القول الثاني: أنه يجلس ويكره له أن يركع، بل يستمع للخطبة وينصت.
(وهذا قول مرجوح على الصحيح لا تستقيم أدلته وأدلة القول الأول، بل أن أكثرها عقلي لا يستند إلى قاعدة منضبطة مردود معترض)
وبهذا القول قال:
عطاء، وشريح، وابن سيرين، والنخعي، وقتادة، والثوري، ومالك، والليث، وأبو حنيفة، وسعيد بن عبد العزيز.
أدلة أصحاب القول الثاني، والإعتراضات عليها:
الدليل الأول:
· قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي جاء يتخطى رقاب الناس: "اجلس فقد آذيت وآنيت" رواه ابن ماجة.
قالوا: فَأَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ دُونَ الرُّكُوعِ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ.
وأجيب عنه من قبل أصحاب القول الأول من خمسة أوجه:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، لأنه من طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بن صَالِحٍ، لم يَرْوِهِ غَيْرُهُ وهو ضَعِيفٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ ليس في الحديث لو صَحَّ أَنَّهُ لم يَكُنْ رَكَعَهُمَا، وقد يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَكَعَهُمَا ثُمَّ تَخَطَّى، وَيُمْكِنُ أَنْ لاَ يَكُونَ رَكَعَهُمَا، فَإِذْ ليس في الْخَبَرِ لاَ أَنَّهُ رَكَعَ وَلاَ أَنَّهُ لم يَرْكَعْ، فَلاَ حُجَّةَ لهم فيه وَلاَ عليهم.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ في الْخَبَرِ ما ليس فيه فَيَكُونُ من فَعَلَ ذلك أَحَدَ الْكَذَّابِينَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ حتى لو صَحَّ الْخَبَرُ وكان فيه أَنَّهُ لم يَكُنْ رَكَعَ؛ لَكَانَ مُمْكِنًا أَنْ يَكُونَ قبل أَمْرِ النبي صلى الله عليه وسلم من جاء وَالإِمَامُ يَخْطُبُ بِالرُّكُوعِ، وَمُمْكِنًا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ، فَإِذاً ليس فيه بَيَانٌ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فَلاَ حُجَّةَ فيه لهم وَلاَ عليهم.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لو صَحَّ الْخَبَرُ وَصَحَّ فيه أَنَّهُ لم يَكُنْ رَكَعَ، وَصَحَّ أَنَّ ذلك كان بَعْدَ أَمْرِهِ عليه السلام من جاء وَالإِمَامُ يَخْطُبُ بِأَنْ يَرْكَعَ _ وَكُلُّ ذلك لاَ يَصِحُّ منه شَيْءٌ _ لِمَا كانت لهم فيه حُجَّةٌ، لأننا لم نَقُلْ إنَّهُمَا فَرْضٌ، وَإِنَّمَا قلنا إنَّهُمَا سُنَّةٌ يُكْرَهُ تَرْكُهَا، وَلَيْسَ فيه نهى عن صَلاَتِهِمَا.
فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بهذا الْخَبَرِ.
والخامس: أنه قضية في عين لا عموم فيها؛ يحتمل أن يكون الموضع يضيق عن الصلاة، أو يكون في آخر الخطبة بحيث لو تشاغل بالصلاة فاتته تكبيرة الإحرام.
ويحتمل أن يكون ترك أمره بالتحية قبل مشروعيتها، وقد عارض بعضهم في قصة سليك بمثل ذلك، ويحتمل أن يجمع بينهما: بأن يكون قوله له: "اجلس" أي بشرطه، وقد عرف قوله للداخل: "فلا تجلس حتى تصلى ركعتين" فمعنى قوله: "اجلس" أي لا تتخط، أو ترك أمره بالتحية لبيان الجواز فإنها ليست واجبة، أو لكون دخوله وقع في أواخر الخطبة بحيث ضاق الوقت عن التحية وقد اتفقوا على استثناء هذه الصورة، ويحتمل أن يكون صلى التحية في مؤخر المسجد ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة فوقع منه التخطى فأنكر عليه.
والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالجلوس ليكف أذاه عن الناس لتخطيه إياهم.
الدليل الثاني:
· ما روى نبيشة أن رسول الله قال: "إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ثم أقبل إلى المسجد لا يؤذي أحداً فإن لم يجد الإِمام خرج صلى ما بدا له، وإن وجد الإِمام قد خرج جلس فاستمع وأنصت حتى يقضي الإِمام جمعته وكلامه، إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها؛ أن تكون كفارة للجمعة التي تليها" رواه أحمد.
ورد هذا الدليل:
بأنه ضعيف لا تقوم به حجة، فعطاء الخراساني لم يسمع من نبيشة، وقد ضعف.
الدليل الثالث:
· أن الاستماع واجب والصلاة تشغله عنه ولا يجوز الاشتغال بالتطوع وترك الواجب، فكره كركوع غير الداخل.
وسيأتي فيما بعد رد هذا الدليل.
