معرفتي بالدكتورة نوال السعداوي ليستْ قصيرة، بل لها خمسة عشر عامًا الآن، أول معرفتي بها كانتْ وأنا على أعتاب الجامعة، عندما دخلْتُ ذات يوم إلى مكتبة خالي في منزلِه القديم الذي كان قد هجره، وترك فيه مكتبة متواضعة بها مجموعة من كتب التراث، وبعض الكتب المعاصرة، كان من بينها كتابٌ بعنوان: "مذكرات طبيبة"؛ للدكتورة نوال السعداوي، انتهتْ فيه الدكتورة التي كانتْ تحكي تجربتها الشخصية إلى أنها كانتْ مؤمنة بالعلم إلهًا، ثم جحدتْ ذلك وآمنت بالجمال إلهًا!
لَم أترك هذا الكتاب حتى أنهيته، ثم إذا بي أقف على أعداد قديمة من مجلة اللواء الإسلامي في المكتبة ذاتها، فإذا فيها مناظرات كبيرةٌ بين الدكتورة وعلماء الأزهر؛ إذ كانت الدكتورة تناقشهم في قضايا مختلفة، أذكر منها قضية فكرية خطيرة، وهي:"حق المرأة في أن تهبَ جسدها لمن شاء".
لَم تخرج من ذاكرتي إلى الآن صورة الدكتورة وهي جالسةٌ بين علماء الأزهر، وقد أشعلتْ "سيجارها"، كأنها تتحداهم بأفعالها بجانب أقوالِها!
كان هذا أول عهدي بالدكتورة، ثم لَم يزل يأتيني من أخبارها ما هو على نفس الشاكلة من غرائب الأفكار، وعجائب الآراء.
كثيرًا ما أشعر نحو الدكتورة بما نشعر جميعًا تجاه مُجرمي الحرب، الذين يقومون بعمليات إبادة جماعية ضد المدنيين، وأحيانًا أخرى أشعر نحوها بما نشعر به تجاه المعاقين وأصحاب الأمراض المزمنة والأدواء المستعصية، إنه الشعور بالرحمة لهم، والأسى عليهم، والتوَجُّع مِن أجلهم، أحس أنها مسكينة، وتستحق الدعاء لها بالشفاء العاجل من تلك الأفكار التي تحملها والدعوات التي تَتَبَنَّاها!
أجل، أليست الدكتورة مسكينة، بل ومسكينة جدًّا جدًّا؟! أليست الدكتورة على أعتاب حياتها لم يبقَ معها فيها إلا ورقات صغيرات على وشك أن تسقط، ثم تقدم على حياة أخرى هي صدمة للدكتورة بكلِّ المقاييس؟! أليستْ ستقدم على الدار الآخرة، وينكشف لها الغطاء، فتعاين الأشياء على حقيقتها كما هي في نفس الأمر؟!
أليست تجد الغيب شهادة، وما ظنَّتْه خرافات وخُزَعبلات حقيقة ملْموسة مَحْسوسة؟! أليستْ تلقى ربها الذي طالما أنكرتْ وجودَه بأفعالها إن لَم يكنْ بلسانها، وسخرتْ من أوامره وشرْعه؟!
أليست تلقى جنة ونارًا، وعذاب قبْر ونعيمه؟ أليستْ ستعرف حينها أن الله هو خالق الكون وليست الصدْفة، وأنه هو الذي أنزل القرآن ليكونَ دستور حياة، وبعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالشرْع الكامل الصالِح للتطْبيق في كلِّ زمان ومكان؟
كيف بها وقد جاء منَ البشر من يطلبون الثأر منها؛ لأنها كانتْ سببًا في إغوائهم واعْوجاجهم العقلي والفكري؟
كيف بها وقد عاينت عيْن اليقين ورأت الذين اتخذتهم أسوتها ومثلها العليا من أساطين الملاحدة الذين أضلوا البشرية، قد أُخذ بهم إلى النار التي طالما سخروا منها وتهكموا بها، وقد وقفوا أذلاء، ناكسي رؤوسهم بين يدي الرب الذي طالما أنكروا وجودَه، أو قدرته على عقاب البشر وإثابتهم؟!
كيف بالدكتورة وقد رأتْ سني عمرها الطويلة قد ذهبت في خداع وزيف، ووهْم وتضليل، وأن كل ما كانتْ تحسبه تطوُّرًا وتنورًا وتقدُّمًا هو سراب بقيعة، وأن كل ما كتبتْه زاعمة به النهوض بالعقل البشري، وتحرير الإنسان منَ القيود والاستعباد - ما هو إلا خيانة للعقل، واسترقاق للنفْس البشرية، وإهلاك لها، وتضْييع لمستقبلها الأُخروي، وحرمانها مِن نعيم سرْمدي وسعادة أبدية؟!
