وأمَّا الجواب عن قوله :( الصفات من أشد البدع والإحداث في الدين).
فأقول وبالله التوفيق: لعلَّ قائل هذا الكلام لا يدري حقيقة الكلام الذي يخرج من رأسه، فإنَّ البدعة تعريفها :ما أحدث في أمور الدين على غير مثال سابق.
وقد أثبتنا بأنَّ كلامه عارٍ عن الصِّحة، وبأنَّ أحاديث رسول الله، وأهل العلم قاطبة شاء أم أبى، جاءت على إثبات لفظ الصفات، فكان ما قاله هذا الشخص تقولاً على الله بالباطل وافتراء عليه سبحانه وتعالى، فصار قول هذا القائل بحد ذاته بدعة وإحداثاً في دين الله بما ليس فيه، فأي بدعة يدَّعيها هذا المسكين بالقول بأنَّ إثبات الصفات بدعة وإحداث في الدين؟!
ألا يسعه ما وسع سلف هذه الأمَّة الأكارم ـ رحمهم الله ورضي عنهم ـ بإثبات ذلك لله تعالى دون تحريف أو تعطيل أو تأويل أو تكييف أو تمثيل أو تشبيه؟!
لقد خالف هذا الشخص ما اجتمع عليه سلف هذه الأمَّة، أفلا يربأ بنفسه أن يخالف سبيل المؤمنين، وصدق أحسن القائلين إذ قال:(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتَّبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).
وسأردُّ على هذا الرجل بما كان يطالبنا به فلقد قال إيتونا بخبر أو أثر عن الصحابة يثبت أنَّهم قالوا بلفظ:(الصفات) أو أنَّهم أقرُّوا هذه الكلمة، ولا حرج في ذلك فسنأتيه بذلك.
فلقد روى عبد الرزَّاق: عن معمر بن طاووس عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: أنَّه رأى رجلاً انتفض لمَّا سمع حديثاً عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في الصفات؛ استنكاراً لذلك، فقال ابن عبَّاس:(ما فرق هؤلاء، يجِدُونَ رقَّه عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه)[1].
وقد ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله عن ابن عباس في قوله تعالى: { الصمد } قال : (السيد الذي قد كمل في سؤدده ، والشريف الذي قد كمل في شرفه ، والعظيم الذي قد كمل في عظمته ، والحكيم الذي قد كمل في حكمته ، والغني الذي قد كمل في غناه ، والجبار الذي قد كمل في جبروته ، والعالم الذي قد كمل في علمه ، والحليم الذي قد كمل في حلمه ، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله عز وجل ، هذه صفة لا تنبغي إلا له ليس له كفؤ وليس كمثله شيء ، سبحانه الواحد القهار)[2]
وفيه ذكر ابن عبَّاس للفظ الصفات، وقال ابن تيمية عَقِبَ ذلك عن هذا الأثر، بأنَّه :(ثابت عن عبد الله بن أبي صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة الوالبي ، لكن يقال : إنه لم يسمع التفسير من ابن عباس ، ولكن مثل هذا الكلام ثابت عن السلف).
إنَّ حقيقة قول (صلاح أبو عرفة) بنفي إثبات لفظ الصفات لله تعالى، وقولته هذه هي محض البدعة والانحراف والإحداث في هذا الدين، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في البخاري ومسلم:(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي رواية لمسلم:(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقوله هذا ليس هو أول مبتدع له؛ فإنَّه ما من بدعة معاصرة إلاَّ ولها بذورها من أهل البدع من الفرق السابقة، وإنَّ من مقتضى كلامه في ذلك أنَّ الصحابة رضي الله عنهم أول من أحدثوا في دين الله، إذ إنَّهم كانوا جميعاً على إثبات الصفات لله، فلم يتنازعوا فيها إطلاقا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:( والمقصود أن الصحابة رضوان الله عليهم ... لم يختلفوا في شيء من قواعد الإسلام أصلاً : لا في الصفات ، ولا في القدر ، ولا مسائل الأسماء والأحكام ، ولا مسائل الإمامة ... بل كانوا مثبتين لصفات الله التي أخبر بها عن نفسه)[3]
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله :( وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام ، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال ، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة ، من أولهم إلى آخرهم ، لم يسوموها تأويلا ، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا ، ولم يبدوا لشيء منها إبطالا ، ولا ضربوا لها أمثالا ، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها ، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها ، بل تلقوها بالقبول والتسليم ، وقابلوها بالإيمان والتعظيم)[4].