الدليل الرابع:
· عن ابن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا دخل أحدكم والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام" رواه الطبراني في الكبير.
وأجاب أصحاب القول الأول عن هذا الحديث من وجهين:
أحدهما: أنه غريب مرفوعا، وضعيف سندا؛ فيه أيوب بن نهيك وهو منكر الحديث قاله أبو زرعة وأبو حاتم، والأحاديث الصحيحة لا تعارض بمثله.
والثاني: لو صح لحمل على ما زاد على ركعتين، جميعا بين الأحاديث.
الدليل الخامس:
· قَوْله تَعَالَى: {وإذا قرئ القرآن فَاسْتَمِعُوا له وَأَنْصِتُوا}.
قالوا: وَالصَّلَاةُ تُفَوِّتُ الِاسْتِمَاعَ وَالْإِنْصَاتَ؛ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ. وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ.
أجاب أصحاب القول الأول عن هذا الدليل:
بأن الخطبة ليست كلها قرآناً، وأما ما فيها من قرآن فالجواب عنه كالجواب عن الحديث السابق وهو تخصيص عمومه بالداخل، وأيضا فمصلي التحية يجوز أن يطلق عليه أنه منصت، فقد أتى من حديث أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ فأطلق على القول سرا السكوت.
الدليل السادس:
· قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت فقد لغوت".
قالوا: فإذا منع من هذه الكلمة مع كونها أمرا بمعروف ونهيا عن منكر في زمن يسير؛ فلان يمنع من الركعتين مع كونهما مسنونتين في زمن طويل من باب الأولى.
أجاب أصحاب القول الأول:
بأن هذا تأويل باطل يرده صريح قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما" وهذا نص لا يتطرق إليه تأويل، ولا يظن بعالم يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحا فيخالفه.
الدليل السابع:
· أنه لَمَّا لم يَجُزْ ابْتِدَاءُ التَّطَوُّعِ لِمَنْ كان في الْمَسْجِدِ؛ لم يَجُزْ لِمَنْ دخل الْمَسْجِدَ.
وأجاب أصحاب القول الأول:
بأن هَذِهِ دَعْوَى فَاسِدَةٌ لم يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بها وَلاَ قَضَاهَا رَسُولُهُ عليه السلام، بَلْ قد فَرَّقَ عليه السلام بَيْنَهُمَا بِأَنْ أَمَرَ من حَضَرَ بِالإِنْصَاتِ وَالاِسْتِمَاعِ ، وَأَمَرَ الدَّاخِلَ بِالصَّلاَةِ. فَالْمُعْتَرِضُ على هذا مُخَالِفٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عليه السلام، فَالْمُتَطَوِّع ُ جَائِزٌ لِمَنْ في الْمَسْجِدِ ما لم يَبْدَأْ الإِمَامُ بِالْخُطْبَةِ وَلِمَنْ دخل ما لم تَقُمْ الإِقَامَةُ لِلصَّلاَةِ.
الدليل الثامن:
· أنهم اتفقوا على أن منع الصلاة في الأوقات المكروهة يستوي فيه من كان داخل المسجد أو خارجه.
وقد اتفقوا على أن من كان داخل المسجد يمتنع عليه التنفل حال الخطبة فليكن الآتي كذلك.
والجواب: أن هذا قياس في مقابلة النص فهو فاسد.
الدليل التاسع:
· أنهم اتفقوا على أن الداخل والإمام فى الصلاة تسقط عنه التحية، ولا شك أن الخطبة صلاة فتسقط عنه فيها أيضا.
والجواب: أن الخطبة ليست صلاة من كل وجه، والفرق بينهما ظاهر من وجوه كثيرة، والداخل في حال الخطبة مأمور بشغل البقعة بالصلاة قبل جلوسه، بخلاف الداخل في حال الصلاة؛ فإن إتيانه بالصلاة التي أقيمت يحصل المقصود، هذا مع تفريق الشارع بينهما فقال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" وقد وقع في بعض طرقه: "فلا صلاة إلا التي أقيمت" ولم يقل ذلك في حال الخطبة، بل أمرهم فيها بالصلاة.
الدليل العاشر:
· أنهم اتفقوا على سقوط التحية عن الإمام مع كونه يجلس على المنبر، مع أن له ابتداء الكلام في الخطبة دون المأموم، فيكون ترك المأموم التحية بطريق الأولى.
والجواب: أن هذا أيضا قياس في مقابلة النص فهو فاسد، ولأن الأمر وقع مقيدا بحال الخطبة فلم يتناول الخطيب. ومنع الكلام إنما هو لمن شهد الخطبة لا لمن خطب فكذلك الأمر بالإنصات واستماع الخطبة.
الدليل الحادي عشر:
· أنا لا نسلم أن المراد بالركعتين المأمور بهما تحية المسجد، بل يحتمل أن تكون صلاة فائته كالصبح مثلا. فلعله صلى الله عليه وسلم كان كشف له عن ذلك، وإنما استفهمه ملاطفة له في الخطاب؛ ولو كان المراد بالصلاة التحية لم يحتج إلى استفهامه لأنه قد رآه لما دخل.
