الأوسع طواعية !
قبل الانتقال إلى نحو الجملة لنرى ما فيه من فضائل .. لا بد أن نستجلي أمراً فضيلاً ، قد يخفى من نحو الكلمة .
وهو كامن في العلم الذي سمي متن اللغة ، الذي هو قاعدة ما سلف من الكلام عن آلة التجريد والتصريف والجمود والاشتقاق ، وقاعدة ما يأتي من أنحاء وآلات .
ذلك العلم الذي أحاطت به المعجمات العربية ، ابتداء من معجم العين المنسوب إلى الخليل إلى المعجم الوسيط الذي صنعه مجمع القاهرة ، فلم يشذ عنها منه شيء ، إلا ما لا خطر له ، حتى استوى معجم اللسان العربي موثقاً بالنقل منظماً بالعقل واضحاً كالشمس .
وامتد بناء المعجم العربي منذ أن بدأ التدوين مع القرن الهجري الأول إلى الآن (أي : أربعة عشر قرناً ) بغير انقطاع ، فاجتمع له عراقة وتهذيب ومتانة لم ينلها معجم آخر في آثار الألسنة الأخرى .
فما تراه (في الجملة) من الأصول في تاج العروس تراه في المعجم الوسيط ، وتراه في العين والتهذيب والمحيط والصحاح والبارع والمخصص واللسان والقاموس والمصباح .
والأمر الذي أريد أن نستجليه هنا في هذه المحاورة هو أن هذا ( المتن ) انبنى بأصوات كلام العرب ، التي سلفت ، وأن تلك الأصوات المؤلفة في كلمات كانت مفصلة على أسس رفيعة من الحكمة والانسجام والتناظر والقياس ، الذي يحكم أبوابها وفصولها وتقاليبها ومقاييسها وحروفها ودلالاتها ، حكمة تدخل إلى العقل الريب في أنه من اصطلاح بشر .
وخلاصة هذا البحث أمران :
- أن لأصول الكلمة دلالةً عامة تسري في معاني تصاريفها .
- أن للكلمات التي تماثل حرفان من أصولها فأكثر = دلالة عامة تسري في معاني جذورها .
***
وأستميحكم عذراً بسرد هذه الأمور التي هي تقدمة للفكرة :
أول معجم حاول جمع أبنية العربية هو معجم العين المنسوب إلى الخليل بن أحمد (-175).
ولا نزاع في أن الخليل كان سبب وضع أصل هذا الكتاب وراسم خطة أبوابه (منهجه) ، أما حشوه (تتميمه) فمن صنع تلميذه الليث بن المظفر (-180) وغيره من العلماء .
اختار - أو اقترح - الخليل للمعجم أن يبنى على أمرين ، وفق فيهما كل التوفيق (مقدمة العين):
1) أن ترتب حروفه على ترتيبها الصوتي بدءاً من الجوف وانتهاءً بالشفتين والخيشوم .
2) أن يركب من هذه الحروف كلمات ، تقلب أصولها الستة وما يتصرف منها ، حتى يأتي على كل الأصول ، دالة في تقاليبها الستة على مدلول واحد عامّ .
فمثلاً ( سلم ) تُقلب إلى : سمل ، ملم ، ملس ، ملل ، لمم = الإصحاب والملاينة ...
وتبعه على هذا النهج الأزهري في التهذيب ، والقالي في البارع ، والصاحب في المحيط ، وابن سيده في المحكم .
وكان البحث في هذه الدواوين الكبيرة مركزاً في تثبيت تفاصيل المنهج وتصحيح المواد وإحكامها، حتى قال ابن منظور في اللسان : ما رأيت أجمل من التهذيب للأزهري ولا أكمل من المحكم لابن سيدة .
***
وبعد هذه التقدمة الموجزة ، أنبه أن اختيار الخليل بن أحمد لطريقة التقليب هذه هو اختيار للأصعب لا للأسهل ، كما لا يخفى ، ولا أحسب (شهيد التعليم والتيسير !) عدل عن الأسهل إلى الأصعب إلا لحكم في نفسه ، أظهرها في مواضع من العين كما قال ابن فارس .
(قال ابن فارس إن الفضل في بناء معجمه يعود إلى الخليل وإشاراته في كتابه).
