تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: ضوابط فقه النازلة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Feb 2010
    المشاركات
    23

    Lightbulb ضوابط فقه النازلة

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله وكفى ةالصلاة والسلام على عبده المصطفى وعلى اله وصحبه المستكملين الشرفاء
    اما بعد فهذه بعض ما يتعلق بفقه النوازل مما يجب على طالب العلم معرفته في هذا العصر
    وبعد:
    فقد نزلت شريعة الإسلام وحيًا من عند الله ـ تبارك وتعالى ـ تحمل في أصولها ما يعالج قضايا الاعتقاد، ويرسي قواعد العدل والمصلحة والرحمة في الأحكام واستقامة السلوك. وخلود الشريعة وكمالها وتمام النعمة بها يصدق بنصوصها وأصولها الثوابت، منضمًا إلى ذلك مجالات الاجتهادات النابعة من أصالة الفكر في تفهم النصوص ومقرراتها وفي حسن تطبيقها في كل ما يجد في الحياة من وقائع، وما يلم بها من تطورات ومتغيرات بسبب حوادث الفكر الإنساني وتلوث البيئات والتحولات في المجتمع وما تقتضيه سنن الله في هذا.
    والاجتهاد في تفسير النصوص أو النظر في الوقائع لتنال حكمها في الشرع، كل ذلك طريقه: إما النص في المنصوص عليه، وإما فهم النص فيما لم ينص عليه، ولا يكون ذلك إلا لذي الرأي الحصيف، المدرك لعلم الشرع الشريف.
    وفي هذا يقول أبو حامد الغزالي: «وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد»(2).
    وذلكم هو ميدان الاجتهاد من أجل تحصيل الحكم الشرعي في مسألة غير من منصوصة.
    وبتعبير آخر: هو بذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال(3).
    والاجتهاد يشمل الدقة في فهم النص، وفي طريقة تطبيق حكمه، أو في مسلك ذلك التطبيق على ضوء الملاءمة بين ظروف النازلة التي يتناولها النص، والمقصد الذي يستشرفه النص نفسه من تطبيقه.
    يوضح ذلك شمس الدين ابن القيم في عبارة سلسة مبينًا نهج الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ فيقول: «... فَالصَّحَابَةُ ـ رضى اللَّهُ عَنْهُمْ ـ مَثَّلُوا الْوَقَائِعَ بِنَظَائِرِهَا، وَشَبَّهُوهَا بِأَمْثَالِهَا، وَرَدُّوا بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ في أَحْكَامِهَا، وَفَتَحُوا لِلْعُلَمَاءِ بَابَ الاجْتِهَادِ، وَنَهَجُوا لهم طَرِيقَهُ، وَبَيَّنُوا لهم سَبِيلَهُ»(4).
    وليس المقصود بالاجتهاد التفكير العقلي المجرد، فهذا ليس منهجًا مشروعًا، بل هو افتئات على حق الله في التشريع، حتى ولو كان جادًا بعيدًا عن الهوى، مادام أنه لم ينطلق من مفاهيم الشرع، ومبادئه، وأصوله، وحقائق تنزيله، ومثله العليا ومقاصده الأساسية.
    ومن أجل هذا فإن نطاق الاجتهاد الشرعي يتمثل في فهم النصوص الشرعية، وتطبيقاتها، ودلالتها، وقواعد الشرع المرعية(5).
    يقول أبو حامد الغزالي: «اعلم أن العلم في قسمين: أحدهما شرعي، والآخر عقلي، وأكثر العلوم الشرعية عقلية عند عالمها، وأكثر العلوم العقلية شرعية عند عارفها، قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (40) سورة النــور.
    فالعلوم الشرعية أكثرها عقلي؛لأنه لابد فيها من استعمال طلاقة العقل، وكذلك أكثر العلوم العقلية شرعي عند التحقيق؛ لأنه لابد من مراعاة قيد الشرع، والجمود والتقليد لا يكونان فقط بالكف عن استعمال العقل، وإنما يكونان أيضًا بالفصل بين ما هو شرعي وما هو عقلي، والاستغناء بأحدهما عن الآخر؛ فعدم استعمال العقل في الشرعي جمود وتحجر، وكذلك عدم الاهتداء بالشرع في العلوم العقلية جمود وتحجر؛ لأن الحق الواصل عن طريق الوحي لا يتعارض مع الحق الواصل عن طريق العقل الصحيح بالبحث والنظر».
    1 ـ معنى النوازل في اللغة(6):
    النوازل جمع نازلة، والنازلة في اللغة: اسم فاعل من نزل ينزل إذا حلَّ. وقد أصبح اسمًا على الشدة من شدائد الدهر.
    2 ـ معنى النوازل في الاصطلاح:
    أولاً: تُطلق النوازل في اصطلاح الحنفية خاصة على:
    الفتاوى والواقعات، وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لَمّا سُئلوا عن ذلك، ولم يجدوا فيها رواية عن أهل المذهب المتقدمين، وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد، وأصحاب أصحابهما، وهلم جرا(7).
    ثانيًا: تُطلق النوازل في اصطلاح المالكية خصوصًا في بلاد الأندلس والمغرب العربي على: «القضايا والوقائع التي يفصل فيها القضاة طبقًا للفقه الإسلامي»(8).
    ثالثًا: شاع واشتهر عند الفقهاء عامة إطلاق النازلة على:
    المسألة الواقعة الجديدة التي تتطلب اجتهادًا وبيان حكم.
    ومن ذلك: قول ابن عبد البر: «باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة»(9).
    والمقصود أن النازلة لابد من اشتمالها على ثلاثة معان:
    الوقوع، والجدة، والشدة.
    وقد جمع هذه القيود الثلاثة التعريف الآتي:
    (ما استدعى حكمًا شرعيًا من الوقائع المستجدة).
    أو يُقال: هي الوقائع المستجدة الملحَّة.
    فائدة في الفرق بين النوازل والوقائع والمستجدات:
    تبين لنا مما سبق أن النوازل إنما تُطلق على المسائل الواقعة إذا كانت مستجدة، وكانت ملحَّة، ومعنى كونها ملحَّة أنها تستدعي حكمًا شرعيًا.
    وأما الوقائع فإنها تُطلق على كل واقعة مستجدة كانت أو غير مستجدة، ثم إن هذه الواقعة المستجدة قد تستدعي حكمًا شرعيًا وقد لا تستدعيه، بمعنى أنها قد تكون ملحَّة وقد لا تكون ملحَّة.
    وأما المستجدات فإنها تُطلق على كل مسألة جديدة، سواء كانت المسألة من قبيل الواقعة أو المقدَّرة، ثم إن هذه المسألة الجديدة قد تستدعي حكمًا شرعيًا وقد لا تستدعيه، بمعنى أنها قد تكون ملحَّة وقد لا تكون ملحَّة.
    وجوهر الفرق: أن النوازل يتعلق بها ولابد حكم شرعي، أما الوقائع والمستجدات فلا يلزم أن يتعلق بها حكم شرعي.
    معنى فقه النوازل باعتباره لقبًا على علم معين:
    يمكن تعريف فقه النوازل باعتباره عَلَمًا ولقبًا بأنه:
    معرفة الأحكام الشرعية للوقائع المستجدة المُلِحَّة(10).
    وبهذا يظهر أن العلاقة بين علم الفقه وعلم فقه النوازل عي العموم والخصوص الوجهي؛ ذلك أنهما يجتمعان في معرفة أحكام الوقائع العملية المستجدة.
    ثم إن علم الفقه أعم من علم فقه النوازل من جهة أن الفقه يشمل معرفة أحكام المسائل العملية، سواء أكانت هذه المسائل واقعة أم مقدرة، مستجدة أم غير مستجدة.
    كما أن علم فقه النوازل أعم من علم الفقه من جهة أن فقه النوازل يشمل الأحكام الشرعية للوقائع المستجدة، سواء كانت هذه الوقائع عملية أو غير عملية.
    أنواع النوازل
    يمكن تقسيم النوازل باعتبارات متعددة إلى ما يأتي:
    1 ـ تنقسم النوازل بالنظر إلى موضوعها إلى:
    نوازل فقهية: وهي ما كان من قبيل الأحكام الشرعية العملية.
    نوازل غير فقهية: مثل النوازل العقدية؛ كظهور بعض الفرق والنحل، والصور المستجدة للشرك، ومثل المسائل اللغوية المعاصرة؛ كتسمية بعض المخترعات الجديدة، وهنالك قضايا تربوية حادثة، واكتشافات علمية مبتكرة.
    وبهذا يُعلم أن مصطلح فقه النوازل يشمل جميع النوازل؛ فقهية كانت أو غير فقهية. أما إطلاق مصطلح (فقه النوازل) على النوازل الفقهية خصوصًا وقصره عليها دون غيرها فهو أمر غير دقيق، بالرغم من شيوعه، والأولى أن يُسمى هذا القسم من النوازل بالنوازل الفقهية، أو نوازل الفقه.
    2 ـ تقسيم النوازل من حيث خطورتها وأهميتها إلى:
    نوازل كبرى: وهي القضايا المصيرية التي نزلت بأمة الإسلام، وأعني بذلك تلك الحوادث والبلايا التي تدبر للقضاء على المسلمين من قبل أعدائهم، وما يتصل بذلك من المكائد والمؤامرات والحروب المعلنة وغير المعلنة، في شتى المجالات العسكرية والفكرية والاقتصادية والسياسة والاجتماعية.
    ونوازل أخرى دون ذلك.
    ولا شك أن القضايا المصيرية لابد في مواجهتها وعند بيان حكمها من جمع الكلمة على الهدى، ونبذ الخلاف، والنأي عن التعصب؛ إذ لا يليق بمثل هذا النوع من النوازل الاعتماد على رأي فرد أو اجتهاد طائفة معينة.
    3 ـ تنقسم النوازل بالنظر إلى كثرة وقوعها وسعة انتشارها إلى:
    • نوازل لا يسلم ـ في الغالب ـ من الابتلاء بها أحد؛ كالتعامل بالأوراق النقدية.
    • نوازل يعظم وقوعها؛ كالصلاة في الطائرة، والتعامل بالبطاقات البنكية.
    • نوازل يقل وقوعها؛ كمداواة تلف عضو في حد أو بسبب جريمة وقعت منه.
    • نوازل قد انقطع وقوعها واندثرت، وصارت نسيًا منسيًا؛ كاستخدام المدافع والبرقيات في إثبات دخول شهر رمضان وخروجه.
    تنقسم النوازل بالنسبة لجدتها إلى:
    نوازل محضة: وهي التي لم يسبق وقوعها من قبل، لا قليلاً ولا كثيرًا، مثل أطفال الأنابيب.
    نوازل نسبية: وهي التي سبق وقوعها من قبل، لكنها تطورت من جهة أسبابها والواقع المحيط بها، وتجددت في بعض هيئاتها وأحوالها، حتى صارت بهذا النظر كأنها نازلة جديدة، مثل بيوع التقسيط، والعمليات الطبية الجراحية، والزواج بنية الطلاق.
    وهذا القسم من النوازل ـ على وجه الخصوص ـ يفتقر ولابد إلى تحديث مستمر وتجديد لما يتعلق به من صفات وهيئات.
    حكم الفتوى في النوازل وأهميته
    حكم الفتوى في النوازل:
    الاجتهاد في النوازل واجب على هذه الأمة، فهو من فروض الكفاية، وربما يتعين هذا الواجب على بعض المتهيئين للنظر في بعض النوازل؛ فيصير النظر في نازلة ما واجبًا عينيًا في حق هؤلاء(11).
    وقد ذكر أبو عمر عن جمهور أهل العلم أنهم كانوا يكرهون استعمال الرأي في الوقائع قبل أن تنزل، وتفريع الكلام عليها قبل أن تقع، وعدُّوا ذلك اشتغالاً بما لا ينفع(12).
    وقد ورد في ذلك ما أخرجه الدارمي في سننه(13) عن وهب بن عمير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن لا تعجلوها قبل نزولها لا ينفك المسلمون وفيهم إذا هي نزلت من إذا قال وُفِّق وسُدِّد، وإنكم أن تعجلوها تختلف بكم الأهواء فتُأخذوا هكذا وهكذا، وأشار بين يديه وعلى يمينه وعن شماله».
    لذلك كان من شروط المسألة المجتهد فيها أن تكون من المسائل النازلة بالمسلمين، أما المسائل غير الواقعة فقد يره الاجتهاد وقد يحرم.
    ولا يجب النظر في تلك المسائل التي تخص الكفار وحدهم؛ كمسألة بنوك المني.
    أهمية الفتوى في النوازل:
    تظهر أهمية الاجتهاد في النوازل المعاصرة في النقاط التالية:
    1 ـ بيان صلاح هذه الشريعة لكل مكان وزمان: وأنها هي الشريعة الخالدة الباقية، وأنها الكفيلة بتقديم الحلول الناجعة لكل المشكلات والمعضلات.
    2 ـ إيقاظ هذه الأمة والتنبيه على خطورة قضايا ومسائل ابتُلي بها جموع المسلمين، مع كونها مخالفة أشد ما تكون المخالفة لقواعد هذا الدين، ومضادة لمقاصده، وقد صارت ـ لشديد الحزن والأسى ـ جزءًا لا يتجزأ من حياة الأمة الإسلامية، وباتت حقائقها الشرعية غائبة عن عامة المسلمين في هذا العصر.
    3 ـ وبإعطاء هذه النوازل أحكامها الشرعية المناسبة لها مطالبة جادة ودعوة صريحة إلى تحكيم الشريعة في جميع جوانب الحياة، وهو تطبيق عملي تبرز به محاسن الإسلام، ويظهر منه سموه وتشريعاته.
    4 ـ والحاجة قائمة إلى ضرورة إيجاد معلمة متكاملة تستوعب قضايا العصر ومسائله المستجدة على هدي الشريعة الإسلامية.
    5 ـ ولا شك أن إعطاء النوازل المستجدة في كل عصر أحكامها الشرعية المناسبة يدخل دخولاً أوليًا تحت مهمة التجديد لهذا الدين، وإحياء ما اندرس من معالمه.
    مدارك الحكم على النوازل
    الناظر في نازلة من النوازل متى أراد دراستها والتوصل إلى حكمها كان عليه أن يسلك المنهج الآتي: التصور، ثم التكييف، ثم التطبيق.
    قال ابن سعدي: «جميع المسائل التي تحدث في كل وقت، وسواء حدثت أجناسها أو أفرادها يجب أن تتصور قبل كل شيء.
    فإذا عُرفت حقيقتها، وشُخصت صفاتها، وتصورها الإنسان تصورًا تامًا بذاتها ومقدماتها ونتائجها طُبقت على نصوص الشرع وأصوله الكليه؛ فإن الشرع يحل جميع المشكلات: مشكلات الجماعات والأفراد، ويحل المسائل الكلية والجزئية؛ يحلها حلاً مرضيًا للعقول الصحيحة، والفطر السليمة.
    المدرك الأول: التصور:
    إن تصور الشيء تصورًا صحيحًا أمر لا بدّ منه لمن أراد أن يحكم عليه، وكما يقال: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فتصور النازلة مقدمة لا مناص عنها ولا مفر منها لمن أراد الاجتهاد في استخراج حكمها.
    إن الإقدام على الحكم في النوازل دون تصورها يعد قاصمة من القواصم، وهذا باب واضح لا إشكال فيه، والباب الذي يأتي من جهته الخلل والزلل إنما هو القصور والتقصير في فهم النازلة وتصورها، وليس في تحصيل أصل التصور.
    وتصور النازلة وفهمها فهمًا صحيحًا قد يتطلب:
    • استقراء نظريًا وعلميًا.
    • وقد يفتقر إلى إجراء استبانة، أو جولة ميدانية، أو مقابلات شخصية.
    • وربما احتاج الأمر إلى معايشة ومعاشرة.
    • وربما كان سؤال أهل الشأن والاختصاص كافيًا؛ كمراجعة أهل الطب في النوازل الطبية، وأصحاب التجارة والأموال في والمعاملات المالية وهكذا.
    المدرك الثاني: التكييف:
    يمكن تعريف التكييف بأنه: تصنيف المسألة تحت ما يناسبها من النظر الفقهي, أو يقال: هو رد المسألة إلى أصل من الأصول الشرعية.
    وتكييف النازلة متوقف على تحصيل أمرين:
    أمر خاص يتعلق بخصوص النازلة، وأمر عام.
    أما الأمر الأول: فهو أن يحصل للناظر الفهم الصحيح والتصور التام للمسألة النازلة. وهذا ما مضى بيانه في المدرك السابق.
    والأمر الثاني: وهو أن يكون لدى الناظر المعرفة التامة بأحكام الشريعة وقواعدها، وهذا إنما يتأتى لمن استجمع شروط الاجتهاد، من الإحاطة بالنصوص ومعرفة مواقع الاجتماع والاختلاف، والعلم بدلالات الألفاظ وطرق الاستنباط، بحيث تكون لديه القدرة على استنباط الأحكام من مظانها.
    قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «وَلا يَتَمَكَّنُ الْمُفْتِي وَلا الْحَاكِمُ من الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ إلا بِنَوْعَيْنِ من الْفَهْمِ:
    أَحَدُهُمَا: فَهْمُ الْوَاقِعِ، وَالْفِقْهِ فيه، وَاسْتِنْبَاطُ عِلْمِ حَقِيقَةِ ما وَقَعَ بِالْقَرَائِنِ وَالأَمَارَاتِ وَالْعَلامَاتِ؛ حتى يُحِيطَ بِهِ عِلْمًا.
    وَالنَّوْعُ الثَّانِي: فَهْمُ الْوَاجِبِ في الْوَاقِعِ، وهو فَهْمُ حُكْمِ اللَّهِ الذي حَكَمَ بِهِ في كِتَابِهِ، أو على لِسَانِ رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الْوَاقِعِ، ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدُهُمَا على الآخَرِ.
    فَمَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ، وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ في ذلك لم يَعْدَمْ أَجْرَيْنِ أو أَجْرًا.
    فَالْعَالِمُ من يَتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ وَالتَّفَقُّهِ فيه إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»(14).
    وتكييف النازلة , إنما يحصل بواحد من أربعة مسالك على الترتيب الآتي:
    1 ـ النص والإجماع.
    2 ـ التخريج على نازلة متقدمة.
    3 ـ التخريج على قاعدة فقهية أو أصل شرعي أو فتوى إمام متقدم.
    4 ـ الاستنباط.
    المسلك الأول: البحث عن حكم النازلة في نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
    وذلك إما بدلالة العموم، أو المفهوم، أو الإيماء، أو الإشارة , أو القياس.
