جزاكم الله خيرا. بالنسبة لما ذكرته أخي أبا الفداء ، فلا يلزمني بأكثر من إعادة الكلام في سابق مشاركاتي ولكن بعبارة مختلفة ، وخاصة المشاركات : 15 ، 17 ، 23 . والأمر الآخر ، لا يلزم النص صراحة ويكفي الإيماء ، كما يكفي ترتيب الحكم على الوصف ، وهما طريقان قويان مشهوران ، ثبتت بهما كثير من أحكام الشرع المهمة ، وأهل العلم من شراح الأحاديث وغيره اعتبروها علة لوضوحها ، وأعيب عليك جداً أن العلة أوضح من العلل التي جئت بها استقراءً من خارج متن الحديث لتجعلها أقوى وأظهر من العلة المذكورة في متن الحديث نفسه ! فالعلل التي تذكرها ضعيفة جداً وغير مناسبة قياساً بظهور العلة المذكورة في الحديث ، وأما كون العلة معتبرة فواضح ذلك وضوح الشمس وأهل العلم اعتبروها ، قال في تحفة الأحوذي : "وعن عطاء نحوه قال و
حمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصها وتخفيفها". وقال في عون المعبود : "وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشارع عن ذلك وأمر بإعفائها" ، وقال المناوي : "وكان من زي آل كسرى قص اللحى وتوفير الشوارب فندب المصطفى الى مخالفتهم بقوله ( خالفوا المجوس)" ، وقال النووي : "وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك" ، فالعلة اللتي بني عليها الحكم هي المشابهة كما قرره العلماء أمام عينيك صريحاً. المشكلة أن العلة أوضح من أن يستدعي المقام نقل كلام الشرّاح والأئمة ، ولكن لا أدري ما أقول.
أما قولك أخي :"فالقول بها محل نظر واجتهاد، وهو اجتهاد منقوض في حالتنا هذه كما بينت، فتأمل بارك الله فيك!" ، أقول: بارك الله فيك أيضاً ولكن هذا أسلوب غير علمي ولا أخفيك أني شعرت بعدم الارتياح من هذا الأسلوب ، لأنه لا يفند موضع الإشكال عندك بتأصيل مرضي ، والطريقة الصحيحة في الجدل الفقهي هنا هي أن تسعى لنقض العلة بالطرق المعروفة في أصول الفقه ، ولا أقبل غير هذه الطرق ، فكما تعبت معك اتعب معي قليلاً لنصل من خلال نقاش مؤصل إلى فائدة وثمرة حقيقية بعيدة عن الكلام النثري العادي. ولكن لاحظ معي الآتي ، لا شك في تعدد العلل للمعلول الواحد ، كما فصله ابن تيمية في الدرر المضيه وغيره ، ولكن العلة المستفادة بطريق المفهوم وطرائق العموم ليست في قوة الاعتبار كالعلة المستفادة بطريق المنطوق ، فالشارع في مسألتنا حدد العلة تحديداً واضحاً ، فهي المعتبرة أكثر من غيرها ، أما العلل المستفادة من عموم النصوص ومفهومها فإن الخلاف فيها جائز وهي دون الأولى حتماً في قوة الاعتبار والقياس. فلم الجنوح إلى ضعيف المأخذ وترك الأقوى ، لـم ؟ الأحاديث واضحة ومن أوضحها ما رواه الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي أمامة أنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب ، قال فقلنا : يا رسول الله ان أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب قال فقلنا : يا رسول الله ان أهل الكتاب يتخففون ولا ينتعلون ، قال فقال النبي صلى الله عليه و سلم : فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب قال فقلنا : يا رسول الله ان أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم قال فقال النبي صلى الله عليه و سلم : قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب )).
ليست المشكلة أن هناك عللاً محتملة غير التشبه ، هذا ممكن ، ولكن المشكلة هو تقديم العلل المحتملة على العلة الظاهرة الواضحة وتسليطها على النص واعتبارها في تقرير الحكم أكثر من اعتبار العلة التي ذكرها الشارع ورتب عليها الحكم بشكل مباشر. وأما العلل المحتملة في حال انتفاء العلة الأصلية فعلل لا تقوى على إيجاب الإعفاء وتحريم الحلق أو الأخذ ولمن يقول بغير هذا القول أن يأت بحديث فيه النهي عن الحلق او الأخذ لعلة تغيير خلق الله. وأما حديث الفطرة فعام ، والعموم لا يقضي على الخصوص ، فمن الفطرة السواك ، فهل تركه حرام ؟ فإن قال قائل: ثبتت سنية السواك بأحاديث أخر ، قلنا : كذلك اللحية ثبت وجوب إعفاؤها بأحاديث أخر ،وحديث الفطرة وحده لا يوجب أو يحرم ما تضمنه بنفسه ، وإنما بأدلة أخرى ، فاللحية كذلك ، ولكنا لما رجعنا إلى هذا الدليل الذي أوجب إعفاء باللحية وجدناه قد علق الأمر على علة معتبرة أقرها واعتبرها الأئمة كما نقلت سابقاً. زد على ذلك أن حلق اللحية أو الأخذ منها لو كان محرماً لذاته ، لجاء به الدليل المستقل ، كما جاء بحق الخمر والربا وغير ذلك ، ولو كان الإعفاء أمراً تعبدياً غير معقول العلة ولا الحكمة لما كان لذكر العلة من فائدة ولكان لغواً بل إقحاماً لا طائل من وراءه ، كما أنه لو كان الإعفاء واجباً لذاته ، ، ولجاء دون حاجة لذكر أي علة.
أما قول أخينا الفاضل أحمد شبيب : "الاضباع والرمَل كان لإغاظة المشركين والكفار في مكة, واظهار نشاط المؤمنين أمامهم.
ها قد زال السبب الآن,
ولكن الحكم هو الحكم.
وقس على غير هذا من الأحكام".
فخطأ ظاهر أن نقيس على هذا غيره من الأحكام لأن الأحكام التي تدور مع علتها كثيرة في الشرع ، والتلازم فيها بين الحكم والعلة تلازم مطرد ، أي زوال العلة فيها مؤثر في الحكم مباشرة. وهناك فرق آخر وهو أن الأمر بالرمل كان لعلة ، ولكن لما زالت ، بقي الأمر على الاستحباب لا الوجوب ، فلا يجب علينا الرمل اليوم كما وجب على الصحابه في أول الأمر ، والشيء الذي أبقى على الحكم هو مع تخلف السبب هو فعله
للرمل في حجة الوداع ، ومع ذلك لم يبق على وجوبه الأول لأنه زال السبب حيث أصبح المسلمون في عزة وقوة وظهور ، فكان فعل الرسول آخراً لبيان سنية الرمل فقط. أي أن زوال السبب أثر في الحكم فنقل الرمل إلى عدم الوجوب ، ولكن لما فعله الرسول
في آخر حياته دون إلزام منه لأصحابه رضي الله عنهم أخذ الرمل حكماً جديداً هو الاستحباب ، فبقي الحكم بإبقاء الرسول
له ولم يبق هكذا بنفسه مع زوال السبب ، ومع ذلك لم يبق واجباً ، لزوال السبب ، وإنما بقي على أقل أحوال الأمر الذي هو الاستحباب.