إنَّ حقيقة هذا القول المستشنع، والرأي المستبشع، الذي يقول به (صلاح أبو عرفة)، ليس إلاَّ تجديد لآراء أهل البدع والمخالفين من أهل الكلام، والذين كانوا بالفعل من أعظم البلاء الذي مرَّ على الأمة، وهو الآن يجدد البلاء ويعيده، فقد صار صلاحٌ بلاءً وكان قبلُ يشتكي البلاء!!
وأما ما قاله بأنَّ:( أسماء الله تعالى حق وأما الصفات فمن الباطل).
فإنَّ هذا القول هو عين قول المعتزلة وهي الفرقة الضالة المخالفة لما كان عليه منهج أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمَّة الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم، بل إنَّ من أصولهم الخمسة القول بالتوحيد، والتوحيد عندهم كما يفسره القاضي عبد الجبار المعتزلي بأنَّها نفي الصفات عن الله تعالى، ولهذا نجدهم يقولون بأنَّ الله تعالى سميع بلا سمع وبصير بلا بصر، وقدير بلا قدرة، ومريد بلا إرادة. تعالى الله عمَّا يقولون علوا كبيرا.
وليسأل صلاح أبو عرفة نفسه: هل الله تعالى عليم؟ فسيثبت حتماً أنَّ الله تعالى عليم.
فنسأله قائلين: هل تثبت لله تعالى صفة العلم؟
فإن أثبتها فقد أثبت صفة لله تعالى هي صفة العلم، وعليه فليثبت الصفات الأخرى التي تليق بالله تعالى، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر كما يقول علماء التوحيد، وعليه قرَّروا أصولهم في الرد على المعتزلة الذين ينفون عن الله تعالى الصفات، والرد على الأشاعرة والماتريدية الذين يثبتون لله تعالى الأسماء وبعض الصفات ولكنهم لا يثبتون بعض الصفات الأخرى.
وإن لم يثبت صلاح أبو عرفة صفة العلم فقد كفر بالله العظيم، لأنَّه نزع عن الله تعالى صفة من أعظم صفاته اللائقة به سبحانه وتعالى وهي صفة العلم، وأثبت له شاء أم أبى نقيضها وهي صفة الجهل، ولهذا لما أنكر القدرية الغلاة علم الله تعالى كفَّرهم أهل العلم كالإمام الشافعي وأحمد وغيرهما من أهل العلم، وقال فيهم الإمام الشافعي وأحمد :(ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا)[5].
إنَّ في كتب المعتزلة أنَّ من كمال الإخلاص لله نفي الصفات عنه، وأنَّ إثبات الصفات لله هي عين ذاته حتَّى لا يستلزم منها الإثنيَّة[6]، وأنَّ القول بتعدد صفات الله كالقول بتعدد الأبعاض لله، تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوا كبيراً.
وهذا الكلام هراء وسخف، بل إنَّ من كمال التوحيد لله والإخلاص له توحيده تعالى بما أخبرنا به عزَّ وجل، فمحال أن يخبرنا الله تعالى عن صفات له كالعلو واليدين والحياة والسمع والبصر والكلام، ويكون كلامه تعالى غير واضح لنا وغير مفهوم، فيكون حالنا كحال أهل الكفر بالله حينما يقرؤون كتبهم وهي عليهم عمى، فلو لم يخبرنا الله تعالى في كتابه عن ذلك لما نطقنا عن الله تعالى بما ليس فيه.
ونقول كذلك إنَّ من الباطل القول بأنَّ إثبات الصفات لله هي عين ذاته، فإثبات الأسماء لله بدون أن تدل عليه تعالى من المعاني التي هي صفات كمالية له، جور وضلال وبهتان في حق الله، وهذا يلزم منه تعطيل ما لله تعالى من أوصاف الكمال والجلال، بل لله تعالى ذات تليق بجلاله، وله صفات تليق به تعالى، دون تحريف أو تعطيل أو تكييف أو تشبيه، فرب لا يرضى ولا يرحم ولا يحب ولا يتكلم وليس له شيء من الصفات التي أثبتها لنفسه، ليس برب في الحقيقة، ولهذا نجد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام قد ناقش والده وقال له:(يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) وهذا مما يدل على أنَّ الإله الذي كان يعبده آزر وقومه ليس بإله، ولا يستحق العبادة، ولهذا ذكر إبراهيم عليه السلام شيئا من أوصاف الربوبية اللائقة به عزَّ وجل.
