خطبة رمضان بين الغيب والشهادة
[الحمد الله مَا تعاقبت اللَّيَالِي والأيام، وَالْحَمْد لله عدد الشُّهُور والأعوام، وَلا إله إلا الله الَّذِي لا تتَصَوَّر عَظمته الأوهام، وَالله أكبر ذُو الْجلال والإكرام، والعزةِ الَّتِي لا ترام، مدهرُ الدَّهْر، مُدبر الأمر، ومقدِّرُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَالسّنة وَالنَّهَار، والعالي فَوق كل شيء بالسلطان والقهر والجلال، كل معبود دون الله بَاطِل، وإنه وَحده دون غَيره ربُّ الأواخر والأوائل، كَيفَ يكون غيرُ الله معبود سواهُ؟ وكل من تَحت عَرْشه يرجوه ويخشاه؟ أليست الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم مسخراتٍ؟! أليست السَّمَوَات والأرض وَمَا فِيهَا بِحِكْمَتِهِ مدبرات؟! أليست الْهلال بتسخيره على أقطارها دائرات؟! أليست الْعُقُول فِي فلواتِ تيهِ مَعْرفَته حائرات؟! سُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ!! مَا أعظم شانه، سُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ!! مَا أدوم سُلْطَانه... ] التذكرة في الوعظ (ص: 17).
[وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إلاَّ اللَّه العظيم، الواحدُ الصمدُ العزيزُ الحكيم، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله، وصفيُّه وحبيبه وخليله، أفضلُ المخلوقين، وأكرمُ السابقين واللاحقين، صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى سائر النبيّينَ، وآل كلٍّ وسائر الصالحين].. الأذكار للنووي ت الأرنؤوط (ص: 3).
إن الله جل جلاله خلق الزمان بما فيه من الشهور والأيام، والسنين والأعوام، خلقها لنعلمَ عدد السنين والحساب، وجعل لنا فيها آجالا محدودة، وأعمارا معدودة، لنعملَ فيها بطاعته، ونخلصَ له سبحانه في عبادته، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 42)، ويستدير الزمان بتعاقب الليل والنهار {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الأعراف: 54)، {لإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} (قريش: 1، 2)، وتتابع فيه الفصول الأربعة، فيحصل البرد والحر، واعتدال الجوِّ، قال أبو العتاهية:
(كم يكون الشتاء ثم المصيف ** وربيع يمضي ويأتي الخريف)
(وانتقال من الحرور إلى الظل ** وسهم الردى عليك منيف)
(يا قليل البقاء في هذه الدنـ ** ـيا إلى كم يغرك التسويف)
(عجبا لامرئ يذل لمخلوق ** ويكفيه كل يوم رغيف)
عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اخْتَارَ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ فَجَعَلَ مِنْهُنَّ الصَّلَوَاتَ الْمَكْتُوبَةَ، وَاخْتَارَ الأَيَّامَ؛ فَجَعَلَ مِنْهَا الْجُمُعَةَ، وَاخْتَارَ مِنْهَا الشُّهُورَ؛ فَجَعَلَ مِنْهَا رَمَضَانَ، وَاخْتَارَ اللَّيَالِيَ؛ فَجَعَلَ مِنْهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَاخْتَارَ الْبِقَاعَ؛ فَجَعَلَ مِنْهَا الْمَسَاجِدَ" الزهد لهناد بن السري (2/ 473).
جاء رمضان فمن صام أكثر من ثلاثين سنة يكون مر بصيامه على جميع الفصول، وناله وهو صائم من حرها وبردها واعتدالها، وهاهو في هذا العام الثاني والثلاثين بعد أربعة عشر قرنا من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يأتينا في جوٍّ حارٍّ لم نشهد مثله من قبل، فنسأل الله أن يعيننا فيه على عبادته، وتلاوة كتابه، وفعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين.
والعبادة إما أن تكون فعل وعمل؛ كالصلاة والزكاة والحج، أو تكون امتناع وإمساك؛ كالصيام واجتناب المنهيات والمحرمات، فالصيام في رمضان وغيرِه امتناعٌ عن المباحات، وإمساك عن الطعام والشراب والجماع، من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، بنية العبادة لله وحده لا شريك له، ويفسد هذا الصيامَ ويبطلُه؛ تعمد الأكل والشرب، والجماع والاستمناء، والقيء والردة والعياذ بالله تعالى، فتعمد فعل ذلك ذاكرا لصيامه غير مكره يبطل الصيام، يشترك في ذلك الرجال والنساء، وتنفرد النساء بإبطال صيامها بالحيض والنفاس، وكذلك الصيام اجتناب المحرمات والمكروهات، من الأفعال والكلمات، من الشرك والكفر والقتل والعقوق وسائر الكبائر، إلى النظر والهمز والغمز واللمز، فالصوم يشمل ذلك كله, فصيام شهر رمضان أحد أركان الإسلام، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) هو شهر الصيام، تعرف بدايته برؤية هلاله، وتعرف نهايته برؤية هلال شوال، «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ =رؤية هلال رمضان= وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ =رؤية هلال شوال=، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ =أي حال بيننا وبين رؤية هلال رمضان سحاب أو قتار=؛ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ» البخاري (1909).
