كنتُ على سبيل الطرفة (وربما الجِد) أردِّد كثيرًا لمن يطارحني الحديث في مناسبات عديدة = أنَّ الحاجة ملحَّة والدَّين في أعناقنا معلَّق بشأن تذييلات على كتب الأقدمين، كالبخلاء للجاحظ، والحمقى المنسوب لابن الجوزي..
قد عَبَرت مرَّةً على بقَّالٍ كان في حيٍّ قديمٍ أسكنه من زمنٍ مضى فما أن وقعت عيناه عليَّ حتى جعل يستغيث بي، من زبونٍ أضجره وأشغله.. ويترجَّاني أن أصلح بينه وبين هذا الزبون!
قلت: مهْيَم؟!
قال: هذا الشيخ الكبير.. انظر إليه وافرق بيننا!
فدَلَفْتُ إلى البقالة فإذا شيخٌ قد تخطى عقده الخامس، كنت أراه في الحيِّ دومًا، على محياه تاج وقار، و«يظهر» من قسمات وجهه العقل والرزانة.. لولا ما رأيتُ!
وإليكم المشهد..
شيخٌ جالسٌ متربعًا على أرض البقالة، قد فتح ثلاجةً رصَّت فيها دجاجات مبرَّدة، متَّحدة الوزن كما يلوح من المطبوع على غلافها، ويظهر ذلك من نظر العين بادي الأمر.. وقد نثر تلك الدجاجات على أرضها، وجعل يزنها بيَدَيه واحدةً واحدةً.. ليحصل له «حق اليقين وعينه» بأثقلها وزنًا فيظفر بها ولا يغبن..
ولعلَّ شكَّه في الشركة المصدِّرة للدجاج تعدَّاه إلى شكٍّ في جودة ميزانه.. فصار يشكُّ في دقَّة عمل يدَيه عمل الميزان.. يضع الأولى في اليمنى والأخرى في الأخرى ثم يراوح بينهما ويهزُّ رأسه ويقلِّب عينيه ويقطِّبها.. ثم يضعهما جانبًا.. ويأخذ اثنتين..
وكأنَّ تقطيبه عينيه يشبه ما ذكره أبونواس عن الفضل:
رأيتُ الفضلَ مُكتئبًا يُناغي الخُبزَ والسَمَكا
فَقَطَّبَ حين أبصَرَني ونكَّسَ رَأسَه وبَكَى
فلمَّا أن حَلَفتُ له بأنِّي صائمٌ ضَحِكا!
لكن صاحبنا كان يناغي الدجاج ..
وهكذا.. كلما انتهى من وزنها، واطمأنَّت نفسه إلى رجحان بعضها على بعضٍ أعاد الكرَّة.. بتسلسل حوادث لا آخر لها!
حتى صار محتارًا لا يدري أين وجه الحق!
قال لي البقَّال: هذه حالُهُ من ساعة! وحجَّته أنَّ له الحق في التوثق من البضاعة؛ لأنه سيدفع مالًا تعرَّق له وكد، وقطع به القفار وجد، فكيف يعتق من كيسه دون حساب وعَدِّ.. وعدٍّ.. وعَد..!
لا ينفذُ الزِّئبق من كفِّه ولو ثقبناه بمسمارِ!لم يكمل حديثه حتى وقعت عينا الشيخ عليَّ متقدة شررًا.. إذ أحسَّ بمؤامرة تدور خلفه، وشكوى ظالمة ترفع ظلمًا ضدَّه..
نظر إليَّ نظرات حقد ممزوجةٍ بازدراء وغضب واستياء و«تهديد من اللقافة».. وأشياء أخرى قد لا أستوعبها!
كانت تلك النظرات النارية الخاطفة رسالة كافية «لأقلب وجهي بأسرع سرعة» وانصرف راشدًا سالمًا.. فمالي وللدجاج.. فمن يدري لعل الشركة كاذبة مخادعة.. ولعل الشيخ محق.. ولعل.. ولعل.. أعلل النفس وأخادعها بلا مقنع!
مع ضميمة أن عيني لم تغفل عصاه التي جثمت بجانبه كأنها ليث هصور، أوكلب عقور.. والتي يتوعَّد بها من يتطفَّل على عاداته المُثْلى مِثْلي.. ولا أدري هل علا بها هام أحدٍ قبلي؟!
وبعد دراسة الأمر وتقليب الرأي.. وعلى كلٍّ.. فلستُ حقل تجربةٍ لردَّة الفعلِ.. من العصا وصاحبها..
«والسلامة لا يعدلها شيءٌ»..
وقد قال أبوالطَّيب:
الرأيُ قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثانيفلِمَ أقبل بالمحل الثاني؟! وأنا غير عاجزٍ عن المحل الأول!
ولم أر في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمامِ
نظر إليَّ البقَّال منتظرًا «فزعةً» وردَّة فعلٍ على بليَّته.. ولكن هيهات!
فـ«تجارب الحياة» أثبتت وأثمرت أن لا حلَّ مع لئيمٍ شابَ في بخله.. فأي موعظةٍ أونصيحة غيرمحفوفة بالمخاطر ألقيها على مثله..
قلتُ بلا تردد: أعانك الله على هذه المحنة! وشدَّ على يديك!
قال: وأنتَ؟!
قلت: أنا.. ! أنا..! أسأل الله أن يعينني على الهرب.. والحمدلله أن وهبني عقلًا أرشدني للهرب من الخطر..
ألقى الصَّحيفة كي يخفِّف رحله والزَّاد حتى نعله ألقاها !قال البقَّال: يا فلان.. حاول مرَّهْ تانيهْ..
ابتسمت.. لألملم خجلي من جُبني وأغطي بهذا وجه ذاك..
وقلت: إن شاء الله.. لكن.. مرَّهْ تانيهْ!
فغر فاه .. وقبل محاولة ثانية منه درت بجسدي 180 درجة..
أرسلت إليه على عجلٍ «السلام عليكم».. واختفيت..
وبعدُ.. هل ترجَّح عندكم تذييل كتاب على بخلاء الجاحظ؟
أوأزيدكم!