إنها لحظة حرجة، وموقف في غاية الصعوبة، عندما تجد أن عمرك كله وكدحك ومعاناتك وآلامك ذهبتْ هباءً منثورًا، ليس هذا فحسب، بل هي خطأ في نفس الأمر، بل هي موجبة لعقابك وتعذيبك، وأول مَن يطالب بعقوبتك والانتقام منك هم أتباعك وأشياعك، ومَن كنت تعمل مِن أجلهم، وتظن أنك تخدمهم، ونذرت حياتك لأجل سعادتهم.
إن مئات الألوف من البشر حول العالم ممن كنت تقدم لهم ما تظنه عسلاً شهيًّا، ظهر أنه سُم زعاف، وها هم الآن يرون أنك مجرمٌ كبير، ومزورٌ خطير، تستحق أن تنزل بك أقسى العقوبات؛ لأنك تسببتَ في إهلاكهم.
ألا توافقني أن الدكتورة تستحق منك أن ترثي لحالها، وتغمض عينيك وتهز رأسك أسًى لها، عندما تراها تخرج على المجتمع ببائقة فكرية بين الفينة والأخرى؟!
آخر ما تناهى إليَّ مِن أخبار العجوز المسكينة - التي كلما امتد بها العمر امتدَّ بها التخريفُ والضلال، وخرجتْ من سقطة عقلية إلى أخرى - دعوتها لإقامة مجتمعٍ مدني، وتأسيس فرع لحركة التضامُن من أجل مجتمع مدني في مصر، وذلك عبر اجتماع شارَكَ فيه نحو 30 كاتبًا وناشطًا من أنصار الدولة العلمانية ومناهضي الدولة الدينية.
ولخص أحد هؤلاء المؤتمرين أهداف الحركة فيما يلي:
"أن الحركة تؤمن بمبدأ العلمانية الكاملة، وتعمل على فصْل الدِّين عن كافة مجالات الحياة؛ من الدستور، والتعليم، والإعلام، والفن، والإبداع، إلى المعاملات التجارية والرسمية الحكومية، وأن المشاركين خلال هذا الاجتماع اتَّفَقُوا على فصْل الدين عن كافة مظاهر الحياة، ويبتدئ ذلك بالدعوة إلى دستور وضعي يُساوي بين الأفراد كافة؛ بحيث يبرز مبدأ المواطَنة، والضغط لرفْع المادة الثانية من الدستور، وإلغائها بلا رجعة، بالإضافة إلى تعديل قوانين الأحوال الشخصية للمساواة بين الرجل والمرأة، وإلغاء خانة الدِّين من بطاقة التعريف الوطنية، وإقامة قانون موحد لبناء دور العبادة بلا فرْق بين أي دين وآخر في العالم، وإلغاء تدريس مادة التربية الدِّينية في المدارس الحكومية، وتدريس مادة الأخلاق عوَضًا عنها، وإعلاء قيمة البحث العلمي لنقد الثوابت والتابوهات، مؤكدين أن هذه المبادئ هي الطريق الوحيد لتقدُّم مصر بعد النكْسة الحضارية التي شهدتْها البلاد منذ تغلغل التيار المتطرِّف".
ويعدُّ فرع مجموعة التضامن مِن أجل مجتمع مدني، الذي أسستْه نوال السعداوي لأول مرة في مصر - جزءًا من "حركة التضامن العالَمي من أجل مجتمع مدني"، التي أسستها السعدواي في ولاية أتلانتا في الولايات المتحدة الأمريكية حيث كانت تقيم، وأنشأتْ لها فروعًا أخرى في كل من مونتريال في كندا، وأوسلو في النرويج وبريكسيل في بلجيكا، إضافة إلى فرع مصر الجديد"؛ انتهى الخبر.
فانظر كيف لا تنتهي خزعبلات العجوز المسكينة عند غاية، ولا تقف عند حاجز؛ مع أن دعوتها كسائر أفكارها، ليس فيها معنى جديد من بنات أفكارها، إنما هي إلحادٌ نسجه الغربيون ولبسوه حتى بلي، ولكنَّ متنورينا ومتحَضِّرينا دأبوا على سرقة ثياب الغير، وغسلها والظهور بها في المحافل على أنها أكْسية جديدة.
دعوة الدكتورة خيانةٌ للمجتمع الإنساني، واستهزاء بالعقل البشري، وافتراء على التمدُّن، وجناية على المنْهج الرَّباني.
تريد العجوز المسكينة أن يتحاكم المجتمعُ إلى أفكار أرضية، أربابها منغمسون في وحْل الأهواء والشهوات والأطماع، غير منفكين عن دائرة النقْص والقصور، مهما أوتوا من قوة عقليةٍ، محال بينهم وبين الإحاطة الكاملة باختلاف المجتمعات مكانًا وزمانًا.
