أخي الكريم / ابن الرومية
بالنسبة لقولي بالإجماع على تنزيه الله عن التركيب والتبعيض وأنه هذا لا يعتبر نفيا للصفات، أقول:
في شرح الطحاوية:
(ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه، فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية منعوت بنعوت الفردانية ليس بمعناه أحد من البرية، تعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات والمعراج حق)
ونلاحظ أنه تجنب النفي وفي نفس الوقت نزه الله عن الأركان والأعضاء
كذلك الإمام أحمد فهو يرى أن لفظ الجسم بمعناه في لغة العرب لا يجوز إطلاقه على الله ويرى أن الألفاظ تؤخذ من الشرع ومن اللغة لذا لا يجوز أن يسمى جسما ففي رواية أبي بكر الخلال
(وَأنكر على من يَقُول بالجسم وَقَالَ إِن الْأَسْمَاء مَأْخُوذَة بالشريعة واللغة وَأهل اللُّغَة وضعُوا هَذَا الاسم على كل ذِي طول وَعرض وسمك وتركيب وَصُورَة وتأليف وَالله تَعَالَى خَارج عَن ذَلِك كُله فَلم يجز أَن يُسمى جسما لِخُرُوجِهِ عَن معنى الجسمية وَلم يجِئ فِي الشَّرِيعَة ذَلِك فَبَطل. اهـ)
أما ابن القيم وتبعه الكثيرون فرغم أنه أيضا نفى عن الله الجسم بمعناه في لغة العرب إلا أنه رأى أن الألفاظ تؤخذ من الشرع وحده ولا تؤخذ من اللغة والشرع كما قال الإمام أحمد، ومادام الشرع لم يثبت ولم ينف فلا يجوز النفي ولا يجوز الإثبات. قال ابن القيم:
(اعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتا فيكون له الإثبات، ولا نفياً فيكون له النفي، فمن أطلقه نفياً وإثباتاً، سئل عما أراد به، فإن قال أردت بالجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه، فلا للهواء جسم لغة.. فهذا المعنى منفي عن الله سبحانه عقلاً وسمعاً، وإن أردتم به المركب من المادة والصورة والمركب من الجواهر المفردة، فهذا منفي عن الله سبحانه قطعاً، وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات، ويرى بالأبصار ويتكلم ويكلم، ويسمع ويبصر، ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة للرب، وهو موصوف بها، فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسماً.
وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسيّة، فقد أشار أعرف الخلق بالله تعالى بأصبعه رافعاً لها إلى السماء بمشهد الجمع الأعظم مستشهداً له لا للقبلة..).
وبهذا يتضح أن الخلاف بينهما ليس خلافا حقيقيا، فهم متفقون على نفي الجسم بمعناه في لغة العرب، ولاشك أن لغتنا ولغة القرآن هي لغة العرب. أما كلام ابن القيم (وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات، ويرى بالأبصار ويتكلم ويكلم، ويسمع ويبصر، ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة للرب، وهو موصوف بها، فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسماً.) فلاشك أننا متفقون على إثبات هذه الصفات لله سبحانه، ولكن يجب أن نقول إن الموصوف بهذه الصفات لا يسمى في اللغة جسما، فالجسم هو البدن الذي له صورة ويتركب ويتألف من جواهر وله طول وعرض ولا يحق لأحد أن يقول أردت بالجسم كذا ويقول غيره وأنا أردت بالجسم كذا، لأن الأسماء تؤخذ من معانيها في اللغة ولا تؤخذ بالأهواء والرغبات. كما لا يلزم من إثبات هذه الصفات أنه سبحانه يتركب من أبعاض إذ لا يجوز قياس الله على خلقه فنقول إن الذي يسمع لابد أن يكون له أذنان ليسمع بهما والذي يبصر لابد وأن يكون له عينان ليبصر بهما وهكذا فهذا باطل، كذلك لا يجوز أن نقول إن الأعور يقابله صاحب العينين فمادام الله نفى عن نفسه أن يكون أعورا فلابد أن له عينين فهذا قياس على المخلوق لا يجوز.
أما الأخ الفاضل (فتح الباري) فأشكره على أسلوبه المهذب وأقول له: نعم يا أخي الكريم لا يجوز النقل عن مجهول وهذه بديهية عندنا فما بالك بالإمام ابن العربي وابن الجوزي وابن الأثير فلاشك أنهم يعلمون ذلك، وإن كنت أقر أن التحقيق يحتاج إلى مجهود أكبر، لذا رأيت التركيز في لب موضوعنا .
والخلاصة هي أن نفي الجسم والتركيب والتأليف عن الله لا يلزم منه نفي السمع والبصر والقدرة والكلام. أما الآيات والأحاديث التي فيها ذكر اليدين والعين والأعين فإثباتها على ظاهرها بالمعاني التي في أذهان البشر فهو إشكالية لذا فمذهب السلف إمرارها كما جاءت بلا تفسير ولا توهم، ولم يصح أي نقل عن السلف بوجوب إثباتها بالمعاني المتبادرة إلى أذهاننا.