    المسلك الثاني: الاجتهاد في إلحاق هذه النازلة بما يشابهها من النوازل المتقدمة؛ لتقاس عليها، وتأخذ حكمها، وهذا ما يسمى بالتخريج(15).
    ومن الأمثلة على ذلك:
    • ما يسمى بالبوفيه المفتوح أو الإطعام حتى الإشباع؛ إذ يمكن إلحاقه بالحمامات التي وقع الإجماع على جوازها من باب الاستحسان؛ فإن من يدخل هذه الحمامات يتفاوتون في استهلاك الماء، مع كون الأجرة مقدرة للجميع.
    المسلك الثالث: النظر في اندراج حكم هذه النازلة تحت بعض القواعد الفقهية أو الأصول الشرعية، أو ضمن فتاوى بعض الأئمة المتقدمين، وهذا يسمى أيضًا بالتخريج(16).
    ومن الأمثلة على ذلك:
    • مشروعية السعي فوق سطح المسعى، عملاً بالقاعدة الفقهية: الهواء يأخذ حكم القرار.
    • تحريم تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والصحابة رضي الله عنهم؛ لأن مقامهم مقام عظيم عند الله وعند المسلمين، وهذا معلوم من الدين بالضرورة.
    المسلك الرابع: الاجتهاد في استخراج حكم مناسب لهذه النازلة بطريق الاستصلاح أو سد الذرائع أو غيرهما، وهذا يسمى بالاستنباط(17).
    ومن الأمثلة على ذلك:
    • الحكم بجواز زراعة الأعضاء؛ طلبًا لمصلحة المريض المستفيد، وحفظًا لحياته، والحكم بمنعها حفظًا لحق المريض المتبرع أو من في حكمه، وصيانة لحرمته.
    • القول بمشروعية الفحص الطبي قبل الزواج ندبًا أو وجوبًا؛ لما يترتب عليه من درء لمفسدة انتشار بعض الأمراض الوراثية في الأولاد.
    المدرك الثالث: التطبيق:
    تطبيق الحكم على النازلة يُراد به: تنزيل الحكم الشرعي على المسائل النازلة.
    ذلك أن تصور النازلة وفهمها فهمًا صحيحًا، ثم تكييفها من الناحية الفقهية، كفيلان بمعرفة حكم النازلة المناسب لها، وهذا هو النظر الجزئي الخاص، أما تنزيل هذا الحكم على النازلة فهو أمر آخر؛ إذ يحتاج ذلك إلى نظر كلي عام. ومن القواعد المقررة شرعًا وعقلاً وعرفًا في تطبيق الأحكام الخاصة على محالّها: أن ينسجم هذا التطبيق مع المصالح العليا؛ بحيث لا يفضي تحصيل المصلحة الجزئية إلى تفويت مصلحة عظمى.
    ومن الأمثلة على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقتل رأس المنافقين، مع ما فيه من المصلحة الظاهرة التي يدل عليها النظر الخاص، وذلك مراعاة للمصلحة العليا.
    والمراد بالمصلحة العليا في الشريعة: المحافظة على الكليات الخمس: (الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال).
    ثم إن تنزيل الأحكام على النوازل أمر يحتاج إلى فقه دقيق ونظر عميق، وقد أشار السبكي(18) إلى الفرق بين الفقيه المطلق، وهو الذي يصنِّف ويدرِّس، وبين الفقيه المفتي، وهو الذي يُنزِّل الأحكام الفقهية على أحوال الناس والواقعات، وذكر أن الفقيه المفتي أعلى مرتبة من الفقيه المطلق، وأنه يحتاج إلى تبصر زائد على حفظ الفقه وأدائه.
    وإذا عُلم أن تطبيق الحكم على النازلة لابد فيه من المحافظة على مقاصد الشريعة؛ فإن هذه المحافظة تكون بمراعاة ثلاث قواعد:
    الأولى: الموازنة بين المصالح والمفاسد في الحال والمال.
    الثانية: تقدير حالات الاضطرار وعموم البلوى.
    الثالثة: اعتبار الأعراف والعادات واختلاف الأحوال والظروف والمكان والزمان.
    المدرك الرابع: التوقف:
    يمكن أن نضيف مدركًا رابعًا، وهو التوقف في الحكم على النازلة. وإنما يُصار إليه عند العجز عن تصور الواقعة تصورًا تامًا، أو عند عدم القدرة على تكييفها من الناحية الفقهية، أو عند تكافؤ الأدلة وعدم القدرة على ترجيح قول من الأقوال.
    قال ابن عبد البر: «ومن أشكل عليه شيء لزمه الوقوف، ولم يجز له أن يحيل على الله قولاً في دينه، لا نظير له من أصل، ولا هو في معنى أصل، وهذا الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديمًا وحديثًا، فتدبره»(19).
    مصادر الفتيا
    مصادر التشريع الأساسية هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ثم بعدها مصادر توصف بالمصادر التبعية، أي أنها مبنية على هذه المصادر ومنبثقة منها وفي إطارها لا تعدوها ولا تخرج عنها.
    • من أبرز هذه المصادر التبعية وما يتعلق بها:
    المصلحة المرسلة، والعرف، والاستحسان، والاحتياط، وسد الذرائع، وقاعدة الضرر والضرورات، وعموم البلوى، والاستصحاب، والبراءة الأصلية، والمقام ليس مقام بسط للحديث عن هذه المصادر كلها.
    • وفي مدخل هذا الموضوع يقال:
    إن هذه المصادر من العرف، والاستحسان، والمصلحة هي المحك الدقيق والمرتقى الصعب في النظر فيما بسطه علماء الأصول والقواعد ـ رحمهم الله ـ حينما بحثوا في أعراف الناس وحاجاتهم وضروراتهم، وأثر المتغيرات والأحداث على استمساكهم بدينهم، وانتظام أمور معايشهم، فكان ذلك معتركًا دقيقًا يجب التثبت فيه على ما سوف يتبين إن شاء الله.
    وسوف يقتصر الكلام على المصادر التالية:
    (المصلحة المرسلة، الاستحسان، سد الذرائع والاحتياط، عموم البلوى، العرف).
    1 ـ المصلحة المرسلة:
    هي المصلحة التي شهد الشرع لجنسها، بمعنى أنها تدخل تحت أصل شهدت له النصوص في الجملة. وليست هي المصلحة الغريبة التي لم تشهد النصوص لنوعها حتى تكون قياسًا، ولا لجنسها حتى تكون استدلالاً مرسلاً، فهذه الأخيرة ليست حجة عند أحد من الأئمة، والغزالي الشافعي، والشاطبي المالكي يحكيان إجماع أهل العلم على رد المصالح الغريبة، ويُدخلانها في باب الاستحسان الذي رده الشافعي ـ رحمه الله ـ وشدد النكير على القائلين به، وهو غير الاستحسان الذي روي عن مالك وأبي حنيفة ـ رحمهما الله ـ الأخذ به، فهذا الأخير استدلال بنص، أو إجماع، أو عرف، أو مصلحة في مقابلة عموم أو قياس. وهو الذي ستأتي الإشارة إليه.
    غير أن الأخذ بالمصلحة المرسلة لابد فيه من أمور:
    الأول: أن تكون معقولة بحيث تجري على الأوصاف المناسبة التي إذا عرضت على أهل العقول تلقتها بالقبول.
    الثاني: أن يكون الأخذ بها راجعًا إلى حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين؛ بحيث لو لم يأخذ بالمصلحة المعقولة في موضعها لكان الناس في حرج شديد.
    الثالث: الملاءمة بين المصلحة التي تعد أصلاً قائمًا بذاته وبين مقاصد الشارع، فلا تنافي أصلاً من أصوله، ولا تعارض دليلاً من أدلته، بل تكون منسجمة مع المصالح التي يقصد الشارع إلى تحصيلها، بأن تكون من جنسها ليست غريبة عنها.
    2 ـ الاستحسان:
    عرفه ابن رشد المالكي فقال: «إنه طرح لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فيعدل عنه في بعض المواضع، لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع».
    وعرفه أبو الحسن الكرخي الحنفي حيث قال: «هو العدول عن الحكم في مسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه بوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول».
    فالاستحسان نوع من الترجيح بين الأدلة، وحقيقته كما يلاحظ، وكما يصرح به كثير من الأصوليين أنه أخذ بأقوى الدليلين.
    3 ـ سد الذرائع والاحتياط:
    سد الذرائع يعني أن ما كان ذريعة أو وسيلة إلى شيء يأخذ حكمه، فما كان وسيلة إلى الحرام يحرم، وإن كان في أصله حلالاً، ومعنى هذا الأمر الجائز في الأصل يمنع منه في الحالات التي يؤدي فيها إلى مالا يجوز. فعقد البيع حلال مشروع في أصله لقوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (275) سورة البقرة. ولكن قاعدة سد الذرائع تقتضي بطلان هذا البيع إذا قصد به المحرم، أو كان الباعث الدافع إليه غير مشروع، كما في بيع السلاح لمن يقتل مسلمًا، أو لأهل الحرب، وبيع العنب لمن يتخذه خمرًا.
    أما الاحتياط: «فهو احتراز المكلف عن الوقوع فيما يشك فيه من حرام أو مكروه».
    مجال الأخذ بالاحتياط: والمكلف يأخذ بالاحتياط في مجالين:
    الأول: تحقق الشبهة.
    الثاني: حصول الشك في الحكم الشرعي.
    4 ـ عموم البلوى:
    يظهر عموم البلوى في موضعين:
    الأول: ما تمس الحاجة في عموم الأحوال، بحيث يعسر الاستغناء عنه إلا بمشقة زائدة.
    الثاني: شيوع الوقوع والتلبس، بحيث يعسر على المكلف الاحتراز عنه أو الانفكاك منه إلا بمشقة زائدة.
    ففي الموضع الأول ابتلاء بمسيس الحاجة، وفي الثاني ابتلاء بمشقة الدفع.
    الضابط في عموم البلوى:
    يرجع النظر في عموم البلوى إلى ضابطين رئيسين:
    الأول: الضابط في نزارة الشيء وقلته:
    أي: أن مشقة الاحتراز من الشيء وعموم الابتلاء به قد يكون نابعًا من قلته ونزارته، ومن أجل هذا عفي عن يسير النجاسات، وعن أثر الاستجمار في محله، عما لا يدركه الطرف، وما لا نفس له سائلة ونيم الذباب(ما يخرج من فضلاته)، وما ترشش من الشوارع مما لا يمكن الاحتراز عنه، وما ينقله الذباب من العذرة وأنواع النجاسات.
    الثاني: كثرة الشيء وشيوعه وانتشاره:
    كما أن عموم الابتلاء ومشقة التحرز قد تكون نابعة من تفاهة الشيء ونزارته، كذلك قد يكون الأمر لكثرته وشيوعه فيشق الاحتراز عنه ويعم البلاء به.
    وقد نبه الغزالي إلى أن الغلبة التي تصلح عذرًا في الأحكام ليس المراد بها الغلبة المطلقة، وإنما يكفي أن يكون الاحتراز أو الاستغناء عنه فيه مشقة وصعوبة نظرًا لاشتباهه بغيره من الحلال والمباح واختلاطه به وامتزاجه معه بحيث يصعب الانفكاك عنه، كما هو ظاهر في بعض صور النجاسات والمستقذرات واختلاط الأموال.
    5 ـ العُرْفُ:
    ويراد به: «ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول».
    فهو شامل لما عرفته النفوس وألفته، سواء كان قولاً أو فعلاً، ولم ينكره أصحاب الذوق السليم. ويحصل الاستقرار في النفوس والقبول للطباع بالاستعمال المتكرر الصادر عن الميل والرغبة.
    ويخرج من ذلك العرف الفاسد، وهو ما استقر لا من جهة العقول كتعاطي المسكرات، وأنواع الفجور التي تستقر من جهة الأهواء والشهوات، كما يخرج ما لم تتلقه الطباع السليمة بالقبول كالكشف عن العورات، وعدم الاحتشام، والألفاظ المستقبحة.
    ويحسن الوقوف هنا حول مسألة تغير الأحكام بتغير العادات والأعراف:
    يقول الإمام القرافي: «إن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا أبطلت... وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وافته به، دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين»(20).
    ويقول الحافظ ابن القيم: «ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان»(21).
    يوضح ذلك: أن هناك أوصافًا ربط الشارع الحكم بها، وبني عليها أمور الناس فالعدالة ـ مثلاً ـ شرط في قبول الشهادة بنص كتاب الله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } (2) سورة الطلاق ، وحينما نراجع كلام أهل العلم وتعريفاتهم للعدالة وأوصاف أصحابها نلاحظ أنهم يربطونها بمألوف الناس، ودلائل التعقل والمروءة، وهذا حق لا مرية فيه.
    ومن المعلوم أن هذا شيء متغير، فما يكون مألوفًا في بلد أو دلالة مروءة فيه قد لا يكون في البلد الآخر، وكذلك عند اختلاف الزمن.
    الأسس العامة للفتيا
    مقاصد الشريعة:
    تعريف مقاصد الشريعة لغة:
    المقاصد: من القَصْد، ويطلق على معانٍ، أهمها ثلاثة:
    أ ـ استقامة الطريق: يقال: قصَدَ يقصِدُ، فهو قاصد(22)، وقوله تعالى: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ} (9) سورة النحل.
    ب ـ التوسط في الأمور، والاعتدال فيها: ومنه حديث: «القصد القصد تبلغوا»(23).
    ج ـ إتيان الشيء: تقول: قصدتُه، وقصدتُ له، وقصدتُ إليه؛ بمعنىً (24).
    تعريف مقاصد الشريعة اصطلاحًا:
    عرَّف الطاهر بن عاشور مقاصد الشريعة بقوله: (هي المعاني والحكم الملحوظة للشارح، في جميع أحوال التشريع، أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة)(25). فيدخل في هذا التعريف: أوصاف الشريعة، وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل فيه أيضًا: معانٍ من الحِكم ليست ملحوظةً في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرةٍ منها(26).
    مراتب مقاصد الشريعة:
    تنقسم مقاصد الشريعة بحسب درجة الحاجة إليها إلى ثلاث مراتب، أوردها فيما يأتي مختصرة، فقد بسطَ الكلام فيها جمعٌ من المعاصرين(27).
    المرتبة الأولى: المقاصد الضرورية: وهي الأمور التي لا بد منها في قيام مصالح الدارين، بحيث إذا فقدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فسادٍ وتهارجٍ وفوت حياة.
    المرتبة الثانية: المقاصد الحاجية: وهي ما يفتقر إليها من حيث التوسعة، ورفع الضيق المؤدي إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تُرعَ دخل على المكلفين حرجٌ ومشقةٌ في الجملة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد المتوقع في المصالح الضرورية(28).
    المرتبة الثالثة: المقاصد التحسينية: وهي الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات، التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق. قال الشاطبي: (وهي جاريةٌ فيما جَرَتْ فيه الأُولَيَان)(29)ا ـ.
    أثر مقاصد الشريعة في الفتيا المعاصرة:
    المسألة الأولى: شرط الفتيا فهمُ المقاصد:
    اشترط غير واحدٍ من الأصوليين أن يتوفّر المفتي على (فهمِ مقاصد الشريعة على كمالها)(30)، فبعضهم ينص على هذا الشرط صراحةً، وآخرون يومئون إليه إيماءً، فقد صرّح أبو إسحاق الشاطبي بذلك، معللاً بأنَّ الشريعة مبنية على اعتبار المصالح، وأن المصالح إنما اعتُبرت من حيث وَضَعَها الشارعُ كذلك، لا من حيث إدراك المكلف، إذا المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات، وأنَّه قد استقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب، فإذا بلغ الإنسان مبلغًا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألةٍ من مسائل الشريعة، وفي كل باب أبوابها؛ (فقد حصل له وصفٌ هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله)(31).
    ثم ألحق الشاطبي بهذا الشرط شرطًا آخر لا ينفكُّ عنه، وهو: (التمكن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها)(32)، أي في المقاصد.
    المسألة الثانية: أثر المقاصد في تصرف المفتي بالاجتهاد:
    أولاً: إمداد المفتي بالفتيا فيما لا يجد فيه نصًا:
    معلومٌ أن جلَّ الفقه مدلولٌ عليه بنصوص الكتاب والسنة، حيث جاءت أدلتهما نصوصًا عامةً جامعةً، لتستوعب ما لا يحصره العدُّ من الوقائع(33)، إذ من غير الممكن أن يُنصَّ على كل شيءٍ باسمه الخاص، ومن اشترط ذلك عُدَّ من جملة الجهلة بدين الله، قال أبو العباس ابن تيمية في معرض كلامه عن الحشيشة: «وأما قول القائل: إن هذه ما فيها آيةٌ ولا حديث، فهذا من جهله، فإن القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة، هي قواعد عامة، وقضايا كلية، تتناول كلما دخل فيها، وكلما دخل فيها فهو مذكورٌ في القرآن والحديث باسمه العام، وإلا فلا يمكن ذكر كل شيءٍ باسمه الخاص»(34).
    ثانيًا: ضبط مشارع الخلاف في الفتيا:
    الشريعة حقٌّ كلها، والحق لا يتعدد، وإنما نشأ الخلاف جرَّاءَ أسبابٍ بشريةٍ، اقتضت هذا التباين والتخالف في مسائل الفقه، وإذا كان الخلافُ الناجمُ عن اجتهادٍ مستوفٍ لشرائطه؛ مقبولاً شرعًا؛ فإنه ينبغي أن يضبط هذا القول بما يعصم عن الوقوع في التشرذم الفقهي، واضطراب الأقاويل في مسائل العلم؛ بسبب الأنظار الشاطحة عن جادة الراسخين، ويعظم الخطب ويعظم الخطب في هذا إذا كانت المسألة مفترضةً فيما يتعلق بشؤون الأمة عامةً، مما يختصُّ بالنظر فيه من كان أدخلَ في علوم الاجتهاد، وأفقه بمآخذ السياسة الشرعية.
    ثالثًا: العصمة من الزلل في الفتيا:
    إن التعرف على مقاصد الشريعة، ورعاية المجتهد لها في تصرفه باجتهاده، فتيًا وحكمًا؛ لَمِن العواصم التي تحميه من الجنوح إلى الخطأ والزلل، وهذا ما يؤكِّد عليه الشاطبي في مواضع من كتبه، بل إنه يقرر أن الفقيه المجتهد، وإن كان عالمًا بالمقاصد، فإنه إذا غفل عنها زلَّ في اجتهاده، وزلًّة العالم ـ كما يقول الشاطبي ـ: «أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه»(35).