الجواب: لو كان كذلك لم يتكرر أمره له بذلك مرة بعد أخرى، ومن هذه المادة قولهم: إنما أمره بسنة الجمعة التي قبلها، ومستندهم قوله في قصة سليك عند ابن ماجة: "أصليت قبل أن تجيء"؟ لأن ظاهره قبل أن تجيء من البيت، ولهذا قال الأوزاعي: إن كان صلى في البيت قبل أن يجيء فلا يصلي إذا دخل المسجد.
وجوابه: بأن المانع من صلاة التحية لا يجيز التنفل حال الخطبة مطلقا، ويحتمل أن يكون معنى "قبل أن تجيء" أي إلى الموضع الذي أنت به الآن، وفائدة الاستفهام احتمال أن يكون صلاها في مؤخر المسجد ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة كما تقدم في قصة الذي تخطى، ويؤكده أن في رواية لمسلم: "أصليت الركعتين" بالألف واللام وهو للعهد، ولا عهد هناك أقرب من تحية المسجد، وأما سنة الجمعة التي قبلها فلم يثبت فيها شيء.
الدليل الثاني عشر:
· لا نسلم أن الخطبة المذكورة كانت للجمعة، ويدل على أنها كانت لغيرها قوله للداخل: "أصليت" لأن وقت الصلاة لم يكن دخل.
والجواب: أن هذا ينبنى على أن الاستفهام وقع عن صلاة الفرض فيحتاج إلى ثبوت ذلك، وقد وقع في حديث سليك في الصحيحن والحديث الآخر أن ذلك كان يوم الجمعة، فهو ظاهر في أن الخطبة كانت لصلاة الجمعة.
الدليل الثالث عشر:
· أن هذا العمل هو عمل أهل المدينة خلفا عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك، أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقا.
والجواب: أنا نمنع اتفاق أهل المدينة على ذلك، فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد الخدري وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة، وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة أيضا، فروى الترمذي وابن خزيمة وصححاه عن عياض بن أبي سرح، أن أبا سعيد الخدري دخل ومروان يخطب، فصلى الركعتين، فأراد حرس مروان أن يمنعوه فأبى حتى صلاهما، ثم قال: ما كنت لأدعهما بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بهما. انتهى
ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحا ما يخالف ذلك، وأما ما نقله ابن بطال عن عمر وعثمان وغير واحد من الصحابة من المنع مطلقا فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال، كقول ثعلبة بن أبي مالك: أدركت عمر وعثمان وكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة.
ووجه الاحتمال: أن يكون ثعلبة عنى بذلك من كان داخل المسجد خاصة، لأنه لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية، وقد ورد فيها حديث يخصها فلا تترك بالاحتمال.
ولم أقف على ذلك صريحا عن أحد من الصحابة، وأما ما رواه الطحاوي عن عبد الله بن صفوان أنه دخل المسجد وبن الزبير يخطب فاستلم الركن ثم سلم عليه ثم جلس ولم يركع، وعبد الله بن صفوان وعبد الله بن الزبير صحابيان صغيران، فقد استدل به الطحاوي فقال: لما لم ينكر بن الزبير على بن صفوان ولا من حضرهما من الصحابة ترك التحية دل على صحة ما قلناه.
والجواب عنه: أن تركهم النكير لا يدل على تحريمها، بل يدل على عدم وجوبها ولم يقل به مخالفوهم. ثم قد يقال: صلاة التحية هل تعم كل مسجد أو يستثنى المسجد الحرام لأن تحيته الطواف؟ فلعل ابن صفوان كان يرى أن تحيته استلام الركن فقط.
الدليل الرابع عشر:
· حديث أبي سعيد يرفعه: "لا تصلوا والإمام يخطب".
والجواب: أن هذا الحديث لا يثبت كما قاله الحافظ ابن حجر، وعلى تقدير ثبوته فيخص عمومه بالأمر بصلاة التحية.
هذه جملة ما احتجوا به من أدلة، وهي كما ترى أدلة واهية ضعيفة لا تستقيم قوة وأدلة الفريق الأول، على أنك ترى بعينك أنها كلها معارضة منتقضة.
فخلاصة الأمر على ما تقرر في الأصول الصحيحة السالمة من الإعتراض المدعي تركها: أنه إذا دخل الإنسان إلى المسجد والإمام يخطب فإنه يصلي ركعتين مباشرة إن أراد وهو الأولى للنصوص خفيفتين يتجوز بهما.
هذا ما نراه ونقول به ونتبعه، لقوة الأدلة لهذا القول، وسلامتها من الإعتراض في الجملة. والله تعالى أعلى وأعلم
وبالنسبة لكلامك أخي العزيز (أبا عبد الرحمن) فقد وضعت خلاصة وزبدة من أوردت أسمائهم من أهل العلم في هذا البحث المختصر.