عِبَر من وحي الأحاديث الشريفة
قصة للأولاد

ضحكة الموت

أخي القارئ:
يمرّ الإنسان في أحايين كثيرة بظروف قاسية، ربما يعجز عن مواجهتها إن لم يكن متسلحا بزاد إيماني كبير.
لذلك، فنحن بحاجة إلى الاستزادة دائما من فيض الإيمان المتمثل بدراسة كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم العطرة.
وأنت أخي القارئ ،من خلال قصتنا هذه ، ستتعرف معنا على أشخاص من نماذج عدّة ,قد تراهم في حياتك اليومية بكثرة ، فترى كيف مرّوا بمحن احتاجوا فيها إلى زاد الإيمان . فهل حصلوا عليه، أم تراهم حاروا في دروبهم وضلوا ؟!
تعال معي إذن نطالع معا: ضحكة الموت.
(1)

الليل والحزن
كان المطر يهطل بغزارة ، وكان الليل حالكا قد أطبق على دمشق. وكنت أشعر بالحزن ينسرب إلى جسمي كلّه، وبالأسى يخيّم عليَ. ولأول مرة أعرف ما معنى الرحيل.
كنت أشعر بالغصة تكويني ، وكنت أتطلع إلى أمي ووجهها المتغضن الملئ بالتجاعيد ، فأرى دموعها الغزيرة ككرات بيضاء متلاحقة ، أو كحبات لؤلؤ انفرط عقدها . فكنت أعاود البكاء بحرقة ، فتربت أمي على كتفي وتقول: _ لا تبك يا حبيبي.
بينما كان أبي، الذي قد أفاق من سكره، واقفا بجمود، يرمقني بنظرات ثابتة.
وظل المطر يهطل.
كنا ، قبل لحظات ،قد ودَعنا أختي الوحيدة التي سافرت مع زوجها إلى ليبيا للعمل، وكان رحيلها وقتذاك يعني أشياء كثيرة ، ربما لم أعرف معناها في وقتها ، إذ كنت في الصف السادس لا أزال.. لكنني الآن أتصور مدى الفراغ والقسوة
التي خلَفها الرحيل ، والتي تحملت أمي وقعها بكل ثبات . ف(طاهرة)، أختي الوحيدة، كانت تعد _في الواقع_ هي المسؤولة عن منزلنا. وكانت أجرتها من الوظيفة تشكّل المورد الوحيد لعائلتنا، لأن أبي _للأسف الشديد_ كان يذهب بمرتَبه الشهري إلى جحيمه ! أي إلى مشروبه بمعنى آخر! ولم تستطع أمي أبدا _ في يوم ما_ أن تمنعه من ذلك، ولم
تملك سوى الدموع والدعاء. لكن ، هل الدعاء بلا عمل يفيد ؟!
ومشينا بخطوات حزينة إلى سيارتنا، وأجهشت أمي بالبكاء ثانية. فعبس أبي بوجهها ، وقال بغضب: _ ادخلي ! ادخلي!
يا لك من زوج بلهاء !
فأمسكت أمي بيدي، ودخلنا السيارة.
وفي الواقع، لم تكن عربتنا سيارة بالمعنى الحقيقي، بل كانت حديدا قديما كثور بال مهمل .. وكثيرا ما تساءلت كيف تمكَن
أبي من شرائها، ومن أين له ثمنها، وجيوبه دائما خاوية ؟! فكانت أمي تجيبني بلهجة لا تتغير:_ مازلت صغيرا الآن !
غدا تكبر وتعرف كل شئ .
ولقد أخبرتني أمي، فيما بعد، أن أبي اشتراها بالقمار من رجل انكليزي سيئ الحظ ، لعب مع أبي وخسر ماله، فأعطاه
الانكليزي تلك السيارة بدل النقود، وعدَها أبي وقتها صفقة رابحة.

