أخبرني صديقي الأثير الشيخ عبد الله الهدلق - قدس سره وجهره - بخبر موضوعه هذا , وأراد أن يخدعني عن عقلي لأشارك فيه , فيخف الناس إلى الموضوع زرافات ( بضم الزاي لا بفتحها , فإن الزرافة لم تكن بأرض العرب , والذي تحرر لي بعد نظر كثير في كتب اللغة والأدب أن الشاعر الحماسي قائل هذه الجملة الشهيرة لم يشاهد الأفلام الوثائقية عن حيوانات أفريقيا لأنه لم يكن يومئذ فضائيات , والظاهر أيضا أنه لم يكن الجهاز المسمى بالفيديو ) ووحدانا , بحثا عن تجربتي التي يتوقون للوقوف عليها , كما يفعل أولئك الذين يبتغون بتقديم الكبار لمؤلفاتهم وتحقيقاتهم الوسيلة إلى مخادعة القراء عن عقولهم , وقد انخدعت له كما انخدعت زمنا بتقديم أولئك .
فهاك يا صديقي هذه التجربة المثيرة , على غرار ما فعل أبو بكر بن عياش حين سأله بعض أصحابه أن يحدثه ، فقال : لا أفعل . فقال : حديث واحد . فقال : حدثنا مغيرة قال : « رأيت الشعبي يدحرج الدن » . قال الخطيب البغدادي : فانظر إلى نكد أبي بكر لما أضجره أصحاب الحديث ، وسألوه أن يحدثهم حديثا واحدا ، كيف حدثهم بما لا خير فيه ، ولا فائدة لمستمعيه !
ولا والله ما أحببت خلق أبي بكر بن عياش ولا خلق الأعمش , رحمهما الله .
كأن مقدمتي طالت قليلا , أشعر بذلك , فلندلف إلى التجربة ..
فرغ الإمام من صلاة الفجر , وعصافير الحرم تطير وتصوّت فوقنا ( تلك التي خدعونا ونحن صغار وقالوا : إنها لا تطير فوق الكعبة ) , فقال لي صاحبي : ألا تحب أن ترى الشيخ الذي حدثتك عنه فتسلم عليه وتستمنحه موعدا للقراءة ؟ , فقلت : اللهم نعم ( هذه ترجمتها بالفصحى , لأني قلت له وقتها : ايوه , وهو أيضا حدثني بنحو ذلك ) , وذهبنا إلى الشيخ ..
وجهه المضيء بنور الطاعة , وشيبته البيضاء التي تشي ببياض قلب صاحبها , وتجاعيد السنين السبعين , ملأت قلبي مهابة له وإجلالا , دنوت إليه وصافحته , عرَّفني صاحبي إليه ( طبعا لم يقل في تعريفه بي : سماحة الشيخ العلامة ... , لأنني لم أكن قد أصبحت كذلك وقتها ) , وطلبت إليه - متفاصحًا أقلقل الحروف في فمي لأشعره أنني طالب علم ذو سابقة في البصر بالعربية - أن يهبني وقتًا أقرأ عليه النحو , فيا لله ما أعذب نغمته في أذني وأنا أسمعه ينطق بإجابة مطلبي , " تجيء بعد صلاة الظهر هناك " قالها وهو يشير بيده إلى موضع ناحية باب المدينة ..
كان المسجد يغص بطلبة العلم , من المغرب والجزائر وليبيا ومصر والسودان , لهم دوي وهينمة وزجل , قبل أن تفرقهم أمور سيرويها التاريخ بعدنا , سقيا لتلك الأيام ..
ذهبت بعد صلاة الظهر إلى ذلك الموضع فألفيت الشيخ مضطجعا , فجلست إلى سارية قريبة أنتظر التفاتة منه , فلم يفعل , وطال انتظاري حتى تبينت أن الشيخ قد نام , فحملت نفسي وعدت إلى البيت , لن أزعم أنني عدت حزينا باكيا لفوات الدرس كما يقول في مثل هذا بعضهم , لأنني أعلم أنني سأعود في الغد إن شاء الله ..
وفي الطريق لقيت أحد طلبة العلم ممن أعرف من طلاب الشيخ , فحدثته بما جرى , فعاتبني وقال : هلا أيقظته من منامه , فأنكرت في نفسي مقالته بما استقر في فطرتي من مجانفة هذا الفعل للأدب , وتململت ولم أظهر من الموافقة على قوله ما يعجبه , فزاد من لومي وذكرني ووعظني وتلا علي ما تيسر له من النصوص والأبيات التي تحث على الصبر على العلم ..
الحق والحق أقول : إنه خدعني عن فطرتي وعقلي , فصدقت مقاله , وعدت في اليوم الثاني لأجد الشيخ مضطجعا نائما في موضعه كما كان في أمسه , فهممت أن أقوم وأرجع إلى البيت , لكن حديث صاحبي كان قد عمل عمله في خداع عقلي وفطرتي ( ألم أذكر ذلك قبل قليل ؟ ) , فاقتربت من الشيخ ورفعت صوتي بالسلام , فلم يرد , فتجاسرت ولمسته لمسا خفيفا فلم ينتبه , فتحامقت وهمزت رجله برفق , فاستوى جالسا ..
نظر إلي بعينين كأنهما لسانان ناطقان ( هل رأيت عيني ابن عثيمين حين يحدق بهما في عيني من يحاوره ؟ كأنهما هما , وأظن عيني ابن تيمية كانتا كذلك ) , فتلعثمت وسلمت , فرد السلام , فقلت ( ببراءة ابن السبعة عشر ربيعا ) : أريد القراءة عليك , فقال : ألم ترني نائما ؟ فقلت : بلى , وقد كنت أكره أن أوقظك ولكن صاحبي أمرني أن أفعل ! , فقال : أإذا أمرك أحد بسوء الأدب تطيعه ؟! , ثم أنشد :
ومن بشيخه استخفَّ يبلى .. بقصر العمر وأن يكلّا
منه لسانه إذا ما احتضرا .. عن الشهادة وينسى ما قرا
ها قد بدأ الدرس ( كذا قلت لنفسي ) .. أخرجت أوراقي ورحت أكتب البيتين يتنازعني - كتوجه العاملين إلى معمول واحد - شعور بالخزي من عملي وسوء أدبي وشعور بالفرح لهذه الفائدة , وكنت حينها مولعا بتقييد الأبيات الحاصرة ومقطعات النظم الضابطة للمسائل ( عادة تخلصت منها كذلك لاحقا ) .
غضب مني الشيخ يومها , فما زلت أراضيه وأريه من الصدق في الطلب بعد ذلك سنين عددًا حتى صرت من أحب طلابه إليه , وعاهدت نفسي يومئذ أن لا أترك ما علمته بالفطرة وأدركته بالذوق واختبرته بالعقل إلا ببرهان يقنعني بفساد هذين وتلك , ولو خالفني أهل الأرض ( هل لاحظت أنني قلت : " خالفني " , ولم أقل : " خالفت " ؟ هذا من تواضعي الذي فطرت عليه ) .
فحاذر أيها القارئ أن تغلب على عقلك وفطرتك وذوقك , ولا تفرط في إحسان الظن بكل من توسم بسيما العلم , فإن بعضهم أعيا من باقل , وأحمق من الممهورة إحدى خدمتيها , وأفسد ذوقا ممن يطرب لشعر العقاد .
وحسبي هذا من التماس العظة , فإني أريد أن أستبقي لك - أبا أحمد - ما تقوله إن سمت بك همتك يوما لتكتب في سيرتي كتابا وتعلق على هذه القصة الجليلة ..