وجاء أبو الفتح بن جني (-392) ، ولفت النظر إلى حكم ترتيب معجم العين للخليل ، وسمى ذلك الترتيب تقليباً [الخصائص 2/134-139]، فتكلم عن الاشتقاق ، وعدّه واحداً من خصائص العربية .
وقد قسم ذلك الاشتقاق إلى اشتقاق أصغر ، ( وهو أن تأخذ أصلاً من الأصول ، فتتقراه ( تستقرئه )، فتجمع بين معانيه ، وإن اختلفت صيغه ومبانيه ، كتركيب (س ل م) فتصرفه بمعنى السلامة على سلم ويسلم وسالم وسلمان وسلمى والسلامة والسليم .
وإلى اشتقاق أكبر ، و"هو أن تأخذ أصلاً من الأصول الثلاثية ، فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحداً ، تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه ، وإن تباعد شيء من ذلك عنه رُدّ بلطف الصنعة والتأويل إليه ؛ كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد ".
وضرب على ذلك أمثلة: تقليب الكلام (ك ل م) والقول (ق و ل) والجبر (ج ب ر) والقسوة (ق س و) والسلام (س ل م).
فتقاليب (الكلام) ترجع إلى القوة والشدة .
وتقاليب (القول) ترجع إلى الإسراع والخفة .
وتقليب (الجبر) ترجع إلى القوة والشدة .
وتقاليب (القسو) ترجع إلى القوة والاجتماع .
وتقاليب (السلام) ترجع إلى الإصحاب والملاينة .
فهو يرى ومعه أبو علي الفارسي أنها مادة واحدة شكّلت على صور مختلفة ، فكأنها لفظة واحدة ، وأن اختلاف صورها اختلاف تنويع وتفصيل وتقييد .
ابن جني يقارن بين تصاريف جذور الكلم ، ويقارن تصاريف جذر الكلمة الواحدة ، وقد رأى في كلّ معاني جامعة ومشتركة .
وتوقف ابن جني عند جواز طرد الاشتقاقين في كل اللغة ، لأن ذلك يفوق طوق آحاد الخلق .
ومن هنا لفت النظر إلى حكمة من حكم الوضع العربي .
واستبان ذلك أيضاً لأحمد بن فارس (-395).
وليس كل كلام العرب جارياً على هذا القياس والحكم والطرد ، فقد استبعد ابن فارس من ذلك : المعرّب والمبدل والمقلوب والمؤتلف من أصل واحد وحكاية الصوت وأسماء النبت والمكان والأعلام والألقاب والإتباع والمنحوت والمبهم والحروف والأدوات ؛ فهذه ألفاظ لا يدخلها قياس ، وأعفى نفسه من إدخالها في معجمه : (معجم مقاييس اللغة).
ولكن ما بقي مما استثناه ابن فارس = شيء كثير استوعبه في كتابه : معجم مقاييس اللغة (2650 صفحة) في ستة مجلدات (ط هارون).
ومن أمثلة هذا الاشتقاق : قول ابن فارس :"وإن لله في كل شيء سراً ولطيفة ، وقد تأملت هذا الباب (باب الدال مع اللام) ، من أوله إلى آخره ، فلا ترى الدال مؤتلفة مع اللام بحرف ثالث إلا وهي تدل على حركة ومجيء ، وذهاب وزوال ، من مكان إلى مكان". المقاييس 2/298.
وقول الزبيدي : "نقل شيخنا عن الزمخشري في الكشاف أنه قال : لو استقرئ أحد الألفاظ التي فاؤها نون ، وعينها فاء ، لوجدها دالة على معنى الذهاب والخروج ". التاج (نفد).
إن لك أن ترى هنا آلتين أخريين في هذا الباب :
3) آلة انتظام الجذور في معنى أو اثنين ... أو خمسة .
4) آلة اشتراك بعض المتقاربات الأصوات في معان عامة .
وما أحوجنا اليوم إلى البحث في هذه الأبواب من الاشتقاق والتنقير فيها وتوسيعها .
***
فائدة : جاء في كتاب العين ( مادة : كنع ): أن لغة الكنعانيين تشبه العربية ! .
والكنعانيون هم أبناء سام بن نوح .
***
. . . ( يتبع ) . . .