* * *
أم الخبائث
كان الطريق طويلا ، والظلام مطبقا بلا نجوم، والمطر لا يكفّ عن الهطول. وتحرك أبي، ومدَ يده إلى صدره، وأخرج
زجاجة خمر قدر الكفّ، لها بريق أحمر كعيون شيطان، فصرخت أمي :_ ويلك ! لا تشرب ! ستسكر الآن !
وضحك والدي بصخب :_ لا تخافي ! أنتن النساء رقيق قلبكنَ !
فخبطت أمي يدها على صدرها:_ ليس من أجلي، بل من أجل عاصم !
ولما بدا وكأنه لا يسمع ، هتفت بألم : _ ارحمنا يا رب .
وأغمضت عينيها بفزع.
جرع والدي من الزجاجة، ونظر إلى أمي هازئا :_ انظري، هل سكرت ؟! هل حدث شئ مما تقولين ؟!
فأشارت بأصبع مرتجفة إلى الطريق :_ انظر أمامك ! لا تكن متهورا !
فأدار وجهه :_ هه .. وماذا حصل ؟! هذا هو الطريق لاحبا أراه !
وضغط على البنزين ، فأزَت السيارة العجوز على الطريق المبتل .
لم أكن خائفا وقتها، بل كنت مسرورا وأنا أرى السيارة تنطلق كالسهم، وأضحك من أمي المذعورة ومن يدها المتشبثة بيدي..
ونسيت للحظات أختي (طاهرة).
ولما نظرت إلى أبي بعد دقائق، رأيته قد جرع الزجاجة كلَها، ورماها من النافذة. وأخذ ضحكه يتعالى كطلقات مدفع :_ هل حصل شئ ؟! قولي لي ! ثم وضع يده على رأسه وضغط بشدة، وقال:_ أشعر بألم فظيع !
فتوسلت أمي إليه : _ أوقف السيارة ! إنه بداية السكر !
ولم تتم كلماتها، ولم أعد أعِي شيئاً.
أذكر أنني سقطت في حفرة مظلمة، ودارت كرات ملونة في رأسي.. وتتالت صور كثيرة مهزوزة.. وأذكر كيف سمعت صرخة أمي، وصوت ارتطام السيارة.

* * *

مأساة
وعندما فتحت عينيَ، أدرت وجهي، وبكيت بحرقة:_ أمي .. أبي !
لكني لم أرهما ، وصافحت عيناي الجدران البيضاء ووجوه الأطباء ومساعديهم. وتمتمت : أنا في المستشفى إذن !؟
وتذكرت ما حدث، وقلت بأسى :_ ملعونة الخمرة أم الخبائث !
ثم صرت ألقي نظرة على جسمي، متحسسا مواضع الألم. ولما رفعت يدي، هالني أنني صرت مقطوع اليد .فصرخت: - رباه ! يدي، يدي !
وتحركت بانزعاج، فأصدر السرير صوتا كآهة. فانتبهت الممرضة إليّ، وأقبلت نحوي وهي تقول:
_ هل استيقظت أخيرا ؟!
فلم أجبها ،إذ كنت أريد أن أعرف ما حلَ بأمي وأبي. وقلت بانزعاج بالغ:_ أريد أن أراهما ! أريد أمي وأبي !
فهدَأتني قائلة :_ صبرا .. ما زلت طريَ الجروح.
فلم أملك شيئا سوى النحيب المتواصل . وعلمت أن أبي قد مات، وأمي كسيحة صارت. ومنذ ذلك اليوم البعيد، بدأت
مأساتي، بسبب تلك اللعينة.. الخمرة !