ونرد كذلك على من زعم أن القول بأن تعدد صفات الله كالقول بتعدد الأبعاض لله وأنَّ ذلك يستلزم التركيب والله منزَّه عن التركيب، فالجواب عن هذه الشبهة الضلالية أن نقول : أليس المعتزلة الذين نفوا صفات الله وأثبتوا لله الأسماء، وكذلك أثبتوا أنَّه واجب الوجود وأنَّه موجود، ... إلى غير ذلك؟
أليست هذه صفات متعدد؟ أوليس يكون ذلك تركيباً في الله تعالى؟
فلماذا يبيحون لأنفسهم ذلك التركيب التوحيدي على حدِّ زعمهم ويسمون من أثبت له الصفات تركيبا وتشبيها؟!
ثمَّ إنَّا نقول لهذا الشخص ومن كان على شاكلته:(لقد قال تعالى :(سبحان ربك رب العزَّة عما يصفون* وسلام على المرسلين* والحمد لله رب العالمين) فهنا ذكر تعالى أنَّ أولئك الكفَّار وصفوا الله بما هو ليس بلائق له، أفلا يدل ذلكَّ بدلالة المفهوم أنَّ وصف المؤمنين له ـ عزَّ وجل ـ بما هو لائق به وثابت في كتابه أو بما صحَّ عن سنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ـ محمود؟.
ثمَّ هنا نرى أنَّ الله تعالى عقَّب بعد قوله :(سبحان ربك رب العزَّة عما يصفون) وقال بعدها:(وسلام على المرسلين) دلَّ ذلك أنَّ المرسلين وصفوا الله تعالى بما يليق به سبحانه وبحمده.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله:(وسلَّم على المرسلين؛ لسلامة ما قالوه من النقص والعيب)[7].
وقد وجدت الإمام ابن حجر رحمه الله قد نبَّه على ذلك فقال:(قال الله تعالى :(ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) قال بعد أن ذكر منها عدة أسماء في آخر سورة الحشر :(له الأسماء الحسنى) والأسماء المذكورة فيها بلغة العرب صفات ففي إثبات أسمائه إثبات صفاته؛ لأنه إذا ثبت أنه حي مثلا فقد وصف بصفة زائدة على الذات وهي صفة الحياة، ولولا ذلك لوجب الاقتصار على ما ينبئ عن وجود الذات فقط ، وقد قاله سبحانه وتعالى:(سبحان ربك رب العزة عما يصفون) فنزه نفسه عما يصفونه به من صفة النقص ، ومفهومه أن وصفه بصفة الكمال مشروع).
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله :(ولما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص بدلالة المطابقة ، ويستلزم إثبات الكمال ، كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال مطابقة، ويستلزم التنزيه من النقص - قرن بينهما في هذا الموضع ، وفي مواضع كثيرة من القرآن ؛ ولهذا قال : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ*وَسَل مٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ })[8]
لهذا نجد الإمام البخاري رحمه الله في كتاب التوحيد من (صحيحه) يبوِّبُ باباً فيقول:(باب: قول الله تعالى:{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ،{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون} {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ}، ومن حلف بعزة الله وصفاته).
وعليه فإنَّ هذا يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته، فلله تعالى صفات، وكل اسم لله تعالى يتضمَّن صفة من هذه الصفات اللائقة به عزَّ وجل.
وإني أسأل هذا الشخص : حينما تطلب من الله تعالى أن يرحمك لأمر نزل بك؟ هل تقول يا جبار يا ذا الانتقام ارحمني؟ أم تقول : يا رحمن ارحمني؟
فإن قلت : كلاهما سواء فأنت أجهل وأضلُّ من حمار أهلك!!
وإن قلت : بل أقول يا رحمن ارحمني.
فنقول لك: فأنت لحظت الصفة المشتقة من الاسم، وهذا ما يسمَّى بعلم الصرف، فهل علم الصرف عندك بدعة ومحدث في الدين؟!
