المبحث الأول
الشريعة والتشريع بين التضييق والتوسيع
يتعلق هذا الفصل ـ والبحث كله تقريبا ـ بالشريعة والتشريع والكليات التشريعية ، ولذلك أبدأ بمعاني هذه الكلمات وما أعنيه بها ، ضمن استعمالاتها المتداولة.
الشريعة والتشريع، وكذلك الشِّرعة والشرع، كلها راجعة إلى أصل واحد، هومادة "شـرع".
ومعنى "شـرَعَ ": وضعَ الأحكام وحدَّدها، فهو بمعنى سنَّ، فالذي يضع الأحكام للناس، ويحدد لهم ما يفعلون وما لا يفعلون، ويحدد لهم كيف يفعلون...، يقال عنه: شرَعَ يَشرَعُ...
والأحكام التي يضعها تسمى شَرْعًا وشريعة. وتسمى كذلك شرْعة وعلى هذا: فالشريعة والشرعة والشرع بمعنى واحد.
قال الإمام الطبري: ((والشِّرْعة: الشريعة بعينها، تجمع الشِّرعة شِرَعًا، والشريعة شرائع، ولو جمعت الشرعة شرائع كان صوابا، لأن معناها ومعنى الشريعة واحد))([1]).
وقال القرطبي: ((والشِّرعة والشريعة: الطريقة التي يتوصل بها إلى النجاة. والشريعة في اللغة: الطريق الذي يتوصل منه إلى الماء. والشريعة ما شرع الله لعباده من الدين، وقد شرع لهم يشرع: أي سن. والشارع: الطريق الأعظم))([2]).
أما مفهوم "الشريعة"؛ من حيث مضامينها ومجالات أحكامها: فمن العلماء من يجعله شاملا لكل ما أنزله الله لعباده، أي لكل ما وضعه لهم وكلفهم به وأرشدهم إليه،
من معتقدات وعبادات وآداب... فالشريعة عندهم مرادفة أو مطابقة، للدين والملة، فالدين والملة والشريعة، في هذا المفهوم الموسع، شيء واحد.
ومما يستدل به على هذا المعنى قوله تعالى: {شَرَعَلَكُممِّ َالدِّينِمَاوَ َّىبِهِنُوحًاو الَّذِيأَوْحَي نَا إِلَيْكَوَمَاوَ صَّيْنَابِهِإِب ْرَاهِيمَوَمُوس َىوَعِيسَىأَنْأ َقِيمُواالدِّين َ وَلاتَتَفَرَّقُ وافِيهِ} [الشورى: 13]
وأهم ما هو مشترك بين هؤلاء الرسل وغيرهم، هو توحيد الله وعبادته وطاعته، فهذا هو ما شرعه الله للعباد، وهذا هو شرعه وشريعته، فكل ما شرعه فهو شرع وشريعة.
وبهذا المعنى ألف أبو بكر الآجُرِّي كتابه ( الشريعة )، الذي يتناول فيه ـ بلا تمييز ـ قضايا عقدية، وقضايا فقهية، وقضايا أصولية. ومن أبواب الكتاب ـ على سبيل المثال ـ باب: " التحذير من مذاهب أقوام يكذبون بشرائع مما يجب على المسلمين التصديق بها "1 ثم ساق بعض الآثار تحذر ممن سيظهر فيهم التكذيب بالرجم، والدَّجال، والحوض، والشفاعة، وعذاب القبر، وخروج المؤمنين من النار، ممن سيدخلونها.
فهذه الأمور كلها اعتبرها " شرائع" يجب الإيمان بها...
إلا أن استعمال " الشريعة " بمعنى الأحكام العملية دون الاعتقادات القلبية، هو الغالب لدى العلماء ولدى الفقهاء خاصة، ومن هنا شاع التقابل بين العقيدة والشريعة، حيث يوصف الإسلام بأنه عقيدة وشريعة، بمعنى أن الشريعة غير العقيدة.
وهذا التمييز بين العقيدة والشريعة، بإخراج الأولى من الثانية، يجد سندًا له في قوله تعالى: {لِكُلٍّجَعَلْن امِنكُمْشِرْعَ ًوَمِنْهَاجًا}[المائدة: 48]، فهو يدل على التغير والاختلاف بين الشرائع المنزلة، وهذا لا يكون إلا في الأحكام العملية، أما العقيدة فهي ثابتة مع الثوابت المشتركة بين الشرائع، بل هي الركن الأعظم في تلك الثوابت.
وفي قوله تعالى: {ثُمَّجَعَلْنَا َعَلَىشَرِيعَة مِّنَالأَمْرِف اتَّبِعْهَاوَل تَتَّبِعْ أَهْوَاءالَّذِي نَلايَعْلَمُونَ }[الجاثية: 18]، قال قتادة: ((والشريعة: الفرائض والحدود والأمر والنهي))([1])
وسواء كان هذا هو المعنى الأصلي للشريعة، أو كان استعمالا اصطلاحيا خاصا، إلى جانب المعنى الأوسع، فإنه أصبح هو المعنى السائد والمتبادر إلى الأذهان عند إطلاق لفظ الشريعة والشرع.
قال الكفوي: ((والشرع والشريعة: كل فعل أو ترك مخصوص من نبي من الأنبياء، صريحا أو دلالة، فإطلاقه على الأصول الكلية مجاز، وإن كان شائعا، بخلاف الملة، فإن إطلاقها على الفروع مجاز، وتطلق على الأصول حقيقة، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه وغير ذلك. ولهذا لا تتبدل بالنسخ، ولا يختلف فيها الأنبياء))([2]).
من الشريعة إلى التشريع
ليس هناك فرق جوهري بين ما قيل عن الشريعة وما يمكن أن يقال عن ((التشريع))؛ فكلاهما راجع إلى فعل ( شرَع )، بمعنى وضَعَ الأحكام وسنَّها للناس.
فالتشريع هو مصدر ( شرَّع ) الرباعي، وهو وإن لم يستعمل في القرآن الكريم، فقد تم استعماله عند المتقدمين، وإن كان قليلا بالقياس مع استعمالهم للفعل الثلاثي ومشتقاته. ففي معنى قوله تعالى:{يَوْمَنَد ْعُوكُلَّأُنَاس ٍ بِإِمَامِهِمْ}[الإسراء: 71]، قال ابن زيد: بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع([3]).
وقال ابن تيمية في بيان حكم ما صدر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما يعد منه تشريعا وما ليس كذلك: ((فكل ما قاله بعد النبوة واقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع)) ([4]) سنتمم هذا الفصل في فرصة قادمة بحول الله