* * *

(2)

المشوّه

إلى من نلتجئ ؟ وهل نرسل إلى أختي ؟
كنا في مأزق حقيقي، فأنا صغير لا أزال، وأمي لن تقدر على الحركة بعد اليوم، ومرتب والدي لن يكفينا أبدا. وبكيت :_ يا رب ، لم صار كل ذلك !؟
فنهرتني أمي بغضب :_ تأدب يا عاصم ! تذكَر رحمة الله التي وسعت كلَ شئ. فلو كان ذهب أحدنا, أنا أو أنت، فمن كان
سيبقى لنا ؟! قل لي من كان سيبقى لنا ؟!
وزحفت نحوي وضمتني إلى صدرها بحنان. فبكيت بحرقة وأنا أقبل خدها. وشعرت بدموعها تغسل وجهي وقلبي..
وقررت ذلك اليوم أن أترك المدرسة, وأذهب لأعمل في أية حرفة. لكنني تذكرت يدي المقطوعة، وخجلي من عاهتي التي ستلازمني طيلة عمري. فقلت لأمي :_ لن أذهب إلى المدرسة.. لن أذهب أبدا ! وسأعمل منذ هذه اللحظة ! لا ! بل سأبقى في البيت !
فدهشت وقالت:_ يا ويلي ! وعلى من نعتمد في المستقبل ؟!
فأجبتها وأنا أهرب من نظراتها :_ هل نسيت يدي المقطوعة ؟! أنا الآن مشوَه ! أتعرفين ما معنى مشوَه ؟! إن رفاقي
سيجتمعون حولي ويمسكون يدي المقطوعة، و يهزؤون مني ! وقد يرمونني بنظرات استغراب وقرف ،بعد أن يتحدثوا
عني ، ويحكوا عليَ.
وقاطعتني :_ عاصم ! أنت تقول ذلك ؟! يا صغيري الجاهل ! ماذا أقول أنا المشلولة إذن ؟!
وهزت رأسها الذي علاه الشيب :_ احمد ربك أنك في صحة جيدة، وأنك لازلت تتمتع بقواك.
وشدَت على يدي: _ عاهدني ألا تعود إلى مثل ذلك أبدا .
* * *
بداية الطريق
ومن وقتها، أخذت أمي تعلمني الكثير، وتمسك بيدي لأبدأ رحلة الإيمان والتعرف على طريق الحق والدين .
فكثيرا ما كنت أقضي الليالي الطوال معها وهي تحدثني عن معنى الصبر، ومن أين يستمده الإنسان، وكيف نستطيع أن نملك القدرة على الثبات. مؤكدة في كل مرة أن المسلم لن يتعلم ذلك كله، إلا إذا درب نفسه على الإخلاص لدين الله، والإخلاص لن يكون إلا إذا توجَه الفرد إلى الله تعالى بخالص النية والعمل.
وكثيرا ما قالت لي وأنا جالس بقربها :_ ها أنذا قد عطِلت ساقاي، ولو لم أكن على ثقة أن أمر المؤمن كله خير، لما قدرت على احتمال عجزي.
وتمسح على رأسي وتتابع : _ قل لي :هل يستطيع البعيدون عن الدين أن يقاوموا المصائب بشجاعة وثبات ؟ بل هل يصبرون صبر الواثق، العارف أن الفرج قريب مهما طال؟
وتتطلع بعينيها الصافيتين إلى المدى البعيد، موقنة أنني أعرف الجواب، فيعاود فمها الانفراج عن ابتسامة:_ أتراك فهمت ؟!
فأهز رأسي بالإيجاب .
وكان من المنطقي بعد حديثها عن الصبر وصدقها في الحديث، أن أنسى ببساطة يدي، لكن للحق أقول، إن شعور الخجل من منظرها لم يفارقني بسرعة، وهذا ما حزَ في نفس أمي.. فكثيرا ما بللت وسادتي، وصرخت مناجيا ربي في الليالي المظلمة. وكثيرا ما شعرت بالغصّة، كأن يدا قوية تضغط على عنقي، فأهتف:_ ربي ارحمني، وأنزل عليَ رحمتك.
فتسمع أمي صوتي الخاشع، فتأتي زاحفة نحوي، وتعاود الحديث عن الصبر بطريقة أخرى.. فتتحدث عن سيدنا أيوب عليه السلام، وكيف أنهكته الأمراض وظل صابرا. فينشرح صدري، بينما يأخذها رطب الحديث، فتطيل الكلام، ويهرب النوم من جفوني، ويشد انتباهي صوتها الهادئ وإيمانها العميق. ثم تصمت فجأة وتقبلني :_ هل تريد أن تنام ؟
فأضحك بعذوبة :_ أبدا ! تابعي . أنا مصغ.
فتتكلم حتى ينجلي الليل. فأرقب الفجر وهو يتسلل إلى الكون بنوره المشرق، وأشعر بحلاوة الإيمان، وتغسل كلمات المؤذن روحي.
وكنت حزينا رغم كل ذلك، وطابع الغربة لم يفارقني أبدا. وكنت كل يوم أشعر بوطأة حالنا، وأرقب أمي وصبرها وحيرتها في تدبير أمري، وكيف تكتم عني كل ذلك، وتواري حزنها بابتسامة ملائكية، فأزداد كربا.
* * *
الرحيل:
وذات يوم، عندما عدت من المدرسة، ودخلت البيت، وجدت عمي أبا مصعب. وعندما لمحني قال لأمي : ها قد عاد ابني البطل .
فعرفت أننا سنغادر منزلنا لنسكن في بيت عمي، فتملكني الغضب، وشعرت أن ريحا قوية ستقتلع جذوري وتنفيني إلى بيت آخر جديد، تاركا ذكرياتي، وبصمات طفولتي، هنا بين جدران الغرف ونوافذها، راحلا، تاركا أشيائي كلها، مودعا عمرا قد مضى . لكنني كتمت ذلك في نفسي وصبرت، وقلت وأنا أسلّم على عمي :_ السلام عليكم .
فربت على كتفي :_ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. ( وابتسم ابتسامة ذات مغزى ) مصعب يهديك التحية.

