب: أن آخر ما قال : (أنه على ملة عبد المطلب)
فدل على أن عبد المطلب مات على الشرك، وذلك قبل البعثة
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان، كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما : رب اغفر لي خطيئتي بوم الدين
- وعن أنس، رضي الله عنه، أن رجلا قال : يارسول الله، أين أبي؟ قال:( في النار)، فلما قفًّى دعاه فقال: ( إن أبي وأباك في النار).
- وعن أبي هريرة، رضي الله عنه،قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأذنت ربي أن أستغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي.
- ومنها، وهو من أصرحها، ما جاء في حديث لقيط بن عامر الطويل وفيه: قال:
فقلت: يا رسول الله، هل لأحد مما مضى من خير في جاهليتهم؟ قال: فقال رجل من عرض قريش: والله، إن أباك المنتفق لفي النار، فكأنه وقع حر بين جلدي ووجهي مما قال لأبي على رؤوس الناس، فهممت أن أقول: وأبوك يا رسول الله؟ فإذا الأخرى أجمل، فقلت: وأهلك يا رسول الله؟ قال: وأهلي، لعمر الله، ما أتيت عليه من قبر عامري أو قرشي من مشرك فقل: أرسلني إليك محمد، يبشرك بما يسوؤك، تجر على وجهك وبطنك في النار .
والذي يعنينا هنا أن هذه النصوص دالة على أن أغلب العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كفار معذبون في النار، فطعن قوم في هذه النصوص بأنها أحاديث آحاد، ووقائع أعيان لا تعارض النصوص القطعية في أنه لا يعذب أحد حتى تبلغه الحجة الرسالية، وهؤلاء لم تبلغهم،
وممن ذهب إلى هذا السيوطي، رحمه الله، وأفرط فرتب على هذا القول بنجاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم من النار، ثم غلا فقال: إن الله بعثهما من موتهما فآمنا به، وصحح حديثا في ذلك عن طريق الكشف والمنام. وهذا مما عابه عليه العلماء.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيميه عن هذا كما في " مجموع الفتاوى"(4/324):
هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله تبارك وتعالى أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه ثم ماتا بعد ذلك؟
فأجاب:
لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث، بل أهل المعرفة متفقون على أن ذلك كذب مختلق، وإن كان قد روي في ذلك أبو بكر- يعني: الخطيب- في كتابه" السابق واللاحق"، وذكره أبو القاسم الهيلي في " شرح السيرة" بإسناد فيه مجاهيل، وذكره أبو عبد الله القرطبي في " التذكرة" وأمثال هذه المواضع،
فلا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات، كذبا كما نص عليه أهل العلم، وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث، لا في الصحيح، ولا في السنن، ولا في المسند، ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة، ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير، وإن كانوا قد يروون الضعيف مع الصحيح، لأن ظهور كذب ذلك لا يخفى على متدين،فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فإنه من أعظم الأمور خرقا للعادة........ انتهى
فقد ثبت مما سبق:
أنه لا يدخل النار إلا من بلغته دعوة رسول، ولكن لا يلزم أن يكون الرسول هو: محمد صلى الله عليه وسلم، فالقول بأن مشركي العرب لم تبلغهم الحجة الرسالية ؛ لكونهم ماتوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم هو قول غير صحيح، فقد قامت عليهم الحجة الرسالية بدين إبراهيم، عليه السلام، وإن دخله التحريف، إلا أنه كان فيهم من يعرف التوحيد، ويحتج عليهم به، ومنهم: زيد بن عمرو بن نفيل؛ الذي كان يقول لكفار قريش: ( يا معشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري) .
وعن ابن عمر، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد، إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله ، إنكارا لذلك وإعظاما له.
وزيد هذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم، كما في هذا الحديث، غير أنه مات قبل البعثة، وعمل بما أمكنه معرفته من دين إبراهيم الحق، وكان كفار قريش يؤذونه على ذلك.
فالحجة كانت قائمة على العرب قبل البعثة بدين إبراهيم، وكان منهم من هو على بقية من الدين الحق، وهم الحنفاء، ومنهم زيد بن عمرو، وكانت قريش تفخر على العرب بأنهم نسل إبراهيم، ويسمون أنفسهم: الحُمْس، كما ورد في أول سيرة ابن هشام.