    ضوابط إعمال مقاصد الشريعة في الفتيا المعاصرة:
    المسألة الأولى: ضابط تحقيق القصدية.
    المسألة الثانية: ضابط الموازنة بين المقاصد والأدلة الأخرى.
    المسألة الثالثة: ضابط مراعاة مراتب المقاصد.
    القواعد والضوابط الأصولية والفقهية:
    القواعد الأصولية:
    تعريف القواعد الأصولية:
    أولاً: في اللغة: جمع قاعدة، وهي أساس الشيء(36)، سواءٌ أكان ذلك الشيء حسيًا، أم معنويًا، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (127) سورة البقرة ،وقواعد البيت إما أن يُراد بها: أسُسُه(37)، وإما أن يُراد بها: جُدُرُه(38).
    أهمية القواعد الأصولية:
    تظهر أهمية القواعد الأصولية من جهة كونِ معرفتها شرطًا لصحة الفتيا، ذلك أنها العَمَد التي تتأسس عليها الأحكام، قال أبو المعالي الجويني: «المفتي من يستقل بمعرفة أحكام الشريعة نصًا واستنباطًا، فقولهم: نصًا يشير إلى معرفة اللغة والتفسير والحديث، وقولهم استنباطًا: يشير إلى معرفة الأصول والأقيسة وطرقها وفقه النفس»(39).
    وعندما ذكر ابنُ القيم شروط الفتيا؛ حكَى عن بعض الأئمة ـ كالشافعي وأحمد ـ اشتراطهم معرفة الأصول(40).
    فالشافعي لا يُحلُّ لأحدٍ أن يفتي في دين الله، إلا رجلاً عارفًا بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشعر، وما يحتاج غليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحةٌ بعد هذا، فإن كان هكذا «فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي»(41).
    القواعد الأصولية في الفتيا المعاصرة:
    أولاً: خطورة التصدي للفتية من غير المتأصلين:
    لا خلاف في أهمية القواعد الأصولية في تكوين الفقيه المعتبر، كما لا إشكال في أن تلك القواعد لا تصنع لدارسها ملكة فقيهة ناجزةً، حتى يترقى في مدارجها ـ بالدربة والمراس ـ شيئًا فشيئًا، وحتى يُلقِح مطالعته للفروع. بما انبنت عليه تلك الفروع من الأصول، فتجتمع له أسباب الفقه بالإشراف على الأصول والفروع، ويتهدَّى إلى تخريج هذه على تلك، وبذا يخرج من دائرة التقليد والتبعية وحكاية الأقوال إلى أُولى درجات الاجتهاد، ثم هؤلاء بعدُ على درجات.
    وهذا ما كان يرويه الإمام أبو حنيفة حين قال: (لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعرف من أين قلنا)(42)اهـ. وعبارة بعض أصحابه: (من حفظ الأقاويل ولم يعرف الحجج؛ فلا يحل له أن يفتي فيما اختلف فيه)(43)اهـ.
    ثانيًا: الخلل التأصيلي في الفتيا المعاصرة:
    بالتأمل في حركة الإفتاء المعاصرة نلحظ ما تعانيه الفتيا من افتقار إلى التأصيل الصحيح، الذي يرشِّدها إلى جادَّة الصواب، وينأى بها عن موارد الخطل والاضطراب، ومظاهر هذا الخلل متعدِّدة، تحدَّث عنها غير واحدٍ من أهل العلم، وقد رصدَ هذا البحث عددًا منها، وهي مبحوثةٌ في أثناء مسائله، بيد أن من أهم المظاهر التي تتعلق بمشاكل التأصيل في الفتيا المعاصرة، مما يكشف خللاً في التكوين والنظر؛ مظهرين لا يخفيان على متابعٍ: هما التناقض والتلفيق، وهما موضوع الحديث في الفقرتين التاليتين:
    أ ـ تناقض الفتاوى المعاصرة سببه خللٌ تأصيلي:
    المراد بالتناقض هنا أن يقع التعارض في الفتاوى، من أوجهٍ لا يمكن الجمع بينها، بحيث ينقض بعضها بعضًا. وسواء أكان هذا التناقض في الفتيا الواحدة، ينقض آخرها أَوَّلها، أو وقع بين اثنين فأكثر.
    والتناقض ربما كان أمارةً على ضعف التكوين العلمي، فإن غير المتأصل كثيرًا ما ينقض بعض كلامه بعضًا، وتهدم أعجاز فتاويه صدورها.
    ب ـ التلفيق بين الأقوال مخالفٌ للأصول:
    أريد بالتلفيق ها هنا معنًا خاصًا، وهو أنه حين يُسأل المفتي عن مسألة يعمد إلى البحث في أقوال الفقهاء، وينتقي منها ما يناسبه، لا على ما تقتضيه الأدلة والقواعد الأصولية الفقهية؛ بل على أساس الأيسر والأسهل، حتى إذا ما تأمَّلتَ فتاوى هؤلاء ألفيتها خليطًا من أيشر المذاهب والاقوال، فهذا نوع تلفيق يضادُّ الشريعة ويحادُّ أدلتها.
    القواعد الفقهية:
    المسألة الأولى: تعريف القواعد الفقهية:
    وقد عرفها الشيخ مصطفى الزرقا بأنها: أصولٌ فقهيةٌ كليةٌ، في نصوص موجزة دستورية، تتضمن أحكامًا تشريعية عامة، في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها(44).
    المسألة الثانية: أهمية القواعد الفقهية بالنسبة إلى الفتيا:
    صناعة التقعيد الفقهي فنٌّ جليلٌ من فنون العلم، اقتضاه ـ فيما يظهر ـ أمران:
    الأول: تشعب مسائل الفقه، وتناثر تطبيقاته، ولو تُركت تلك المسائل على سجيتها؛ لأفضى بالمتفقهين إلى حرجٍ شديدٍ،ولتفلَّتت عليهم شواردها(45)، لكونها ذات طبيعة تراكمية، وبذا يستغلق على المفتين والحكام تحصيل أحكام المسائل المتجددة، أو يكاد، ولأصبح اسم الفقيه يطلق مجازًا، لا حقيقة له، ضرورةَ ارتباط الفقه بتعرف المعاني والعلل، والتصرف فيها، وقد فسر ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ قوله تعالى: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (269) سورة البقرة. بأنه الفقه في القرآن(46)، وعن مجاهد قال: ليست بالنبوة، ولكنه القرآن والعلم والفقه(47)، وعن أبي العالية: الكتاب والفهم فيه(48)، وروي عن الإمام مالك أنه قال: (وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله)(49)، ولهذا قال ابن كثير في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} (12) سورة لقمان، (أي: الفقه في الإسلام، ولم يكن نبيًا، ولم يوحَ إليه)(50)، ومصداق هذه التفسيرات(51)، ما رواه حميد بن عبد الرحمن قال: سمعت معاوية  خطيبًا يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسمٌ والله يعطي،ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله»(52).
    الثاني: اتساع الخلاف في علم الفروع، وتشعب المذاهب في مسائله، حتى إنك لتجد الأقوال المتناقضة، في المسألة الواحدة، في المذهب الواحد، وهذا ما اشتكى منه الإمام الشافعي، واستدعاه إلى تصنيف رسالته الأصولية، وهو ما حرَّك الفقهاء أيضًا إلى استقراء أسباب الخلاف، والبحث في مثاراته، ولأجله ألف أبو الوليد ابن رشد الحفيد كتابه: (بداية المجتهد ونهاية المقتصد).
    على أن معرفة القواعد وحدها لا تكتفي لأن تعمل عملها في ضبط الفتيا، حتى ينضاف إليها الاقتدار على استثمار تلك القواعد، وتنزيل أحكامها على محالِّها، وطريق ذلك الاتساع في مطالعة كتب الفروع، وعرضها على القواعد والضوابط، ومزاحمة أهل الفقه في ذلك، وإلا «فما كلُّ من أحرز الفنون أجرى من قواعدها العيون، ولا كلُّ من عرف القواعد استحضرها عند ورود الحادثة التي يفتقر إلى تطبيقها على الأدلة والشواهد»(53).
    مناهج الفتيا المعاصرة
    مناهج الفتيا في النوازل المعاصرة:
    برزت في العصر الحاضر مناهج في النظر فيما استجد حدوثه من نوازل وواقعات، وبرز لكل منهج منها علماء ومفتون وجهات تبني اجتهادها في النوازل من خلال رؤية هذه المناهج وطرقها في النظر.
    وهذه المناهج المعاصرة في الفتيا والاجتهاد ليست وليدة هذا العصر، بل هي امتداد لوجهات نظر قديمة واجتهادات علماء وأئمة سلكوا هذه المناهج وأسسوا طرقها.
    فلن يكون مقصود بحثنا تأريخ هذه المناهج ورموزها إلا بقدر ما يوضح مناهج الفتوى والنظر في عصرنا الحاضر؛ إذ هي الوعاء لكل ما يجدَ وينزل بالناس من أحكام وواقعات معاصرة.
    ويمكن إجمال أبرز هذه المناهج المعاصرة في النظر في أحكام النوازل إلى ثلاثة مناهج، هي كالتالي:
    الأول: منهج التضييق والتشديد:
    من المقرر شرعًا أن هذا الدين بُني على اليسر ورفع الحرج، وأدلة ذلك غير منحصرة، فاستقراء أدلة الشريعة قاضٍ بأن الله ـ عز وجل ـ جعل هذا الدين رحمة للناس، ويسرًا، والرسول صلى الله عليه وسلم أصل بعثته الرأفة والرحمة بالناس ورفع الآصار والأغلال التي كانت واقعة على من قبلنا من الأمم، يقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِين َ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة . ويقول ـ عز وجل ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (107) سورة الأنبياء.
    ويقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا»(54).
    ومن أبرز أوصافه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما قاله ربه ـ عز وجل ـ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } (157) سورة الأعراف؛ ولذلك كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يترك بعض الأفعال والأوامر خشيه أن يشق على أمته، كما قال صلى الله عليه وسلم:«لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(55).
    ونظائره من السنة كثير؛ ولذلك كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يأمر أصحابه بالتيسير أيضًا على الناس وعدم حملهم على الشدة والضيق، فقد قال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ لما بعثهما إلى اليمن: «يسِّرا ولا تعسِّرا وبشِّرا ولا تنفِّرا»(56).
    إن منهج التضييق والتشدد من الغلو المذموم انتهاجه في أمر الناس، سواءً كان إفتاءً أو تعليمًا أو تربية أو غير ذلك، وقد يهون الأمر إذا كان في خاصة نفسه دون إلزام الناس به، ولكن الأمر يختلف عندما يتجاوز ذلك إلى الأمر به، والإلزام به، ويمكن إبراز بعض ملامح هذا المنهج في أمر الإفتاء بما يلي:
    المسألة الأولى: التعصب للمذهب أو للآراء أو لأفراد العلماء:
    تقوم حقيقة التعصب على اعتقاد المتعصب أنه قبض على الحق النهائي ـ في الأمور الاجتهادية ـ الذي لا جدال ولا مراء فيه، فيؤدي إلى انغلاقٍ في النظر، وحسن ظنٍ بالنفس، وتشنيع على المخالف والمنافس، مما يولد منهجًا متشددًا يتَّبعه الفقيه أو المفتي بإلزام الناس بمذهبه في النظر، وحرمة غيره من الآراء و المذاهب؛ مما يوقعه وإياهم في الضيق والعنت بالانغلاق على هذا القول أو ذاك المذهب دون غيره من الآراء و المذاهب الراجحة.
    يقول الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: «من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم»(57).
    مع العلم بأن مذهب جمهور العلماء عدم إيجاب الالتزام بمذهب معين في كل ما يذهب إليه من قول.
    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وإذا نزلت بالمسلم نازلة يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يوجبه ويخبر به، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم»(58).
    ولا يختلف الحال والأثر إذا كان التعصب لآراء وأقوال طائفة أو إمام معين لا يُخرَج عن اجتهادهم وافقوا الحق أو خالفوه.
    والناظر في أحوال الناس المعاصرة وما أصابها من تغيّر وتطور لم يسبق له مجتمع من قبل مع ما فيه من تشابك وتعقيد، يتأكد لديه أهمية معاودة النظر في كثير من المسائل الفقهية التي بنيت على التعليل بالمناسبة، أو قامت على دليل المصلحة أو العرف السائد؛ كنوازل المعاملات المعاصرة من أنواع البيوع والسلم والضمانات والحوالات وغيرها، أو كنوازل الأزمات والحروب كالتي تمر بالأمة هذه الأوقات، وقد يكون التمسك بنصوص بعض الفقهاء وشروطهم التي ليس فيها نصٌ صريح أو إجماع من التضييق والتشدد الذي ينافي يسر وسماحة الإسلام، وخصوصًا إن احتاج الناس لمثل هذه القضايا أو المعاملات التي قد تدخل في كثير من الأحيان في باب الضرورة أو الحاجة الملحة.
    المسألة الثانية: التمسك بظاهر النصوص فقط:
    إن تعظيم النصوص وتقديمها أصل ديني ومطلب شرعي لا يصح للمجتهد نظر إذا لم يأخذ بالنصوص ويعمل بها، ولكن الانحراف يحصل بالتمسك بظواهر النصوص فقط دون فقهها ومعرفة مقصد الشرع منها. ومما يدل على وجود هذا الاتجاه ما ذكره الدكتور صالح المزيد بقوله: «وقد ظهر في عصرنا من يقول: يكفي الشخص لكي يجتهد في أمور الشرع أن يقتني مصحفًا، مع سنن أبي داود، وقاموس لغوي»(59).
    وهذا النوع من المتطفلين لم يشموا رائحة الفقه فضلاً أن يجتهدوا فيه، وقد سماهم بعضهم بـ (الظاهرية الجدد) ـ مع فارق التشبيه في نظري ـ حيث قال عنهم: «المدرسة النصية الحرفية، وهم الذين أسميهم (الظاهرية الجدد)، وجلهم ممن اشتغلوا بالحديث، ولم يتمرسوا الفقه وأصوله، ولم يطلعوا على اختلاف الفقهاء ومداركهم في الاستنباط، ولا يكادون يهتمون بمقاصد الشريعة وتعليل الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال»(60).
    وهؤلاء أقرب شيء إلى ألسنتهم وأقلامهم إطلاق كلمة التحريم دون مراعاة لخطورة هذه الكلمة، ودون تقديم الأدلة الشافية من نصوص الشرع وقواعده سندًا للتحريم، وحملاً للناس على أشد مجاري التكليف، والله ـ عز وجل ـ قد حذر من ذلك حيث قال سبحانه:{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (116) سورة النحل.
    فكم من المعاملات المباحة حرمت، وكثير من أبواب العلم والمعرفة أُوصدت وأُخرج أقوام من الملَّة، زاعمين في ذلك كله مخالفة القطعي من النصوص والثابت من ظاهر الأدلة، وليس الأمر كذلك عند العلماء الراسخين.
    يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أوتحريمه أو إيجابه أو كراهيته... قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا أو حرّم كذا، فيقول الله له: كذبت لم أحل كذا، ولم أحرمه»(61).
    وهذا التحذير من إصدار أحكام الله تعالى قاطعة في النوازل والواقعات من دون علم راسخ، لا شك أنه يفضي إلى إعنات الناس والتشديد عليهم بما ينافي سماحة الشريعة ورحمتها بالخلق.
    وقد وقع في العصور الأخيرة من كفّر المجتمعات والحكومات، حتى جعلوا فعل المعاصي سببًا للخروج عن الإسلام، ومن أولئك القوم: ما قاله ماهر بكري أحد أعضاء التكفير والهجرة: «إن كلمة عاصي هي اسم من أسماء الكافر، وتساوي كلمة كافر تمامًا، ومرجع ذلك إلى قضية الأسماء، إنه ليس في دين الله أن يسمى المرء في آنٍ واحد مسلمًا وكافرًا»(62)!!؟
    المسألة الثالثة: الغلو في سد الذرائع والمبالغة في الأخذ بالاحتياط عند كل خلاف:
    دلت النصوص الكثيرة على اعتبار سد الذرائع والأخذ به حماية لمقاصد الشريعة وتوثيقًا للأصل العام الذي قامت عليه الشريعة من جلب المصالح ودرء المفاسد. ولله در ابن القيم ـ رحمه الله ـ إذ يقول: «فإذا حرّم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقًا لتحريمه، وتثبيتًا له، ومنعًا من أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقصًا للتحريم وإغراءً للنفوس به»(63).
    ويحدث الإشكال في اعتبار قاعدة سد الذرائع عندما تؤول المبالغة في الأخذ بها إلى تعطيل مصالح راجحة مقابل مصلحة أو مفسدة متوهمة يظنها الفقيه، فيغلق الباب إساءةً للشرع من حيث لا يشعر، كمن ذهب إلى منع زراعة العنب خشية اتخاذه خمرًا، والمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا، فهذه الأمثلة وغيرها اتفقت الأمة على عدم سده؛ لأن مصلحته راجحة، فلا تترك لمفسدة مرجوحة متوهمة(64).
    وتتمة البحث على الصفحة القادمة باذن الله

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2010
    المشاركات
    23

    Lightbulb صوابط فقه النازلة تتمة

    الثاني: منهج المبالغة في التساهل والتيسير:
    ظهر ضمن مناهج النظر في النوازل المعاصرة منهج المبالغة والغلو في التساهل والتيسير، وتعتبر هذه المدرسة في النظر والفتوى ذات انتشار واسع على المستوى الفردي والمؤسسي، خصوصًا أن طبيعة عصرنا الحاضر قد طغت فيه المادية على الروحية، والأنانية على الغير، والنفعية على الأخلاق، وكثرت فيه المغويات بالشر والعوائق عن الخير، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وشمال تحاول إبعاده عن دينه وعقيدته، ولا يجد مَنْ يعينه، بل ربما يجد من يعوقه.
    وأمام هذا الواقع دعا الكثير من الفقهاء إلى التيسير ما استطاعوا في الفتوى، والأخذ بالترخص في إجابة المستفتين، ترغيبًا لهم وتثبيتًا لهم على الطريق القويم(65).
    ولاشك أن هذه دعوى مباركة قائمة على مقصد شرعي عظيم من مقاصد الشريعة العليا، وهو رفع الحرج وجلب النفع للمسلم، ودرء الضرر عنه في الدارين، ولكن الواقع المعاصر لأصحاب هذا التوجه يشهد أن هناك بعض التجاوزات في اعتبار التيسير والأخذ بالترخص، وربما وقع أحدهم في رد بعض النصوص وتأويلها بما لا تحتمل وجهًا في اللغة أو في الشرع.
