أولاً : نحو الصوت
اللسان هو الجزء الظاهر من آلة التصويت الإنسانية التي هي ترجمان المعاني الذهنية ، واللغة الناشئة عنه أياً كانت هي أصوات تعبيرية ... وقد نسبت إليه اللغة لأن أكثر أصواتها يخرج منه .
والأصوات هي أصغر مكونات اللغات .. وتسمى في الدراسات الحديثة : وحدات .
وإن شئت التقريب فالأصوات المواد الخام التي انبنت بها اللغة ، وهي التي يكوّن بها اللسان الكلمات .
ولسان الإنسان يختلف اختلافاً بيناً عن ألسنة الحيوان الأخرى ، التي لا تكاد تزيد عن نطق الحرف والحرفين ( في مقاطع ساذجة )، ولا مدخل للسان في إخراجها ، وإنما هي نباح أو عُواء أو مواء أو نهيق أو صهيل أو السجع أو الزقزقة أو الصفير ونحوه .
ومهما علت أصواتها فهي في نظر العربيّ عجماوات لا تفصح ولا تبين عما في أنفسها للناس ، وإن كانت تتعايش بذلك فيما بينها .
حتى إذا أتيت على ألسنة الأناسي وجدتها تزيد عن ذلك العدد ، وتتفاضل فيما بينها في تلك الأعداد وتختلف في توزيع المخارج وأنواع الصفات والوظائف التعبيرية والجمالية .
وسندرس هذه الوحدات الصوتية في العربية ، وستكون هذه الدراسة ابتداء من إمام النحويين سيبويه ، عليه رحمة الله .
قال سيبويه في الكتاب (4/431، و432) [ط هارون] :
" هذا باب عدد الحروف العربية ومخارجها ومهموسها ومجهورها وأحوال مجهورها ومهموسها واختلافها .
فأصل حروف العربية تسعة وعشرون حرفاً :
الهمزة والألف والهاء والعين والحاء والغين والخاء والكاف والقاف والضاد والجيم والشين والياء واللام والراء والنون والطاء والدال والتاء والصاد والزاي والسين والظاء والذال والثاء والفاء والباء والميم والواو.
وتكون خمسةً وثلاثين حرفاً، بحروفٍ هن فروعٌ، وأصلها من التسعة والعشرين، وهي كثيرةٌ يؤخذ بها وتستحسن في قراءة القرآن والأشعار؛ وهي النون الخفيفة، والهمزة التي بين بين، والألف التي تمال إمالةً شديدة، والشين التي كالجيم، والصاد التي تكون كالزاي، وألف التفخيم يعنى بلغة أهل الحجاز في قولهم الصلاة والزكاة والحياة .
وتكون اثنين وأربعين حرفاً، بحروف غير مستحسنةٍ ولا كثيرة، في لغة من ترتضي عربيته، ولا تستحسن في قراءة القرآن ولا في الشعر؛ وهي الكاف التي بين الجيم، والكاف والجيم التي كالكاف، والجيم التي كالشين، والضاد الضعيفة، والصاد التي كالسين، والطاء التي كالتاء، والظاء التي كالثاء، والباء التي كالفاء.
وهذه الحروف التي تممتها اثنين وأربعين، جيدها ورديئها، أصلها التسعة والعشرون، لا تتبين إلا بالمشافهة ... ". انتهى .
وترتيب سيبويه ترتيب صوتي "على مذاقها وتصعدها"؛ كما في سر الصناعة، وهو أدق من ترتيب من سبقه .
هذه هي الحروف التي يخرجها اللسان العربي ، إخراجاً مجرداً من هيئة ذلك الإخراج ، أي الأصوات في حالة سكونها واستقرارها .
وهيئة إخراجه هي تلبسه بحركة تلازمه حالة النطق ، وهي الحركات المعروفة : الضم للشفتين والفتح والكسر ، ما عدا الألف لأنه ساكن أبداً لا يقبل الحركات .
وقد رأيت أن سيبويه نقل عن العرب تنوعاً في نطقها بين فصيح (29) ومستحسن (6) ومستهجن (8)، حتى بلغت اثنين وأربعين حرفاً ، ترتدّ كلها إلى الأصول التسعة والعشرين الفصيحة ( المنتخبة ).
وفي الكتاب وغيره من كتب اللغة والقراءة وصف لتلك المخارج وصفاتها وإدغامها وسائر أحكامها ، فلا نطيل بذكرها .
إذن .. تحصل للسان العربي تسعة وعشرون حرفاً متوزعة على جهاز التصويت الإنسانيّ من الجوف إلى الحلق فاللسان والشفتين والخيشوم .
منها حرف مدّيّ هو الألف ، وله أخوان مدّيّان ؛ الواو والياء .
وهذه الأحرف المدية تسمّى : الحركات الطويلة ؛ فهي ثلاث حركات .
فإذا قصرت هذه الأحرف المدية الثلاثة كانت هي الحركات القصيرة أو أبعاض حروف المد واللين (كما في سر الصناعة)؛ أيْ : الضمة والفتحة والكسرة ، والتي قد تسمى الضمةُ واواً صغيرة ، والفتحة ألفاً صغيرة ، والكسرة ياء صغيرة .
وعدد هذه الحركات ؛ الطويلة والقصيرة = ستة ، وهي صالحة لأن تتعاقب على الحروف الأصول الثمانية والعشرين ( بعد أن أدخلنا الألف المدية في الحركات الطويلة ).
فتحصل أن مع الحروف الثمانية والعشرين ( وهي الساكنة في الأصل ) ستّ حركات ؛ أي لكل حرف صحيح من الثمانية والعشرين سبع أحوال مقطعية بسيطة .
وتصوير هذا حساباً يكون كالآتي :
28 ( حرف ) × 7 ( مقاطع بسيطة ) = 196 ( صوت ) = مجموع أصوات العربية .
أو قل : مجموع المواد التي تستطيع أن تؤلف بها الكلمات = 196 .
وتمثيل تلك الأحوال في حرف الباء من الحروف الثمانية والعشرين = ما يأتي :
ابْ ، بَـ ، بِـ ، بُـ ، بَا ، بي ، بُو .
***
المقارنة :
اختفت من الانجليزية الحاء والخاء والضاد والظاء والطاء والعين والغين .
تفرع عن الفاء ثلاثة أشكال ، فعبروا عنه بـ(f v ph) ، والجيم (g j) .
واختلط فيها السين والصاد (s) .
واختلطت الحروف ( الساكنة : الصامتة ) بالحركات (المتحركة : الصائتة ) .
والفروف إما في الحركة والسكون كـ(C و S) أو الصفات كـ(V وF)، أو قلة الرموز كـ( TH وSH).
فحروف الانجليزية تكافئ نصف الحروف الفصيحة في العربية أو ثلث الحروف المستهجنة منها .
وهذا وصف لهذه الأصوات في حال مقاطعها البسيطة .
( ... يتبع ... ) . . .