وبالنسبة لما زعمه بأنَّ:(إثبات الصفات يعتبر شتيمة لله تعالى فمجرد أن تعبد الله بالصفات فقد شتمته كما زعم)
فالجواب عنه: أنَّ هذا الكلام لا يخرج من عاقل فضلاً عن متعلم، إذ إنَّ كل شخص لا يثبت هذه الصفات لله إلاَّ لأنَّه تعالى أثبتها لنفسه فهو تعالى الذي قال:(بل يداه مبسوطتان) وهو الذي قال:(ولما جاء موسى لميقاتنا وكلَّمه ربّه) وهو الذي قال:(وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتَّى يسمع كلام الله) وهو تعالى القائل:(الرحمن على العرش استوى)، وهو القائل:(ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام).
ومن السنَّة قوله صلى الله عليه وسلم:(ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا)[9]، وقوله صلى الله عليه وسلم:(يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة)[10] وقوله صلى الله عليه وسلم:(ما منكم من أحد إلاَّ سيكلمه ربه وليس بينه وبينه ترجمان)[11].
فما جواب هذا الرجل عن هذه الآيات والأحاديث التي أوردناها، بل التي نتعبَّد الله تعالى بقراءتها وحفظها، وخصوصاً في كتاب الله تعالى الذي نتلوه في صلواتنا ونتعبَّد الله بقراءة هذه الآيات؟
فهل كل المسلمين يشتمون الله حينما يقرؤون ما أنزله الله عليهم لكي يقرؤوا هذا القرآن ويتعلَّموه؟!
وإذا اعتبر (أبو عرفة) أن المسلمين جميعًا قد أجمعوا على شتيمة الله عز وجل؛ قلنا له: إنما علمهم سبحانه هذا في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ والله لا يُعَلِّم خلقه الشتيمة لنفسه، مع العلم أنَّ شتم الله كفر بالله، فهل من عبد الله بالصفات كفر بالله؟!
وأما الجواب عن زعمه:(بأن من يثبت الصفات لله تعالى من العلماء، فهو كلب أو حمار؟).
فلقد ذكَّرني هذا الرجل القائل بهذا القول بأسلافه من المعتزلة الذين رموا أهل السنة والجماعة الذي أثبتوا الصفات لله تعالى بأنَّهم مجسِّمة وحشوية بل قالوا إنَّهم حمير!
نعم لقد قالها شيخهم الزمخشري ـ عفا الله عنا وعنه ـ:
لجماعة سمَّوا هواهم سنَّة *** لجماعة حمر لعمري موكفة
ومقصوده في قوله حمر أي أنَّهم حمير!
ولهذا ردَّ عليه عدد من العلماء ومنهم البليدي قائلاً له ولأمثاله من المعتزلة:
هل نحن من أهل الهوى أو أنتمو *** ومن الذي منَّا حمير موكفة؟!
اعكس تصب فالوصف فيكم ظاهر *** كالشمس فارجع عن مقال الزخرفة
يكفيك في ردي عليك بأنَّنا *** نحتج بالآيات لا بالفلسفة
وعموما فإني لا أريد أن أنزل عن مستوى أخلاق أهل العلم وحملته بما يمكنني الرد عليه به من قواميس الشتائم، وأنواع السباب، فالمؤمن ليس شتَّاما ولا بذيئاً، فمن قال هذا القول ونطق به، فإنَّ هذا يعبِّر عن حقيقة خلقه، وكل إناء بما فيه ينضح، ولقد قال تعالى:(ستكتب شهادتهم ويسألون) ويقول تعالى:(ما يلفظ من قول إلاَّ لديه رقيب عتيد).
وأذكره بأنَّ من تجرأ على علماء المسلمين بدءاً بصحابة رسول الله، ومن تبعهم من أهل العلم الذين ساروا على درب أهل السنة والجماعة، فإنَّ الله تعالى منتقم منه ولو بعد حين، فلحوم أهل العلم مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة ومن تتبعهم بالثلب والسب فسيبتليه الله بموت القلب:(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
وإني أقول: لقد تتبعت بعض كلام صلاح أبو عرفة في حق أهل العلم فوجدته والله قليل الأدب معهم، سيء الخلق في التعامل مع كلامهم، مستعل عليهم، ومستعجل في تخطئتهم، ويمكنني أن أضرب على ذلك عدَّة أمثلة، فمنها ما تحدَّث به في شريطه عن (آية الناقة التي ضيعها المسلمون ولم يفهمها المفسرون) كما فهم هو طبعاً، حيث قال في شريط له في الدقيقة الرابعة عشرة من الجزء الأول في الشريط، يقول وقد بدأ يقرأ من أحد التفاسير:
(( مالها الناقة يا سيدي بدنا نحكي في الخراريف ...))