    وضغط الواقع ونفرة الناس عن الدين لا يسوّغ التضحية بالثوابت والمسلمات، أو التنازل عن الأصول والقطعيات، مهما بلغت المجتمعات من تغير وتطور؛ فإن نصوص الشرع جاءت صالحة للناس في كل زمان ومكان.
    يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ـ رحمه الله ـ في ذلك: «فعموم الشريعة لسائر البشر في سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون، وقد أجمعوا على أنها مع عمومها صالحة للناس في كل زمان ومكان، ولم يبينوا كيفية هذه الصلوحية، وهي عندي تحتمل أن تتصور بكيفيتين:
    الكيفية الأولى: أن هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال، بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر.
    الكيفية الثانية: أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلاً للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر، كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا حرجًا ولا عسرًا في الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة»(66).
    فمن الخطأ والخطر تبرير الواقع والمبالغة في فقه التيسير بالأخذ بأي قولٍ والعمل بأي اجتهادٍ، دون اعتبار الحجة والدليل مقصدًا مُهِّمًا في النظر والاجتهاد.
    ولعل من الدوافع لهذا الاتجاه الاجتهادي أن أصحاب هذه المدرسة يريدون إضفاء الشرعية على هذا الواقع، بالتماس تخريجات وتأويلات شرعية تعطيه سندًا للبقاء. وقد يكون مهمتهم تبرير أو تمرير ما يراد إخراجه للناس من قوانين أو قرارات أو إجراءات تريدها السلطة.
    ومن هؤلاء من يفعل ذلك مخلصًا مقتنعًا لا يبتغي زلفى إلى أحد، ولا مكافأة من ذي سلطان، ولكنه واقع تحت تأثير الهزيمة النفسية أمام حضارة الغرب وفلسفاته ومسلماته.
    ومنهم من يفعل ذلك رغبة في دنيا يملكها أصحاب السلطة أو مَن وراءهم من الذين يحركون الأزرار من وراء الستار، أو حبًا للظهور والشهرة على طريقة خالف تعرف، إلى غير ذلك من عوامل الرغب والرهب أو الخوف والطمع التي تحرك كثيرًا من البشر، وإن حملوا ألقاب أهل العلم، وألبسوا لبوس أهل الدين.
    ولا يخفى على أحد ما لهذا التيار الاجتهادي من آثار سيئة على الدين، وحتى على تلك المجتمعات التي هم فيها، فهم قد أزالوا من خلال بعض الفتاوى الفوارق بين المجتمعات المسلمة والكافرة، بحجة مراعاة التغير في الأحوال والظروف عما كانت عليه في القرون الأولى(67).
    ويمكن أن نبرز أهم ملامح هذا الاتجاه فيما يلي:
    أولاً: الإفراط بالعمل بالمصلحة ولو عارضت النصوص:
    إن المصلحة المعتبرة شرعًا ليست بذاتها دليلاً مستقلاً بل هي مجموع جزئيات الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة التي تقوم على حفظ الكليات الخمس، فيستحيل عقلاً أن تخالف المصلحة مدلولها أو تعارضه، وقد أُثبتت حجية المصلحة عن طريق النصوص الجزئية، فيكون ذلك من قبيل معارضة المدلول لدليله إذا جاء بما يخالفه، وهذا باطل(68).
    فالمصلحة عند العلماء ما كانت ملائمة لمقاصد الشريعة لا تعارض نصًا أو إجماعًا مع تحققها يقينيًا أو غالبًا وعموم نفعها في الواقع، أما لو خالفت ذلك فلا اعتبار بها عند عامة الفقهاء والأصوليين، إلا ما حُكِي عن الإمام الطوفي ـ رحمه الله ـ أنه نادى بضرورة تقديم دليل المصلحة مطلقًا على النص والإجماع عند معارضتهما له(69).
    وواقع الإفتاء المعاصر جنح فيه بعض الفقهاء والمفتين إلى المبالغة في العمل بالمصلحة ولو خالفت الدليل المعتبر.
    وظهر في الآونة الأخيرة بعض الفتـاوى التي أباحت بيع الخمر من أجل مصلحة البلاد في استقطاب السياحة، وإباحة الإفطار في رمضان من أجل ألا تتعطل مصلحة الأعمال في البلاد، وإباحة التعامل بالربا من أجل تنشيط الحركة التجارية والنهوض بها، والجمع بين الجنسين في مرافق المجتمع لما في ذلك من تهذيبٍ للأخلاق وتخفيفٍ للميل الجنسي بينهما!!؟(70).
    ثانيًا: تتبع الرخص والتلفيق بين المذاهب:
    الرخص الشرعية الثابتة بالقرآن والسنة لا بأس في العمل بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه»(71). أما تتبع رخص المذاهب الاجتهادية والجري وراءها دون حاجةٍ يضطر إليها المفتي، والتنقل من مذهب إلى آخر والأخذ بأقوال عددٍ من الأئمة في مسألة واحدة بغية الترخص، فهذا المنهج قد كرهه العلماء وحذَّروا منه، وإمامهم في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «إني أخاف عليكم ثلاثًا وهي كائنات: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تفتح عليكم»(72).
    فزلة العالِم مخوفة بالخطر لترتب زلل العالَم عليها، فمن تتبع زلل العلماء اجتمع فيه الشر كله.
    وقد حكى بعض المعاصرين خلافًا بين العلماء في تجويز الأخذ برخص العلماء لمن كان مفتيًا أو ناظرًا في النوازل(73).
    ولعل حكاية الخلاف ليست صحيحة على إطلاقها، وذلك للأسباب التالية:
    1 ـ أن الخلاف الذي ذكروه في جواز تتبع الرخص أخذوه بناءً على الخلاف في مسألة الجواز للعامي أن يتخير في تقليده من شاء ممن بلغ درجة الاجتهاد، وأنه لا فرق بين مفضول وأفضل، ومع ذلك فإنهم وإن اختلفوا في هذه المسألة إلا أنهم اتفقوا على أنه إن بان لهم الأرجح من المجتهدين فيلزمهم تقليده، ولا يجوز لهم أن يتتبعوا في ذلك رخص العلماء وزللهم والعمل بها دون حاجه أو ضابط(74).
    فلا يصح أن يُحكى خلافٌ للعلماء في مسألة تخريجًا على مسألة أخرى تخالفها في المعنى والمضمون، ولا تلازم بينها، وذلك أن الخلاف في حق العامي، أما المجتهد المفتي فلا يجوز له أن يفتي إلا بما توصل إليه اجتهاده ونظره(75).
    2 ـ أن بعض العلماء جوّز الترخص في الأخذ بأقوال أي العلماء شاء، وهذا إنما هو في حق العوام ـ كما ذكرنا ـ كذلك أن يكون في حالات الاضطرار، وأن لا يكون غرضه الهوى والشهوة. يقول الإمام الزركشي ـ رحمه الله ـ في ذلك: «وفي فتاوى النووي الجزم بأنه لا يجوز تتبع الرخص، وقال في فتاوٍ له أخرى؛ وقد سُئل عن مقلد مذهب: هل يجوز له أن يقلد غير مذهبه في رخصة لضرورة ونحوها؟ أجاب: يجوز له أن يعمل بفتوى من يصلح للإفتاء إذا سأله اتفاقًا، من غير تلقّط الرخص، ولا تعمد سؤال من يعلم أن مذهبه الترخيص في ذلك»(76).
    فالعلماء لا يجوزون تتبع الرخص إلا في حالات خاصة يبرّرها حاجة وحال السائل لذلك، لا أن يكون منهجًا للإفتاء يتبعه المفتي مع كل سائل أوفي كل نازلة بالهوى والتشهي(77).
    3 ـ أن هناك من العلماء من حكى الإجماع على حرمة تتبع الرخص حتى لو كان عاميًا، ومن أولئك الإمام ابن حزم رحمه الله(78)، وابن الصلاح رحمه الله(79)، وكذلك ابن عبد البر، حيث قال ـ رحمه الله ـ: «لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا»(80).
    وقد أفاض الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ في الآثار السيئة التي تنجم عن العمل بتلقّط الرخص وتتبعها من المذاهب، وخطر هذا المنهج في الفتيا(81).
    والتساهل المفرط ليس من سيما العلماء الأخيار، وقد جعل ابن السمعاني ـ رحمه الله ـ من شروط العلماء أهل الاجتهاد: الكف عن الترخيص والتساهل، ثم صنف ـ رحمه الله ـ المتساهلين نوعين:
    1 ـ أن يتـساهل في طلـب الأدلـة وطرق الأحـكام، ويأخـذ ببـادئ النظر وأوائـل الفكر، فهذا مقصر في حق الاجتهاد، ولا يحل له أن يفتي ولا يجوز.
    2 ـ أن يتساهل في طلب الرخص وتأول السنة، فهذا متجوز في دينه، وهو آثم من الأول(82).
    والملاحظ أن منهج التساهل القائم على تتبع الرخص يفضي إلى اتباع الهوى وانخرام نظام الشريعة، «فإذا عرض العامي نازلته على المفتي، فهو قائل له: أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق، فلا يمكن والحال هذه أن يقول له: في مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت»(83)، أو سأبحث لك عن قولٍ لأهل العلم يصلح لك، وقد قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: «لو أن رجلاً عمل بكل رخصه؛ بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، كان فاسقًا»(84).
    ويروى عن إسماعيل القاضي ـ رحمه الله ـ أنه قال: «دخلت على المعتضد فدفع إلي كتابًا، فنظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق، فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب»(85).
    ولعل واقعنا المعاصر يشهد جوانب من تساهل بعض الفقهاء في التلفيق بين المذاهب وتتبع الرخص، كما هو حاصل عند من يضع القوانين والأنظمة، أو يحتج بأسلمة القانون بناءً على هذا النوع من التلفيق، أما حالات الضرورة في الأخذ بهذا المنهج فإنها تقدر بقدرها.
    ثالثًا: التحايل الفقهي على أوامر الشرع:
    وهو من ملامح مدرسة التساهل والغلو في التيسير، وقد جاء النهي في السنة عن هذا الفعل حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل»(86). وعلى ذلك اتفق أكثر أهل العلم على عدم تجويزه(87). وفي ذلك يقول الإمام القرافي ـ رحمه الله ـ: «لا ينبغي للمفتي ـ إذا كان في المسألة قولان: أحدهما فيه تشديد، والآخر فيه تخفيف ـ أن يفتي العامة بالتشديد، والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف؛ وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين، ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى و إجلاله وتقواه، وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق، نعوذ بالله من صفات الغافلين»(88).
    وقد حكى أبو الوليد الباجي ـ رحمه الله ـ عن أحد أهل زمانه أخبره أنه وقعت له واقعة، فأفتاه جماعة من المفتين بما يضره، وكان غائبًا، فلما حضر قالوا: لم نعلم أنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى، قال: وهذا مما لا خلاف بين المسلمين المعتد بهم في الإجماع أنه لا يجوز(89).
    وقد فصَّل الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ القول في الحيل الممنوعة على المفتي، وما هو مشروع له، حيث قال: «لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق وحُرِمَ استفتاؤه، فإن حَسُن قصده في حيلةٍ جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة، لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك، بل استحب، وقد أرشد الله نبيه أيوب ـ عليه السلام ـ إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثًا فيضرب به المرأة ضربةً واحدة، وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً إلى بيع التمر بدراهم، ثم يشتري بالدراهم تمرًا آخر، فيخلص من الربا. فأحسن المخارج ما خلّص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم أو أسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم، والله الموفق للصواب»(90).
    وقد وقع كثير من الفقهاء المعاصرين في الإفتاء بجواز كثير من المعاملات المحرمة تحايلاً على أوامر الشرع؛ كصور بيع العينة المعاصرة، ومعاملات الربا المصرفية، أو التحايل على إسقاط الزكاة، أو الإبراء من الديون الواجبة، أو ما يحصل في بعض البلدان من تجويز الأنكحة العرفية تحايلاً على الزنا، أو تحليل المرأة لزوجها بعد مباينته لها بالطلاق، وكل ذلك وغيره من التحايل المذموم في الشرع(91).
    الثالث: المنهج الوسطي المعتدل في النظر والإفتاء:
    الشريعة الإسلامية شريعة تتميز بالوسطية واليسر؛ ولذا ينبغي للناظر في أحكام النوازل من أهل الفتيا والاجتهاد أن يكون على الوسط المعتدل بين طرف التشدد والانحلال، كما قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ: «المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.
    والدليل على صحة هذا أن الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة؛ فإنه قد مرّ أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع؛ ولذلك كان مَنْ خرج عن المذهب الوسط مذمومًا عند العلماء الراسخين... فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق، أما طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما طرف الانحلال فكذلك أيضًا؛ لأن المستفتي إذا ذُهِبَ به مذهب العنت والحرج بُغِّض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة، وهو مشاهد، وأما إذا ذُهِبَ به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي على الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة»(92). ولعل ما ذكرناه من ملامح للمناهج الأخرى المتشددة والمتساهلة كان من أجل أن يتبين لنا من خلالها المنهج المعتدل؛ وذلك أن الأشياء قد تعرف بضدها وتتمايز بنقائضها.
    وقد أجاز بعض العلماء للمفتي أن يتشدد في الفتوى على سبيل السياسة لمن هو مقدم على المعاصي متساهل فيها، وأن يبحث عن التيسير والتسهيل على ما تقتضيه الأدلة لمن هو مشدد على نفسه أو غيره؛ ليكون مآل الفتوى: أن يعود المستفتي إلى الطريق الوسط(93). ولذلك ينبغي للمفتي أن يراعي حالة المستفتي أو واقع النازلة، فيسير في نظره نحو الوسط المطلوب باعتدال، لا إفراط فيه نحو التشدد، ولا تفريط فيه نحو التساهل، وفق مقتضى الأدلة الشرعية وأصول الفتيا.
    وما أحسن ما قاله الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: «إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشدد فيحسنه كل أحد»(94). والظاهر أنه يعني تتبع مقصد الشارع بالأصل الميسور المستند إلى الدليل الشرعي.
    ولاشك أن هذا الاتجاه هو اتجاه أهل العلم والورع والاعتدال، وهي الصفات اللازمة لمن يتعرض للفتوى والتحدث باسم الشرع، وخصوصًا في هذا العصر.
    فالعلم هو العاصم من الحكم بالجهل، والورع هو العاصم من الحكم بالهوى، والاعتدال هو العاصم من الغلو والتفريط، وهذا الاتجاه هو الذي يجب أن يسود، وهو الاجتهاد الشرعي الصحيح، وهو الذي يدعو إليه أئمة العلم المصلحون(95).
    وسائل الفتيا المعاصرة
    حكم مشاركة المفتي في وسائل الإعلام والاتصال المعاصرة:
    يمكن تقسيم وسائل الإعلام والاتصال المعاصرة إلى قسمين:
    الأول: الوسائل الملتزمة بأحكام الشريعة.
    الثاني: الوسائل غير الملتزمة بأحكام الشريعة.
    والمقصود بالقسم الأول: تلك الوسائل الإعلامية، من تلفزة وإذاعة وصحافة، مما يُهْدَفُ من ورائه إلى دعوة الناس إلى الإسلام، وبثِّ الوعي الديني بين المسلمين، أو المخصصة لبث البرامج المباحة، التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة غالبًا، وإن فُرضَ وقوعُ الخطأ في بعضِ برامجها لم يقدَح هذا في أصلِ التزامِها، لكونه مغمورًا في بحرٍ من الصواب، ومطلوب الشارع من المكلَّفين السداد والمقاربة، لا العصمة المطلقة، فوقوع هذا النوع من الأخطاء لا أثَرَ له، لابتناء الحكم على الأعمِّ الأغلب، ولا عبرةَ بالشذوذ هنا(96).
    وبالقسم الثاني: الوسائل الإعلامية التي يغلب عليها بث البرامج المشتملة على المحرم، كالأغاني المحرمة، وظهور الكاسيات العاريات، والدعوة إلى البدع والشبهات.
    ضوابط مشاركة المفتي في وسائل الإعلام والاتصال المعاصرة:
    لابد لمن يتصدى للفتيا في هذه الوسائل الإعلامية من مراعاة الضوابط الشرعية لهذا العمل، وإلا كان ما يقوم به مثار فتنة وخبالٍ بين الناس، لأن حقيقة الفتيا بيان الحق للناس، فإذا لم يكن البيان واضحًا صريحًا، مطابقًا لما جاءت به الشريعة، وخالطته شائبة الجهل أو الهوى، فحينئذٍ يلتبس الحق بالباطل، والهدى بالضلال، وقد قال ـ عز وجل ـ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (71) سورة آل عمران.
    الضابط الأول: ألاَّ يوجد البديل النقي من الشوائب:
    الأصل في بيان الشريعة أن يكون بيانًا تامًّا ظاهرًا، خاليًا من شوائب اللبس والخلط، كما أن الأصل في وسائل الإعلام المستعملة في ذلك أن تكون نقيةً طاهرةً، بعيدة عن كل ما يُشَوِّش على وظيفتها البيانية، ومما يؤيد هذه الأصول في الشريعة، أنَّ الله تعالى قد أمر بتشييد المساجد لإقامة واجبي: البيان والعبادة، والالتقاء على ذلك في الجُمَع والجماعات، وأمر بتطهيرها وتنزيهها عما قد يُخِلُّ برسالتها، قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (125) سورة البقرة ،وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (26) سورة الحـج، فأمر تعالى بتطهير بيته ـ الذي هو محل عبادته وبيان شرعه ـ من الأوثان، والرفث، وقول الزور، والرجس(97).
    ولهذا فإن وسائل الإعلام والاتصال المتَّخَذة لنقل الأحكام والفتاوى الشرعية ينبغي أن تكون على قدرٍ من النزاهة والنقاء، وأن تنأى بنفسها عما يخل بهذه الرسالة العظيمة، أو يقدح في وثاقتها لدى الجمهور، فمن غير الجائز أن يظهر المفتي على شاشةِ قناةٍ مخصصةٍ للدعوة إلى الإلحاد أو الكفر أو البدعة، أو قناةٍ تدعو إلى الرذيلة، وتحارب الفضيلة أصالةً.
    كما أنه لا يجوز ظهوره في القنوات المختلطة، التي لم تؤسَّس على تقوى من الله ورضوان، بل يختلط فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال، فتكون مشاركة المفتي فيها نوعًا من إقرار باطلها، والترويج لرسالتها التضليلية. هذا فضلاً عن كون المشاركة في هذا النوع من القنوات فيضي إلى تكريس مبدأ ضالٍّ هو فصل الدين عن الحياة، لأن القائمين عليها يكتفون بتخصيص مساحةٍ محدودة للبرامج الدينية، بينما تنفصل سائر البرامج عن معايير الدين وضوابطه(98).
