بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد..
مع الباب السادس من أبواب كتاب التوحيد وشرحه فتح المجيد، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تبارك وتعالى: (باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله) وأورد في هذا الباب أربعة آيات وحديثاً واحداً، فقال: (وقول الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء: 57].
وقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 26- 28].وقوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا.. الآية﴾ [التوبة: 31].
وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ﴾ [البقرة: 165]) هؤلاء هم الآيات الأربع.
الحديث: (قال في الصحيح عن النبي r أنه قال: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله U») ثم قال رحمه الله: (وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب).
ثم شرع في ذكر المسائل التي استنبطها من هذه الأدلة.
هذا الباب ذكرنا أن الشيخ رحمه الله جعل الأبواب الأولى من كتابه كمقدمة لهذا الكتاب، وهذا الباب السادس يصح أن يقال فيه أنه فهرس لبقية الكتاب، لذلك الشيخ رحمه الله قال في أول ما انتهى من ذكر الأدلة قال: (وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب).
من الأدلة التي ذكرها الشيخ رحمه الله الأربع آيات هذه تضمنت ذكر أكثر أنواع الشرك انتشارا على ظهر الأرض، فكل آية من هذه الآيات تضمنت نوعاً من أنواع الشرك، فمعرفة هذه الأنواع وضبطها جيداً هو من تفسير التوحيد، فتفسير التوحيد معنى شرح ومعرفة التوحيد وهذا لا يكون إلا بمعرفة ضد التوحيد.
مرة أخرى: هذا الباب الشيخ يذكر فيه الأنواع الرئيسة من الشرك، أشهر أنواع الشرك المنتشرة بين الناس، فالآية الأولى ذكر فيها الشرك في الدعاء، والآية الثانية ذكر فيها،الشرك الناشئ عن الولاء والبراء، والآية الثالثة ذكر فيها الشرك في الحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى، والآية الرابعة ذكر فيها الشرك في المحبة وهذه أكثر أنواع الشرك انتشارا، الشرك في الدعاء، وهذا سيتضمن كثيرًا من أبواب هذا الكتاب،لعل الباب كله أو الكتاب معظمه، كتاب التوحيد في تفصيل هذا الشرك، الذي هو دعاء غير الله تبارك وتعالى من الاستعانة بغير الله، والاستعاذة والاستغاثة بغير الله تبارك وتعالى إلى آخره.
وهذا الباب إن شاء الله من خلال شرحه هو من أطول أبواب الكتاب بمعنى أننا سوف نقف معه وقفات طويلة، بالنسبة للآية الأولى التي تكلمت عن الشرك في دعاء غير الله تبارك وتعالى، يعني هذا سيأتي تفصيله في بقية الكتاب، ولكن سنشير هنا وسنقف مع كلمة يبتغون إلى ربهم الوسيلة، ونتكلم عن التوسل في موضعه إن شاء الله، ثم نقف وقفة طويلة نوعاً ما مع الكلام على الولاء والبراء، ثم نقف بعد ذلك على الحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى، وفي نهاية الباب أو ممكن نبدأ بها إن شاء الله بعد ذلك، ما يثبت به حكم الإسلام، لأن الشيخ محمد له هنا كلام موهم ملتبس يلتبس على كثير من الناس، يتخذه البعض من أصحاب الغلو في التكفير أو التوقف في الحكم بالإسلام لمن استحق الحكم معتمدين على بعض الكلام الذي قاله الشيخ في هذا الباب. هذه قضايا رئيسية سنقف معها في هذا الباب، ولكن قبل أن نشرع في ذكر ذلك ننتهي الأول من شرح هذا الباب من كتاب فتح المجيد، يعني نأتي عليه إن شاء الله وبعد ذلك سنقف مع كل قضية مع حدة.
