فصل
[في دلالة الاقتران]
• قال الباجي -رحمه الله- في (ص 321): «لاَ يَجُوزُ الاسْتِدْلاَلُ بِالقَرَائِنِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ نَصْرٍ: «يَجُوزُ ذَلِكَ»، وَبِهِ قَالَ المُزَنِيُّ».
[م] ويعبر عنه الأصوليون ﺑ: «دلالة الاقتران» مثل استدلال مالك -رحمه الله- على سقوط زكاة الخيل، بقوله تعالى: ﴿وَالخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾(١- النحل: (8))، فَقَرَنَ بين الخيل والبغال والحمير، فإذا كان البغال والحمير لا زكاة فيها إجماعًا فكذلك الخيل، ومثله مسألة أكل لحوم الخيل.
وفي تحرير محلِّ الخلاف بين العلماء أنَّ دلالةَ الاقتران يحتجُّ بها بلا خِلاف فيما إذا كانت لدليل خارجيٍّ يدلُّ على الاقتران، وتكون الدلالة للدليل الخارجي لا للاقتران، ولا خلاف في المشاركة إذا كان المعطوف ناقصًا بأن لا يذكر خبره كقول القائل: فلانة طالق وفلانة، وكذلك عطف المفردات إذا كان مشاركة بينها في العلة، فالتشارك في الحكم إنَّما كان بسبب العلة لا لأجل الاقتران(٢- «إرشاد الفحول» للشوكاني: (248)).
هذا، ودلالة الاقتران على مراتبَ متفاوتةٍ قُوةً وضعفًا، فإن جمع بين المقترنَيْن لفظ اشتراكَا في إطلاقه، وافترقَا في تفصيله ظهرت عندئذ قوَّتها، وذلك مثل قوله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم: «ثَلاَثٌ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ: الغُسْلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَيَمَسُّ مِنْ طِيبٍ إِنْ وُجِدَ»(٣- أخرجه أحمد في مسنده: (4/34، 5/363)، وابن أبي شيبة في «المصنف»: (1/434 (4997))، عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، والحديث صحَّحه الألباني في «السلسة الصحيحة»: (4/405 (1796))، وفي «صحيح الجامع»: (3/62 (3025)))، ولما كان السواك والتطيّب غير واجبين كان الغسل غير واجب أيضًا لاشتراك الألفاظ الثلاثة في إطلاق لفظ الحقّ عليه، ما لم يرد دليل يقضي بحكمٍ مغايِرٍ، أمَّا إذا تعدَّدت الجمل، واستقلَّ كُلُّ واحد منها بالحكم والسبب والغاية ظهر ضعفها، كقوله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم: «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الماَءِ الدَّائِمِ، وَلاَ يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنَ الجَنَابَةِ»(٤- أخرجه أبو داود: (1/56 برقم:70) في كتاب الطهارة باب: البول في الماء الراكد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح أبي داود»: (1/30)، وفي «صحيح الجامع»: (6/211) (برقم: 7471))، فلا يلزم من تنجيسه بالبول تنجيسه بالاغتسال؛ لأنَّ الاقتران في النظم لا يستلزم الاقتران في الحكم عند جمهور الأصوليين؛ ولأنَّ الأصلَ في كُلِّ كلامٍ تامٍّ أن ينفرِدَ بحُكمه ولا يشاركه غيرُه مثل قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ﴾(٥- الفتح: (29))، فالجملة الثانية معطوفة على الأولى ولا تشاركها في الرِّسالة، فظهر أنَّ الاشتراك إنَّما يكون في المتعاطفات الناقصة التي تحتاج إلى ما تتمُّ به، فإذا تمَّت بنفسها فلا مشاركة(٦- راجع «المسودة» لآل تيمية: (140–141)، «بدائع الفوائد» لابن القيم: (4/183-184)، «إرشاد الفحول» للشوكاني: (248))كعطف جملة فلا اشتراك في المعنى نحو: أكرم زيدًا وامنع عمرًا(٧- انظر: المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (ص: 321)).
وخالف أبو يوسف صاحب أبي حنيفة وابن أبي هريرة من الشافعية وأكثر الحنابلة وبعضُ المالكية واحتجُّوا على جواز الاستدلال بالقرائن بقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «وَاللهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ»(٨- أخرجه البخاري: (3/262)، ومسلم: (1/207)، وغيرها)، فدلَّ ذلك على أنَّ العطف يقتضي المشاركة نحو قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾(٩- البقرة: (43))، كما استدلُّوا بقول ابن عباس رضي الله عنهما: «أنَّ العمرة قرينة في كتاب الله» لذلك حملها على الوجوب بدلالة الاقتران في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ﴾(١٠- البقرة: (196)).
وقد أجيب بأنَّ الصِّديق رضي الله عنه إنَّما قصد عدم التفريق بين ما جمع الله في الإيجاب بالأمر، وكذلك ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه أراد لوجوب العمرة لأنَّها قرينة الحجِّ في الأمر، والأمر يقتضي الوجوب فكان الاحتجاج في الحقيقة بظاهر الأمر لا بالاقتران(١١- «التبصرة» للشيرازي: (230)).
ومن آثار الخلاف في هذه المسألة ما يأتي:
- الاختلاف في حكم الزكاة في مال الصبي فمن احتجَّ بدلالة الاقتران من قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾(١٢- البقرة: (43))، قال لا تجب على مال الصغير؛ لأنَّ العطف يقتضي المشاركة، ولأنه لو أريد دخوله في الزكاة لكان فيه عطف واجب على مندوب، لاتفاق كون الصلاة مندوبة، فدلَّ على عدم وجوب الزكاة في ماله، ومن لم يحتجَّ بدلالة الاقتران منع من ذلك(١٣- «شرح الكوكب المنير» للفتوحي: (3/260)).
- في الاختلاف في وجوب الأكل من الأضحية، فمن احتجَّ بدلالة الاقتران من قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ﴾(١٤- الحجّ: (28))، قال بوجوب الأكل منها؛ لأنَّه عطف على الإطعام، والإطعام واجب، ومن لم يحتجَّ به لم يحكم بوجوبه(١٥- «التمهيد» للإسنوي: (273)).
- في اختلاف حكم بيع العينة، فمن احتجَّ بدلالة الاقتران من قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاَّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»(١٦- أخرجه أبو داود: (3/740) (رقم: 3462)، والبيهقي في «سننه الكبرى»: (5/316)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (1/15) (رقم: 11)، وفي «صحيح أبي داود»: (2/365))؛ لأنَّ اقتران بيع العينة بأخذ أذناب البقر والاشتغال بالزرع مع أنَّ هذه المذكورات غير محرَّمة فدلَّ ذلك على أنَّ بيع العينة ليس محرَّمًا، ومَن اعتبر أنَّ دلالة الاقتران ضعيفة لأنَّ الاقتران في النظم لا يستلزم الاقتران في الحكم، فلا اشتراك في المعنى وخاصَّة وأنَّه عطفت جملة على جملة(١٧- «نيل الأوطار» للشوكاني: (6/364)).