من أخطر ما يصاب به طالب العلم او المبتدئ فيه وهو بمنزلة العامي ، تقليل شأن العلماء أو تهوين أمرهم ، ومن ذلك الجرأة باللسان والقلم على أقوالهم وأحكامهم ، ومحاولة تشويه أفكارهم وآرائهم ، بدون دليل أو حجة ، بل هو الهوى واتباع ما تشابه . وهذا شر كله ، وإفساد لشأن الأمة ، وهل الأمة إلا بعلمائها .
تنقص العلماء ، إهانة لهم ، وإهانتهم أشد إثماً من إهانة وإزدراء غيرهم ، فهو يتعدى إلى إهانة ما يحملونه من العلم ، وما يتمثلون به من الدين والخلق . ولذا يخشى على من أهان أهل العلم من حلول العقوبة المعجلة به ، لشناعة جرمه وعظيم جنايته .
قال الإمام الطحاوي ـ رحمه الله ـ في عقيدته (1/491) : « وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر, لا يذكرون إلا بالجميل ، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل ».
قال الشارح لهذه العقيدة صدر الدين محمد بن علاء الدين عليّ بن محمد ابن أبي العز الحنفي ، الأذرعي الصالحي الدمشقي (المتوفى : 792هـ) ـ رحمه الله ـ :
« قال تعالى: ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) [النساء 115]. فيجب على [كل] مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين ، كما نطق به القرآن ، خصوصاً الذين هم ورثة الأنبياء ، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم ، يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر , وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ، إذ كل أمة قبل مبعث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ علماؤها شرارها ، إلا المسلمين ، فإن علماءهم خيارهم ، فإنهم خلفاء الرسول من أمته ، والمحيون لما مات من سنته ، فبهم قام الكتاب وبه قاموا ، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا ، وكلهم متفقون اتفاقاً يقيناً على وجوب اتباع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ , ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه , فلا بد له في تركه من عذر , وجماع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها : عدم اعتقاده أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاله .
والثاني : عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول .
والثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ .
فلهم الفضل علينا والمنة بالسبق ، وتبليغ ما أرسل به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا، فرضي الله عنهم وأرضاهم .
( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) [الحشر: 10] » أهـ
فالواجب على من دون العلماء أن يجلوا العلماء ويبجلوهم لعلمهم وشيبتهم في السنة وأن تحترم أقوالهم وأحكامهم وأن تؤخذ بالقبول والرضى إلا ما خالف الكتاب والسنة ، فهم أعلم بدين الله وأفهم من غيرهم وممن جاء بعدهم .
والكلام في العلماء وانتقاصهم والسخرية من أقوالهم من سمات أهل الزيغ والبدع ، وأهل الكلام الذين يفضلونه على أقوال أهل الفقه والعلم :
ذكر الشاطبي في كتاب الاعتصام (2/741 ، 742 ) :
« وَرُوِيَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْيَسَعَ ، قَالَ : تَكَلَّمَ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ يَوْمًا - يَعْنِي الْمُعْتَزِلِيّ َ - فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ : أَلَا تَسْمَعُونَ ؟ مَا كَلَامُ الْحَسَنِ وَ ابْنِ سِيرِينَ - عِنْدَمَا تَسْمَعُونَ - إِلَّا خِرْقَةُ حَيْضٍ مُلْقَاةٌ .
وَرُوِيَ أَنَّ زَعِيمًا مِنْ زُعَمَاءِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ كَانَ يُرِيدُ تَفْضِيلَ الْكَلَامِ عَلَى الْفِقْهِ ، فَكَانَ يَقُولُ : إِنَّ عِلْمَ الشَّافِعِيِّ وَ أَبِي حَنِيفَةَ ، جُمْلَتُهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ سَرَاوِيلِ امْرَأَةٍ .
هَذَا كَلَامُ هَؤُلَاءِ الزَّائِغِينَ ، قَاتَلَهُمُ اللَّهُ » .
ومن الأمور التي يؤسف لها اليوم أن يتربى طالب العلم على عدم احترام العلماء الصالحين من أهل السنة والجماعة ، وهيبتهم ، وتوقيرهم ، ورد اقوالهم ، والمجادلة بغير حق أو صواب ، و تتبع الشاذ من الأقوال ، ومصادمة العلماء بها ، والطيران بها في كل مجلس ، والتسويد لها في كل صحيفة ، ولو نوقش في ذلك ما ارعوى .
ذكر الشاطبي في الاعتصام (2/740) :
« وَقَدْ نُقِلَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ : جَلَسَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَشَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ لَيْلَةً يَتَخَاصَمُونَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ .
قَالَ : فَلَمَّا صَلَّوْا جَعَلَ عَمْرٌو يَقُولُ : هِيهِ أَبَا مَعْمَرٍ ! هِيهِ أَبَا مَعْمَرٍ ! فَإِذَا رَأَيْتُمْ أَحَدًا شَأْنُهُ أَبَدًا الْجِدَالُ فِي الْمَسَائِلِ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ وَلَا يَرْعَوِي ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ زَائِغُ الْقَلْبِ مُتَّبِعٌ لِلْمُتَشَابِهِ فَاحْذَرُوهُ ».
والطعن في العلماء وانتقاصهم والحط من مكانتهم وقدرهم من الأدلة على معرفة بلاء من يفعل ذلك ويتجرأ عليه ، وبضدها تعرف أو تتميز الأشياء :
وقال أبو حاتِم الرَّازي : إذا رأيتَ البَغْداديَّ يُحِبُّ أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحبُ سُنّة ، وإذا رأيتَهُ يُبغض يحيى بن مَعِين فاعلم أنَّه كَذَّاب .
وقال محمد بن هارون الفَلاَّس : إذا رأيتَ الرَّجُل يقع فـي يحيـى بن مَعِين فاعلم أنه كَذَّاب يضعُ الحديثَ ، وإنما يُبغضه لما يُبَيِّن من أمر الكَذَّابين .
تهذيب الكمال (20/229) .
فهذه المسألة من أعظم المسائل خطراً على طالب العلم ، ومن كانت هذه صفته فقل على علمه السلام .
وأذكر إخواني طلاب العلم بما روى الخطيب البغدادي (ت 463هـ ) في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/201) من طريق أبي بكر محمد بن مهرويه بن سنان الرازي ، قال :
سمعتُ عليّ بن الحُسين بن الجُنيد يقول : سمعتُ يحيى بن مَعِين يقول : إنّا لنطعنُ على أقوامٍ لعلّهُم قد حَطّوا رِحالَهُمْ في الجنة من أكثر من مائتي سنة .
قال ابن مهرويه : فدخلتُ على عبد الرّحمن بن أبي حاتِم وهو يقرأ على الناس كتاب «الجَرْح والتَعديل» فحدثته بهذه الحِكاية ، فبكى ، وارتعدت يداهُ حتـى سقطَ الكتابُ من يده ، وجعل يبكي ، ويستعيدني الحِكايةَ ، ولم يقرا في ذلك المجلس شيئاً أو كما قال » .
وانظر: تهذيب الكمال (20/232 ، 233 )
أسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا ، وأن يرزقنا العلم والعمل .