(3)

نقيضان
الأيام تمضي مسرعة . والزمن يرحل ولا ينتظر أحدا . والعارف من يستفيد من كل ذلك ويكثر من عمل الخير .
ورغم أن اليوم هو بداية اليوم الثاني من السنة الجديدة التي نقضيها في دار عمي، إلا أنني لم أرتح حتى الآن لهذه الضيافة. فصحيح أن عمي وامرأته يعاملاني بلطف وتسامح، دون تفرقة بيني وابنهما (مصعب)، لتمسكهما بتعاليم إسلامنا. وصحيح أنهما كثيرا ما يحنوان على أمي ويجهدان في مساعدتها في كل شئ. بل هما لم يدعواني مع أمي إلا لأنهما يعرفان ثواب كافل اليتيم وجزاءه.
إلا أنني غير سعيد، وأتمنى أن أكبر بسرعة لأغادر هذا البيت، وأرجع مع أمي إلى منزلنا القديم ..وكل هذا بسبب (مصعب) المثير لكربتي.
فهو وان كان يماثلني في العمر،( في الثالثة عشرة هو الآن )، إلا كلينا يختلف عن الآخر في كل شئ. فهو أولا في الصف الخامس لرسوبه المتكرر، ويمتاز بصلابة الرأس وسوء الأخلاق، وهو مشاكس في طبعه، شديد الغيرة .
وكثيرا ما يديم النظر إلى يدي، ويقول ساخرا :_ تتفوق في دراستك وأنت مقطوع اليد، وأنا أرسب دائما ! فلأقطع يدي إذن !
ويرفع صوته عاليا بضحك صاخب .
فإذا ما عاتبته أمي ، نهرها بغضب وقال :_ وما دخلك أنت يا مشلولة ؟
فتبكي أمي، وتجيبه بصوت هادئ: _ سامحك الله يا بني .
وأقف أنا مذهولاً، عاجزا عن الكلام أو التصرف. فأنا ضيف في النهاية .
وعندما كلمته أن يذهب معي إلى جامع الحي قال :_ لن أضيع وقتي معك ! سأدبر مقلبا لابن الجيران .
فقلت :_ ستندم على ذلك ، وقتما لا ينفع الندم !
فاحمرَ غضبا :_ يا سيد عاصم، إذا كنت مزهوَا باستقامتك، فأنا مزهو بمقالبي أيضا.
وكشَر عن أسنانه الصدئة :_ لو كنت بدلا منك لانتحرت لأن يدي مقطوعة وكريهة المنظر أيضا .
فلم أتضايق ، وبكل هدوء قلت له :_ بما أنك سليم الجسم ، فلماذا لا تشكر ربك ؟! هل تريد أن يبلوك الله، فتعرف عندها معنى الصحة والسلامة ؟!
وتركته حتى حين ، عندما وجدت أن كلامي لن يؤثر فيه . وتمنيت أن يعرف الحق يوماً .
وللصدق أقول إن عمي كان ينهره دائما، ويضربه أحيانا، وكثيرا ما قال له : _ في كل بيت (بالوعة) و(بالوعة) بيتنا هو أنت. أتفهم. أنت (بالوعة).
ثم يهدأ ويقول : _ هداك الله يا بني !
فأحاول أن أنصح ابن عمي، فيصرخ في وجهي :_ لماذا تتصنع الهدوء واللطف أمام أبي ؟! يا منافق ! لو تظل على هذا اللطف طوال اليوم لما حدث الشقاق بيننا !
نعم ، كانت حياتي معه جحيما لا يطاق. لذلك كنت دائم الجلوس في جامع الحي القريب، أستفيد من طباع أصدقائي الجدد
أصحاب النفوس الصافية والقلوب الطاهرة كثلج أبيض.
وكنت أشعر بنسائم الإيمان تتغلغل في نفسي، وأعاهد ربي أن أظل مستقيماً، متبعا للحق .. وكثيرا ما نزلت دموعي وأنا
أبتهل إلى الله أن يغفر لوالدي ويدخله فسيح جنانه.
وكنت كلما تذكرت متاعبي مع (مصعب) أقرأ دروسي بإتقان أكثر، كي أنجح دائما بتفوق، وأدخل البهجة على قلب أمي، وأتمكن من العودة إلى بيتنا وحيّنا القديم .