ثم ذكر ما ورد من نقل لبعض الإسرائيليات وقال:
((شو هالحكي يا شيخ مالنا ما لنا ليش الكذب ..الله يعين الي كتب على اللي كتبه ..
واللا كيف فكرك ضاع الدين يا شيخ ..شفت يا سيدي وين راح الدين ..
واللا كيف بدي أسحرك يا شيخ وأعميك ..))
وإني أقول للأخ القارئ :انظر لكلامه وهو يقرأ في تفسير بعض كتب أهل العلم، وكيف يتعامل معهم، حتَّى إنَّ ألفاظه لا تنم ولا تدل على رجل يحترم أهل العلم، ويتحدث بالعامية التي لا تليق برجل يمتثل القرآن منهجاً.
فهو يقول عن ذلك المفسر :( كيف بدي أسحرك يا شيخ وأعميك) ويقول كذلك: ( ليش الكذب).
فتأمل طريقة حديثه مع أهل العلم، ولنفترض جدلاً أن أهل العلم زلوا أو أخطؤوا أبمثل هذه الطريقة السوقية يتحدَّث هذا الرجل مع العلماء؟!
وانظر لكلامه في شريط ملخص آية الناقة وفي الدقيقة الثانية حيث يقول:
((وعندما تلونا لكم ما تلونا من الكتب ابن كثير والقرطبي والطبري في ناس بيعبدوها كما يعبدون القرآن يا شيخ ...ثم كفرت بالقرآن لتأتي بالصخرة ...))
فتأمل كلامه :من الذي يعبد تفاسير العلماء من المعاصرين ومن السابقين؟ وهل من أمثلة على ذلك قديماً وحديثاً؟
وكذلك في الشريط آنف الذكر نجده يتحدث في الدقيقة الثامنة :((تتمخض عن ناقة جوفاء هيك في التفسير عند ابن كثير وعندهم رحمة الله عليهم جميعاً الله يصلحهم أنا ما معلش بدنا نسامحه ، هو يعني أمام الله يتابع شو قال من وين قال ناقة جوفاء وبرآء عشراء حمراء ليش ، بتعرف ليش هذا النفاخ ، حتى يعمينا ..شو هذا الحكي، حتى تكبر الكذبة...))
فتأمل حديث أبو عرفة عن الإمام ابن كثير الذي شهد له بهذه الإمامة القاصي والداني، وهو يتحدث بهذه الطريقة السمجة ويقول عن هذا الإمام :( حتى يعمينا) و(حتى تكبر الكذبة)!
والعجب العجاب أنَّ عنده تلامذة متعصبين له ويفكرون بمثل تفكيره ويؤجّرون عقولهم له، وينتفضون لقيله وقاله إن اعترضه أحد ويسبونه بأنواع من السباب والشتائم، وأما أهل العلم فلا مانع من أن يقوم شيخهم بسبِّهم وشتمهم.
وأمَّا الجواب عن كلامه في موضوع الصفة وتعريفه لها حيث قال:(الصفة هي أن تقول في شيء ما لا تتبيَّن منه) و يقول كذلك:(إذا عبد الله بالاسم فقد عبده بالحق؛ وإذا عبده بالوصف فكأنَّه عبده بالتقريب، وذلك لأنَّ الوصف من التقريب والتقريب من الظن والظن لا يغني من الحق شيئا).
فالجواب عن ذلك أنَّ نقول : إنَّ هذا الشخص حتَّى في تعريفاته للصفة والوصف قد أخطأ خطأ شنيعاً كعادته في كثير ممَّا يقوله ويتخرَّص به، فالصفة عند أهل اللغة هي:(الاسم الدال على بعض أحوال الذات، وهي الأمارة اللازمة بذات الموصوف الذي يعرف بها) وهي كذلك :(ما وقع الوصف مشتقاً منها، وهو دال عليها، وذلك مثل العلم والقدرة ونحوه)[12] وقال ابن فارس:(الصفة: الأمارة اللازمة للشيء)[13]، وقيل أن الصفة هي :(لفظ ينعت به الموصوف فيبين صفة من صفاته وحالة من حالاته)[14].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ بعد أن ساق حديث:(صفة الرحمن) ـ فقال عقب ذلك :(والصفة: مصدر وصفت الشيء أصفه وصفًا وصفة، مثل وعد وعدًا وعدة، ووزن وزنًا وزنة، وهم يطلقون اسم المصدر على المفعول، كما يسمون المخلوق خلقًا، ويقولون: درهم ضرب الأمير، فإذا وصف الموصوف، بأنه وسع كل شيء رحمة وعلمًا، سمى المعنى الذي وصف به بهذا الكلام صفة. فيقال للرحمة والعلم والقدرة: صفة، بهذا الاعتبار، هذا حقيقة الأمر)[15].
