لا أدري هل تحرر عندك أن النزاع هو حول (( الوصف المشتمل على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم )) سواء سميتها علة أو حكمة منضبطة أو غير ذلك ؟!
فهل أنت تعتقد أن (( مخالفة المشركين وأهل الكتاب )) أو (( وقوع المشابهة )) كما زعمت وجود الفرق بينهما هو (( الوصف المشتمل على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم )) ؟؟؟
فالمسألة واضحة جدًا يا أخي بأن (( إعفاء اللحى )) هو الوصف المشتمل على (( مخالفة المشركين )) والتي هي الحكمة أو (( المصلحة )) الباعثة على تشريع الحكم .
وأنا لازلت أظن بأنك قد خلطت بين كلام أهل العلم عن العلة في باب القياس, والتي تستخرج من الحكمة ومظنتها, وبين العلة بمعنى الوصف المنضبط المشتمل على المصلحة الباعثة على تشريع الحكم .
ففي باب القياس يعمل الفقيه بمسلك من مسالك العلة على إيجاد العلة الجامعة بين الأصل والفرع, بالنظر في المصلحة (( الحكمة )) التي شرع لأجلها حكم الأصل, وهذه المصلحة (( الحكمة )) يُخرّج منها وصف مناسب لتعليق حكم الفرع عليها, وهذا ما يسمى بتحقيق المناط, والأول تخريجه .
وهذا عين ما فعله شيخ الإسلام فيما نقلته فهو ينص على الحكمة الباعثة لتشريع الحكم وظننته ينص على علة حكم إعفاء اللحى وجز الشوارب والتي هي الوصف الظاهر المنضبط !!
فقوله رحمه الله (( فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع وهو العلة في هذا الحكم أو علة أخرى أو بعض علة وإن كان الأظهر عند الإطلاق أنه علة تامة .
ولهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس في هذا وغيره كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي صلى الله عليه وسلم من هدى المجوس )) . انتهى
فهو هنا ينص على العلة الجامعة وهي ركن من أركان القياس, ولا ينص على العلة بمعنى (( الوصف الظاهر المنضبط الذي يشتمل على المصلحة [ الحكمة ] الباعثة على تشريع الحكم )), وهذا ظاهر في قوله (( ولهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس في هذا وغيره كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي صلى الله عليه وسلم من هدى المجوس )) ثم ذكر الأثار عن الإمام أحمد بكراهية حلق القفا, وجعل العلة مخالفة المجوس, وهي علة في الفرع مستنبطة من حكمة حكم الأصل, فالحكمة في الأصل مخالفة المجوس, وأما حكم الأصل فهو الأمر بإعفاء اللحى وجز الشوارب, وعلته وجود شعر الوجه وهو الوصف الظاهر المنضبط المشتمل على الحكمة الباعثة لتشريع الحكم .
واعلم يا أخي أن بحث شيخ الإسلام كله حول دفع قول شبيه بقولك, وشيخ الإسلام يقرر أن المخالفة مقصودة وعين الأفعال التي تؤدي إلى المخالفة مقصودة كذلك فيقول رحمه الله : (( وهذا وإن دل على أن مخالفتهم أمر مقصود للشرع فذلك لا ينفي أن تكون في نفس الفعل الذي خولفوا فيه مصلحة مقصودة مع قطع النظر عن مخالفتهم فإن هنا شيئين :
أحدهما : أن نفس المخالفة لهم في الهدى الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من مرض القلب الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان .
والثاني : أن نفس ما هم عليه من الهدى والخلق قد يكون مضرا أو منقصا فينهى عنه ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضر أو ناقص لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها مضرة وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله فهو يقبل الزيادة والنقص, فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملا قط )). انتهى
وأما مسألتك يا عبد الله, وهي انتفاء الحكم الشرعي بانتفاء حكمته, قد نص عليها بعينها السبكي في الأشباه والنظائر (ص 191) فقال :
مسألة : إذا قطع بانتفاء الحكمة في صورة من الصور ففي ثبوت الحكم خلاف.
قال الغزالي وتليمذه محمد بن يحيى : يثبت الحكم للمنضبطة فإن الحكم قد صار معلقًا بها, ولا نظر بعدها إلى الحكمة.
وقال الجدليون : لا يثبت لانتفاء الحكمة فإنها أصل العلة. انتهى المقصود
فقولك حفظك الله هو قول الجدليين كما قد ذكرت لك سابقًا, فلعلك تحقق البحث مرة أخرى.