(4)
مفاجأة
ها قد أقبل الخريف باصفراره الموتي البغيض، وبشحوب أيامه المصاحب لتساقط أوراق الشجر، فبدت الأشياء وكأنها
في مرحلة موات بطئ. لا شئ يدوم ، وكلنا نتغير .
وكنت، وأنا أسير إلى بيت عمي، أشعر رغم كآبة الجو، بالفرح هذا اليوم. وأشعر وكأن الأوراق الصفر المتساقطة، ما هي إلا شموس صفراء مضيئة ملقاة على الأرصفة والشوارع بلا انتظام.
نعم ، كنت فرحا، وأكاد أقفز. فأنا أخذت أعلى الدرجات في الصف، وأهداني المعلم قلم حبر جميلا وشهادة تقدير ! بل صفقت المدرسة لي كلُها، وألقى المدير كلمة تشجيع لي .. وستسر أمي الآن، وتفرح، وتربت عليَ قائلة:_ لقد صرت رجلاً.
نعم ، صرت رجلا.
وركضت سعيدا كفراشة ملونة . وتخيلت، للهفتي، أن الشوارع طويلة، وأنني سلحفاة عجوز تعبة، وأنني بطئ، ولن أصل أبدا.
ولما قرعت باب البيت ، وفتح لي عمي ، ركضت مسرعا إلى غرفة أمي ، وأنا مستغرب من مجئ عمي في هذا الوقت. وما إن اقتربت، حتى أوقفتني امرأة عمي قائلة : لا تدخل يا عاصم. انتظر قليلا .
فسقط قلبي بين قدمي ، وتسارعت دقات قلبي. وقلت بلهفة :_ خير ؟!
فقالت :_ خير إن شاء الله .. أمك مريضة قليلا.
فأبعدت يدها ، وأصررت على الدخول ، ونسيت فرحي كله .. وما إن فتحت الباب حتى رأيت أمي مسجَاة بغطاء أبيض، وحولها أقربائي يبكون.
فاقتربت منها، وتكاد قدماي تتكسران ولا تقويان على حملي. وكشفت الغطاء، فرأيتها مصفرَة، وعيناها مغمضتان ، فصرخت :_ أمي .. أمي.
وأخذت أهزها وأنا أنتحب . فأبعدني أقربائي عنها وقالوا :_ اخرج الآن قليلاً.
فوقفت قرب السرير وتشبثت نظراتي بالأرض، وشعرت أن الدنيا تدور من حولي. وتخيلت أن أبي قد عاد، وأنه لم يمت، بل كان في سفر طويل. تخيلته قد أقبل، وأمسك يد أمي وقال لها برقة : _ تعالي، لا تحزني يا امرأتي الوفية.
وأنه أنهضها من السرير، وساعدها على ارتداء ثوب أبيض طويل طويل، ثم رحل بعيداً.
فبكيت ، وغامت الدنيا في عيني .وتساقطتُ كورقة خريف على الأرض وأنا أصرخ : _ أريد أمي .. أريد أمي !
لكن أمي لن تسمعني أبدا بعد اليوم، فأنأ .. سأبقى وحيداً.
وأنا صرت .. يتيما.
* * *