ولهذا قال الإمام النووي في"شرح مسلم" (3/79) في شرح حديث (إن أبي وأباك في النار): فيه: أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين،
وفيه: أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة؛ فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم، وغيره من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم. انتهى
وهذا من أبين التحقيق وأظهره،
ولا يشكل على هذا الضابط آية سورة القصص، وهو قوله تعالى( لتنذر قوما ما آتاهم من نذير من قبل......) (46)
فتدل هذه على أن العرب لم يأتهم نذير قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن يعارضها قوله تعالى(وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) (فاطر:24)
فمقتضاه: أنه جاءهم نذير، وهو: إبراهيم، عليه السلام، كما ثبت بالنصوص السالفة الذكر.
وعلى هذا، فإن آية القصص، ونحوها لا تشكل على أن العرب كانوا محجوجين بدين إبراهيم، عليه السلام، وأن الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في النار، ممن ماتوا قبل بعثته، قامت عليهم الحجة الرسالية بدين إبراهيم، عليه السلام، وبهذا يظل الضابط الفقهي في هذا الباب صحيحا غير منخرم، وهو: أنه لا يدخل النار إلا من قامت عليه الحجة الرسالية؛ إما بدعوة رسول في الدنيا، وإما باختبار في عرصات يوم القيامة، ولله الأمر من قبل ومن بعد .
الفصل الرابع
بيان الأدلة على حال والدي النبي صلى الله عليه وسلم
عن أنس، رضي الله عنه، أن رجلا قال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفى دعاه فقال:( إن أبي وأباك في النار).
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي)
قال الشيخ محمد أبو زهرة في " خاتم النبيين" (1/132) تعليقا على هذا الحديث :
"إنه خبر غريب في معناه، كما هو غريب في سنده؛لأن الله تعالى يقول( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)(الإسراء:15) ، وقد كان أبو محمد، عليه الصلاة والسلام، وأمه على فترة من الرسل فكيف يعذبون؟! ...
وفي الحق: إني ضرست في سمعي وفهمي عندما تصورت أن عبد الله وآمنة يتصور أن يدخلا النار . انتهى
وتعقبه العلامة الألباني رحمه الله في "صحيح السيرة" (24-25) :
فأقول: يا سبحان الله، هل هذا موقف من يؤمن برسول الله أولا، ثم بالعلماء الصادقين المخلصين ثانيا؛ الذين رووا لنا أحاديثه صلى الله عليه وسلم، وحفظوها لنا، وميزوا ما صح مما لم يصح منها، واتفقوا على أن هذا الحديث من الصحيح الثابت عنه صلى الله عليه وسلم ؟ أليس موقف( أبو زهرة) هذا هو سبيل أهل الأهواء؛ كالمعتزلة، وغيرهم؛ الذين قالوا بالتحسين والتقبيح العقليين، مما رده عليهم أهل السنة، والشيخ يزعم أنه منهم،فما باله خالفهم وسلك سبيل المعتزلة في تحكيم العقل، وردهم للأحاديث الصحيحة؛ لمجرد مخالفتها لأهوائهم، إما أصلا، وإما تأويلا إذا لم يستطيعوا رده من أصله، وهذا عين ما فعله الشيخ، فإنه رد هذا الحديث؛ لظنه أنه حديث غريب، كما رأيت، وتأول أحاديث الزيارة بقوله" ولعل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار لأمه؛ لأن الاستغفار لا موضع له، إذ أنه لم يكن خطاب بالتكليف من نبي مبعوث "
ونحن نقول له كما تعلمنا من بعض السلف : اجعل لعل عند ذاك الكوكب،
فإن أحاديث الزيارة تدل دلالة قاطعة على أن بكاءه صلى الله عليه وسلم، إنما كان شفقة عليها من النار، و هذا صريح في بعض طرق حديث بريدة،.................. ..