الشيخ عبد الرحمن بن حسن يشرح هذا الباب قد تظن لأول وهلة أن الشيخ كرر الكلام أكثر من مرة، يعني عندنا أربع آيات تكلم عليهم الأول كلام مختصر ثم عاد مرة أخرى فتكلم عليها مرة أخرى، وبعد ذلك شرع في ذكر الحديث والفوائد منه، ولكن طبعاً هو كان لا يقصد التكرار، ولكن هي خطة الشرح كالتالي: أنه تصور إشكالا،هذا الإشكال بدأ يحل هذا الإشكال، فاستطرد في حل هذا الإشكال بأن أتى على ذكر الآيات، وبعد أن انتهى من حل الإشكال شرع يشرح الآيات كما هي العادة، فيقول: (قوله: باب - تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، قلت: هذا من عطف الدال على المدلول) يعني من عطف المترادف، أي أن التوحيد مرادف لشهادة أن لا إله إلا الله الاثنين يساويا بعض في المعنى.(فعطف الدال على المدلول) الدال هو شهادة أن لا إله إلا الله ومدلوله التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله تدل على التوحيد (فإن قيل) هذا هو الإشكال، خلاصة هذا الإشكال يعني هذا الباب فيه تفسير للتوحيد، إذن ماذا كنا نقول من خمسة أبواب؟ هذا هو الإشكال؟ ما فائدة هذا الباب في ذكر تفسير التوحيد وقد مر معنا قبل ذلك ما يدل على هذه المعاني؟ أنه فسر التوحيد قبل ذلك، فبدأ يحل هذا الإشكال ، فيقول أول الأمر أن هذا الباب أو هذه الآيات في هذا الباب فيها مزيد بيان بخصوصها لمعنى كلمة الإخلاص وما دلت عليه من توحيد العبادة يعني هذه الآيات فيها مزيد بيان ستوضح أكثر مما مضى، كأنك تقول الأبواب السابقة كان الغرض الأساسي من إيرادها هو بيان فضل التوحيد، وكان التعرض لتفسير التوحيد كان تعرض عرضي، ليس أساسياً، هذا الباب مختص بتفسير التوحيد.
ثم قال: (وفيها الحجة على من تعلق على الأنبياء والصالحين يدعوهم ويسألهم) فيه طبعة هذا الكلام كله محذوف منها؛ لأن الذي يحقق ظن أن هذا كلام مكرر فحذفه، فيه طبعاً هكذا فعلاً، إنما الطبعات التي معنا معظمها فيه نفس الكلام، فيه طبعة محذوف منها هذه المقدمة كلها، هو طبعاً ليس تكرار، نحن سنحاول نجمع الكلام بعضه إلى بعض، يعني لما نأتي على الآية نذكر الكلام الذي ذكره الشيخ هنا، والكلام الذي ذكره بعد ذلك بحيث أننا لا نعيد الكلام.
هذا فيه بيان توضيح أو مزيد بيان في بيان تفسير التوحيد، كيف؟ يريد أن يقول أن التوحيد أو كلمة لا إله إلا الله كلمة الإخلاص دلت على معاني كثيرة، من هذه المعاني هو أنك لا تتعلق بغير الله تبارك وتعالى، فلا تدعو غير الله U، وهذا تجده في الآية الأولى، من المعاني التي تدل عليها كلمة لا إله إلا الله هو أن يكون ولاؤك وبراؤك على هذه الكلمة، وهذه الآية الثانية، من معاني هذه الكلمة هو أنه لا يُشّرِّع ولا يأمر ولا ينهى إلا الله تبارك وتعالى، وهذه الآية الثالثة، من معاني هذه الكلمة أنك تحبها وتحب فيها وتبغض فيها، وهذه الآية الرابعة، فسيذكر كل آية من هذه الآيات الأربع ويذكر نبذة مختصرة عن تعلقها بمعنى لا إله إلا الله، فهذه المقدمة يذكر الآية ويذكر تعلقها بمعنى لا إله إلا الله.
يقول: (وفيها الحجة على من تعلق الحجة على من تعلق من الأنبياء والصالحين يدعوهم ويسألهم. لأن ذلك هو سبب نزول بعض هذه الآيات، كالآية الأولى) التوحيد وكلمة الإخلاص تمنع التعلق بغير الله تبارك وتعالى، دعاءً ومسألة إما على سبيل الاستقلال، أو على سبيل التوسل، على سبيل الاستقلال أن العبد يدعو غير الله يسأله ويرجوه ويطلب منه، هذا استقلالا، أو على سبيل التوسل أنه يجعل بينه وبين الله تبارك وتعالى واسطة أو وسيلة يطلب منها ويسألها بحيث أنه تتوسط له عند الله تبارك وتعالى، فالتوحيد أو كلمة الإخلاص تعارض أو تضاد هذا المعنى.