(5)
السارق

طويلاً امتد الليل على صفحة الكون .. وبدت النجوم البعيدة مصابيح زهر تنير الوجود، وترمق القمر الوردي مبتسمة.
كانت الدنيا كلها حالمة، تنسجم في نغمة صافية تدعو إلى التأمل .
وكنت أصلي. وشعرت ،وأنا أردد كلمات الله، بالخشوع وبالرغبة في البكاء. ثم ناجيت الله بصدق أن يرحم أبي وأمي ويغفر خطاياهما .
ولمَا فرغت من الصلاة، انتابني ضيق لم أعرف سببه. فحاولت أن أعاود التأمل والتدبر، لكنني عجزت، وكأنني أحمل حجرا ثقيلا على صدري. فمشيت في الغرفة قليلاً، ثم خرجت إلى الشرفة، وكان الضيق ما زال يحاصرني ..
فوقفت أرقب المدينة، ونظري يمتد إلى البعيد. ولم أشعر بمجئ عمي بعد لحظات، إلا وهو يجلس قربي ويقول بعد وقفة
قصيرة :_ تعال إلى الداخل يا بني ! الجو بارد الآن !
فابتسمت له وتبعته إلى غرفة الجلوس . لكن ما إن فتحت الباب ، حتى فوجئت ب(مصعب) يقفز نحوي وهو يقول:_ هذا هو المجرم ! انه خجل من فعلته ، لذلك لم يأت إلينا ! انظروا إليه كيف أنه مرتبك.
دهشت ، وعلتني الحيرة . وقلت باستغراب بالغ :_ماذا حصل يا أخي ؟!
وأدرت وجهي إلى عمي وامرأته، لكنهما تجاهلا نظراتي. وقهقه (مصعب) كالحانق :_ لم يحصل شئ يا بن عمي العزيز.. كل خير أيها السارق .
فصرخت:_ مصعب !
فاقترب عمي مني بهدوء وقال:_ اسمع يا عاصم ! لا داعي لكل ذلك ! لكن كان ينبغي أن تخبرني بحاجتك إلى المال وألا تلجأ إلى هذه الطريقة !
كدت أجنُ :_ أيُ طريقة ، وأيُ مال ؟!
صرخ مصعب :_ أرجوك لا تتصنع البراءة .. لقد عرفا كل شئ ..أنا اعترفت لهما .
ودارت الدنيا في عيني . وظننت أنني أحلم .بل لابد أنني أحلم ، وكل هذا كابوس مزعج . وقلت ، وصوتي يرتجف:_ أفصح . قل يا عمي شيئا ! أفهموني ماذا حصل ؟!
رقَق عمي لهجته، واصطنع سعلة خفيفة وهو يقول:_ افتقدت اليوم مبلغا من المال، فسألت امرأة عمِك عنه، فقالت إنها لم تر شيئاً. وعندما سألت( مصعبا ) أخبرني بالحقيقة !
فقفزت نحو (مصعب) وأمسكته :_أيَة حقيقة ؟!
فقال بازدراء :_ أبعد يدك المقطوعة أيها السارق.
احمرَ وجهي، وازداد ارتباكي: _ أنا ؟!
فجلست امرأة عمي قربي ، ومسحت على وجهي :_ لابأس يا حبيبي . لكن هذه طريقة خاطئة .ثم انك لم تقل ل(مصعب)
عن مصدرها إلا بعد أن صرفتما المال !
فتمتمت :_ لكن.. أقسم أنني..
فقاطعني عمي:_ لا داعي للقسم ! لكنني أرجوك ألا تفعلها ثانية!
لم أعد أحتمل. وانفجرت في البكاء، بعد أن ماتت الحروف في حلقي . فقام (مصعب) بحركة تمثيلية وقال:_يبكي بعد أن غرَر بي وأوهمني بأن المال من مدخراته.. يبكي لكي تشفقا عليه! هذا السارق! هذا الكذَاب!
فأجلسه عمي قائلا :_ كفى ..لا داعي لكل ذلك.
وركضت إلى غرفتي كالمحموم، ونشجت طويلا .. ولم أنم الليل وقتها. وكانت الأفكار تأكلني، ويدور ذهني في كل مكان . فأنا لم أسرق، ولم آخذ المال، ولم أكن مع (مصعب) اليوم، فكيف حدث كلُ ذلك ؟!
وناجيت الله . ونزلت دموعي مدرارة، وكان الليل طويلا لا يزال, والنجوم الزهر تضئ. وقلت:_ والحق سيضئ قريبا. وصممت على الرحيل، وعلى ترك البيت مهما كلفني الأمر.