ولذلك علق الإمام النووي على حديث أبي هريرة منها بقوله في " شرح مسلم": "فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة؛ لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة، ففي الحياة أولى، وفيه النهي عن الاستغفار للكافر"
وقال في شرح حديث أنس هذا "فيه أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين، وفيه أن من مات على الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم، وغيره من الأنبياء، صلوات الله تعالى وسلامه عليهم"
قلت- والكلام للألباني- : وفي كلام الإمام النووي: رد صريح على زعم (أبو زهرة) أن أهل الفترة الذين كانوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا يعذبون، ومع أن قوله هذا مجرد دعوى؛ لأنه لا يلزم من صحة القاعدة – وهي هنا أن من لم تبلغه الدعوة لا يعذب – أن الشخص الفلاني، أو الأمة الفلانية، لم تبلغهم الدعوة، بل هذا لابد له من دليل، كما هو ظاهر، وهذا مما لم يعرج عليه( أبو زهرة) مطلقا، وحينئذ يتبين للقارئ الكريم كم قد تجنى على العلم حين رد حديث أنس، وتأول أحاديث الزيارة بما يفسد دلالتها بمجرد هذه الدعوة الباطلة . انتهى كلامه
وقد سبقت بعض الأدلة على حكم والدي النبي صلى الله عليه وسلم في فصل أهل الفترة
قال الحافظ ابن كثير في " البداية والنهاية" (2/261):
والمقصود أن عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية، خلافا لفرقة الشيعة فيه وفي ابنه أبي طالب ....... وقد قال البيهقي.......: وكيف لا يكون أبواه وجده ،عليه الصلاة والسلام، بهذه الصفة في الآخرة، وقد كانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا، ولم يدينوا دين عيسى ابن مريم، عليه السلام، وكفرهم لا يقدح في نسبه، عليه الصلاة والسلام ، لأن أنكحة الكفار صحيحة، ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم، فلا يلزمهم تجديد العقد، ولا مفارقتهن، إذا كان مثله يجوز في الإسلام وبالله التوفيق. انتهى كلامه
قلت-أي: ابن كثير -: وإخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار، لا ينافي الحديث الوارد من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة، كما بسطناه سندا ومتنا في" تفسيرنا" عند قوله تعالى( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)( الإسراء:15) فيكون منهم من يجيب، ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء من جملة لا يجيب، فلا منافاة ولله الحمد والمنة . انتهى كلامه
وقد قال الله تعالى ( ما كان للنبي والذين آمنوا......)(التوبة 113-114)
قال شيخ الإسلام كما في " مجموع الفتاوى" (1/145-146):
وأما الشفاعة والدعاء فانتفاع العباد به موقوف على شروط، وله موانع، فالشفاعة للكفار للنجاة من النار، والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر، لا تنفعهم ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاها، فلا شفيع أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الخليل إبراهيم، وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له، كما قال تعالى ( ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين.....)(إب اهيم:41) وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأبي طالب، إقتداء بإبراهيم، وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه، فأنزل الله تعالى ( ما كان للنبي ........)(التوبة:113) ثم ذكر عذر إبراهيم فقال( وما كان استغفار إبراهيم.......)(الت بة:114-115)
وقال شيخ الإسلام قبلها : والتوسل بدعائه وشفاعته ينفع مع الإيمان به، وأما بدون الإيمان به فالكفار والمنافقون لا تغني عنهم شفاعة الشافعين، ولهذا نهي عن الاستغفار لعمه وأبيه وغيرهما من الكفار . انتهى
ولعل فيما ذكرت من الكتاب والسنة، وفيما نقلت من أقول أهل العلم المعتبرين: مقنع لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، في مسألة لم تشغل حيزا كبيرا في مناقشات أهل العلم، ولكن يثيرها كل فترة: من لا علم له، ولا منهجا صحيحا يعتمد له عليه،
وهذا مني جهدي المقل في تعليم من لا يعلم، وتبصير من لا يبصر،
وأنا أهيب بكل ذي سلطان أن يخرس لسان كل من تسول له نفسه العبث بعقيدة الأمة أو منهجها، وأن يضرب بيد من حديد على أصحاب الدعوات الباطلة، والمذاهب الهدامة؛ من صوفية، و أشعرية، وخوارج، ورافضة شيعية ، وغيرهم ممن ذكرت في أثناء كلامي،
وهذا أوان وضع القلم، وجفاف الحبر، عن ما قصدت إبانته وإظهاره في هذه المسألة
وما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وهو المستعان وعليه التكلان، وما كان فيها من خطأ، فأستغفر الله عز وجل منه، وأنا راجع عنه، إن جاءني خير منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
وصلى الله وسلم وبارك على سيد الخلق أجمعين، و حبيب رب العالمين، وعلى آله و أصحابه و التابعين.
و كتب حامدا مصليا
أبو عبد الرحمن
محمد بن محمود بن مصطفى الإسكندري