(كالآية الأولى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ ولَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء: 56، 57]) فيقول: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ﴾ فهاتان الآيتان فيهما الرد على المشركين، وخلاصة الكلام في الآيتين : أن المشركين على عهد النبي عليه الصلاة والسلام وقد يكون في كل وقت يعبدون غير الله، يدعون غير الله، سواء كان يدعون الملائكة يدعون الأنبياء أو الصالحين أو المسيح عيسى u أو غير ذلك، وهؤلاء الذين يُعبدون من دون الله هم يعبدون الله -تبارك وتعالى-، فهذه المعبودات تتقرب إلى الله -تبارك وتعالى-، فالله U ينكر عليهم ذلك أو يوبخهم على هذا الأمر ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ﴾ ادعوا الذين زعمتم من دون الله -تبارك وتعالى- سواء كانت أصناما أو آلهة أخرى، قل ادعوهم حينما ينزل بكم الضر، ﴿فلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ ولَا تَحْوِيلًا﴾ لما ينزل الضر بالإنسان فالله U يقول ادعوا من تدعوه من دون الله -تبارك وتعالى- فلا يملك كشف الضر لا يرفعه ولا يحوله، يعني لا يحوله من العبد إلى غيره، أو لا يحوله من حال إلى حال ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ أي هؤلاء الذين يدعونهم المشركون هؤلاء ﴿يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ يتقربون إلى الله -تبارك وتعالى- ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾.
يقول: (أكثر المفسرين على أنها نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه، والعزير والملائكة، وقد نهى الله عن ذلك أشد النهى، كما في هذه الآية من التهديد والوعيد على ذلك. وهذا يدل على أن دعاءهم من دون الله شرك بالله، ينافي التوحيد وينافي شهادة أن لا إله إلا الله، فإن التوحيد أن لا يدعى إلا الله وحده. وكلمة الإخلاص نفت هذا الشرك، لأن دعوة غير الله تأليه وعبادة له. و الدعاء مخ العبادة) الدعاء مخ العبادة في حديث لا يصح، ضعفه الشيخ الألباني، إنما الذي صح وصححه الشيخ الألباني أو حسنه هو «الدعاء هو العبادة» قال: (وفى هذه الآية: أن المدعو من دون الله لا يملك لداعيه كشف ضرر ولا تحويله من مكان إلى مكان، ولا من صفة إلى صفة. ولو كان المدعو نبياً أو ملكاً. وهذا يقرر بطلان دعوة كل مدعو من دون الله كائناً من كان، لأن دعوته تخون داعيه أحوج ما كان إليها، لأنه أشرك مع الله من لا ينفعه ولا يضره. وهذه الآية تقرر التوحيد، ومعنى لا إله إلا الله) ما علاقة هذه الآية بتفسير التوحيد؟ أن هذه الآية دلت على بطلان دعاء غير الله تبارك وتعالى ، إذ أن دعاء الله U وإفراده بهذا الدعاء هو من معاني لا إله إلا الله.
قال: (وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ [الإسراء: 57] يبين أن هذا سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين) ما هو سبيل الأنبياء؟ أنهم يبتغون إلى الله الوسيلة، دأب الأنبياء والصالحين هو التقرب إلى الله تبارك وتعالى.(قال قتادة: تقربوا إليه بطاعته والعمل فيما يرضيه وقرأ ابن زيد: ﴿أولئك الذين تدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب﴾) في معظم النسخ موجودة ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾صوبوها ﴿أولئك الذين تدعون﴾ بالتاء، فهذه قراءة ابن زيد وقراءة ابن مسعود وقراءة ابن عباس كما ذكره ابن الجوزي والقرطبي، والمعنى واحد، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ أو ﴿أولئك الذين تدعون﴾ المعنى قريب. (قال العماد ابن كثير: وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين) الذي يقصده ابن كثير لا خلاف فيه هو أن معنى الوسيلة هي القربة، وما يوصلك إلى الله تبارك وتعالى، فهذا الذي يقصده ابن كثير، وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين أن الوسيلة بمعنى القربة وما يتوسل به إلى الله تبارك وتعالى أي بقربه.
(قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: في هذه الآية ذكر المقامات الثلاث: الحب) أول مقام الحب (وهو ابتغاء التقرب إليه) ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ [الإسراء: 57]) أول مقام مقام الحب، أنهم أحبوا الله تبارك وتعالى (والتوسل إليه بالأعمال الصالحة) هذا هو المقام الثاني وهو التوسل إلى الله تبارك وتعالى بالأعمال الصالحة، ثم المقام الثالث (والرجاء والخوف) ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء: 57] المقام الأول مقام المحبة، حب الله تبارك وتعالى الذي دل عليه التقرب والتوسل إلى الله U، المقام الثاني: مقام الرجاء، المقام الثالث: مقام الخوف.