* * *
الفصل الثاني

ذكريات
هاهي الأعوام سريعة مضت ..
عشر سنوات متلاحقة كأنفاس لاهثة انصرمت من عمري. وذكريات كثيرة، بتفاصيلها الدقيقة، لا زلت عالقة في ذهني. وكم تمنيت، وأنا السعادة تطل وتسكن لحظات عمري، لو أن أبي وأمي يشاركاني فرحتي ..
وتمشيت متمهلاً في شرفة منزلي وأنا أنظر إلى الليل الساكن والنجوم البعيدة. نعم، لقد مضى العمر كلحظة خاطفة..وأنا عندما أستعيد الماضي ، لابد أن أذكر أمي التي غرست تعاليم الدين في نفسي ،كشجرة دائمة الخضرة والنماء ، والتي كان لها الأثر الكبير في حياتي.
ومنذ أن غادرت بيت عمي لآخر مرة ، تعرفت وقتها ما معنى الرابطة الروحية التي تربط بين أصدقائي في كل مكان. إذ لم يمض يوم، حتى عرض عليَ والد صديقي (عبد الحفيظ) أن أسكن مع ابنه في الغرفة الملحقة في بيته ،وأن أتابع دراستي وأعاونه في محله في أوقات فراغي. لكن عمي (أبا مصعب) لمَا علم بالأمر سارع إليَ عاتباً، مصرَا على العودة
إلى منزله، بل طالبني أن أعمل معه إذا رغبت، وقال لي _ ومازلت أذكر كلماته ولن أنساها أبدا _: يا عاصم أنت شاب في زهرة عمرك ، و والله لأنت أغلى عندي من ابني (مصعب).ولئن حدث ما حدث ، واتهمناك زورا باختلاس المال ، وكان كل ذلك من الشقي (مصعب)، فلن يحصل بعدها ما يعكر صفوك ، وسألبي لك كل ما تريد .
واعلمْ، أنني عندما أدعوك إلى المنزل، فليس لأنك ابن أخي، بل لأنك شاب مسلم. وأنا أشعر بالراحة النفسية وبالسعادة
التامة عندما أساعد شابا متدينا في مثل وضعك.
لكنني رفضت ، وما كان رفضي إلا أن يعاود (مصعب) ألاعيبه معي. ثم إنني لن أكون مفرّقا بين الأب وابنه .. وأذكر لما
نلت الشهادة الجامعيَة كيف قدَم لي عمي(أبو مصعب) ووالد صديقي (عبد الحفيظ) المال اللازم لأبدأ حياتي من جديد، ولأعرف وقتئذ ما معنى العمل ، وما معنى توفيق الله.
* * *