هذه تعريفات اللغويين والعلماء للصفة والتي تخالف بوضوح ما عرَّفه :(صلاح أبو عرفة) للصفة، فهو تعريف عصري جديد!
وعليه فإنَّ الله عزَّ وجل يستحق الوصف اللائق به تعالى، وهو كلام أهل اللغة كذلك والذين فقهوا من حديث رسول الله وفهموا منه ووقفوا عند حدِّه فاللغوي الشهير أبو القاسم السهيلي يقول:( وأما صفات الباري - سبحانه - فلا نرى أن نسميها نعوتا، تحرجا من إطلاق هذا اللفظ، لعدم وجوده في الكتاب والسنة. وقد وجدنا لفظ الصفة في الصحيح، حين قال عليه السلام للرجل الذي كان يقرأ " قل هو الله أحد " في كل ركعة : لم تفعل ذلك؟ فقال: أحبها لأنها صفة الرحمن)[16].
وقال الزبيدي:(قال ابنُ الأَثِير : النَّعْتُ : وَصْفُ الشيءِ بما فيه من حُسْنٍ ولا يُقَال في القَبِيحِ إِلاّ أَنْ يَتَكَلَّف مُتَكَلِّفٌ فيقول : نَعْتَ سَوْءٍ والوَصْفُ يقالُ في الحَسَنِ والقَبِيحِ . قلت : وهذا أَحَدُ الفُروقِ بين النَّعْتِ والوَصْفِ وإِن صَرَّح الجَوْهَرِيُّ والفَيُّومِيُّ وغيرُهما بتَرادُفِهِما . ويقال : النَّعْتُ بالحِلْيَةِ كالطَّوِيلِ والقَصِيرِ والصِّفَةُ بالفِعْلِ كضَارِب وقال ثعلب : النَّعْتُ ما كان خاصّاً بمَحَلٍّ من الجَسَدِ كالأَعْرَج مثلاً والصِّفَةُ للعُمُومِ كالعَظيم والكَرِيم ؛ فاللهُ تعالى يُوصَفُ ولا يُنْعَتُ)[17].
فالكلام الذي قاله صلاح أبو عرفه وتخرَّصه من عقله دون بينة أو برهان بل بقذف شبهات ثارت في فكره، فقذفها من لسانه أمام الناس، فإنَّها لا تثبت عند كلام المحققين من أهل العلم، فحينما قال:(النبي يعلم أنَّ الله لا يصف لأنَّ الوصف كذب وعيب) هذا الكلام لا يخرج من عاقل للغة العربيَّة وأساليبها، والعجب العجاب أنَّه حاول أن ينكر صحَّة القول في كلمة الصفة أو الوصف، فهو يرى عدم جواز إطلاقها وحتَّى لو كان ذلك في رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، مع أنَّه قد ثبتت لنا أحاديث صحاح وحسان وجياد تدل على أنَّ الصحابة كذلك وصفوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فلدينا حديث عطاء بن يسار حينما قال: ( لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : قلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ، قال : أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا}. وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا سخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا)[18] .
كذلك لدينا حديث أبي جحيفة السوائي قال:(رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان الحسن بن علي عليهما السلام يشبهه ، قلت لأبي جحيفة : صفه لي ، قال : كان أبيض قد شمط ، وأمر لنا النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة قلوصا ، قال : فقبض النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن نقبضها)[19].
فهذه أدلَّة على جواز وصف الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى أنَّ لفظ الوصف لا مانع من إطلاقه، لأدنى عاقل يفقه في اللغة العربيَّة شيئاً.
أمَّا أن يقول (صلاح أبو عرفة) :(فالوصف في كتاب الله يعني الكذب فكيف تعبد الله بالصفات؟ فهذا يعني أنَّك تعبده بالكذب)، فلا أدري من أين أتى هذا الرجل بهذا اللازم، وحاول أن يلزم به خلق الله على ضلاله الذي وقع فيه، ولنفترض جدلاً أنَّ الوصف ورد في القرآن بمعنى الكذب، فهل يعني هذا أن يكون الوصف لأحد حينما يوصف بشيء فإنَّ هذا الوصف الذي وُصِفَ به كذب؟!