    هذا من حيث الأصل العام، فيجب أن تكون مشاركة المفتين مقصورةً عن القنوات النزيهة، المؤسسة على الهدى والإصلاح، فليُستَصحب هذا الأصل، ولا يُعدل عنه إلا لضرورةٍ ملجئةٍ، أو مصلحةٍ راجحة، لا تتحقق إلا بالعدول عن ذلك الأصل الأصيل(99).
    الضابط الثاني: تحقيق مقصد الشريعة في الفتيا:
    ومقصد الشريعة هنا: هو (البيان التام لحكم الله في النازلة، فيما يظهر للمفتي)، فهذا مقصدٌ يجب التحقق منه، والسعي في تقريره، وردُّ ما قد يَكِرُّ عليه بالإبطال، أو الإبهام. هذه هي الغاية؛ التي يجب تطويع هذه التقنية لخدمتها، لفتُجعل هي المقصود الأعظم من عقد برامج الإفتاء في وسائل الإعلام بعامة.
    ولهذا المقصد مكمِّلاتٌ عامةٌ وخاصةٌ، فأما العامة فنحو حثِّ المسلمين على الوحدة والاجتماع، ونبذ الفرقة والاختلاف، والتناصر والتعاضد فيما بينهم، وقطع دابر التنازع والتخاصم. وأما الخاصة فنحو توجيه النصح والإرشاد الغافل، والوعظ والزجر للعاصي الظالم لنفسه، والحث والتشجيع للمحسن السابق بالخيرات.
    الضابط الثالث: مراعاة أحوال المستفتين:
    كان المفتي قديمًا يُخاطب المستفتي وجهًا لوجهٍ بلا واسطة، أو يراسله بنفسه من بُعدٍ، ويتمكن المفتي من مساءلة المستفتي عن ظروفه وحاجاته وضروراته، وربما سمعه الجمعُ من الناس، يقلون أو يكثرون، لكن يبقى الأمر محصورًا في دائرةٍ محدودة، بحيث يسهل على المفتي الإحاطة بالوقائع المستفتى بشأنها. أما اليوم فإن الحال قد اختلفت، وغدا المفتي يُخاطب أممًا وشعوبًا متفاوتة، وصار يُخاطب بصوته وصورتهِ من في مشرق الأرض ومغربها، ولا شك أن هذا مما ينبغي أن يراعيه المفتي في فتياه، لتكون صالحةً للتنزيل على هذه البيئات المختلفة.
    فلابد للمفتي من حسن التصور للواقعة، ذلك أنَّ الفتيا الشرعية بيانٌ للحكم الشرعي، وكيف يبيِّن الحكم من لم يتبين السؤال تمام التبيُّن، ولئن كان من المسلَّم به أنَّ الحكم على شيء فرعٌ عن تصوره؛فإن برامج الفتيا المباشرة يقع فيها أحيانًا تجاوز هذه المسلَّمة، إذا تَتَّسم تلك البرامج بالعجلة والسرعة، وهذه طبيعة وسائل الإعلام المعاصرة بعامة، وبالأخص في برامجها المباشرة، فتجد مقدِّم البرنامج يكرر مطالبة المستفتين باختصار الأسئلة، مذكرً إياهم بضيق الوقت وكثرة المتصلين، فإذا انضمَّ إلى ذلك قصور المستوى العلمي أو اللغوي لكثير من المستفتين، بحيث يصعب على الواحد منهم التعبير عن مفصل الإشكال في مسألته، كان ذلك أدعى إلى حصول الغلط في السؤال والجواب.
    الضابط الرابع: حسن اختيار المفتي:
    تخضع عملية اختيار الضيوف في البرامج الإعلامية عمومًا لعدة مؤثرات، سواءٌ أكانت مؤثرات موضوعية مهنية، أو ذات منحنًى شخصي أو نفعي بحت(100)، ولما كانت برامج الفتيا تحتاج إلى فقيهٍ متمرِّسٍ، ذا اطلاعٍ واسعٍ بمجمل أبواب الشريعة، وخبرةٍ كبيرةٍ باختلاف الأحوال والأوضاع التي سوف يفتي بصددها، بالإضافة إلى استعمال الحكمة فيما يتكلم فيه، فيعرف متى يقدم على القول، ومتى يحجم، ومتى يشدد، ومتى ييسر، فإن على القائمين على تلك البرامج استقطاب العلماء الصالحين لهذا الموقع الخطير، استصلاحًا لأحوال الأمة، وارتقاءً بمستوى الوسيلة الإعلامية أيضًا.
    الضابط الخامس: التثبت في الفتيا العامة:
    هذه ضوابط فرعية يجمعها التثبت والتبين، قبل إصدار الفتيا العامة على الملأ:
    أ ـ الاحتياط في النوازل العامة.
    ب ـ استشارة أهل العلم.
    ج ـ الإفتاء بلفظ النص.
    د ـ مراعاة مراتب التحريم.
    هـ ـ التفصيل لا التعميم.
    أساليب الفتيا
    الفتيا الفردية:
    تمهيد: مفهوم الفتيا الفردية: هي الفتيا الصادرة من مفتٍ واحد، منسوبةٌ إلى الفرد الواحد من الفقهاء، وتقابلها الفتية الجماعية، وهي تصدر عن جماعة، وسيأتي بيانها في موضعها قريبًا ـ بإذن الله تعالى ـ.
    مدى الحاجة إلى الفتيا الفردية في هذا العصر:
    لم تزل الفتيا الفردية التي يقوم بها أفراد المفتين، هي الأصل في الإجابة عن سؤالات المستفتين، وإمداد الفقه الإسلامي بالاجتهادات المتنوعة، التي أثْرَت مجاله، وها هي دواوين الإسلام، الحديثية والفقهية؛ شاهدة بما قدمته فتاوى الأفذاذ من علماء الصحابة والتابعين لهم بإحسان على يوم الناس هذا، ولا جرم؛ فإن (هذا اللون من الاجتهاد هو الذي قامَ عليه صرح الفقه ـ غالبًا ـ)(101)،وشُيِّدت على أساسِه مذاهبُ المسلمين الفقهية، وما المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة، من حنفيةٍ ومالكية وشافعية وحنبلية، إلا أثرٌ من آثار الاجتهاد الفردي، فقد كانت لَبِناتُه الأولى فتاوى منثورة لأولئك الأئمة، الذين وُسِمَت تلك المذاهب بأسمائهم، إلى أن جاء تلاميذهم فجمعوا تلك الفتاوى وصنفوا، ورتبوها وبوَّبوا، واستدلوا لها وعللوا، وقاسوا عليها وخرَّجوا.
    ومع مراعاة جميع ما يذكر محاسن الفتيا الجماعية في هذا العصر(102)، إلا أنه لا ينبغي الغضُّ مقام الفتيا الفردية، ولا التهوين من شأنها، التي هي الأصل في هذا المجال، فضلاً عن أن يُتطلَّب إلغاؤها ومنعها.
    ومما يجلِّي أهمية الفتيا الفردية في هذا العصر، ويكشف مدى الحاجة إليها؛ ما يأتي:
    أ ـ أن الفتاوى الجماعية لا يمكن تستوعب النوازل المتعاقبة، التي يحتاج الناس فيها إلى جواب شافٍ، فمن المعلوم أن المجامع الفقهية لا تنعقد إلا في دورات متباعدة، وربما حصلت النازلة، ولم يكن انعقاد المجلس المجمعي إلا بعدَ فوات الأوان، ومعلومٌ أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة(103).
    ب ـ الفتيا الفردية تحظى بعناية خاصة من قبل مُصدِرِها، وذلك أنه يحرص فيها المفتي على (تتبع المسألة الاجتهادية في مختلف مظانها اللغوية والشرعية، مما لم يتهيأ في الغالب في الدراسة الجماعية، أو المجامع الفقهية)(104).
    ج ـ من المعلوم أن الفتاوى الفردية تثري الاجتهاد الجمعي، وتمدُّه بآراء متنوعة، بحيث يتمكن أعضاء المجمع من استعراض جميع الآراء الممكنة في المسألة، وتقليبها على أوجُهِها، واختيار ما يرونه صوابًا، بل إن كثيرًا من قرارات المجامع يكون أصلُها فتيا فردية،انعقدَ رأي الأعضاء عليها، أو وافق أكثرهم على اعتبارِها، فاكتسبت صفة الجماعية.
    د ـ كثيرٌ من المسائل الواقعة تكون نوازل فردية شخصية، ليس لها طبيعة العموم، ومثلُ هذه لا يمكن للمجامع أن تَتَبَّعَها، وتنشغل وتدارسها عن النوازل العامة، خصوصًا حين نتذكر ضيق الوقت بالنسبة إلى المجامع، ففي الغالب أن النوازل العامة تستغرق وقتًُا أكبر من الوقت المخصص لها في الدورة الواحدة، ولهذا فإن الفتية الفردية هي الأنسب لهذا الجنس من المسائل.
    عوامل تقويم الفتيا الفردية:
    تقدم أنه ينبغي التواصي بضبط الفتاوى الفردية، والسعي في ترشيدها وتسديدها، وذلك يحصل بتأصيل أصولها، وتقرير معاييرها، وتصحيح صحيحها، وتفنيد باطلها، وامتحان زائفها بالوقائع الجارية، وحجز الجهلة عن التواثب على منابرها، وهذا ضربٌ من الجهاد العلمي عزيزٌ، وبيان هذه الضوابط فيما يأتي:
    أ ـ تأصيل علم الفتيا.
    ب ـ بروز العلماء الكبار.
    ج ـ إعداد الفقيه الراسخ.
    د ـ تفنيد الفتاوى الخاطئة.
    هـ ـ امتحان الفتاوى الزائفة.
    الفتيا الجماعية:
    تمهيد: المراد بالفتيا الجماعية: يمكن تعريف الفتيا الجماعية بأنها: (الفتيا الصادرة باسم جماعة من المختصين بالشريعة، بعد تداولهم الرأي حولها)(105).
    مدى الحاجة على الفتيا الجماعية في هذا العصر:
    أ ـ الفتيا الجماعية تنفي الفتاوى الضعيفة.
    ب ـ الفتيا الجماعية طريق إلى وحدة الأمة.
    ج ـ الفتيا الجماعية قوةٌ سياسية.
    مدى حجية الفتيا الجماعية:
    اختلف المعاصرون في تحديد مستوى حجية الفتاوى الجماعية الصادرة عن المجامع الفقهية وذلك على قولين:
    أ ـ أنها إجماع واقعي واجب الاتباع:
    وقد ذهب إلى هذا بعض المعاصرين(106)، وعَدُّوا الاجتهادَ الجماعي هو (الإجماع الواقعي)
    الذي يختلف ـ عندهم ـ عن (الإجماع الأصولي) في أمرين:
    ب ـ أن الاجتهاد الجماعي حجة ظنية راجحة:
    وفيه قال بعض المعاصرين(107)، قالوا: فاتباعه أولى من اتباع الاجتهاد الفردي، لكن يجوز لللآخرين أن يجتهدوا بخلافه، إلا إذا صدر بتنظيمه قرارٌ من ولي أمر المسلمين، فحينئذٍ تكون مقررات المجمع الاجتهادي أحكامًا ملزمةً للكافة، وقواعد قانونية عامة لكل الناس، يجب اتباعها، وتحرم مخالفتها، لما هو مقرر من أن حكم الحاكم يرفع الخلاف، ووجوب طاعة ولي الأمر(108).
    الترجيح:
    الذي يظهر أن فتاوى المجامع الفقهية العامة هو قولُ جماعة من أهل العلم، لا جميعهم، ويمكن أن تُعَدَّ من قرائن الترجيح بين الأقوال، لكن لا يصح اعتبارها إجماعًا، ولا حجةَ فيها تجاه المخالف، وإنما الحجة في الدليل الشرعي السالم من المعارِض الراجح.
    والقول بأن فتاوى المجامع تُعَدُّ إجاعًا؛ هو محاولةٌ لتطوير الشريعة وأدلتها بما يتناسب مع أوضاع العصر وتغيراته(109)، لكنه كما لا يخفى قد جانَبَ الصواب من حيث كونه ابتغى التطوير فيما لا يدخله التطوير، فإنه لا يجوز لأحدٍ كائنًا من كان أن يَنصِبَ للناس دليلاً شرعيًا لم يأذن به الله ـ عز وجل ـ، ولا أن يُلزِمَهُم بما لم يُلزِمهم الله به.
    1) لأن العلم يرد إلى أهله والفضل يعود لصاحبه فلم يكن ماسطرته إلا جمعا ممن كتب في هذا الموضوع وهي كتاب فقه النوازل لمحمد الجيزاني والفتيا المعاصرة للدكتور خالد المزيني وضوابط النوازل للشيخ صالح بن حميد حتى لا يظن ظان أن هذه المادة من جعبتي إنما سلكت مسلكا من مسالك بعض أهل العلم وهي طريقة الجمع
    2) المستصفى (ص3).
    3) التعريفات للجرجاني (ص8).
    4) إعلام الموقعين (1/217).
    5) راجع: إرشاد الفحول (ص202).
    6) انظر: لسان العرب (11/656 ـ 659).
    7) انظر: عقود رسم المفتي من مجموعة رسائل ابن عابدين (1/17).
    8) انظر: النوازل الفقهية في العمل القضائي المغربي، د. عبد اللطيف هداية الله (ص319).
    9) جامع بيان العلم وفضله (2/55).
    10) انظر: المنثور للزركشي (1/69).
    11) انظر: المجموع شرح المهذب (1/27،45).
    12) انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/139)، وجامع العلوم والحكم (1/240 ــ 252)، وإعلام الموقعين (1/69).
    13) انظر: (1/49)
    14) إعلام الموقعين (1/87، 88).
    15) قال في المسودة: (وأما التخريج فهو نقل حكم مسألة إلى ما يشبهها، والتسوية بينهما فيه). المسودة (2/948).
    16) انظر: التخريج عند الفقهاء والأصوليين (ص185، 186).
    17) الاستنباط: هو استخراج الحكم بالاجتهاد. انظر: المصباح المنير (ص591).
    18) انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض (ص179).
    19) جامع بيان العلم وفضله (2/848).
    20) الفروق (1/176، 177).
    21) إعلام الموقعين (3/89).
    22) لسان العرب (3/354).
    23) أخرجه البخاري ـ كتاب،الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (6463) من حديث أبي هريرة .
    24) لسان العرب (3/354).
    25) مقاصد الشريعة العامة (183).
    26) المرجع السابق (183)، بتصرف يسير.
    27) انظر: أثر الأدلة المختلف فيها؛ د. البغا (29) وما بعدها.
    28) انظر: الموافقات، للشاطبي (2/9).
    29) المرجع السابق (2/9).
    30) المرجع السابق (4/76).
    31) المرجع السابق (4/77).
    32) المرجع السابق (4/76).
    33) انظر: إعلام الموقعين (1/412).
    34) مجموع الفتاوى (34/206).
    35) الموافقات (4/122).
    36) لسان العرب (3/362)، وقد جعل ابن فارس مادة (قعد) أصلاً مطّردًا منقاسًا لا يُخلِف، قال: «وهو يضاهي الجلوس، وإن كان يُتكلم في مواضع لا يتكلم فيها بالجلوس». معجم المقاييس، مادة (قعد) (5/108)، ولعله يشير إلى أن (قعد) منه حسيٌّ، ومنه معنويٌّ، بخلاف (جلس) فإنه لا ينطلق إلا على الحسي.
    37) قاله الفراء، كما في تفسير السمعاني (1/139).
    38) قال الكسائي كما في تفسير البغوي (1/115)، واختاره الطبري كما في تفسيره (1/546).
    39) البرهان (2/870).
    40) إعلام الموقعين (1/47،46).
    41) المرجع السابق (1/46)، ثم أورد ابن القيم نقولاً في هذا المعنى.
    42) طبقات الحنفية؛ للقرشي (52)، إيقاظ الهمم؛ للعمري (51).
    43) التقرير والتحبير؛ لابن أمير الحاج (3/462)، المدخل؛ لابن بدران (368).
    44) المدخل الفقهي العام (2/965).
    45) ومن ثم قال الشافعي للزعفراني: «أتعلم دقيق العلم كي لا يضيع». من المنثور للزركشي (1/70، 71).
    46) تفسير الطبري (3/90).
    47) المرجع السابق.
    48) المرجع السابق.
    49) ذكره ابن كثير في تفسيره للآية المذكورة (1/323).
    50) تفسير ابن كثير (3/445).
    51) للعلماء في تفسير (الحكمة) أقوالٌ، تبلغ تسع وعشرين قولاً، قريبٌ بعضها من بعض؛ كما ذكره الآلوسي في تفسيره (3/41)، وكلها تجتمع في معنى الإحكام والإتقان؛ كما أفاد القرطبي في تفسيره (3/330).
    52) أخرجه البخاري ـ كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا (71)، ومسلم ـ كتاب الزكاة، باب النهي عن المسالة (1037).
    53) إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد؛ للصنعاني (130).
    54) أخرجه مسلم ـ كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقًا إلا بنية (1478) من حديث جابر .
    55) أخرجه البخاري ـ كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة (887)، ومسلم ـ كتاب الطهارة، باب السواك (1732) من حديث أبي هريرة .
    56) أخرجه البخاري ـ كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب (3038)، ومسلم ـ كتاب الجهاد، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير (1732) من حديث سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده.
    57) الآداب الشرعية لابن مفلح (2/45).
    58) مجموع الفتاوى (20/208، 209).
    59) انظر: فقه الأئمة الأربعة بين الزاهدين فيه والمتعصبين له (ص66)
    60) انظر: الاجتهاد المعاصر (ص88).
    61) إعلام الموقعين (4/134).
    62) نقلاً من كتاب الغلو في الدين، د. عبد الرحمن اللويحق (ص273).
    63) إعلام الموقعين (3/109).
    64) انظر: الفروق للقرافي (2/33).
    65) انظر: الفتوى بين الانضباط والتسيب (ص111).
    66) انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية (ص92, 93).
    67) انظر: بعضًا من هذه الفتاوى من كتاب تغليظ الملام على المتسرعين في الفتيا وتغيير الأحكام للشيخ حمود التويجري ص 58 – 88
    68) انظر: ضوابط المصلحة (ص110).
    69) انظر: المستصفى (2/293).
    70) انظر: رفع الحرج لابن حميد (ص312، 313).