فالشهر مرتبط بالهلال، فلا يقلُّ عن تسع وعشرين، ولا يزيدُ عن ثلاثين، عن ابْن عُمَرَ، قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» -يَعْنِي: ثَلاَثِينَ- ثُمَّ قَالَ: «وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» -يَعْنِي تِسْعًا وَعِشْرِينَ- يَقُولُ: مَرَّةً ثَلاَثِينَ، وَمَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ. البخاري (5302) ومسلم (1080). وهو شهر القيام والتراويح، خرج عُمَر بْن الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى المَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: «إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ، لَكَانَ أَمْثَلَ» ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ: «نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ! وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ» يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ. البخاري (2010).
وهو شهر زيارة بيت الله الحرم لأداء نسك العمرة فيه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَجَّتِهِ قَالَ لأُمِّ سِنَانٍ الأَنْصَارِيَّة ِ: «مَا مَنَعَكِ مِنَ الحَجِّ؟» قَالَتْ: أَبُو فُلاَنٍ؛ تَعْنِي زَوْجَهَا، كَانَ لَهُ نَاضِحَانِ؛ =أي بعيران ينقل عليهما الماء= حَجَّ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالآخَرُ يَسْقِي أَرْضًا لَنَا، قَالَ: «فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي» البخاري (1863) و(1782). إنه شهر الصبر والإحسان، شهر الخير والبركات، هذا ما نراه ونشاهده ونحس وشعر به في عالم الشهادة. هو شهر الجود والكرم وتلاوة القرآن، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» صحيح البخاري (6). وفيه أنزلت الكتب من الرحمن الرحيم، على الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فـ«أُنزلت صحفُ إبراهيم أولَ ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان». صحيح الجامع (1497)، رواه أحمد، وابن عساكر، والطبراني في الكبير عن واثلة، انظر الصحيحة (1575).
فإياكم والإفطار في رمضان دون عذر، وعلَّق البخاري (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلاَ مَرَضٍ، لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ». أمَّا «من أفطر في رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة». صحيح الجامع (6070)، (ك هق) عن أبي هريرة. الإرواء (938). والنبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن صيام يوم قبل رمضان، والأضحى والفطرَ وأيامَ التشريق». صحيح الجامع (6964) (هق) عن أبي هريرة. الصحيحة (2398).
وهذه قصة وقعت في نهار رمضان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقَالَ: هَلَكْتُ، قَالَ: «وَلِمَ؟» قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: «فَأَعْتِقْ رَقَبَةً» قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي، قَالَ: «فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ » قَالَ: لاَ أَسْتَطِيعُ، قَالَ: «فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا» قَالَ: لاَ أَجِدُ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ؟» قَالَ: هَا أَنَا ذَا، قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهَذَا» قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، قَالَ: «فَأَنْتُمْ إِذًا». وفي رواية: «خُذْهُ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ». صحيح البخاري (5368) و(6711). وقصة أخرى وقعت في ليلة من ليالي رمضان مع أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ: (وَاللَّهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). قَالَ: (إِنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ). قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟» قَالَ: قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً، وَعِيَالاً، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ). قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ». فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّهُ سَيَعُودُ)، فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: (لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). قَالَ: (دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ، لاَ أَعُودُ). فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟!» قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً، وَعِيَالاً، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ). قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ». فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: (لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، أَنَّكَ تَزْعُمُ لاَ تَعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ!) قَالَ: (دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا). قُلْتُ: (مَا هُوَ؟) قَالَ: (إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ؛ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ ..}، حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ). فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟!» قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ) قَالَ: «مَا هِيَ؟!» قُلْتُ: قَالَ لِي: (إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ؛ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ ..}. وَقَالَ لِي: (لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ). -وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الخَيْرِ- فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟!» قَالَ: (لاَ!) قَالَ: «ذَاكَ شَيْطَانٌ». البخاري (2311).
أما في عالم الغيب الذي نؤمن به؛ لأن الخبر به جاءنا عن طريق الوحي الإلهي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فآمنا به وصدقناه، فرمضان شهر مغفرة الذنوب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» مسلم (233). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» البخاري (38). وهو شهر القيام، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» البخاري (37).
وهو شهر العتق من النيران، شهرٌ تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، =وفي رواية=: -فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ- وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» البخاري (1899) و(3277).