تريد العجوز المسكينة أن يتنكبَ الناسُ عن منهج خالقهم الأرحم بهم منها، ومن كل أساتذتها الغربيين الذين تتقيأ كلامهم، ذلك الخالق العليم بأحوالهم، ودخائل نفوسهم، وما يعتمل فيها من صراعات بين الخير والشر والكمال والنقْص.
تريد أن تعدل بهم عن المنهج الرباني المنَزَّه عن الهوى والمصلحة الشخصية، وأن تردَّهم عن منهج القرآن الذي يُحَرِّر الإنسان من قُيُود الأطماع الدنيئة والرغبات السافلة، ويرتقي به ليجعله حرًّا من الخضوع لأحد سوى خالقه، ويجعل ضميره مستعليًا على كل القوى الأرضية لاتصاله بمالك هذا الكون، لا يضيره حاله المادي أو الطبقي، أو غيرها من الاعتبارات الأرضية السافلة، بل هو عزيز بعزِّ خالقه، شريف بشرفِ معبودِه، مكرم بتكريم ربِّه له.
ما أخون العجوزَ ومَن هم على شاكلتها لأنفسهم ولمجتمعهم ولأممهم ولأتباعهم؛ إذ يقدمون أفكار بشرٍ أمثالهم، ممن يجوعون ويظمؤون، ويتبولون ويتغوَّطون، وينسون ويغلطون، ويحقدون ويجاملون على منهج الخالق الحكيم المبدع الذي أودع في مخلوقاته ما لا ينقضي من العجائب والأسرار المبرهنة على حكمته، والناطقة بكماله وجماله ووحدانيته! فكيف لا يكون حكيمًا في شرعه، كما كان حكيمًا في خلقه؟! وكيف لا يكون مبدعًا في أوامره ونواهيه، كما كان مبدعًا في نواميسه وسننه الكونية؟!
إن على العجوز أن تتوبَ إلى ذلكم الخالق الحكيم؛ فقد أمْهلها كثيرًا، ومدَّ لها طويلاً، وعليها أن تعتذر إلى جيلها والأجيال التي تبعتْها على تخريفها وحيفها وتضْليلها، وتعتذر إلى الإنسانية التي ظلمتْها عندما زعمتْ نفسها متكلِّمة بلسانها، فقالتْ قبيحًا، ونطقتْ شنيعًا، وعليها أن تعتذرَ إلى العقل؛ فهي تعاديه، وإلى التحضُّر والتمدن؛ فهي تحاربهما.
ما كان دين الله الصحيح ليحارب الإبداع والتفكير والحرية، معاذ الله، ومعاذ الدين الصحيح من ذلك، إنْ يحارب الدينُ إلا الهوى لا التفكير، وإلا التُّرَّهات لا الإبداع، وإلا الضلال والتهتُّك لا الحرية.
متى صادم دين الله الصحيح قانونًا علميًّا ثبتتْ صحتُه بيقين؟!
متى صادم الدينُ الحق كلمةً صحيحة لكاتب، أو فكرة سامية لمبدِع، أو فنًّا منضبطًا راقيًا لمتفَنِّن؟!
متى صادم الدين الحق حرية حقيقيةً تجاري إنسانية الإنسان، وترفع من جوهره؟!
أبدًا ما كان ولن يكون.
إنَّ بارئ النفس المفكِّرة العاقلة الناطقة التي فجرت القنبلة النووية، وصنعت الثورة الإلكترونية - لَهُو أعلم بها من كلِّ متفلْسف ومفكر وحقوقي ومدني وتنْويري وتقدُّمي.
لهو أدرى بما فيه سموُّها ورفعتها ونهضتها، وحريتها وإنسانيتها، وعلوها وترقيها وصعودها، وتحررها من الاستبداد والاستعباد من جميع هؤلاء، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فمتى ما قيد من حرية الإنسان، فليست هي إذًا حرية؛ وإنما فوضى، ومتى ما وقف في وجه إبداعه، فليس هو إذًا إبداع؛ بل تضليل وزيف، ومتى ما منع من المساواة بين الجنسين، فليست المساواة إذًا مساواة؛ بل هي جوْرٌ واعتداء، ومتى ما ناقض قانونًا علميًّا، فليس هو إذًا علمًا؛ بل مجرد ظن وحدس.
إن حقوق الإنسان ومكانة عقله قد يمكن أن تهضم أو تضيع في الدين المحرف الذي حرَّفَه البشر افتراء على الله الحكيم العليم، أما الدين الصحيح الكامل الخاتم (دين الإسلام)، فلا يضيع ولا يهضم فيه شيء من ذلك إلا في الأذهان المعوجَّة والعقول الممسوخة، كعقل العجوز المسكينة!
--
مقالة لأخيكم نشرها موقع الألوكة