    71) أخرجه أحمد في المسند (2/108)، وابن حبان في صحيحه ـ فصل في صلاة السفر، ذكر استحباب قبول رخصة الله (6/451) (ح2742) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
    72) أخرجه الطبراني في الكبير (282) وفي الأوسط (6/342) من حديث معاذ بن جبل ، وهذا الحديث له شواهد مرفوعة وموقوفة يقوى بها إلى الحسن لغيره. انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/980)، والفقيه والمتفقه (2/26)، وحلية الأولياء (4/196).
    73) انظر: بحث د. سعد العنزي بعنوان (التلفيق في الفتوى) (ص274 ـ 305)، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، العدد (38) 1420هـ.
    74) انظر: الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (ص230).
    75) انظر: الموافقات (الحاشية) (5/98)، والاجتهاد والتقليد د. الدسوقي (ص233).
    76) البحر المحيط (6/326).
    77) أدب المفتي والمستفتي (ص125, 126).
    78) مراتب الإجماع (ص58).
    79) أدب المفتي والمستفتي (ص125).
    80) جامع بيان العلم وفضله؛ انظر: شرح الكوكب المنير (4/578).
    81) انظر: الموافقات (5/79 ـ 105).
    82) انظر: تهذيب الفروق (2/117)
    83) الموافقات (5/97).
    84) إرشاد الفحول (ص272).
    85) المرجع السابق.
    86) أورده الحافظ ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود (9/244)، وقال فيه: رواه ابن بطة وغيره بإسناد حسن، وقال أيضًا: وإسناده مما يصححه الترمذي.
    87) انظر: أدب المفتى والمستفتي (ص111).
    88) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (ص250).
    89) انظر: تبصرة الحكام (1/64).
    90) إعلام الموقعين (4/170 , 171).
    91) انظر: الموافقات (3/108 ـ 116)، (5/187).
    92) الموافقات (5/276 ـ 278).
    93) انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص11، 112).
    94) جامع بيان العلم وفضله (1/784).
    95) انظر: الفتوى في الإسلام للقاسمي (ص59)، والاجتهاد المعاصر (ص91).
    96) يتردد هذا المعنى في عبارات الفقهاء، في تناولهم للفروع الفقهية، ومن عباراتهم في هذا السياق، اليسير معفوٌّ عنه، العبرة بالغالب، لا عبرة بالنادر الشاذ، النادر لا حكم له، انظر نماذج تطبيقية في: بدائع الصنائع للكاساني (1/110)، وحاشية ابن عابدين (1/460)، والمجموع للنووي (1/290)، والمبدع لابن مفلح (2/121)، وانظر في تقرير هذه القاعدة والتفريع عليها: نظرية التقريب والتغليب، د. أحمد الريسوني.
    97) نقله ابن كثير عن مجاهد وسعيد بن جبير، [تفسيره (1/172)].
    98) الإعلام الإسلامي في القنوات الفضائية؛ د. عبد القادر طاش (23).
    99) وذلك كما إذا عُدم البديل النزيه، أو كان الفارق بين القنوات المختلطة والنزيهة كبيرًا، من حيث سعة الانتشار، وقوة التأثير، أو غير ذلك من الأسباب التي يقدرها الفقيه المجتهد بمعيار المصلحة الشرعية.
    100) فرحان (206).
    101) الجتهاد الجماعي ودور المجامع الفقهية في تطبيقه؛ د. شعبان محمد إسماعيل (21).
    102) مما سيأتي بيانه قريبًا ـ بإذن الله تعالى ـ.
    103) انظر التقرير والتحبير؛ لابن أمير الحاج (2/403).
    104) الاجتهاد الفقهي للحديث؛ د. وهبة الزحيلي (34).
    105) عرفها بعض الباحثين بتعريفات غير منضبطة، انظر مثلاً: الاجتهاد في الشريعة (182).
    106) منهم المشايخ: عبد الوهاب خلاف في كتابه (على أصول الفقه) (ص50)، ومحمود شلتوت في كتابه (الإسلام عقيدة وشريعة) (ص553 ــ 555) وعلي حسب الله، في كتابه (أصول التشريع) (ص129).
    107) ومنهم: عبد المجيد السوسوة الشرفي، في كتابه: (الاجتهاد الجماعي) (104)، والدكتور محمد فرغلي في كتابه (حجية الاجتماع) (254).
    108) الاجتهاد الجماعي؛ د. الشرفي (105).
    109) انظر: بحث د. جمال الدين محمود، (الاجتهاد الجماعي في المملكة العربية السعودية)، ضمن ندوة الاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي، بجامعة الإمارات، ص (392).
    هذا وتتمة البحث قادم انشاء الله
    والله اعلم واحكم وصلى الله على محمد واله وصحبه والتابعين

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Feb 2010
    المشاركات
    23

    Lightbulb صوابط فقه النازلة(التي ينبغي للمجتهد معرفتها قبل الحكم على النازلة)

    بسم الله الرحمن الرحيم
    والصلاو والسلام على سيد ولد ادم وعلى اله وصحبه والتابعين
    فهذا تتمة البحث الاول المتعلق بفقه النوازلويتعلق الامر بظوباط ينبغي للمجتهد معرفتها عن النازلة فبل الحكم عليها
    ويتعلق بالنظر في النوازل شروط جمة منها العلم والعدالة؛ فشرط العلم يدخل فيه الإخبار بالحكم الشرعي على الوجه الأكمل بعد معرفة الواقعة من جميع جوانبها.
    وشرط العدالة يدخل فيه عدم التساهل في الفتوى بالشرع والمحاباة فيها، مع مراعاة وجه الحق في كل ذلك والنظر إلى مشكلات الناس برحمة ويسر الشرع، وحمل أفعالهم على الوسط في أحكامه. إلى غيرها من الشروط التي ذكرها أهل العلم فيمن يتصدى للنظر والإفتاء، وهي كالتكملة والتتمة لما ينبغي أن يكون عليه الناظر من العدالة والعلم(1).
    إلا أن خطة النظر والاجتهاد والإفتاء في النوازل والواقعات قد أصابتها عوارض أخرجتها عن النهج الذي قرره أهل العلم من مبادئ وأسس للنظر، وهذا النوع من الخلل إما أن يكون من جهة الزيغ في إصدار الأحكام، أو في كيفية النظر في تناول هذه المستجدات، وإما من جهة انحراف الناظر وعدم إخلاصه وتقواه في فتواه واجتهاده؛ مما جعل بعض الأئمة والعلماء يتذمرون ويشتكون من ذلك في كل عصر يخرج فيه أهل النظر والاجتهاد عن الطريق السوي.
    وقد حصل ما يدل على ذلك في عهد مبكر يشهد عليه الإمام مالك ـ رحمه الله ـ حيث قال: «ما شيء أشد عليّ من أن أُسأل عن مسألة من الحلال والحرام؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله، ولقد أدركت أهل العلم والفقه في بلدنا وإن أحدهم إذا سُئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه، ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدًا لقللوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب وعليًا وعلقمة خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل وهم خير القرون الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون،ثم حينئذٍ يفتون فيها، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا، فبقدر ذلك يُفتح لهم من العلم»(2).
    ويتضح لنا من كلام الإمام مالك ـ رحمه الله ـ المنهجية المثلى التي كان
    السلف ـ رحمهم الله ـ يتبعونها عند نظرهم واجتهادهم في الأحكام والواقعات؛ من عدم التسرع في الفتوى، أو التقصير في بحثها والنظر فيها، أو قلة التحري والتشاور في أمرها، مما يؤدي إلى انخرامٍ ظاهرٍ في نظام النظر والاجتهاد و الفتيا، أو تسيبٍ واعتسافٍ في احترام هذا المقام العالي من الشريعة(3).
    ومن أجل هذه الأهمية في المحافظة على هذا المقام والتأكيد على ما يحتاجه الفقيه من ضوابط وشروط للنظر، لاسيما في النوازل المعاصرة التي يكثر فيها زلل الأقدام وانحراف الأفهام، وذلك بما تميز به عصرنا من صراعات ثقافية وتيارات فكرية، بالإضافة إلى كثرة المؤثرات النفسية والاجتماعية والسياسية، مما يجعلها في عصرنا أشد من أي عصر مضى، ويزداد أمر الانحراف في الاجتهاد والنظر خطرًا تبعًا لاتساع دائرة انتشار هذه الاجتهادات والفتاوى بواسطة وسائل الإعلام الحديثة من طبع ونشر وإذاعة وتلفزة.
    إن الضوابط والآداب التي ينبغي أن يراعيها الناظر في النوازل وخصوصًا ما كان منها معاصرًا، منها ما يحتاجه قبل الحكم في النازلة، وهذا النوع من الضوابط يكون ضروريًا لإعطاء المجتهد أهلية كاملة وعدة كافية يتسنى بها الخوض للنظر والاجتهاد في حكمها، وهناك ضوابط أخرى يحتاجها الناظر أثناء البحث والاجتهاد في حكم النازلة، ينتج من خلال هذه الضوابط أقرب الأحكام للصواب وأوفقها للحق بإذن الله.
    وسيكون البحث في هذا المطلب حول أهم الضوابط التي يحتاجها الناظر في النوازل قبل الحكم في النازلة؛ على النحو التالي:
    أولاً: التأكد من وقوعها:
    الأصل في المسائل النازلة وقوعها وحدوثها في واقع الأمر، وعندها ينبغي أن ينظر المجتهد في التحقق من وقوعها والتأكد من حدوثها، ومن ثمَّ استنباط حكمها الشرعي، وقد يحصل أن يُسأل الفقيه المجتهد عن مسألة لم تقع تكلفًا من السائل وتعمقًا منه في تخيلات وتوقعات لا تفيد صاحبها ولا تنفع عالمًا أو متعلمًا، وذلك لبعد وقوعها واستحالة حدوثها.
    ولا يخفى أن التوغل في باب الاجتهاد إنما هو للحاجة التي تنزل بالمكلف يحتاج فيها إلى معرفة حكم الشرع وإلا وقع في الحرج والعنت أو الخوض في مسائل الشريعة بغير علم أو هدى، أما إذا كان باب الاجتهاد مفتوحًا من غير حاجة وقعت ودون حادثة نزلت،فلا شك في كراهية النظر في مسائل لم تنزل أو يستبعد وقوعها(4).
    ويؤيد ذلك ما جاء عن سلفنا الصالح من كراهية السؤال عمَّا لم يقع وامتناعهم عن الإفتاء، فيها، وبعضهم ذهب إلى التشديد في ذلك والنهي عنه(5).
    ويُروى عن الصحابة في ذلك آثار كثيرة منها: أن رجلاً جاء إلى ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فسأله عن شيء، فقال له ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلعن من سأل عما لم يكن»(6).
    وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه إذا سأله إنسان عن شيء قال: «آلله ! أكان هذا؟ فإن قال: نعم، نظر وإلا لم يتكلم»(7).
    «وعن مسروق قال: كنت أمشي مع أُبي بن كعب رضي الله عنه فقال: فتىً: ما تقول يا عماه في كذا وكذا؛ قال: يا بن أخي! أكان هذا؟ قال: لا، قال: فاعفنا حتى يكون»(8).
    «ويروى عن عبد المـلك بن مروان ـ رحمه الله ـ أنه سأل ابن شهـاب ـ رحمـه الله ـ فقال له ابن شهاب: أكان هذا بأمير المؤمنين؟ قال: لا، قال: فدعه، فإنه إذا كان، أتى الله عز وجل له بفرج»(9).
    فهذه الآثار وغيرها كثير تبين حرص الصحابة والتابعين على عدم الخوض في مسائل لم تقع، سواءً بالسؤال عنها أو بالجـواب فيها؛ لأن النظر فيها لا ينفع، كـما
    هو معلوم عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ مع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال فيهم ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «ما رأيت قومًا كانوا خيرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وما سألوا إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، وما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم»(10).
    ويوضح ابن القيم ـ رحمه الله ـ مقصد ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بقوله: «ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة»، فقال: «المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم، وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبين لهم أحكامها في السنة لا تكاد تحصى، ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات، ولم يكونوا يسألونه عن المقدرات والأغلوطات وعضل المسائل، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها، بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به، فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه، فأجابهم، وقد قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(*) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ)(11)»(12 ).
    فعلى المجتهد أو المفتي في النوازل أن يتأكد من وقوع النازلة، ولا ينظر في المسائل الغريبة والنادرة أو المستبعدة الحصول، ولكن إذا كانت المسألة ولو لم تقع منصوصًا عليها، أو كان حصولها متوقعًا عقلاً فتستحب الإجابة عنها، والبحث فيها؛ لأجل البيان والتوضيح ومعرفة حكمها إذا نزلت.
    وفي هذا يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ بعد أن حكى امتناع السلف عن الإجابة فيما لم يقع: «والحق التفصيل، فإذا كان في المسألة نص من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيها وإن لم يكن فيها نص ولا أثر، فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها.
    وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد، وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم، ولاسيما إن كان السائل يتفقه بذلك، ويعتبر بها نظائرها، ويفرع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى والله أعلم»(13).
    ثانيًا: أن تكون النازلة من المسائل التي يسوغ النظر فيها:
    بيَّنا فيما سبق أهمية مراعاة المجتهد، وتأكده من وقوع النازلة، وترك النظر عما لم يقع أو يستبعد وقوعه عقلاً؛ وذلك حتى لا ينشغل أهل الاجتهاد عما هو واقع فعلاً أو ما لا نفع فيه ولا فائدة.
    وإذا قررنا مبدأ النظر في الوقائع الحادثة للناس والمجتمعات، فللمجتهد بعد ذلك أن يعرف ما يسوغ النظر فيه من المسائل وما لا يسوغ، وهذا الضابط لا ينفك عن الذي قبله؛ وذلك لأن المجتهد قد يترك الاجتهاد في بعض المسائل التي لا يسوغ فيها النظر؛ لأن حكمها كحكم ما لم يقع من المسائل لعدم الفائدة والنفع من ورائها، فالضابط الذي ينبغي أن يراعيه المجتهد الناظر ألا يشغل نفسه وغيره من أهل العلم إلا بما ينفع الناس ويحتاجون إليه في واقع دينهم ودنياهم.
    أما الأسئلة التي يريد بها أصحابها المراء والجدال أو التعالم والتفاصح أو امتحان المفتي وتعجيزه أو الخوض فيما لا يحسنه أهل العلم والنظر، أو نحو ذلك، فهذه مما ينبغي للناظر أن لا يلقي لها بالاً؛ لأنها تضر ولا تنفع وتهدم ولا تبني وقد تفرق ولا تجمع.
    وقد ورد النهي عن ذلك كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الغلوطات(14).
    وجاء عن معاوية رضي الله عنه: أنهم ذكروا المسائل عنده، فقال: «أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عضل المسائل»(15).
    قال الخطابي ـ رحمه الله ـ في هذا المعني: «الغلوطات: جمع غلوطة، وهي المسألة التي يعيا بها المسؤول فيغلط فيها، كره أن يُعترض بها العلماء فيغالطوا ليستزلوا ويستسقط رأيهم فيها»(16).
    فشداد المسائل وصعابها مما لا نفع فيه ولا فائدة إلا إعنات المسئول لاشك أنه مذموم شرعًا، ينبغي أن يحذر الفقيه أو الناظر من الانسياق الملهي خلف هذه المسائل والانشغال بها عما هو أهم وأعظم، كذلك ينبغي للناظر أن لا يقحم نفسه ويجتهد في المسائل التي ورد بها النص؛ إذ القاعدة فيها: «لا مساغ للاجتهاد في مورد النص»(17).
    والمقصود بهذه القاعدة ـ على وجه الإجمال ـ ما قاله الإمام الزركشي ـ رحمه الله ـ أن «المجتهد فيه وهو كل حكم شرعي عملي أو علمي يقصد به العلم ليس فيه دليل قطعي»(18).
    ويمكن من خلال النقاط التالية إبراز ما يسـوغ للمجتهد أن ينظر فيه من النوازل بإجـمـالٍ:
    1 ـ أن تكون هذه المسألة المجتهد فيها غير منصوصٍ عليها بنصٍ قاطعٍ أو مجمع عليها.
    2 ـ أن يكون النص الوارد في هذه المسألة ـ إن ورد فيها نصٌ ـ محتملاً قابلاً للتأويل.
    3 ـ أن تكون المسألة مترددة بين طرفين وضح في كل واحدٍ منهما مقصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر(19).
    4 ـ أن لا تكون المسألة المجتهد فيها من مسائل أصول العقيدة والتوحيد أو في المتشابه من القرآن والسنة.
    5 ـ أن تكون المسألة المجتهد فيها من النوازل والوقائع أو مما يمكن وقوعها في الغالب والحاجة إليها ماسة(20).
    ثالثًا: فهم النازلة فهمًا دقيقًا:
    إن فقه النوازل المعاصرة من أدق مسالك الفقه وأعوصها حيث إن الناظر فيها يطرق موضوعات لم تطرق من قبل ولم يرد فيها عن السلف قول، بل هي قضايا مستجدة، يغلب على معظمها طابع العصر الحديث المتميز بابتكار حلولٍ علمية لمشكلات متنوعة قديمة وحديثة واستحداث وسائل جديدة لم تكن تخطر ببال البشر يومًا من الدهر والله أعلم.
    من هذا المنطلق كان لا بد للفقيه المجتهد من فهم النازلة فهمًا دقيقًا وتصورها تصورًا صحيحًا قبل البدء في بحث حكمها، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، وكم أُتِي الباحث أو العالم من جهة جهله بحقيقة الأمر الذي يتحدث فيه؟ فالناس في واقعهم يعيشون أمرًا، والباحث يتصور أمرًا آخر ويحكم عليه.
    فلابد حينئذ من تفهم المسألة من جميع جوانبها والتعرف على جميع أبعادها وظروفها وأصولها وفروعها ومصطلحاتها وغير ذلك مما له تأثير في الحكم فيها(21).
    ولأهمية هذا الضابط جاء في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ ما يؤكد ضرورة الفهم الدقيق للواقعة حيث جاء فيه: «أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أُدليَ إليك؛ فإنه لا ينفع تكلم بالحق لا نفاذ له ... ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق»(22).
    يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ معلقًا وشارحًا هذا الكتاب بقوله: «ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
    أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.
    والثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا ... ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحةً بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله»(23).
    ومما ينبغي أن يتفطن له المفتي أو الناظر التبيّن من مقصود السائل أو المستفتي وطلب المزيد من الإيضاح والاستفصال منه؛ وذلك حين لا يفهم المفتي صورة النازلة كما يجب، من أجل التعرف السليم على الحكم الشرعي الذي تندرج تحته تلك النازلة أو حين يكون الأمر يدعو إلى التفصيل والإيضاح.