حرامي

وهاهي الأيام تمر وقد حفلت بالكثير .. وأنا أكبر ، وأصير صاحب أسرة ، بل صاحب بيت مستقل وأبا لطفل صغير هو نور حياتي.
ورنَ الجرس ملحاحا :_ أتراها زوجتي عادت من عند أهلها ؟
:_ عمي ؟!
رباه لكم تغيَر ،وكأن ثقل العالم متكوِّم فوق كاهله. وفتحت الباب ،فدخل عمي (أبو مصعب) لاهثا :_ السلام عليكم يا بني.
فقلت :_ وعليكم السلام ورحمة الله.أهلا يا عمي .. تفضل.(وأشرت بيدي) : من هنا.
وجلس على مقعد قريب وهو يقول باستمرار :_ لاحول ولا قوة إلا بالله ..لا تؤاخذني يا بني على هذه الزيارة المفاجئة .
فأجبته وأنا أنهض لأحضر له كوبا من الشاي:_ أبدا .. إنها لمفاجأة سارة.
واعتذرت كي أجلب الشاي.فاستوقفني: _ لا داعي للشاي الآن . أتيت لأقول لك كلمتين ثم أذهب .
فجلست ، وصمت عمي للحظات وكأنه يصنِع في ذهنه حروف لغة جديدة :_ (مصعب) ..(مصعب) يا بني ، هذا الشقي !
فحدقت فيه :_ ماله ؟!
فزفر زفرة طويلة ..أتراه يخرج أحزانه ؟ وقال:_ ماذا أقول لك ؟ وكيف أشرح ؟!
وترقرقت عيناه بالدموع، وتابع بانكسار :_ لقد.. لقد سرقني وهرب !
:_ ماذا ؟!
:_ نعم ،سرقني ..فهل أشكو ولدي للشرطة ؟! هل أقول لهم إن ولدي (مصعب) حرامي فاقبضوا عليه ؟(وضرب يده على
صدره) قلب الأبوة لن يطاوعني .. لكن الناس لا يرحمون .
فعرفت أنه يعاني من مصاعب مالية . فعرضت عليه المساعدة عن طيب خاطر، فوافق بعد جدال على استحياء. وقلت له:
إن ما أقدمه إليك ليس دينا ،ولا ردا للجميل ، بل هو جزء من مشاعر ابن لأب وقف مع وحيد بلا معين .
فأجابني عمي بحماس:_ أنا لا أبغي أجر الدنيا .. بل أريد أجر الله سبحانه ، يوم لا ينفع مال ولا بنون .
ثم تحدثنا في أمور كثيرة ومتشعبة، حتى رنَ الهاتف رنينا متواصلا كنباح كلب ظفر بفريسة. وعندما رفعت السماعة ، قلت:_ من ؟! نعم ! ..انه هنا !
كان مفتش الشرطة يتكلم من بيت عمي، بعد أن قبض على (مصعب ) بتهمة الاعتداء والسطو على الآخرين، وجاء لأخذ
إفادة الوالد.
فانهار عمي، وقال بصوت مبحوح :_ انه ليس ابني ! أنا لا أعرفه ! اشهد يا (عاصم ) أنني برئ منه .
وجلس على الكرسي، وراح في بكاء متواصل.

منذر أبوشعر/ دمشق 1979 م