" " " حكم الأخذ بالحساب الفلكي في دخول رمضان والخلاف فيه " " "
قبل حلول شهر رمضان من كل عام , يثار موضوع الحساب الفلكي في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى ,ولأهمية هذه المسألة في حياة المسلم عزمت على كتابة بحث مختصر يشتمل على كلام أهل العلم في هذه المسألة , فأقول _ وبالله التوفيق _
حكى غير واحد من أهل العلم : " الإجماع على عدم اعتبار الحساب الفلكي في دخول الشهر وخروجه " فمن أولئك العلماء :
1- ابن المنذر : قال ابن حجر في الفتح ( 4 / 147 ) : " وقال ابن الصباغ أما بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا , قلت _ القائل ابن حجر _ ونقل ابن المنذرقبله الإجماع على ذلك فقال في الإشراف : صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة , وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته ,هكذا أطلق ولم يفصل بين حاسب وغيره , فمن فرق بينهم كان محجوجا بالإجماع قبله .
2- ابن تيمية : قال في مجموع الفتاوى ( 25/132( : ( فانا نعلم بالاضطرار من دين الاسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم او الحج او العدة او الايلاء او غير ذلك من الاحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لايرى لايجوز والنصوص المستفيضة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة , وقد أجمع المسلمون عليه ولايعرف فيه خلاف قديم أصلا ولا خلاف حديث , إلا أن بعض المتاخرين من المتفقهة بعد المائة الثالثة زعم انه اذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب فان كان الحساب دل على الرؤية صام والا فلا وهذا القول وان كان مقيدا بالإغمام ومختصا بالحاسب , فهو قول شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه ,فاما اتباع ذلك في الصحو او تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم ) .
3- أبو الوليد الباجي : قال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 4 / 152 ) : وقد ذهب قوم الى الرجوع الى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض , ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم , قال الباجي وإجماع السلف الصالح حجة عليهم ._ يعني أهل الحساب _.
4 – القرطبي في تفسيره ( 2 / 293 ) حيث قال : " وذكر الداودي أنه قيل في معنى قوله " فاقدروا له " أي قدروا المنازل , وهذا لا نعلم أحدا قال به إلا بعض أصحاب الشافعي أنه يعتبر في ذلك بقول المنجمين , والإجماع حجة عليهم " .
وقد حكي خلاف شاذ في هذه المسألة عن بعض أهل العلم ,واليك بيان ذلك :
أولا : مطرف بن عبدالله بن الشخير : وكان من كبار التابعين ,وقد نسب هذا القول اليه جمع من العلماء , منهم : النووي في المجموع ( 6 / 276) والقرطبي في تفسيره ( 2 / 293 ) والحافظ ابن حجر في الفتح ( 4 / 146 ) ,
قال ابن تيمية ( 25 / 182 ) : " وقد قال محمد بن سيرين : " خرجت في اليوم الذي يشك فيه فلم ادخل على أحد يؤخذ عنه العلم الا وجدته يأكل الا رجلا كان يحسب ويأخذ بالحساب , ولو لم يعلمه ( قلت هكذا في الأصل ولعل العبارة " يعمله " ) كان خيرا له , وقد قيل إن الرجل مطرف بن عبدالله ابن الشخير وهو رجل جليل القدر , الا أن هذا إن صح عنه فهي من زلات العلماء" .
وقد نقل ابن عبدالبر : كلام ابن سيرين هذا في الاستذكار ( 3 / 287 ) . وقال في التمهيد ( 14 / 352 ) : " روى عن مطرف بن الشخير وليس بصحيح عنه, ولو صح ما وجب اتباعه عليه لشذوذه فيه ولمخالفته الحجة له . ونقل الحافظ ابن حجرتضعيف ابن عبدالبر لأثر مطرف كما في الفتح ( 4 / 146 ) .
ثانيا : الشافعي :
قال ابن رشد في بداية المجتهد ( 2 / 557 ) : (حكى ابن سريج عن الشافعي أن من كان مذهبه الاستلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين له من جهة الإستدلال أن الهلال مرئي وقد غم فان له أن يعتقد الصوم ويجزئه(وقد أنكر ابن عبدالبر في الاستذكار ( 3 / 287 ) : نسبه هذا الى الشافعي , حيث قال : " الذي عندنا في كتبه أنه لا يصح اعتقاد رمضان الا برؤية فاشية أو شهادة عادلة , أو إكمال شعبان ثلاثين يوما " .
و قال ابن تيمية ( 25 / 182 ) : ( وهذا باطل عن الشافعي لا أصل له عنه , بل المحفوظ عنه خلاف ذلك كمذهب الجماعة , وإنما كان قد حكى ابن سريج وهو كان من أكابر أصحاب الشافعي نسبة ذلك اليه , إذ كان هو القائم بنصر مذهبه ) .
وقال ابن العربي في أحكام القرآن ( 1 / 82 ) : وقد زل أيضا بعض أصحابنا فحكى عن الشافعي أن قال : يعول على الحساب , وهي عثرة لا لعا لها .
وقال ابن حجر في الفتح ( 4 / 146 ) : ونقل ابن خويز منداد عن الشافعي مسألة ابن سريج , والمعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور .
و كما ترى أن العلماء أنكروا نسبه هذا الى الشافعي ,وقرروا أن هذا غلط على الشافعي في مذهبه , وأن نصوصه صريحة في عدم اعتبار الحساب الفلكي في ذلك .
ثالثا : أحمد ابن سريج :
وقد اشتهر هذا القول عنه , وعزاه اليه كثير من العلماء , منهم : القاضي عياض في مشارق الأنوار ( 2 / 173 ) وتعقبه بقوله " ولم يوافقه الناس على هذا " . والبغوي في شرح السنة ( 6 / 230 ) .و النووي في المجموع ( 6 / 276 ) ,و ابن حجر في الفتح ( 4 / 146 ) .وأومأ اليه ابن العربي في أحكام القرآن ( 1 / 82 ) فقال : وقد زل بعض المتقدمين فقال : يعول على الحساب بتقدير المنازل .
وأطال في عارضة الأحوذي ( 3 / 208 ) :في مناقشة قول ابن سريج , وقال بعد ذلك " إن هذا لبعيد عن النبلاء فكيف بالعلماء " .
وقال شيخ الإسلام ( 25 / 182 ) : وقد حكى هذا القول عن أبي العباس بن سريج أيضا . وقال الشيخ محمد بن ابراهيم في فتاويه ( 4 / 151 ) : _ في الصيام بالحساب _ : وهوقول في مذهب الشافعي وأظنه اختيار ابن سريج , ولكن القول عندهم كغيرهم , . . . . , من أنه لا صيام الا بالرؤية .
رابعا : ابن قتيبة :
قال ابن عبدالبر في التمهيد ( 14/352 ) : (قال ابن قتيبة : في قوله " فاقدروا له " فقدروا السير والمنازل وهو قول قد ذكرنا شذوذه ومخالفة أهل العلم له ,و ليس هذا من شأن ابن قتيبة ولا هو ممن يعرج عليه في هذا الباب )
ونسب النووي هذا القول اليه كما في المجموع ( 6 / 276 ) وكذا نسبه اليه القرطبي في تفسيره ( 2 / 293 ) , ونسبه اليه أيضا ابن حجر في الفتح ( 4 / 146 ) .
وقال ابن الملقن في الإعلام ( 5 / 175 ) في معرض رده للقول بالحساب : وقال مطرف بن عبدالله وابن سريج وابن قتيبة وآخرون من المالكية وغيرهم : معناه قدروه بحساب المنازل الذي يراه المنجمون , وهو ضعيف جدا لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم فإن ذلك لا يعرفه إلا أفراد , والشرع إنما تعرف اليهم بما يعرفه جماهيرهم .
وقال ابن عبدالبر في التمهيد ( 14 / 352 ) : " وهو مذهب تركه العلماء قديما وحديثا للأحاديث الثابته عن النبي صلى الله عليه وسلم " صومو لرؤيته وأفطروا لرؤيته , فإن غم عليكم فأتموا شعبان ثلاثين " , ولم يتعلق أحد من فقهاء المسلمين فيما علمت باعتبار المنازل في ذلك الا ما روى عن مطرف بن الشخير " .
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة (10/106-107) _ في معرض جواب على سؤال في هذا الموضوع _ , ما نصه :
(( صوموا لرؤيته ، وافطروا لرؤيته)) الحديث .
فعلَّق صوم شهر رمضان والإفطار منه برؤية الهلال ، ولم يعلِّقه بعلم الشهر بحساب النجوم ، مع علمه تعالى أنَّ علماء الفلك سيتقدَّمون في علمهم بحساب النجوم ، وتقدير سيرها ؛ فوجب على المسلمين المصير إلى ما شرع الله لهم ، على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلَّم ؛ من التعويل في الصوم والإفطار على رؤيةالهلال,وهوك لإجماع بين أهل العلم ، ومن خالف في ذلك وعوَّل على حساب النجوم فقوله شـاذ لا يعوَّل عليه .وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
وقد صدر بيان من هيئة كبار العلماء بالمملكة بإجماع الأعضاء بعدم اعتبار الحساب الفلكي في المسائل الشرعية , كما تراه في البحوث العلمية للهيئة ( 3 / 34 ) , وفي فتاوى اللجنة الدائمة ( 10 / 111 ) .
فخلاصة القول : " أن الإجماع قائم على عدم اعتبار الحساب في ثبوت دخول الشهر , وأما ما روى عن مطرف فلا يصح عنه ,وما روى عن الشافعي فهو غلط عليه , والثابت عن ابن سريج وابن قتيبة فهو من زلات العلماء التي لا يتابعون عليها , والله أعلم "
وليعلم بأن إصابة الحق أحيانا في كلام أهل الفلك لا يدل على صحة استدلالهم ,
فقد قال ابن قدامة في المغني ( 3 / 9 ) : ولم بنى على قول المنجمين وأهل المعرفة بالحساب فوافق الصواب لم يصح صومه , وإن كثرت اصابتهم , لأنه ليس بدليل شرعي , يجوز البناء عليه ولا العمل به , فكان وجوده كعدمه .
وقد ظهر قول آخر لبعض فضلاء زماننا بأن الحساب الفلكي لا يؤخذ به في اثبات دخول الشهر وإنما يؤخذ به في نفي ولادة الهلال , فإذا نفى أهل الحساب دخول الشهر يقدم قولهم على قول الشهود , ويحكى هذا القول عن السبكي وغيره ,و قد نصرهذا القول بعض فقهاء الشام , ولمناقشة هذا القول مبحث آخر . والله الموفق للصواب , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
حرر في عصر الجمعة
18 / 8 / 1428