قال: (وهذا هو حقيقة التوحيد وحقيقة دين الإسلام كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال للنبي r «والله يا رسول الله ما أتيتك إلا بعد ما حلفت عدد أصابعي هذه: أن لا آتيك. فبالذي بعثك بالحق، ما بعثك به؟ قال: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلوات المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة») حسنه الشيخ الألباني في تحقيقه على كتاب الإيمان لابن تيمية(وأخرج محمد بن نصر المروزى عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق») صوى مفردها صوة كقوة جمعها قوى، والصوة هذه حجارة موضوعة في الصحراء على هيئة معينة يستدل بها السائر في الصحراء... يعني أعلام منصوبة من حجارة وغيرها في المفازة يستدل بها على الطريق، المقصود: «إن للإسلام صوى ومنارا» بمعنى أن للإسلام طرائق وأعلاما يهتدى بها، الإسلام له أعلام وله طرائق يهتدى بها، له أصول «من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 22]») هذا الحديث صححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 333.
هذه الآية الأولى وعلاقتها ببيان معنى التوحيد، نقفز عدة صفحات، بحيث نستكمل الكلام على الآية.
قال: (وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ قال: يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها، وهو قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ ولَا تَحْوِيلًا﴾) قال ابن كثير رحمه الله يقول تعالى قل يا محمد r قل للمشركين الذين عبدوا غير الله ادعوا الذين زعمتم من دونه من الأصنام والأنداد وغيرها، فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم أي بالكلية، لا يستطيع أن يرفع الضرر الذي وقع بالكلية، ولا تحويلا أي ولا أن يحولوه إلى غيركم، أن ينقل هذا الضر من إنسان إلى آخر، والمعنى أن الذي يقدر على ذكر هو الله I لا شريك له.
(قال العوفي عن ابن عباس في الآية: كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيراً، وهم الذين يدعون. يعنى الملائكة والمسيح وعزيراً.)
وروى البخاري في الآية عن ابن مسعود t قال: «ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا» وفى رواية: «كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم».
وقول ابن مسعود هذا يدل على أن الوسيلة هي الإسلام، وهو كذلك على كلا القولين) ثم ذكر ابن عباس أن المقصود أن الذين يدعون من دون الله هو عيسى أو أمه أو عزير، وقيل الشمس والقمر، وقيل غير ذلك.
قال: وقوله: ﴿َيرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء: 57] لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء، فكل داع دعا دعاء عبادة أو استغاثة لابد له من ذلك، فإما أن يكون خائفاً وإما أن يكون راجيا وإما أن يجتمع فيه الوصفين، والخوف والرجاء سيأتي معنا إن شاء الله تفصيلاً بعد ذلك، فيه باب خاص بالخوف من الله تبارك وتعالى والشرك في عبادة الخوف، وفيه باب خاص بالرجاء سيأتي تفصيله إن شاء الله في نهاية الكتاب.
تحصل عندنا معنى الآية ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ [الإسراء: 57] أي أولئك الذين يدعو المشركون، قيل هم الملائكة وقيل الجن وقيل عيسى وقيل أمه وقيل عزير قيل الشمس وقيل القمر، وهذه الأقوال كلها صحيحة، لا تعارض بينها، وأورد هنا كلام شيخ الإسلام لبيان هذا المعنى أن كل هذه الأقوال صحيحة، وأن الذي ذكر أحد هذه المعبودات إنما يذكره من باب ضرب المثال، التفسير بذكر المثال، يقول لك ما هو الخبز؟ فبدل ما تتكلم كلام كثير تقول له تأتي له برغيف خبز تقول له هذا هو الخبز، طبعاً الخبز ليس هذا الرغيف فقط، إنما هذا جنس الخبز، هذا يسمى التفسير بالمثال.
فيقول رحمه الله لما ذكر قول المفسرين: (وهذه الأقوال كلها حق) كلها حق لماذا؟ لأن هذا من باب التفسير بالمثال (فإن الآية تعم من كان معبودا عابدا لله) الآية تعم لمن كان يعبد يعني يعبده الناس وهو في نفسه يعبد الله U، وهذا ينطبق على المسيح ينطبق على مريم عليها السلام، ينطبق على عزير، ينطبق على الجن الذين أسلموا، سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر (والسلف في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل كما يقول الترجمان لمن سأله: ما معنى الخبز فيريه رغيفا، فيقول هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه) يبقى نوع الخبز، فهو يريد أن يقول نوع الذين يعبدون ويعبدون، يعبدون من البشر، وهم يعبدون الله تبارك وتعالى (وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع من شمول الآية) لا يقصد أن الآية لا تعني إلا هذا المعنى فقط (فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه) ما فائدة هذا الكلام؟ هل هذا الكلام كلام فضل؟ أو طرف؟ لا، الكلام الفائدة هو الكلام القادم، وينبغي أن يُحفظ، قال: (فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية الكريمة) هذه الآية دلت بعمومها على أن من الشرك دعاء غير الله تبارك وتعالى، سواءً كان هذا المدعو نبيًّا أو ملكاً أو صالحاً سواءً كان ميتاً أو غائباً، الآية عامة (كما تتناول من دعا الملائكة والجن، فقد نهى الله تعالى من دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر) إلى آخر هذا الكلام.
إلى أن قال: (فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة فقد دعا من لا يغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويلاً) الله U فطر الناس الفطر والعقول تقول أن الذي يدعى أو يعبد ينبغي أن تكون عنده القدرة المطلقة على كشف الضر وعلى تحويل الضر وعلى النفع والضر، فإذا كان المعبود لا يملك هذه الأمور فهو لا يستحق العبادة.
قال: (وفي هذه الآية رد على من يدعو صالحاً) يعني يدعو رجلاً صالحاً (ويقول: أنا لا أشرك بالله شيئاً، الشرك عبادة الأصنام) وهذه أيضاً فائدة أخرى، وبها تفصيل لهذا الكلام، لأن أحيانًا بعض الناس يتصور أن الشرك فقط أن الإنسان يعبد الصنم أو الحجر، وأن غير ذلك لا يسمى شركاً فالآية بعمومها دلت على أن من دعا غير الله وغير الله هذه تشمل الصنم تشمل الحجر تشمل القبر النبي الصالح الملائكة فكل ما دعي من دون الله فهذا من الشرك، فالذي يعبد المسيح u هو مشرك، ولكنه مشرك له أحكام خاصة، النصارى وكذلك اليهود يعبدون غير الله هذا شرك، هم مشركون في الأصل، ولكن الشريعة خصتهم بأنواع من الأحكام الشرعية.
بهذا انتهى الكلام على الآية الأولى، مرة أخرى نقول: علاقة الآية بالباب أن الآية دلت على أن دعاء غير الله شرك، وبالتالي دعاء الله تبارك وتعالى وحده من التوحيد، وعنوان الباب عندنا باب تفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله.
نحن قلنا أن فيه تكرار في الكلام، هو طرح إشكال في الأول أن هذا الباب خاص بتفسير التوحيد، وقد يكون هذا تكرار لما سبق من الأبواب، فرد على هذا الإشكال وقال لا إن هذا الباب وما فيه من الآيات دلت على مزيد بيان لمعنى التوحيد، وشرع يذكر الآيات الأربع، ويذكر ما فيها من معاني لا إله إلا الله ومن معاني التوحيد، وبعدما انتهى من هذه الجزئية رجع مرة أخرى إلى الآيات آية آية يفسرها ويذكر معانيها.
الآية الثانية قال: (وقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾) قبل أن ننتقل من الآية الأولى، الآية الأولى دلت على أن الشرك دعاء غير الله، ونحن قلنا أن دعاء غير الله قد يكون دعاء استقلالا، أو على سبيل التوسع، فالنوع الأول واضح، وسيأتي تفصيله إن شاء الله بعد ذلك، الأمر الثاني أو النوع الثاني وهو دعاء غير الله على سبيل الشفاعة، أو على سبيل التوسل، هذا إن شاء الله نقف معه بعدما ننتهي من ذكر هذا الباب في قضية التوسل، نحن نعرف أن المشرك ممكن يدعو غير الله مباشرة، يدعو ويطلب منه يسأله ، أو أنه قد يدعو غير الله على سبيل الواسطة، بحيث أنه يقربه إلى الله تبارك وتعالى، وهذا المقصود فيما يسمى بقضية التوسل، وسنقف معها إن شاء الله بعد ذلك.
الآية الثانية قال: ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ...﴾ إلى آخر الآية، قال: (فتدبر ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾) أي لا إله إلا الله، الكلمة هي كلمة لا إله إلا الله، قال: (فتدبر كيف عبر الخليل u عن هذه الكلمة العظيمة بمعناها الذي دلت عليه ووضعت له)من معاني التوحيد أو من تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله هو البراءة من كل ما يُعبد من دون الله تبارك وتعالى، هذه مناسبة الآية للباب، أن من معاني التوحيد هو البراءة مما يعبد من دون الله تبارك وتعالى، أو الذي نسميه الولاء والبراء، وهذا أيضاً سنقف معها بعد الانتهاء من هذا الباب بنوع من التفصيل أحكام الولاء والبراء ما يحل وما يحرم، وما هو كفر وما ليس بكفر بعد ذلك.
قال: (ووضعت له من البراءة من كل ما يعبد من دون الله من المعبودات الموجودة في الخارج كالكواكب والهياكل والأصنام التي صورها قوم نوح على صور الصالحين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وغيرها من الأوثان والأنداد التي كان يعبدها المشركون بأعيانهم، ولم يستثن من جميع المعبودات ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾) إنني براء مما تعبدن إلا الذين فطرني،ولاءه فقط كان لله تبارك وتعالى، وتبرأ من كل ما يُعبد من دون الله.
ثم قال: (وهذا الذي دلت عليه كلمة الإخلاص كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾ [الحج: 62]) فالله هو الحق بمعنى الثابت I، متحقق وجوده، والأصنام التي تدعى من دون الله تبارك وتعالى وما يعبد من دون الله زائلة، وعبادتها زائلة.
(فكل عبادة يقصد بها غير الله من دعاء وغيره فهي باطلة وهي الشرك الذي لا يغفره الله قال تعالى: ﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا﴾ [غافر: 73، 74] أي غابوا، بل ﴿بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا﴾ [غافر: 74] أي أنكروا عبادة هذه المعبودات ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾).
﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾ وقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ﴾ سنقفز عدة صفحات ونذكر ما ذكره.
نحن قلنا أن فيه بعض الطبعات ظنت أن فيه تكرار فحذفت الكلام الأول، واكتفت بالكلام الثاني، وطبعتنا هذه في الغالب هو ذكر الكلام كله، فنحن قلنا أن المشكلة عنده أنه قال لك هذا تكرار للكلام، قال لا ليس تكرار، هذا الباب فيه مزيد بيان، كيف؟ قال لك الآية الأولى تدل على كذا والثانية تدل على كذا والثالثة تدل على كذا والرابعة تدل على كذا، بعدما انتهى من هذه النقطة رجع مرة ثانية يشرح الآيات، فنحن قلنا بدلاً من التكرار نذكر الكلام الذي ذكره في البداية، وبعد ذلك التفسير الذي قاله بعد ذلك، نحن لازلنا في الآية الثانية ولذلك بعض المحققين نفسه ظن أن الكلام فيه تكرار فحذف.
الآية الثانية قلنا بداية الكلام خلاصة الكلام أن الآية دلت على أن من معاني لا إله إلا الله البراءة مما يُعبد من دون الله ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ فذكر هذا المعنى وبعد عدة صفحات رجع مرة أخرى يذكر تفسير الآية، ونحن عموماً ننتهي من الباب على ما هو موجود، فتح المجيد وبعد ذلك سنمسك آية آية نتكلم عليها بالتفصيل، يعني هذه الآية على ماذا تدل؟ على قضية الولاء والبراء، أحكام الولاء والبراء سنتكلم عليها بنوع من التفصيل.
الآية الأولى هي دلت على أنواع الشرك في الدعاء الاستغاثة والاستعانة و.. و.. وهذا كله سيأتي تفصيله إن شاء الله في الكتاب، أو أحيانًا دعاء غير الله ويسميه المشركون توسلا أو شفاعة وهي في حقيقة الأمر شرك، فسنفصل في قضية التوسل، هل التوسل كله شرك؟ هل التوسل كله مشروع؟ فسنفصل فيه ونعرف الممنوع، ونعرف المشروع.
الآية الثالثة تكلم فيها عن الحكم بغير ما أنزل الله:
قال: (وقوله: ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ الآية. قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها: أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال) وذكر الآية (﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له. وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله جعلها في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم u ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي إليها) يبقى ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا﴾ ما الذي جعلها؟ جعلها هذه عائدة على ﴿بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ وهي التي تساوي لا إله إلا الله، تساوي الإيمان بالله والكفر بالطاغوت، تساوي النفي والإثبات (﴿وَجَعَلَهَا﴾ أي جعل كلمة الإخلاص التي دلت عليه ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾) يعني لا يزال في عقب أي في نسل إبراهيم u من يقول هذه الكلمة، جعلها من الذي جعلها؟ المعنى الفاعل إما أن يكون عائد على إبراهيم u وجعلها أي وجعل إبراهيم هذه الكلمة باقية في عقبه بمعنى أنه وصى به بنيه ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ [البقرة: 132] وجعل إبراهيم هذه الكلمة على معنى الوصية، المعنى الثاني: وجعلها أي: وجعل الله هذه الكلمة باقية في عقب إبراهيم u، فلا يزال من نسل إبراهيم من يقول هذه الكلمة.
وبعد ذلك ذكر عكرمة ومجاهد والضحاك وغيره، وذكر كلام ابن جرير نفس المعنى ليس هناك تغيير.
