أخي الكريم
سبب الإشكال عندك أنك تدعي أمرين:
= الأول: أن العربي لا بد أن يرى النصب بالياء أو بالألف
= الثاني: أن الأمثلة التي ذكرتُها أنا ليست من هذا الباب لأنها أوجه صحيحة
وأنا أقول لك:
الوجه الأول مثل الوجه الثاني تماما، فإن كنت تدعي أن العربي لا يمكن أن يجمع بينهما، فأنا أدعي مثله في الأبيات الأخرى، وإن كنت تدعي في الوجه الثاني أنها أوجه صحيحة فلا إشكال في الجمع بينها، فأنا أدعي مثل ذلك في الوجه الأول، فلا وجه للتفريق بينهما، فمن المعلوم أن كون الكلمة يصح فيها الثلاثي والرباعي مثلا لا يتعارض مع كون هذه الكلمات لغات قبائل مختلفة، كما يقول أهل اللغة كثيرا: الضم لغة كذا والفتح لغة كذا، أو الثلاثي لغة كذا والرباعي لغة كذا، فهي لغات قبائل مختلفة.
وهذا ليس بشرط، ولكنه هو المشهور عندهم، ولذلك يقولون: لغة قريش، لغة تميم، لغة نجد ... إلخ، كما يقولون: في هذه الكلمة ثلاث لغات ... سبع لغات ... عشر لغات، فاستعملوا كلمة (لغة) في الموضعين، فإن كانوا يقصدون معنيين مختلفين كان الظن بهم أن يبينوا ذلك، والله أعلم.
وكلام الشيخ محيي الدين رحمه الله متعقب بكلام غيره من أهل العلم كابن جني، وقد نقلت نصه في الرابط السابق.
وقد وجدنا أهل العلم ذكروا في كثير من ألفاظ القرآن أنها بلغة تميم أو بلغة نجد أو بلغة الحجاز أو بلغة كذا أو بلغة كذا، وهذا مشهور معروف في كتب اللغة وكتب التفسير، ومثل ذلك كثير في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
فأنت ترى أن المتكلم واحد، ومع ذلك فاللغات المستعملة مختلفة، فلا مانع أن يجمع المتكلم الواحد في كلامه بين لغات مختلفة.
وقد تكلم أهل العلم على مسألة الجمع بين القراءات في القرآن وأجازوها بشروط، والقراء السبعة أنفسهم وغيرهم كانوا يتخيرون من القراءات التي يسمعونها ولا يتقيدون بلغة واحدة.
فمثلا قوله تعالى: {إن هذان لساحران} إن قيل: إن هذا على لغة من يلتزم الألف في التثنية، فمن المعلوم أن هذا الالتزام لم يأت في القرآن إلا في هذا الموضع، فكيف نقول إنه لا يجوز الجمع بين اللغتين، فقد جمع الله عز وجل بين اللغتين في القرآن.
وقوله تعالى: {ثم عموا وصموا كثير منهم} إن قيل: إن هذا على لغة (أكلوني البراغيث)، فمن المعلوم أن هذه اللغة لم تلتزم في القرآن.
وقوله تعالى: {ويخلد فيه مهانا} بزيادة ياء في (فيه) على قراءة حفص، من المعلوم أن هذا هو الموضع الوحيد عند حفص على هذه اللغة، ولم يلتزمها حفص، ومثله قوله تعالى: {ومن عاهد عليهُ الله} بضم هاء (عليه).
ومن ذلك قول الشاعر:
فظلت لدى البيت العتيق أخيلهُو ومطواي مشتاقان لهْ أرقان
فجمع بين اللغتين في تسكين الهاء وإشباعها واوا، قال ابن جني: جمع بين اللغتين .... وهو في لغة أزد السراة كثير.
ومثال آخر، وهو الكلمات التي تأتي على وزن (فَعِلة) بفتح فكسر، فمن المعلوم أن بعض العرب يلتزم فيها التخفيف بتسكين العين، وبعض العرب يجعلها بكسر الفاء مع تسكين العين، ومعلوم أن هذه لغات مختلفة لأقوام مختلفين، ومع ذلك لم أر أحدا خطأ ابن مالك في قوله:
واحده ( كلمة ) والقول عم ............ و ( كِلْمة ) بها كلام قد يؤم
فجمع بين اللغتين.
ومن المعلوم أن الكلمات التي على وزن (فُعُل) عند العرب منهم من يثقلها بضمتين، مثل (عُسُر) (عُمُر) (عُشُر) .. إلخ، ومنهم من يخففها بالتسكين، وهي لغات مختلفة لقبائل مختلفة، ومع ذلك لم نر أحدا خطأ الشاعر في قوله:
هو الجواد يعد البُخْل من جُبُن ........... وهو الشجاع يعد الجُبْن من بُخُل
فجمع بين اللغتين في الكلمتين.
والموضوع يقتضي بسطا أكثر من ذلك، ولكني لم أتفرغ للبحث فيه، فلعل الوقت يسعف في مرة قادمة إن شاء الله تعالى.