    وقد ضرب ابن القيم ـ رحمه الله ـ عدَّة أمثلةٍ في هذا المجال فمن ذلك: «إذا سُئِلَ عن رجل حلف لا يفعل كذا وكذا، ففعله، لم يجز له أن يفتي بحنثه حتى يستفصله؛ هل كان ثابت العقل وقت فعله أم لا؟ وإذا كان ثابت العقل فهل كان مختارًا في يمينه أم لا؟ وإذا كان مختارًا فهل استثنى عقيب يمينه أم لا؟ وإذا لم يستثن فهل فعل المحلوف عليه عالمًا ذاكرًا مختارًا أم كان ناسيًا أو جاهلاً أو مكرهًا؟ وإذا كان عالمًا مختارًا فهل كان المحلوف عليه داخلاً في قصده ونيته أو قصد عدم دخوله مخصصه بنيته أو لم يقصد دخوله ولا نوى تخصيصه؟ فإن الحنث يختلف باختلاف ذلك كله»(24).
    فالمقصود أن يتنبه المفتي والناظر على وجوب الفهم الكامل للنازلة والاستفصال عند وجود الاحتمال لأن المسائل النازلة ترد في قوالب متنوعة وكثيرة، فإن لم يتفطن لذلك المجتهد أو المفتي هلك وأهلك(25).
    والمتأمل في بعض فقهاء العصر يجد بعضهم يجازف بالفتوى في أمور المعاملات الحديثة، مثل التأمين بأنواعه، وأعمال البنوك، والأسهم والسندات، وأصناف الشركات، فيحرم ويحلل دون أن يحيط بهذه الأشياء خبرًا ويدرسها جيدًا، ومهما يكن علمه بالنصوص عظيمًا ومعرفته بالأدلة واسعة، فإن هذا لا يغني ما لم يؤيد ذلك معرفة تامة بالواقعة المسئول عنها وفهمه لحقيقتها الراهنة(26).
    رابعًا: التثبت والتحري واستشارة أهل الاختصاص:
    بيّنا في الضابط السابق أهمية فهم النازلة فهمًا دقيقًا واضحًا كافيًا يجعل الناظر متصورًا حقيقة المسألة تصورًا صحيحًا يحسن بعدها أن يحكم بما يراه الحق فيها، وقد يحتاج الفقيه أن يستفصل من السائل عند ورود الاحتمال إذا دعى إلى ذلك المقام.
    ومما ينبغي أيضًا للناظر أن يراعيه هنا زيادة التثبت والتحري للمسألة، وعدم الاستعجال في الحكم عليها، والتأني في نظره لها، فقد يطرأ ما يغير واقع المسألة أو يصل إليه علم ينافي حقيقتها وما يلزم منها، فإذا أفتى أو حكم من خلال نظرٍ قاصرٍ أو قلة بحثٍ وتثبتٍ وتروٍ، فقد يخطئ الصواب ويقع في محذور يزل فيه خلق كثير(27).
    وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤيد التثبت والتحري في الفتيا والاجتهاد؛ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من أُفْتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه»(28)، وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار»(29).
    و يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: «من أجاب الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون»(30). وكان ابن مسعود رضي الله عنه يُسأَل عن المسألة فيتفكر فيها شهرًا، ثم يقول: «اللهم إن كان صوابًا فمن عندك، وإن كان خطأ فمن ابن مسعود»(31).
    وجاء عن الإمام مالك ـ رحمه الله ـ أنه قال: «إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن»(32). وقال أيضًا: «ربما وردت عليَّ المسألة فأفكر فيها ليالي»(33).
    ولاشك في دلالة هذه الأحاديث والآثار على أهمية التثبت في الفتوى وعدم الاستعجال في إجابة كل أحدٍ دون تروٍ ونظرٍ، فالمفتي في النوازل إذا وضع نصب عينيه أهمية خطته وشرفها اتخذ الإخلاص والتثبت شعاره ضمن النجاح في القيام بمسئوليته الجسيمة(34).
    يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في ذلك: «حقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعدّ له عدّته وأن يتأهب له أهبته وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه , ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب»(35).
    ومما ينبغي أن يراعيه الناظر في النوازل من التثبت والتحري استشارة أهل الاختصاص، وخصوصًا في النوازل المعاصرة المتعلقة بأبواب الطب والاقتصاد والفلك وغير ذلك، والرجوع إلى علمهم في مثل تلك التخصصات عملاً بقوله تعالى: ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )(36)، فإن كانت النازلة متعلقة بالطب مثلاً، وجب الرجوع إلى أهل الطب وسؤالهم والاستيضاح منهم، وإن كانت النازلة متعلقة بالاقتصاد والمال فيُرجَعُ حينئذٍ لأصحاب الاختصاص في الاقتصاد أو للمراجع المختصة في ذلك الشأن، فالذي لا يعرف حقيقة النقود الورقية المعاصرة أفتى بأنها لا زكاة فيها، أو أن الربا لا يجري فيها اعتمادًا على أنها ليست ذهبًا أو فضة(37).
    كما أن الذي لا يعرف مجريات ما يسمى (بأطفال الأنابيب) لا يستطيع أن يعطي فتوى صحيحة فيها بالحِلِّ أو الحرمة، إلا إذا وضحت له حالات هذه العملية
    وفروضها، فيستطيع حينئذٍ أن يعطي الحكم المناسب لكل حالة(38).
    ولعل في اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاستشارة ضمانٌ للمفتي من القول بلا علم وخصوصًا فيما ينزل من مسائل معاصرة، والاجتهاد الجماعي في وقتنا الحاضر المتمثل بالمجامع الفقهية وهيئات الإفتاء ومراكز البحث العلمي تحقق الدور المنشود الذي ينبغي للمفتي أو المجتهد مراعاته والالتزام به لتتسع دائرة العلم وتزداد حلقة المشورة من أجل الحيطة والكفاية في البحث والنظر.
    يقول الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ معلقًا على أهمية ذلك: «ثم يذكر المسألة ـ أي المفتي ـ لمن بحضرته ممن يصلح لذلك من أهل العلم ويشاورهم في الجواب، ويسأل كل واحد منهم عما عنده، فإن في ذلك بركة واقتداء بالسلف الصالح، وقد قال الله تبارك وتعالى( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ: )(39)، وشاور النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع وأشياء وأمر بالمشاورة، وكانت الصحابة تشاور في الفتاوى والأحكام»(40).
    خامسًا: الالتجاء إلى الله ـ عز وجل ـ وسؤاله الإعانة والتوفيق:
    وهذا الضابط من أهم الآداب التي ينبغي أن يراعيها الناظر في النوازل ليوفق للصواب ويفتح عليه بالجواب، وما ذلك إلا من عند الله العليم الحكيم، القائل في كتابه الكريم يحكي عن الملائكة: ﮋقَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ )(41). وقد استحب بعض العلماء للمفتي أن يقرأ هذه الآية، وكذلك
    قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي(*)وَيَسّ رْ لِي أَمْرِي (*)وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (*) يَفْقَهُوا قَوْلِي )(42)، وغيرها من الأدعية والأوراد؛ لأن من ثابر على تحقيق هذه الصلة الملتجئة بالله كان حريًا بالتوفيق في نظره وفتواه(43).
    وما أروع ما قاله الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ مؤكدًا هذا النوع من الأدب للمفتي: «ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي لا العلمي المجرد إلى ملهم الصواب ومعلم الخير وهادي القلوب، أن يلهمه الصواب، ويفتح له طريق السداد، ويدله على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، وما أجدر من أمّل فضل ربه أن لا يحرمه إياه، فإذا وجد في قلبه هذه الهمة فهي طلائع بشرى التوفيق، فعليه أن يوجه وجهه ويحدق نظره إلى منبع الهدى ومعدن الصواب ومطلع الرشد وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة، فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها، فإن ظفر بذلك أخبر به وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر الله، فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ لك النور أو تكاد ولا بد أن تضعفه، وشهدتُ شيخ الإسلام ـ ابن تيمية ـ قدس الله روحه إذا أعيته المسائل واستصعب عليه، فرّ منها إلى التوبة والاستغفار و الاستغاثة بالله واللجوء إليه، واستنزال الصواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ...»(44).
    ولعل من أشد المزالق التي يقع بها بعض المفتين ضعف الصلة بالله ـ عز وجل ـ وقلة الورع، مما قد يؤدي إلى سلوك هذا الصنف من المفتين إلى إرضاء أهوائهم أو أهواء غيرهم ممن ترجى عطاياه وتخشى رزاياه، أو قد يكون باتباع أهواء العامة والجري وراء إرضائهم بالتساهل أو بالتشديد، وكله من اتباع الهوى المضل عن الحق.
    والله ـ عز وجل ـ قد حذر من ذلك حيث قال: ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (*)نَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ )(45).
    وكذلك قوله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم أيضًا: ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ )(46)، إلى غيرها من الآيات والأحاديث.
    وصدق الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ حيث قال: «ما من الناس أعز من فقيه ورع»(47). ويعلل الإمام الشاطبي عزّة وندرة هذا النوع من الفقهاء؛ بأن أفعاله قد طابقت أقواله، فيقول ـ رحمه الله ـ: «فوعظه أبلغ، وقوله أنفع، وفتواه أوقع في القلوب ممن ليس كذلك؛ لأنه الذي ظهرت ينابيع العلم عليه واستنارت كليته به، وصار كلامه خارجًا من صميم القلب، والكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب، ومن كان بهذه الصفة فهو من الذين قال الله فيهم: ( إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ )(48)، بخلاف من لم يكن كذلك،فإنه وإن كان عدلاً وصادقًا وفاضلاً لا يبلغ كلامه من القلوب هذا المبلغ،حسبما حققته التجربة العادية»(49).
    فما أحوج الفقيه المفتي في عصرنا الحاضر إلى تقوية الصلة بالله والافتقار إليه حتى يكون في حمى الإيمان بالله مستعليًا وعن الخلق مستغنيًا وبالحق والصواب موفقًا بإذن الله(50).
    فهذه بعض الضوابط التي ينبغي للناظر والمجتهد في النوازل مراعاتها قبل البحث في حكم النازلة.
    والحقيقة أن هناك ضوابط وآداب أخرى كثيرة ذكرها أهل العلم ـ ربما يندرج بعضها فيما ذكرنا ـ لعل من أهمها مناسبة للمقام في هذا المطلب ما قاله الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: «لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
    1 ـ أن تكون له نية، فإن لم يكن له نية؛ لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.
    2 ـ أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.
    3 ـ أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته.
    4 ـ الكفاية وإلا مضغه الناس.
    5 ـ معرفة الناس»(51).
    وقد وفّى وكفى الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في بيانها وشرحها بالدليل والبرهان في كتابه القيم إعلام الموقعين(52).
    الضوابط التي ينبغي أن يراعيها المجتهد أثناء الحكم في النازلة:
    بيّنا فيما سبق بعض الضوابط التي يحتاجها الناظر في النوازل قبل الحكم أو الفتيا في الواقعة، ولعلنا في هذا المطلب أكثر احتياجًا لسوق بعض الضوابط التي ينبغي مراعاتها، أثناء الحكم على النازلة، من أجل بلوغ الناظر الدرجة العليا من المعرفة والفهم للأدلة والقواعد وما يتعلق بالنظر من ظروف وأحوال تؤدي بمجموعها إلى استفراغ المجتهد وسعه وجهده للوصول إلى الحكم الصحيح ـ إن شاء الله تعالى فمن هذه الضوابط ما يلي:
    أولاً:الاجتهاد في البحث عن الحكم الشرعي للنازلة:
    والمقصود بذلك أن يبذل المجتهد وسعه في البحث عن الحكم الشرعي للنازلة بتتبع طرق الاستنباط المعروفة والجري في ذلك على سنن النظر المعهودة، فقد يجد الحكم منصوصًا عليه أو قريبًا منه، وقد يلجأ إلى القياس على الأدلة، أو التخريج على أقوال الأئمة؛ مع مراعاة عدم مصادمة حكمه للنصوص والإجماعات الأخرى أو مخالفتها للعقول الصحيحة والفطر السليمة فهذا مسلمٌ اعتباره في الشريعة.
    ويجدر بنا هنا أن نذكر بعض الآداب التي ينبغي للناظر مراعاتها من خلال هذا الضابط ومما له صلة في مبحثنا:
    أ ـ أن يذكر دليل الحكم في الفتوى النازلة: قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في ذلك: «ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه ذلك ولا يلقيه إلى المستفتي ساذجًا مجردًا عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عَطَنِه وقلة بضاعته من العلم، ومن تأمل فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم الذي قوله حجة بنفسه رآها مشتملة على التنبيه على حِكمة الحكم ونظيره ووجه مشروعيته»(53).
    وقال ـ رحمه الله ـ في موضع آخر: «عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى وهذا العيب أولى بالعيب، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل، فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله وإجماع المسلمين وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم والقياس الصحيح عيبًا»(54). ثم بيّن ـ رحمه الله ـ ما صار إليه الأمر في الفتوى بعد الصحابة والتابعين بقوله: «ثم طال الأمد وبعد العهد بالعلم، وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط، ولا يذكر للجواب دليلاً ولا مأخذًا، ولا يعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمه، ولعله أن يحدث للناس طبقة أخرى لا يدري ما حالهم في الفتاوى؟!»(55).
    ونُقِل عن الإمام الصيمري وغيره القول بعدم مطالبة المفتي بذكر الدليل في فتواه(56).
    ولعل الأقرب إلى الصواب في هذه المسألة ـ والله أعلم ـ: أن ذكر الدليل في الفتوى يرجع إلى حال السائل وطبيعة الفتوى أو النازلة؛ فإذا كان السائل له علم بالشرع، ودراية في معاني الأدلة، أو طلب معرفة الدليل، فينبغي للمفتي أو الناظر ذكر الدليل والحجة أو الحكمة من المشروعية؛ تطمينًا لقلب السائل وزيادة في علمه وتوثيقًا لفهمه، أما لو كان المستفتي أميًا لا يفقه معنى الدليل فذكره له مضيعة للوقت وخطابًا لمن لا يفهم.
    وكذلك لو كانت النازلة تتعلق بمهام الدين ومصالح المسلمين أو بها غموض قد يطرأ في الذهن فينبغي للمفتي ذكر الدليل والحجة، والاهتمام ببسط الأدلة ما أمكنه ذلك(57).
    ب ـ أن يبين البديل المباح عند المنع من المحظور: وهذا الأدب له من الأهمية في عصرنا الحاضر القدر العظيم، وذلك أن كثيرًا من المستجدات الواقعة في مجتمعنا المسلم قادمة من مجتمعات كافرة أو منحلة لا تراعي القيم والثوابت الإسلامية؛ فتغزو مجتمعاتنا بكل قوة مؤثرة ومغرية كالمستجدات المالية والفكرية والإعلامية وغيرها.فيحتاج الفقيه إزاءها أن يقرّ ما هو مقبول مباح شرعًا ويمنع ما هو محظور أو محرم مع بيانه لحكمة ذلك المنع وفتح العوض المناسب والاجتهاد في وضع البدائل المباحة شرعًا حماية للدين وإصلاحًا للناس، وهذا من الفقه والنصح في دين الله عز وجل.
    كما قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه وكانت حاجته تدعو إليه؛ أن يدله على ما هو عوض له منه، فيسد عليه باب المحظور ويفتح له باب المباح وهذا لا يتأتى إلا من عالم ناصح مشفق قد تاجر مع الله وعامله بعلمه؛ فمثاله من العلماء: مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء؛ يحمي العليل عما يضره، ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان.
    وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما بعث الله من نبي إلا كان حـقًا عليه أن يدل أمته على خـير ما يعلمه لهم، وينـهاهم عن شر ما يعـلمه لهم»(58).
    وهذا شأن خلق الرسل وورثتهم من بعدهم»(59).
    ج ـ التمهيد في بيان حكم النازلة: ينبغي للناظر في النوازل التمهيد للحكم المستغرب بما يجعله مقبولاً لدى السائلين، وقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «إذا كان الحكم مستغربًا جدًا مما تألفه النفوس وإنما ألفت خلافه، فينبغي للمفتي أن يُوطِّئ قبله ما يكون مؤذنًا به؛ كالدليل عليه والمقدمة بين يديه، فتأمل ذكره سبحانه قصة زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر الشيبة وبلوغه السن الذي لا يولد فيه لمثله في العادة، فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة المسيح وولادته من غير أب، فإن النفوس لما آنست بولد بين شيخين كبيرين لا يولد لهما عادة سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب»(60).
    كما ينبغي أيضًا للناظر إن يعدل عن جواب المستفتي عما سأله عنه إلى ما هو أنفع له منه ولاسيما إذا تضمن ذلك بيان ما سأل عنه وذلك من كمال علم المفتي وفقهه ونصحه وشاهده قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ )(61) .
    وقد يحتاج الفقيه الناظر أيضًا أن يجيب السائل بأكثر مما سأله عنه لما فيها من تكميل موضوع السؤال أو لعلةٍ ترتبط بينهما قد يحتاج إليها السائل فيما بعد أو يستفيد منها عموم أهل الواقعة.
    وقد ترجم الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ لذلك في صحيحه فقال: «باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله عنه»، ثم ذكر حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ ما يلبس المحرم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات، ولا الخفاف، إلا أن لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل الكعبين»(62).
    وهذا أيضًا من كمال العلم والنصح والإرشاد في بيان أحكام النوازل.
    ثانيًا: فقه الواقع المحيط بالنازلة:
    ويقصد بهذا الضابط أن يراعي الناظر في النوازل عند اجتهاده تغيّر الواقع المحيط بالنازلة سواءً كان تغيرًا زمانيًا أو مكانيًا أو تغيرًا في الأحوال والظروف وعلى الناظر تبعًا لذلك مراعاة هذا التغير في فتواه وحكمه.
    وذلك أن كثيرًا من الأحكام الشرعية الاجتهادية تتأثر بتغير الأوضاع والأحوال الزمنية والبيئية؛ فالأحكام تنظيمٌ أوجبه الشرع يهدف إلى إقامة العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد، فهي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة، فكم من حكم كان تدبيرًا أو علاجًا ناجحًا لبيئة في زمن معين، فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصل إلى المقصود منه، أو أصبح يفضي إلى عكسه بتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق.