والعجب أنَّه حينما يسأله سائل عن صفات الله يلزمه بضلاله وجوره، فكم من شخص يسأله عن ذلك فيقول له: قل الصفات والعياذ بالله لأنَّه ذكر باطلاً، وهذا مسجَّل بصوته في الشريط المذكور.
فعلاً صدق الشاعر حينما قال:
وكم من فقيه خابط في ضلاله *** وحجَّته فيها الكتاب المنزَّل
· وأخيرا:
فإني أقول لصلاح أبو عرفة هداه الله وردَّه إلى الحق .... آمين.
إن كنت معظِّماً لله تعالى ومحباً له عزَّ وجل؛ فإني أدعوك أن تراجع منهجك وطريقتك في التعامل مع كتاب الله تعالى، حاول أن تعتزل الناس قليلاً كي تراجع منهجك لتدرك أنَّك تسير في طريق خطير جد خطير، تتنكب فيه للمنهج القرآني الذي تدعو إليه، وتقع في أخطاء عقائدية ومنهجية وفكرية خطيرة، وبعدها فما الفائدة؟!!
ألا ترى أنَّك لا تثير سوى الغرائب والعجائب؟!!
وهل وسع أهل القرآن أن يحدثوا الناس إلا بمثل هذه الأمور ثمَّ يطلبوا من غيرهم أن يقتنعوا بها، وإن لم يقتنعوا يشنعوا عليهم في ذلك؟!!
ألا تذكر حين كنت تقف أمام الناس وتقسم بالله أنَّ أمريكا ستغرق في تاريخ كذا وكذا وتقسم على ذلك في المساجد؟ وحينما أتى موعد الغرق الذي قلت به ولم يحصل، أجَّلت هذا لتاريخ آخر، ومع هذا فلم يحصل هذا ولا ذاك... وليتك اعتذرت للناس عمَّا حصل منك في ذلك.
لهذا فإني أقول لك يا صلاح ألا يسعك ما وسع منهج سلفنا الصالح وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان؟!!
أسأل الله تعالى أن يهدينا وإياك لهداه، ويوفقنا وإياك لرضاه، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
ونقول ختاماً:
تم الكلام وربنا محمود*** وله المكارم والعلا والجود
ثمَّ الصلاة على النبي وآله *** ما لاح قمري وأورق عود
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به، وحسبنا الله ونعم الوكيل، سائلاً الله تعالى الهداية لجميع المسلمين، وأن يوفقهم لأحسن الأقوال والأفعال، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وكتبه
خباب بن مروان الحمد
حامداً لربه، ومصليِّاً على رسوله
صباح يوم الخميس الموافق
30/ 12/ 1430هـ
17/12/2009م
[1] ) المصنف، لعبد الرزَّاق الصنعاني:(11/423) برقم:( 20895، وبنحوه عند ابن أبي عاصم :(485) بسند صحيح.
[2] ) مجموع الفتاوى :(8/150)، وقد ذكر هذا الأثر غير واحد من أهل العلم ومنهم أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة :(1/102)
[3] ) منهاج السنَّة النبويَّة :(6/366)
[4] ) أعلام الموقعين، لابن القيم :(1/49).
[5] ) شرح الطحاوية، لابن أبي العز ص354
[6] ) محاضرات في الإلهيات للسيحاني ص44
[7] ) الدليل الرشيد إلى متون العقيدة والتوحيد، كتاب العقيدة الواسطية، لابن تيمية، ص73.
[8] ) تفسير ابن كثير :(7/46)
[9] ) البخاري (1145) ومسلم :(758)
[10] ) البخاري:(2826) ومسلم :(1890)
[11] ) البخاري:(6539) ومسلم:(1016)
[12] ) الكليات، للكفوي، ص546.
[13] ) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، :(5/ 448)
[14] ) التذكرة في قواعد اللغة العربية لخليل باشا ص232.
[15] ) مجموع الفتاوى، لابن تيمية::(6/340)
[16] ) نتائج الفكر: ص158 ـ 160
[17] ) تاج العروس، للزبيدي:(4/1193).
[18] ) صحيح البخاري برقم:(2125).
[19] ) صحيح البخاري برقم:(3544)