ثم قال: (قلت: فتبين أن معنى لا إله إلا الله توحيد الله بإخلاص العبادة له والبراءة من كل ما سواه) هذه خلاصة الكلام في الآية، ما فائدة ذكر الآية؟ هو أن معنى لا إله إلا الله أو توحيد الله تبارك وتعالى إخلاص العبادة لله، والبراءة من كل ما يعبد من دون الله تبارك وتعالى.
قال المصنف: (وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة، هي شهادة أن لا إله إلا الله. وفى هذا المعنى يقول العلامة الحافظ ابن القيم رحمه الله:
وإذا تولاه امرؤ دون الورى *** طرا تولاه العظيم الشان
تولاه أي تولى الله امرؤ أي إنسان دون الورى أي دون الخلق طرا أي جميعاً تولاه العظيم الشان فالعبد إذا تولى الله تبارك وتعالى من دون الناس الله U يتولاه، تولاه العظيم الشان الله تبارك وتعالى عظيم الشأن والقدر I. بهذا انتهينا من الكلام عن الآية الثانية.
الآية الثالثة قال: (وقوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ إلى آخر الآية).
قال: (وفي الحديث) يعني أيضاً مناسبة الآية للباب (أن من معاني لا إله إلا الله هو عدم طاعة غير الله تبارك وتعالى في التحليل والتحريم)قال: (وفي الحديث الصحيح النبي r تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي) طبعاً عدي بن حاتم كان نصرانيًّا قبل أن يُسلم، فقال يا رسول الله لما سمع الآية ظن أن ظاهر الآية كما يظن كثير من الناس ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا﴾ يبقى اتخذ الأحبار والرهبان أرباباً فظن أن اتخاذهم أرباب بمعنى السجود والركوع لهم (فقال: يا رسول الله لسنا نعبدهم، قال: «أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟» قال: بلى، قال النبي r: «فتلك عبادتهم»).
واضح من الحديث أن هناك أنواع من العبادة يغفل عنها كثير من الناس، وهي طاعة غير الله في التحليل والتحريم، في لفظ آخر لهذا الحديث النبي r قال: «أما أنهم لم يكونوا يعبدونهم» لم يكونوا يعبدونهم العبادة المعروفة «ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه فتلك عبادتهم» الحديث الشيخ الألباني ذكره في السلسلة الصحيحة رقم 3293.
قال الشيخ عبد الرحمن: (فصارت طاعتهم في المعصية عبادة لغير الله وبها اتخذوهم أرباباً) فالطاعة في المعصية عبادة لغير الله، هذا الكلام لابد فيه من التفصيل؛ لأن هذا الكلام على ظاهره ستكفر أصحاب الذنوب والمعاصي. تفصيل هذا الكلام سيذكره بعد ذلك من كلام شيخ الإسلام، يعني لما نأتي لمرحلة القفز سآتي بكلام شيخ الإسلام، لكن نعرف مبدئياً أن هذا الكلام فيه تفصيل غير صحيح على إطلاقه، بل لو شئت أنك تقول ممكن تقول غير صحيح مثلاً.
(كما هو الواقع في هذه الأمة، وهذا من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد الذي هو مدلول شهادة لا إله إلا الله) وعموما خلاصة القضية أو خلاصة هذه المسألة أن الطاعة في الكفر كفر والطاعة في المعصية معصية، مع شرط اعتقاد أنها معصية، بشرط عدم الاستحلال، لو سمع كلام أحد آخر تبع آخراً في الكفر هذا كفر، لو تبع آخر في المعصية هذه معصية، بشرط ألا يستحل هذه المعصية، يعني لا يظن أن هذا ا لآخر له حق أن يحل ويحرم من دون الله تبارك وتعالى، الذي نسميه الاستحلال.
قال: (فتبين بهذه الآية أن كلمة الإخلاص نفت هذا كله لمنافاته لمدلول هذه الكلمة. فأثبتوا ما نفته من الشرك وتركوا ما أثبتته من التوحيد) خلاصة هذا الكلام علاقة الآية بالباب: أن معنى الآية هو طاعة الله تبارك وتعالى في التحليل والتحريم من آكد معاني لا إله إلا الله، أو الذي نسميها بين قوسين الحكم بما أنزل الله، أو ممكن تقول تطبيق الشرع، هذه كلها معاني قريبة من بعضها.
قال: (وقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ يقول أن الأحبار هم العلماء، والرهبان هم العباد، وهذه الآية قد فسرها رسول الله r لعدي بن حاتم) وذكر الحديث الذي ذكرناه قبل قليل.
(قال السدي: استنصحوا الرجال) هو طبعاً مذكور عندك في فتح المجيد يقول رواه أحمد والترمذي وحسنه، رواه أحمد هذه لعله في غير المسند، هذا الحديث لا يوجد في المسند، لعله في غير المسند.
(قال السدي: استنصحوا الرجال) يعني طلبوا النصح من الرجال اتبعوا الرجال (ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31] فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله.
فتبين بهذا أن الآية دلت على أن من أطاع غير الله ورسوله، وأعرض عن الأخذ بالكتاب والسنة في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله الله، وأطاعه في معصية الله، واتبعه فيما لم يأذن به الله، فقد اتخذه رباً ومعبوداً وجعله لله شريكاً) هذا الكلام أيضاً تفصيله سنذكره من كلام ابن تيمية بعد قليل، يعني هذا الكلام على ظاهره غير صحيح.
(وذلك ينافي التوحيد الذي هو دين الله الذي دلت عليه كلمة الإخلاص لا إله إلا الله فإن الإله هو المعبود، وقد سمى الله تعالى طاعتهم عبادة لهم، وسماهم أرباباً كما قال تعالى) وذكر الآية (أرباباً قال: أي شركاء لله تعالى في العبادة ﴿أَيَأْمُرُك م بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 30] وهذا هو الشرك. فكل معبود رب، وكل مطاع ومتبع على غير ما شرعه الله ورسوله فقد اتخذه المطيع المتبع رباً ومعبوداً) الذي يُطاع أو يُتبع على غير شرع الله U ففيه معنى من معاني الربوبية، وفيه معنى من معاني العبادة، قد يكون هذا المعنى معنى جزئي، فيه معنى المشابهة لا يكفر به العبد، وقد يكون المعنى معنى كلي بتفصيل لا نذكره الآن (كما قال تعالى في آية الأنعام: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121] وهذا هو وجه مطابقة الآية للترجمة، ويشبه هذه الآية في المعنى قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21] والله أعلم.
قال شيخ الإسلام في معنى قوله ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾) هذا نقل في غاية الأهمية لكلام ابن تيمية، الذي فيه التفصيل الذي نذكره، فيه تفصيل متى تكون الطاعة كفراً، ومتى لا تكون كفراً، وما يتبع ذلك من بعض الشبهات في مسألة الإتباع والطاعة، طاعة العلماء في الزلات أو في الخطأ، وحكم ذلك.
قال: (وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين) 1- المعنى الأول أو الحالة الأولى: (أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل) هو عارف أنه يبدل الدين والشرع، يتبعه ويعتقد تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله أو بمعنى آخر يعتقد أن هذا المتبوع أو المطاع له حق التحليل والتحريم، هذا المعنى الأول، ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ بمعنى أنه اعتقد أنهم يحلون ويحرمون مع الله تبارك وتعالى، اعتقد لهم هذا الحق.
(اتباعاً لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل. فهذا كفر) هذا الذي نسميه استحلال، من معاني الاستحلال (وقد جعله الله ورسوله شركاً، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم. فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف للدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله، مشركاً مثل هؤلاء) هذا المعنى الأول: الطاعة والإتباع مع الاعتقاد أن هذا من المتبوع أو المطاع له حق التحليل والتحريم، هل تتذكرون عندما قلنا سابقًا معنى الربوبية، من جملة معاني الربوبية أنه السيد الذي يأمر وينهى ليشرع، فالذي يعتقد هذا المعنى لغير الله تبارك وتعالى اتخذه ربا بنص الآية.
المعنى الثاني أو الحالة الثانية: (أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً) هو يعتقد أن الحلال ما أحله الله والحرام ما حرم الله تبارك وتعالى، وأن هذا من حق الله U، وليس من حق أحد، ولكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما قد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إنما الطاعة في المعروف» وهذا الغالب على أهل المعاصي والذنوب، أنه يتبع غيره في المعصية والذنب، ولكنه يعرف أن الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرم الله تبارك وتعالى، ويعلم أنه مقصر ومذنب، يبقى هذه معصية فقط، لو اعتقد أن غير الله له حق التحليل والتحريم يبقى هذا كفر والعياذ بالله كما فعل الأحبار والرهبان ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾.
(ثم ذلك المحرم للحلال أو المحلل للحرام إن كان مجتهداً) يبقى هو تبع غيره في معصية الله، هذا الغير المتبوع أو المطاع قد يكون إماماً من أئمة المسلمين، ولكنه أخطأ، فالذي تبعه على ذلك ويعرف أن هذا مخالف للحق، ومخالف لله تبارك وتعالى اقترف معصية، ولكن هذا الإمام الذي أخطأ ينطبق عليه قول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر».
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك.
انتهى الدرس الحادي عشر أختكم أم محمد الظن