    ومن أجل هذا أفتى الفقهاء المتأخرون من شتى المذاهب الفقهية في كثير من المسائل بعكس ما أفتى به أئمة مذاهبهم وفقهاؤهم الأولون، وصرّح هؤلاء المتأخرون بأن سبب اختلاف فتواهم عمن سبقهم هو اختلاف الزمان وفساد الأخلاق في المجتمعات، فليسوا في الحقيقة مخالفين للسابقين من فقهاء مذاهبهم، بل لو وُجِدَ الأئمة الأولون في عصر المتأخرين وعايشوا اختلاف الزمان وأوضاع الناس لعدلوا إلى ما قال المتأخرون(63). وعلى هذا الأساس أسست القاعدة الفقهية القائلة: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان»(64).
    ومن أمثلة هذه القاعدة:
    أن الإمام أبا حنيفة ـ رحمه الله ـ يرى عدم لزوم تزكية الشهود ما لم يطعن فيهم الخصم، اكتفاء بظاهر العدالة، وأما عند صاحبيه أبي يوسف ومحمد ـ رحمهما الله ـ فيجب على القاضي تزكية الشهود بناء على تغير أحوال الناس(65).
    كذلك أفتى المتأخرون بتضمين الساعي بالفساد لتبدل أحوال الناس مع أن القاعدة: «أن الضمان على المباشر دون المتسبب»، وهذا لزجر المفسدين(66).
    ومـن الفـتاوى ما ذهـب إليـه شـيخ الإسلام ابن تيـمية وتلميذه ابن القيم ـ رحمهما الله ـ في تقييد مطلق كلام العلماء وقالا بإباحة طواف الإفاضة للحائض التي يتعذر عليها المقام حتى تطهر (67)، وقد عمل بها بعض العلماء المعاصرين مراعاة لتغير أحوال الناس.
    كذلك جواز إغلاق أبواب المساجد في غير أوقات الصلاة في زماننا مع أنه مكان للعبادة ينبغي أن لا يغلق وإنما جُوِّزَ الإغلاق صيانة للمسجد من السرقة والعبث(68).
    إلى غيرها من الأمثلة الكثيرة التي غيّر فيها الأئمة المتأخرون كثيرًا من الفتاوى بسبب تغير الأزمنة واختلاف أحوال الناس(69).
    يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في فصل تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: «هذا فصل عظيم النفع جدًا وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى مراتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة إلى المفسدة ومن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل»(70).
    ولعل هذا النص النفيس للإمام الجليل ابن القيم ـ رحمه الله ـ يكون منارًا لأهل النظر والاجتهاد يهتدون به في بحثهم واجتهادهم من أجل أن يراعي المجتهد أو المفتي أثناء اجتهاده ونظره الظروف العامة للعصر والبيئة والواقع المحيط بالناس، فربَّ فتوى تصلح لعصر ولا تصلح لآخر، وتصلح لبيئة ولا تصلح لأخرى، وتصلح لشخص ولا تصلح لغيره، وقد تصلح لشخص في حال، ولا تصلح له نفسه في حال أخرى.
    ثالثًا: الوضوح والبيان في الإفتاء:
    وهذا الضابط مهم في تبليغ الحكم المتعلق بالنازلة فلا يكفي الإخبار وحده بحكم الواقعة بل لا بد أن يكون ذلك الإخبار واضحًا بينًا لا غموض فيه ولا إبهام فيه، وألا يفضي إلى الاضطراب والاختلاف في معرفة المعنى المقصود بالفتوى. وقد وضح الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ أهمية هذا الضابط بقوله: «لا يجوز للمفتي الترويج وتخيير السائل وإلقاؤه في الإشكال والحيرة، بل عليه أن يبين بيانًا مزيلاً للإشكال متضمنًا لفصل الخطاب، كافيًا في حصول المقصود لا يحتاج معه إلى غيره، ولا يكون كالمفتي الذي سئل عن مسألة في المواريث فقال: يقسم على الورثة على فرائض الله عز وجل وكتبه فلان، وسئل آخر عن صلاة الكسوف فقال: يصلي على حديث عائشة... وسئل آخر فقال: فيها قولان ولم يزد ...»(71).
    ويدخل ضمن هذا الأدب في الفتيا مخاطبة الناس بلغة عصرهم التي يفهمون متجنبًا وعورة المصطلحات الصعبة وخشونة الألفاظ الغريبة، متوخيًا السهولة والدقة.
    وقد جاء عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله؟»(72). فمراعاة حال السائلين من حيث فهم الخطاب وإدراك معنى الحكم مطلبٌ مهم يجب على الناظر مراعاته وتوخيه دون أن يكون قاصرًا على فهم طائفة معينة، أو خاليًا من التأصيل العلمي اللائق بالفتوى تنزّلاً لحال العوام من الناس بل على الناظر مراعاة الوسط والاعتدال بين ما يفهمه العامي ويستفيد منه المتعلم؛ ولذلك قال الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ في ضمن صفات المفتي: «وليتجنب مخاطبة العوام وفتواهم بالتشقيق والتقعير، والغريب من الكلام، فإنه يقتطع عن الغرض المطلوب، وربما وقع لهم به غير المقصود»(73).
    ولذلك ينبغي للناظر في النازلة أن يعتبر نفسه عند الإجابة مفتيًا ومعلمًا ومصلحًا وطبيبًا مرشدًا حتى تبلغ فتواه مبلغها ويحصل أثرها بإذن الله.
    التنبيه على مزالق يقع فيها بعض المفتين
    المراد بالمزالق التي يراد بها التنبيه عليها في هذه المسألة: تلك المداخل الخفية والأخطاء الدقيقة التي تحصل لكثير ممن يفتي في النوازل.
    ذلك أن الوقوع في هذه المزالق حاصل مع توافر الضوابط الثلاثة من حيث الجملة، أعني بذلك ضوابط الاجتهاد في النوازل التي ورد بيانها في المسألة السابقة.
    المزلق الأول: التعضية(74).
    وهو تقسيم النازلة إلى أجزائها التي تتركب منها، مع إعطاء كل جزء حكمه الخاص به، كل على حدة، دون اعتبار للقدر الحاصل من التركيب والاجتماع.
    ومن الأمثلة على ذلك:
    أن يقال في بيع المرابحة: هو عبارة عن ثلاثة عقود: عقد وكالة، وعقد مواعدة بالشراء، وعقد بيع بالتقسيط، وكلها عقود صحيحة، وبناء على ذلك فبيع المرابحة عقد صحيح لا غبار عليه.
    هذا ما نطق به بعض المفتين ـ ممن يقول بالجواز ـ من غير التفات إلى المعنى الحاصل من حصول هذه العقود الثلاثة مجتمعة، ودون نظر إلى الهيئة الجديدة المتولدة عن هذا التركيب.
    وقد ذكر بعض المفتين ـ ممن يقول بالمنع ـ أن بيع المرابحة مع كونه مكونًا من هذه العقود الثلاثة إلا أن الظروف التي تحيط به والدوافع التي أدت إلى الأخذ به وانتشاره تفيد أنه ليس إلا صورة من صور التحايل على الربا؛ حيث إن البائع ـ وهو البنك الممول ـ يريد أن يقرض المشتري بفائدة، وكذلك المشتري؛ فإنه يريد أن يقترض من البنك بفائدة، وإنما جعلت هذه السلعة بينهما حيلة، حتى تنتقل صورة الافتراض بفائدة إلى ما يسمى بيع المرابحة.
    المزلق الثاني: الحيدة عن الواقع:
    ذلك أن كثيرًا من المفتين في النوازل إذا سئل عن نازلة معينة أجاب عن حكم هذه النازلة من حيث الأصل، ثم يأتي بشروط الحكم، والحال: أن هذه الشروط يبعد جدًا ـ بحسب الواقع ـ توافرها في النازلة.
    ومن الأمثلة على ذلك:
    أن بعض المفتين حينما سُئل عن حكم الإيجار المنتهى بالتمليك قال: يجوز، فقال له السائل: لكنهم يلزموننا بالتأمين، فقال: لا توافقهم على التأمين، بل خذ السيارة بدون تأمين، التأمين ليس بلازم.
    إن هذا المفتي كان عليه أن يجلي الصورة الحاصلة في الواقع، وهي أن الإيجار المنتهي بالتمليك بحسب الواقع لا بد فيه من التأمين، وكان عليه أن يقول: إن الإيجار المنتهي بالتمليك مع اشتراط التأمين يجوز، أو: لا يجوز.
    المزلق الثالث: قضية المصطلحات والألفاظ المجملة:
    من الضروري عند الحكم على نازلة من النوازل النظر إلى حقائق الأمور، وعدم الاغترار بأسمائها، إذا الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالحقائق والمعاني، لا بالألفاظ والمباني(75).
    إن التلاعب بالألفاظ الشرعية بات سمة في كثير من المعاملات المشبوهة، وآية ذلك أنك لو نظرت في جميع المعاملات الصادرة عن جميع البنوك القائمة في العالم الإسلامي لا تجد تحت خدماتها معاملة يطلق عليه اسم الربا صراحة! لا فرق في ذلك بين البنوك الإسلامية وغير الإسلامية. فهل هذا يدل على أن هذه المعاملات كلها ليست من الربا، وأن الربا لا يوجد لدى هذه البنوك؟
    والقاعدة المطردة والأصل المتبع: استعمال الأسماء الشرعية في تسمية الأمور ما أمكن، لكن إن وجدت نازلة ليس لها اسم شرعي فالواجب أن تعطى اسمًا لغويًا يناسبها ويدل على حقيقتها من حيث الدلالة اللغوية.
    المزلق الرابع: الغفلة عن تطور النوازل وانقلابها:
    ذلك أن حقيقة النازلة قد يطرأ عليها شيء من التغير والتحول، وهذا التغير ربما يفضي إلى أن تنتقل حقيقة النازلة بالكلية عن حقيقتها السابقة، يحدث هذا مع أن اسم النازلة باق في كلتا الحالتين.
    إن البقاء على التصورات الأولى للنازلة والبناء عليها والركون إليها يوقع في اختلال التصور وانتكاس الفهم.
    فلا بد إذن من تحديد المعلومات لمن أراد أن يتصور النازلة تصورًا تامًا، خاصة وأننا في هذا العصر ـ عصر السرعة ـ نشهد تجددًا دائمًا ونلحظ تغيرًا مطردًا في الأساليب والهيئات والأفكار.
    ومن الأمثلة على ذلك: شراء الأسهم؛ فقد كانت الأسهم قبل أكثر من عقدين تختص في الغالب ببعض القطاعات؛ كشركات الكهرباء ومصانع الإسمنت، وقد وقعت الفتوى إذ ذاك بحلية شراء هذه الأسهم، أما في وقتنا هذا فقد تغيرت الأوضاع؛ حيث إن هذه الشركات المساهمة أصبحت تقوم بإيداع السيولة المالية في البنوك الربوية وأخذ الفوائد عليها، وصارت تستثمر في القروض الطويلة الأجل بفائدة ربوية.
    فهل يسوغ استصحاب الفتوى السابقة في جواز شراء أسهم الشركات وتطبيقها على أسهم الشركات القائمة الآن؟
    المزلق الخامس: الميل بالناس إلى التيسير والتخفيف، دون اعتبار لمقاصد الشريعة وقواعدها العامة:
    بناء على أن هذا هو الأصلح لأحوال الناس في هذا العصر بسبب انصرافهم بمغريات الحياة عن الالتزام بأحكام الدين، فكان من المتعين تقريب هذا الدين إلى تلك النفوس الضعيفة، وتأليف هذه القلوب المريضة، كيما تنشط لقبول أحكام الشريعة والإقبال عليها، قالوا: وهذا أمر واجب محتم، خاصة وأن القول بالتيسير والأخذ بهذه الرخصة أو تلك لا بد أن يوجد له مستند ما يؤيده ويعزز اتباعه؛ من نص مأثور أو قول إمام متبوع.
    المزلق السادس: الميل بالناس إلى التشديد والمنع دون اعتبار لمقاصد الشريعة وقواعدها العامة:
    بناء على ذلك هو الأحوط، وهو الأصلح لأحوال الناس الذين غلب عليهم التساهل والتفريط في الأخذ بعزائم الشريعة مما قد يفضي في المآل إلى الانسلاخ الكامل من أحكام الدين.
    المزلق السابع:الاحتجاج بالإفتاء الجماعي، والاقتصار عليه وجعله مستندًا يُستغنى به عما سواه:
    والمراد بالإفتاء الجماعي: ما يصدر من فتاوى وبيانات عن بعض المجامع واللجان العلمية.
    المزلق الثامن: الاحتجاج بالإفتاء الفردي والبناء عليه والتسليم له:
    والمراد بالإفتاء الفردي: ما يصدر من فتاوى وبيانات عن واحد من أهل العلم.
    مظان فقه النوازل
    المراد بمظان فقه النوازل: المصادر التي تتميز بذكر النوازل وبيان أحكامها.
    ويمكن تصنيف هذه المصادر إلى سبعة أنواع:
    أولاً: الكتب المؤلفة في النوازل.
    ثانيًا: الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات العلمية.
    ثالثًا: التوصيات والدراسات الصادرة عن المؤتمرات والندوات الخاصة ببعض النوازل.
    رابعًا: القرارات والبيانات والفتاوى الصادرة عن المجامع الفقهية واللجان والهيئات العلمية.
    خامسًا: فتاوى المعاصرين الفردية التي يغلب عليها العناية بالنوازل المعاصرة.
    سادسًا: الوسائل الجامعية.
    سابعًا: الشبكة العالمية (الانترنت).
    -------------------------------------------------
    كافة الحواشي
    ********************
    1. انظر: التفصيل في شروط الاجتهاد في النوازل في كتب الأصول.
    2. ترتيب المدارك (1/179).
    3. انظر: الفقيه والمتفقه (2/386 ـ 428).
    4. المحصول للرازي (2/493).
    5. انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/1065 ـ 1069).
    6. أخرجه الدارمي في سننه (1/50).
    7. أخرجه الدارمي في سننه (1/50).
    8. أخرجه الدارمي في سننه (1/56).
    9. جامع بيان العلم وفضله (2/1067).
    10. أخرجه الدارمي في سننه في المقدمة، باب كراهية الفتيا (1/51) (ح125).
    11. سورة المائدة، الآيتان (101 ، 102).
    12. إعلام الموقعين (1/56، 57).
    13. المرجع السابق (4/170).
    14. أخرجه أبو داود ـ كتاب العلم، باب التوقي في الفتيا (3656). والغلوطات أو الأغلوطات: هي شدائد المسائل، وقيل: دقيقها، وقيل: ما لا يحتاج إليه من كيف وكيف. انظر: الفقيه والمتفقه (2/20، 21).
    15. أخرجه الطبراني في الكبير (865).
    16. غريب الحديث للخطابي (1/354).
    17. انظر: شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا (ص147).
    18. البحر المحيط (6/227).
    19. انظر: الموافقات (5/114 ـ 118).
    20. انظر: الرسالة (ص560).
    21. انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/848).
    22. أخرجه البيهقي في الكبرى (10/15) (ح20324).
    23. إعلام الموقعين (1/69).
    24. المرجع السابق (4/146).
    25. انظر: الفقيه والمتفقه (2/387، 388).
    26. انظر: الفتوى بين الانضباط والتسيب (ص74).
    27. انظر: الفقيه والمتفقه (2/390).
    28. أخرجه أبو داود ـ كتاب العلم، باب التوقي في الفتيا (3/321) (ح3657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي رواية: «بفتيا غير ثبت» أخرجها ابن ماجه ـ باب اجتناب الرأي والقياس (1/20) (ح53)، وأحمد في المسند (2/321) (ح8249)، والدارمي في سننه، باب الفتيا وما فيه من الشدة (1/69) (ح159)، وقد توافرت روايات هذا الحديث عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، جمع طرقها الطبراني في جزء من نحو 170 صفحة، سماه: «طرق حديث من كذب علي متعمدًا».
    29. أخرجه الدارمي في سننه، باب الفتيا وما فيه من الشدة (1/69).
    30. أخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/416)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/1124).
    31. إعلام الموقعين (1/64).
    32. ترتيب المدارك (1/178).
    33. المرجع السابق.
    34. انظر: فتاوى الإمام الشاطبي، د. أبو الأجفان (ص83).
    35. إعلام الموقعين (1/9).
    36. سورة النحل، الآية (43).
    37. انظر: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية (ص176).
    38. انظر: المدخل إلى فقه النوازل، د. أبو البصل (ص130) ضمن مجموعة أبحاث اليرموك، العدد 1 عام1997م.
    39. سورة آل عمران، الآية (159).
    40. الفقيه والمتفقه (2/390).
    41. سورة البقرة، الآية (32).
    42. سورة طه، الآيات (25 ـ 28).
    43. انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص140، 141).
    44. إعلام الموقعين (4/131، 132).
    45. سورة الجاثية، الآيتان (18، 19).
    46. سورة المائدة، الآية (49).
    47. أخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/340).
    48. سورة فاطر، الآية (28).
    49. الموافقات (5/299).
    50. انظر: الفتوى بين الانضباط والتسيب (ص75 ـ 77).
    51. إعلام الموقعين (4/152).
    52. (4/152 ـ 160).
    53. إعلام الموقعين (4/123).
    54. المرجع السابق (4/200).
    55. المرجع السابق (4/200).
    56. انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص152).
    57. انظر: الفقيه والمتفقه (2/406، 407).
    58. أخرجه البخاري بنحوه ـ كتاب الأحكام، باب بطانة الإمام وأهل مشورته (6659).
    59. إعلام الموقعين (4/122).
    60. المرجع السابق (4/125).
    61. سورة البقرة، الآية (189).
    62. أخرجه البخاري ـ كتاب العلم، باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله (234).
    63. انظر: مجموع رسائل ابن عابدين (2/123).
    64. انظر: القواعد الفقهية، للشيخ أحمد الزرقا (ص227).
    65. انظر: تبيين الحقائق شرح كنزر الرقائق (6/211).
    66. انظر: قواعد ابن رجب، القاعدة: 127 (2/597).
    67. انظر: إعلام الموقعين (3/19 ـ 31).
    68. انظر: الوجيز في القواعد، د. البورنو (ص255).
    69. انظر: الطرق الحكمية، لابن القيم (ص162).
    70. إعلام الموقعين (3/11).
    71. إعلام الموقعين (4/136).
    72. أخرجه البخاري ـ كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا (124).
    73. الفقيه والمتفقه (2/400).
    74. التعضية: التجزئة والتفرقة، ومنه قوله تعالى: ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) [الحجر:91]. انظر: مختار الصحاح (439)، والمصباح المنير: (416،415).
    75. انظر: إعلام الموقعين (3/118).

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •