الحمد لله الذي أنعم على بني آدم بنعمة العقل والنظر.. وسوى نفوسهم فألهمها فجورها وتقواها فلا يعسر على عقل عاقل تمييز حجة الحق فيما يأتي من الخطاب وما يذر، ثم بعث المرسلين بحجة الحق الناصعة التي لا يتطرق إلى كل عاقل يسمعها سبيل شك ولا ارتياب فيما يعقل البشر..
وصلى الله وسلم على خاتم المرسلين، حجة الحق الظاهر على العالمين، الذي بُعث بالمحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا من كان من الهالكين.
أما بعد فإنه قد تكاثرت في ساحات المنتديات والمدونات في هذا الزمان كما لا يخفى كتابات لبعض شباب المسلمين ممن حسنت نيتهم وقلّ علمهم في باب الرد على شبهات المستشرقين والملاحدة وأعداء الدين. وفي الحقيقة فإن الناظر المحقق في تلك الردود على كثرتها وإسهابها وانتشارها في أنحاء الشبكة العنكبوتية، لا يفوته ملاحظة أن الكثرة الكاثرة منها إنما عمد أصحابها إلى النزول إلى ذات المرتبة من الأدلة التي يستعملها هؤلاء المجرمون في التشغيب على الحق وأهله، ظنا منهم بأن هذا من قبيل التنزل مع المخالف الذي هو طريقة من طرائق الجدل والمناظرة، وبأنه يفضي إلى إبطال الشبهة بما يحسم المسألة وينهي فيها الكلام! وهذا مما يؤسف له في الحقيقة، وهو من تأثر القوم بطرائق كُتاب اللاهوت الدفاعي عند النصارى، لا سيما طرائق النصارى في الرد على شبهات الملاحدة كما سيأتي التمثيل عليها. ولهذا فإنه كان ولا يزال هذا النثار الكثيف من الكتابات في ذلك الباب يأتي بثمار لا تحمد في أكثر الأحايين، من حيث إيهامه – ولو بالإيحاء المجرد - ضعاف العقل والعلم والدين بأن تلك التخرصات والتفاهات التي يثيرها هؤلاء المجرمون على الحق لها حظ من النظر، وبأنها ترقى – بالجملة - إلى منزلة (الإشكال) العلمي الحقيق بالدراسة والبحث، وإلا فلماذا سُودت فيها كل تلك الصفحات من المناقشة والجدل والمجاذبة، تخوض فيها الأقلام من كل حدب وصوب؟ وأقول إن هذا الإيحاء في مجرده إنما هو مغنم عظيم لأصحاب تلك الشبهات عند التأمل! وإلا فهل كان أحد من أهل الإلحاد – على سبيل المثال – يحلم في أي قرن من قرون هذه الأمة قبل زماننا هذا، بأن يصبح في البلاد كاتبا مفوها يقعده الناس في مقعد المناظرة والمناقشة، يرفعونه إلى منزلة المفكر الكذا والكذا، ويتكلف المسلمون عناء الرد عليه؟؟ وهل كانوا يحلمون بأن تفرد صفحات ومؤلفات كاملة للرد على هرائهم المحض وعلى جحودهم البين على نحو ما يرون في هذا الزمان؟؟ وهل كانوا يحلمون قبل هذا الزمان بأن يضطر أقوام من العلماء وطلبة العلم المسلمين – وما أدراك ما العلماء وما طلبة العلم! - إلى الانتصاب للرد على قوم يقول قائلهم: أنا سليل القردة، لم يخلقني خالق ولا أصير بعد موتي إلا عدما؟؟ كلا والله، ولكنه هو ذاك الزمان الفتان الذي أنبأ به سيد المرسلين من قبل، فاللهم سلم سلم!
فلما كان ذلك كذلك، رأيتُ ضرورة تأليف مبحث موجز في بيان أصل الخلل العقلي والنفسي الذي يحمل هؤلاء المجرمين المكابرين على رد حجة الحق من بعد ما قامت عليهم على نحو ما نرى، وعلى التمسك بملل داحضة في موازين العقل وهم يعلمون، ومن ثمّ توجيه شباب المسلمين إلى أقوم السبل وأقصرها وأقربها إلى سبل الأنبياء والمرسلين في دحض ذلك الهراء كله جملة واحدة، وفي إرجاع الأمور إلى نصابها الصحيح، لا سيما لدى المشتغلين بفلسفات العلوم المعاصرة والمهتمين بالنظر في العلوم الطبيعية منها بصفة خاصة. ولسوف يرى القارئ المسلم – بإذن الله تعالى – في أثناء تلك الرسالة أنه لم تحظ أمة من أمم البشرية بما حظيت به أمة الإسلام من أصول عقلية وعلمية تامة الإحكام، للنظر العلمي في نصوص دينها، ولسوف يرى القارئ من أي ملة كان كم هي حاجة فلاسفة العلوم في هذا الزمان – وفي كل زمان – إلى تأسيس بنيانهم على أصول الفقه عند المسلمين والانضباط بها، وأنه لو صدق نفسه وأخلص في طلب الحق لما وسعه أن يماري في شيء مما نقرره عبر تلك الورقات اليسيرات، والله الهادي إلى سواء السبيل.
فأقول ومن الله العون والتوفيق، إن العاقل من عرف مقادير الأدلة وأحسن نصب الميزان لها، فلم يقدم إلا ما حقه التقديم، ولم يؤخر إلا ما حقه التأخير، ولم يرفع ظنا فوق قطع، ولا ساوى بين مختلفين، ولا خالف بين متساويين، ولا قاس بغير علة، ولا أبطل قياسا جليا، ولا رجَّح في محل الجمع، ولا جمع في محل الترجيح، ولم يشتبه عليه دليل لا يختلف العقلاء في ضعفه فقواه، ولا دليل لا يخالف العقلاء في قوته فوهَّاه.. فإنما الحكمة وضع الشيء في موضعه عند حده ومنتهاه، والله الهادي إلى الرشاد لا رب سواه.
إن هذا القدر من التمييز بين مراتب الأدلة لا يختلف فيه العقلاء من أهل صناعات العلوم أيا ما كان موضوعها، سواء الشرعية منها والدنيوية، وهو محل إجماع لا يخرقه من أهل الأرض إلا جاهل أو غوي. فإذا ما تعرض الباحث – في أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية - لمسألة يتنازعها من الأدلة ما يتفاوت في قوة الدلالة، فإنه يُعمل من طرائق النظر العقلي والفلسفي ما اتفق عليه أهل صناعات العلوم من تقديم القوي على الضعيف، والمجمع عليه على المختلف فيه، وضرورة العقل على ما دونها، ولا يخالف في ذلك عاقل قد عرف أصول العلوم والعقليات أو تمرس في شيء من ذلك. ولو أنك سألت عالما من أي علم من العلوم البشرية أيا كان، عن قوله في هذا الأصل الأصيل والركن الركين من أركان النظر العقلي، لما خالفك في صحته ولما ظهر لديه أي اعتراض عليه. ولكنّ العبرة بعدُ بالتطبيق والتحقيق، فما أكثر الأدعياء وما أعز البينات!
ولأن حجة الحق إذا ما ظهرت، دمغت وهدمت عروش الباطل وأهله، فقد مضت سنة الله في كونه أن كان أئمة البدعة والانحراف والزيغ في سائر أمم البشر وعبر جميع أعصار المعرفة البشرية قاطبة، يتعلقون ببعض الأدلة ويتركون بعضها، لموافقتها أهواءهم وأغراضهم، يعتقدون أولا ثم يرومون الاستدلال لما اعتقدوه! فلا يسلكون سبيل الحكماء في صنائع العلوم من جمع سائر ما يرقى للدلالة في المسألة المنظورة، للنظر في كيفية استخراج الدلالة من مجموع الأدلة على نحو ما يشهدون على أنفسهم بوجوبه في حق كل ناظر، وإنما يقتصرون على دليل ما أو على فئة من الأدلة بعينها دون غيرها، وقد عرفوا – من بعد جهل أو من بعد إصرار على اتباع الهوى – أن ما معهم من أدلة لا يكفيهم ولا يقيم لهم حجة فيما يدعون. وإنما أصروا على غمط الحق والتنكر لما عند مخالفهم من الأدلة، والعمل على توهينها والتنقص منها بلا بينة ولا برهان، لأنهم عرفوا – بل تيقنوا – أن في تلك الأدلة ما يهدم لهم دعواهم المنحرفة، ويثبت بطلان ما عقدوا لأنفسهم من معاقد الاعتقاد والدين ويذهب ما جمعوا لأنفسهم من ثناء الخلق والتصدر بين العامة والجاهلين.
وقد عرفنا من صنوف ذلك وألوانه في أهل الملل والنحل في هذه الأرض ما تطفح به كتب التاريخ وكتب العقائد والفلسفات، وقد رأينا منه في أمتنا في أهل القبلة كذلك في طوائف أهل البدع، كما جرت سنة الله في سائر الأمم، على درجات ومراتب شتى يعرفها أهل العلم والتحقيق من لحون أصحابها، يميزونها في أقوال الناس كما يميز الصائغ المحنك بخس الجواهر من نفيسها.
فمن ذلك أنك ترى سائر طوائف المبتدعة من أهل القبلة يتمسك كل فريق منهم بشطر من النصوص في باب بدعتهم ويهمل أو يتأول ما سواها على غير وجهه الصحيح، فمنهم من بلغت مخالفته وبدعته أن رد شطرا من مصادر تلقي التشريع التي لا حجة لمن ردها البتة، لأنه لا تستقيم له بدعته إلا بذلك، ولو أنهم تجردوا من هوى النفس لجمعوا سائر أدلة الباب إلى بعضها البعض ولبرأوا من تلك البدع!
ومن ذلك أنك ترى النصارى يفترقون ويختلفون فيما بينهم على ملل وطوائف شتى، يتنازعون في تفاصيل الأقنوم وحقيقته، وفي علاقة الروح القدس بالآب والابن، وفيما إذا كانت الروح قد انبثقت من الآب وحده أم من الآب والإبن جميعا، وفي طبيعة العلاقة بين اللاهوت والناسوت، وغير ذلك مما لا أثارة عليه من دليل أصلا (إلا ما اصطنعوا لأنفسهم من شبهات الأدلة الكلامية)، وهم يتغافلون في ذلك كله – عمدا لا جهلا – ما يضج به العقل السوي من فساد معنى الثالوث نفسه بالأساس!! فما الذي أعمى أبصارهم عن فساد معناه وهو أساس ملتهم، وما الذي حملهم على التعامي عن حجة البطلان العقلي الدامغة لأصول ملتهم والاشتغال بالظنيات في فروعها؟؟ إنه الهوى، لا معبود لهم بحق سواه! وإلا فهل يستقيم – بالعقل المجرد - نصب الدلالة انتصارا لأي من تلك المواقف بإزاء حقيقة الأقنوم وعلاقته بغيره من الأقانيم، والاشتغال بذلك والتنازع فيه، مع تغافل البطلان العقلي البين لمعنى الثالوث نفسه؟ كلا ولا شك، ولكنها الرسوم والتقاليد الكنسية، وحب السيادة والتسلط على الخلق بالمنصب الكهنوتي! يجب أن يكون هذا القدر من الدلالات والتأويلات المتفق عليه بين أتباع تلك النحلة هو الحق ولا حق سواه، ويجب أن يرام التفلسف بشتى ضروبه وصوره ووسائله، لإبطال كل دليل على خلاف ذلك أيا ما كان نوعه، وإن كان من قطعيات وضروريات العقول السوية، وقد ألفوا في ذلك – تماما كما صنع غيرهم - مئات المجلدات عبر القرون، يقولون على الله الكذب وهم يعلمون! أويحسبون أن الله يفلتهم؟
تراهم يختلفون في قضية سلطة الكنيسة التشريعية بين طائفة ترى أن الكنيسة تتحرك بتوجيه خفي من الروح القدس، فكل ما تشرعه من رسوم وتراتيب وشعائر وشرائع إنما هو من الرب، بما في ذلك اختيار النصوص القانونية للكتاب المقدس نفسه، الذي منه يستدل هؤلاء على أن الروح القدس هي التي تحركهم في ذلك كله (وتأمل الدور في الاستدلال)!! وفي المقابل طائفة أخرى تقول إن هذا الزعم إنما هو من تأويلات الكهنة الباطلة وأن الكتاب المقدس يخلو من تلك المناصب والرسوم الكنسية التي اخترعها هؤلاء وتوارثوها جيلا بعد جيل، وأنه بريء من وثنيات التقليد الكنسي وتقديس البشر ورفعهم إلى تلك المراتب التي يرفعونهم إليها وما إلى ذلك! فإذا ما نظرت إلى هذا النزاع لم يسعك إلا أن تتساءل، كيف غفل هؤلاء المتنازعون جميعا عن حقيقة أن ما يسمى بالكتاب المقدس – نفسه – الذي به يستدل كلا الفريقين، إنما قام بتقنين ما فيه من النصوص آباء الكنيسة القدماء بالأساس، تلك الكنيسة نفسها التي ينشق هؤلاء عنها، فإنهم هم الذين نظروا في النصوص وقالوا هذا كلام الله وهذا ليس بكلام الله، وفقا لاعتقاد كانوا قد أبرموا الاتفاق عليه مسبقا كما هو معلوم! فالشاهد أن تلك الطائفة المنشقة من المعترضين (البروتستنت) لو صدقوا في طلب الحق لشهدوا بأن كتابهم الذي بين أيديهم لا يصلح للاستدلال في تلك المسألة أصلا، لأنه من جمع وتقنين مخالفيهم، ولشهدوا – من باب الأولى، وللحجة الأظهر - ببطلان تلك الأسس الفلسفية التي تمسكوا بها في ملة النصرانية نفسها (كالتثليث والبنوة والخطيئة الأصلية والفداء وغيرها)، وبضرورة الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والدخول في دينه، ولكنها الأهواء عند أولئك كما عند هؤلاء!
إنهم يعلمون جميعا أنهم ليسوا على شيء من اليقين، ولكنهم يكابرون! كيف "تستيقن" نفس مستقيمة سوية من ملة تقوم بأكملها على الاعتقاد في أن الواحد هو عينه الثلاثة، والثلاثة (هم/هو) الواحد، وفي أن الرب نزل في رحم امرأة ثم اختار أن يصلب نفسه حتى يغفر للناس خطيئة لم يشهدوها أصلا ولا يد لهم فيها؟؟ لا يمكن أن يقوم في قلوب أتباع تلك الملة يقين ولا قريب منه أصلا! وبعيدا عن الحيل النفسية والتخريجات الشيطانية لتبرير الذات التي يلبس بها كل منهم على نفسه ليقنعها بأنه على الحق، فإن الشاهد هنا أن اليقين لا يقوم عند من يعلمون أن عقيدتهم في الخالق وفي سائر أمر الغيب تقوم على أمثال تلك المعاني الفاسدة! ونقيض اليقين هو الشك، وهو علم الإنسان بأنه لا تستقر نفسه على دليل يرضاه في هذه المسألة أو تلك، أو بعبارة أقرب، هو إدراكه لأن ما معه من الأدلة لا يرقى لتحقيق العلم (أو ما يلزم تحقيقه من الثقة فيما ذهب إليه وقال به). والعبرة في ذلك بالوقوف على ما يكفي من الأدلة لسد باب الشك وتحقيق العلم الموجب للعمل، سواء كان الموقوف عليه دليلا واحدا أو عدة أدلة، وسواء كان الدليل قطعيا أو ظنيا. والنصارى في الحقيقة – وغيرهم من أصحاب الملل الباطلة والمحرفة – منهم من هو متشكك ولكنه يتحايل على ذلك الشك في نفسه بتخريجات تأويلية وأباطيل فلسفية شتى يسعى حثيثا لرفعها في نفسه – وهما وخداعا - إلى درجة ترقى بها لدفع ما هو ظاهر له من بطلان أصول تلك الملة التي هو عليها هو وأهله وجميع من يحبهم من حوله، ومنهم من هو عليم خبير ببطلان تلك الملة ووهاء سائر تلك التأويلات والأباطيل التي يتعلق بها العوام منهم، ولكنه يكابر ويصر على ما هو عليه طمعا في المنصب والمنزلة والوجاهة الاجتماعية.
ولهذا فإنك ترى النصارى إذا ما جادلوا الملاحدة في إثبات وجود الخالق، سرعان ما ينقلب سحر حججهم عليهم، وبعدما تسمع كلاما قويا دامغا في إبطال فلسفات الإلحاد، تنتشي له نفس كل عاقل معافى من داء الجحود والإلحاد، تراهم ينتصرون لملة ظاهرة الفساد، فيظهر عليهم خصومهم حينئذ ويدحضونهم دحضا! فماذا تراهم يصنعون والحالة هذه؟ لا يجدون إلا التكثر من الأدلة الظنية حتى وإن كانت من جنس ما يتكثر منه مخالفهم ليستجمعوا لأنفسهم ما يظهر أنه حجة لهم لا على وجود الخالق – فإن وجوده قطع عقلي لا ريب فيه – وإنما على صحة ملتهم بعينها وكتابهم بعينه! ولو كان دينهم يستقيم له أساس من البرهان القطعي الدامغ لما احتاجوا إلى تلك الألاعيب أصلا! تراهم يستجمعون الأدلة الأركيولوجية – على سبيل المثال - لإثبات وقوع القصص الإنجيلية والتوراتية ويسعون في ذلك سعيا حثيثا، لعلهم تقوم بين أيديهم لكتابهم حجة يرتضونها هم أولا قبل خصومهم! أفلو كانوا يستطيعون إثبات صحة النص المنقول إليهم بطرائق الاستدلال التاريخي المستقيم، بما يدفع أي شك أو احتمال في صحته وأصالته، أفكانوا يلجئهم الحجاج إلى أمثال تلك الطرائق؟ لو كانوا حقا على قناعة بما يزعمونه من كون نصوصهم منقولة إليهم بالتواتر المتصل من زمان نبي الملة نفسه، أفكنت تراهم يضطرون إلى سلوك تلك المسالك على نحو ما يصنعون؟
إن فاقد الدليل القطعي اليقيني – فضلا عمن علم بضرورة العقل بطلان ملته - لا يملك إلا التكثر من كل ما يمكنه جمعه من قرائن أو استدلالات ظنية تعضد موقفه، مهما كان تأويله لتلك القرائن بعيدا وواهيا! ولهذا السبب ظهر عندهم من الأصل ما يسمى بفلسفة اللاهوت، للتكثر من (الأدلة) الفلسفية التي يرجو علماؤهم أن يكون فيها إسكات للعوام وإظهار لما يرجى عند اجتماع بعضه إلى بعض أن يرقى لدفع الاعتراضات العقلية الدامغة على أصول ملتهم!! وهكذا كانوا ولا يزال دأبهم في كل عصر، كلما ظهر لهم ما تظهر فيه شبهة دليل على صحة ملتهم، أفاضوا فيه واعتنوا بإظهاره أشد العناية. وقد كانوا ولا يزالون يستحلون التلاعب بتأويلات نصوصهم إلى حد نسبة جملة كبيرة منها إلى المجاز بغية تحقيق تلك الغاية! لسان حالهم يقول: إن كان الغالب في زماننا فلسفة اليونان وعبدة الأوثان، فلنثبت أن نصوصنا وأصول ملتنا على وئام معها، وإن كان الغالب غير ذلك (وهو العلم الطبيعي في هذا الزمان) فلنطبعها بذاك الطابع! المهم أن يكون لدينا في كل زمان من (الأدلة) على صحة هذه الملة ما يناسبه ويبقي المؤسسة الكنسية فيه حيث ينبغي أن تكون عند الناس!
ولهذا السبب نفسه، اجترأ ملاحدة هذا الزمان – جحودا منهم واستكبارا على قبول القطع العقلي والنقلي الجلي الذي عندنا معاشر المسلمين من بعد ما تبين لهم – على الزعم بأن أهل الدين (بهذا الإطلاق) لا يملكون إلا أدلة ظنية تتنازعها أدلة ظنية مثلها أو أقوى منها، يرتكنون عليها لإثبات صحة عقائدهم وكتبهم، والفرق في زعمهم أن ظنياتهم قد صارت اليوم تقوم عند أهل العلوم المادية على التجريب والحس، بينما ظنيات مخالفيهم من أهل الملل تقوم على الأسطورة والخرافة التي لا يثبتها التاريخ نفسه، فهي مقدمة عليها بإطلاق! ولهذا تشعب النزاع بين النصارى والملاحدة على نحو ما نراه واقعا بين من يسمون بالخلقيين من النصارى ومن يسمون بالداروينيين من الملاحدة (وسائر ملاحدة العصر من هؤلاء). فقد استدرج الملاحدة هؤلاء المساكين إلى دائرة الدلالة الإمبريقية والحسية في أصل النزاع بينهما، حتى صار معنى الخلق نفسه مجرد نظرية من نظريات الأحياء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!! ومهما صاح الملاحدة في وجوههم بأنه لا يصح إدخال هذا المعنى في دائرة علم الأحياء – وصدقوا، ومثله ينسحب على كل ما يخوضونه هم في الانتصار لإلحادهم بأدلة العلم الطبيعي كذلك – تراهم لا يتنازلون عن ذلك المسلك. وما ذلك إلا لأنهم فاقدون كما أسلفنا لما يستندون إليه من قطعيات دامغة تثبت لهم صحة دينهم (الذي علموا بطلانه في أنفسهم)، وتقطع السبيل على المنازع الجاحد لاتخاذ بطلان الملة تكأة للوصول إلى التشكيك في وجود الخالق نفسه!! ولو أنهم وجدوا عندهم مثل ذلك الدليل القطعي، لاقتضى العقل منهم أن يحسموا به النزاع من أصله، وألا يستدرجوا إلى كل هذا التراشق بالظنيات الواهية التي خاضوا فيها مع خصومهم خوضا كبيرا!
وفي الحقيقة فقد تفطن قليل من عقلائهم من المعاصرين إلى أن ساحة النزال الحقيقية فيما بين الفريقين إنما هي في فلسفة الاستدلال العقلي نفسه وليس في دائرة الأحياء أو الجيولوجيا أو غيرها من الدوائر المعرفية الضيقة! ولكن الشأن أن هؤلاء إن اتُفق لهم أن وُفقوا في إبطال دعاوى الإلحاد بالحجج العقلية، فإنهم بطبيعة الحال لا تقوم لهم قائمة في إثبات صحة ملتهم التي يدينون بها، وعندئذ تدور الدائرة عليهم!
في مناظرة علنية أقيمت في سنة 1998 ميلادية بعنوان (ما الأدلة على/ضد وجود الله)، بين عالم اللاهوت الفلسفي النصراني الأمريكي ويليام لين كريج، وعالم الكيمياء الانكليزي الملحد بيتر أتكينز (وهي منتشرة على مواقع الفيديو على الانترنت كموقع يوتيوب وغيره)، أراد أتكينز التدليل على بطلان وجود الخالق جل وعلا، فعمد إلى الجمع بين دليلين (في زعمه أنهما كذلك)، فقال (وما بين المعقوفين من تعليقي): "لو أننا جمعنا بين حقيقة أن سبب ظهور الإيمان عند الناس (وفقا للتفسير الدارويني) هو أنهم كانوا يحتاجون وبشدة إلى الإيمان بوجود إله، وحقيقة أننا الآن نعلم (وبسبب نظرية داروين أيضا!!) أننا لا نحتاج في الحقيقة إلى الاعتقاد في وجود إله، فإن هذا سيقيم لنا حجة – نوعا ما – ضد وجود الإله!" فيجيبه كريج قائلا: "إن هذا ضرب من ضروب المغالطة الواضحة حيث تزعم أن بمحاولة تفسير كيفية ظهور الإيمان وسببه عند الناس، يمكنك إثبات بطلان الإيمان نفسه"، فيقاطعه أتكينز ويقول: "ولكن هذا ليس إلا شطرا من الحجة! لست أقول إن هذا وحده كافيا، ولا بأن حقيقة كون العلم Science (يعني العلم الطبيعي أو المادي عموما) قادرا على تفسير أي شيء وكل شيء وحدها كافية، ولكن إذا جمعنا بين المعنيين - أي حقيقة أن العلم تام القدرة (أي أنه قادر على تفسير كل شيء) وحقيقة أنني يمكنني أن أفهم لماذا يريد الناس من أمثالك (مخاطبا كريج) وباستماتة أن يتمسكوا بالإيمان بوجود الإله - فإنه تصبح لدينا حجة ظاهرة ضد وجوده!" فيجيبه كريج قائلا: "ولكن لو جمعنا دليلين باطلين إلى بعضهما البعض فإننا لا ننتهي بذلك إلى حجة مستقيمة!" وهنا يقاطعه أتكينز قائلا: "إذن فهل تنكر أن العلم يمكن أن يفسر كل شيء؟" فيجيب كريج: "نعم أنكر هذا" فيقول أتكينز: "فأي شيء هذا الذي لا يمكن للعلم أن يفسره؟" ويجيب كريج: "حسنا، بما أنك أثرت هذا الأمر فقد كان لدي عدد من الأمثلة أريد ضربها على ذلك، فإنني أعتقد أن هناك عدد كبير من الأمور التي لا يمكن إثباتها أو تفسيرها بالعلم الطبيعي ولكنها جميعها صحيحة ومقبولة عقلا، دعني أذكر منها خمسة أمور فقط، أولا: الحقائق المنطقية والرياضية لا يمكن إثباتها بالعلم الطبيعي، وإنما يقوم العلم الطبيعي عليها أصلا، ومن ثمّ فإن محاولة إثباتهما من خلال العلم الطبيعي لا تفضي إلا إلى الدور المنطقي! وثانيا: الحقائق الماورائية كحقيقة أن هناك عقولا أخرى بخلاف عقلي، أو أن العالم الخارجي حقيقي، أو أن الكون لم يظهر في الوجود قبل خمس دقائق فقط، هذه حقائق عقلية لا يمكن إثباتها بالعلم الطبيعي! وثالثا: العقائد الأخلاقية والقيمية ليست خاضعة للبحث من خلال طرائق العلم الطبيعي، فلا يمكنك أن تثبت من خلال العلم الطبيعي أن العلماء النازيين قد قاموا بشيء من أعمال الشر مقارنة بعلماء الديمقراطية الغربيين في زمانهم! ورابعا: الأحكام الجمالية لا يمكن التعامل معها من خلال أداة العلم الطبيعي، لأن الشيء الجميل والشيء الحسن لا يمكن إثبات تلك الصفة فيهما بطرائق العلم الطبيعي. وخامسا وأخيرا، وهو الأهم عندي، العلم الطبيعي نفسه، فإن العلم الطبيعي لا يمكن إثبات جدواه وتبرير وجوده من خلال العلم الطبيعي... !"
وأقول إن جواب كريج جواب جيد لذلك المكابر الجهول كما هو واضح، لا يملك له ردا، وقد أحرجه في تلك المناظرة وأسكته في غير موضع! والحقيقة أنه كان يغنيه عن ذلك كله أن يثبت للملحد وقوع الدور المنطقي في حجته الواهية تلك – فضلا عن المكابرة الواضحة لمضادة ضرورة العقل وقطعيته بمثل هذه الأوهام الداروينية – حيث يشيد حجته كلها على نظرية يفترض أنه في مقام الاستدلال العقلي لها لا بها، إذ هي تحتاج إلى دليل قطعي تام يرفعها لمنزلة مقابلة الضرورة العقلية لوجود الخالق! وعلى أي حال فقد أحسن كريج الجواب كما أسلفنا، ولكن المشكلة تأتي والتناقض يظهر عندما يقال لكريج نفسه: إن كنتَ أيها العاقل على هذا القدر من الإلمام بطرائق الاستدلال العقلي الفلسفي، والإقرار بوجوب احترام ضروريات العقل عند المحاججة الفلسفية وبطلان تقديم الظنون – فضلا عن الأوهام والخرافات - عليها، فبأي حجة من حجج العقل إذن تمسكتَ بخرافة الثالوث – على سبيل المثال – وجئت تدعونا إلى الإيمان بها على ما تضج به من الفساد والبطلان العقلي اللغوي والرياضي المحض؟؟ إن كنت تريد الحق حقا، فكيف لا تجمع – لنفسك في دينك – بين الإيمان بالضرورة العقلية لوجود الخالق (الذي تنافح عنه الآن بحجة ظاهرة لا ناقض لها)، والبطلان الضروري الظاهر لقولهم (ثلاثة) والضرورة العقلية الدامغة لتنزه هذا الخالق – سبحانه - عن الولد وعن الصلب والفداء وغيره مما تقوم عليه تلك الملة التي ارتضيتها لنفسك؟؟ كيف ارتضيت لنفسك في إيمانك الجمع بين هذه المتناقضات؟
فالحاصل أنه هو كذلك من أتباع الهوى، تماما كخصمه الملحد، وإنما انحصر الفرق بينهما في أن أحدهما أقرب إلى الحق من صاحبه، ولله في قلوب عباده شؤون!!
................