للصائمين فيه لهم باب في الجنة يسمى الريان، عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا؛ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ" البخاري (1896) ومسلم (1152). وهو أحد الأبواب فـ«فِي الجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ، لاَ يَدْخُلُهُ إِلاَّ الصَّائِمُونَ» البخاري (3257) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
**** قال ابن الجوزي في بستان الواعظين ورياض السامعين (ص: 213): [ قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الصّيام كَمَا كتب على الَّذين من قبلكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} (الْبَقَرَة 183) أَيهَا الغافل عَن الثَّوَاب الْكثير، والساهي عَن الْملك الْكَبِير، واللاهي عَن لِبَاس السندس وَالْحَرِير، المتقاعد عَن الْيَوْم العبوس القمطرير، النَّائِم عَمَّا أُتِي بِهِ مُحَمَّدٌ البشيرُ النذيرُ، الَّذِي أنقذنا الله بِهِ من جَهَنَّم وحر السعير، يَا غافل يَا ساهي! أَتَاك شهرُ رَمَضَان؛ المتضمنُ للرحمة والغفران، وَأَنت مصرٌّ على الذُّنُوب والعصيان، مُقيمٌ على الآثام والعداون، متمادي فِي الْجَهَالَة والطغيان، متكلِّم بالغيبة والبهتان، متعرِّضٌ لسخط الرَّحْمَن، قد تمكن من قَلْبك الشَّيْطَان، فألقي فِيهِ الْغَفْلَة وَالنِّسْيَان، فأنساك نعيم الْخلد والجنان، فظللت تعْمل أَعمال أهلِ النيرَان، فَإِن كنت يَا مِسْكين كَذَلِك؛ فَكيف ترجو الْفَوْزَ بالرضوان. والحلولَ فِي دَار الْخلد والأمان؟ والخلاصَ من دَار الْعقُوبَة والهوان؟! وَأَنت؛ مطعمُك حرَام، ولباسُك حرَام، وَلِسَانك لا يفتر عَن قَبِيح الْكَلام، وبصرُك حَدِيد إِلَى مَا حُرِّمَ من الْحَرَام، عَلَيْك ذُو الْجلال وَالإِكْرَام، ويدك ممدودة إِلَى مَا نهاك عَنهُ الْملك العلام، وقدمك تسْعَى إِلَى مَا هُوَ إِثْم وَحرَام، وَأَنت فِي جَمِيع أمورك وأفعالك مُخَالفٌ لِلْقُرْآنِ وَالأَحْكَام، تَارِكٌ لسنة مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلاة وَالسَّلام. فجسمك من الْجُوع متعوب، من الْفجْر إِلَى الْغُرُوب، ويلحقك النصب واللغوب، وصومك عَن مَوْلاك بالطرد مَحْجُوب، وأخاف أَن تكون فِي النَّار على وَجهك مكبوب، لمخالفتك لعلام الغيوب. فخمِّص =أي جوِّع= وَيحك بَطْنك عَن أكل الرِّبَا وَالْحرَام، وأحبس لسَانك عَن الْوُقُوع فِي جمَاعَة الإِسْلام، وغض طرفك عَمَّا هُوَ عَلَيْك أعظم من أعظم الآثام، وَهُوَ النّظر إِلَى مَا لا يحلُّ لَك من حرم الأَنَام، وامتثل مَا أَمرك بِهِ أحكم الْحُكَّام، وقم بَين يَدَيْهِ فِي اللَّيْل البهيم إِذا هجع النوام، وتضرَّع إِلَيْهِ إِذا أدهم اللَّيْل بداجي الظلام. وَحِينَئِذٍ يَصح لَك الْقبُول لشهر رَمَضَان، وتفوزُ بالنعيمِ الأبدي فِي دَار السَّلام وتنجو من الأَهْوَال وَالْعَذَاب الغرام. فَلْيَكُن وَيحك بَصرك من النّظر إِلَى الْمَحَارِم معدولا، وسمعك عَن سَماع الْقَبِيح من القَوْل معزولا، وبطنك من أكل الْحَرَام مَحْمُولا، وقلبك بالفكرة فِي الْحَسَنَات والمعاد مَشْغُولاً، وَذكرُ مَوْلاك وسيدِك فِي لسَانك مجعولا، وَمَالُكَ فِي طَاعَة الْعَزِيز الْجَبَّار مبذولا، {إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسؤولا} (الإِسْرَاء: 36). وَقد أعلمك مَوْلاك أَن الشَّيْطَان كَانَ للإنْسَان خذولا، فَلم خُنْت عهد مَوْلاك وأمانته وَكنت لنَفسك ظلوما جهولا؟!].
كتبها ونقلها من مظانها/ أبو المنذر فؤاد بن يوسف
الزعفران الوسطى غزة فلسطين
آخر جمعة 28 شعبان 1432 هلالية - وفق 29 يوليو تموز 2011 شمسية
للتواصل مع الشيخ عبر البريد الالكتروني: zafran57@hotmail.com
أو زوروا الموقع الالكتروني الرسمي للشيخ: www.alzafran.com