هذه رسالة تبعث على التأكد والبحث من نسبة تجهيل الإمام الترمذي من قبل ابن حزم ، والتي قد استنكرها جمع من الأئمة :
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد ..
فهذه وريقات قامت لتحرير إشكالٍ عَلِقَ في الأذهان عند الكثيرين ممن نقلوا حكايةَ تجهيل الإمام ابن حزم للإمام الترمذي ، قسمتها على فصول مقتضبة لتبيين ما يَخْلُصُ عنها ، واللهَ أسأل الإعانة والسداد والهداية والرشاد على ما يُصبى إليه ويُراد ، فأقول:
** (فصلٌ) في كلام أبرز العلماء الذين حكوا تجهيل الإمام ابن حزم للإمام الترمذي فيما وقفتُ عليه:
(أولاً) قول الإمام أبي الحسن علي ابن القطَّان ، ونصه:
((محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي الترمذي ، وترمذ بخراسان ، جهله بعض من لم يبحث عنه ، وهو أبو محمد ابن حزم ، فقال في كتاب الفرائض من "الإيصال" إثر حديثٍ أورده ، إنه مجهول)). ( )
(ثانياً) قول الحافظ الذهبي ، ونصه:
((والعجب من أبي محمد بن حزم حيث يقول في أبي عيسى: "مجهول" ، قاله من كتاب "الإيصال")).( )
(ثالثاً) قول الحافظ ابن كثير ، ونصه:
((وجهالة ابن حزم لأبي عيسى الترمذي لا تضره حيث قال في محلاه: "ومَنْ محمد بن عيسى ابن سورة؟" ، فإن جهالته لا تضع من قدره عند أهل العلم بل وضعت منزلة ابن حزم عند الحفاظ)). ( )
(رابعاً) قول الحافظ ابن حجر في ترجمة الإمام الترمذي ، ونصه:
((وأما أبو محمد بن حزم فإنه نادى على نفسه بعدم الاطلاع ، فقال في كتاب الفرائض من "الإيصال إلى فهم كتاب الخصال": محمد بن عيسى بن سَوْرة مجهول! ولا يقولنَّ قائلٌ لعله ما عرَفَ الترمذيّ ولا اطلع على حفظه وتصانيفه ، فإنّ هذا الرجل قد أطلق هذه العبارة في خَلْقٍ من المشهورين من الثقات الحُفّاظ كأبي القاسم البغوي( ) ، وإسماعيل بن محمد بن الصفّار( )، وأبي العباس الأصمّ( ) ، وغيرهم( ) ، والعَجَبُ أن الحافظ ابن الفَرَضي( ) ذكرَهُ ــ أي الإمام الترمذي ــ في كتابه "المؤتلِف والمختلِف" ، ونبَّه على قدْرِه ، فكيف فات ابن حزم الوقوف عليه فيه !!)). ( )
** (فصلٌ) في التعقيب على أقوال الأئمة المنقول عنهم أعلاه ــ في نقاط ــ :
(أولاً) التعقيب على قولهم بأن الإمام ابن حزم قام بتجهيل الإمام الترمذي في كتابه الإيصال إثر حديثٍ أورده (وهو قول الإمام ابن القطان والحافظ الذهبي والحافظ ابن حجر) ، فأقول:
ليس بين أيدينا اليوم كتاب "الإيصال" للتحقق من صحة النسبة .. والعلاَّمة أحمد شاكر رحمه الله يذهب إلى أن الحافظ ابن حجر لم يقف على كتاب الإيصال أصلاً ، حيث يقول: ((وأنا أظنُّ أن هذا تحامل شديد من الحافظ ابن حجر على ابن حزم ، ولعله لم يعرف الترمذي ولا
كتابه ، بل لعل الحافظ الذهبي أخطأ نظره حين نقل ما نقل عن كتاب الإيصال ، وما أظن ابن حجر رأى كتاب الإيصال ونقل منه ، وإنما أرجح أنه نقل من الذهبي ، والله أعلم)). ( ) ، قلتُ: زيادةً على ذلك ، أن الحافظ ابن حجر لم ينقل عن كتاب الإيصال في ((فتح الباري)) ألبتة ، إنما الذي كان يورد عنه "المحلى" ( ) ، وأيضاً لم يذكره في ((المعجم المفهرس)) مما يعضُدُ من أنه نقله عن الحافظ الذهبي أو الإمام ابن القطان .
وإن سلَّمنا بصحة ما نقلوه: فقد يكون هذا أول ما كَتَب ، لأنه من المعلوم أن "الإيصال" كان من أوائل كتبه ، فقد قام باختصاره( ) ، فلعله لم يعرفه أول الأمر ، ثم عرفه حين وقف على كتابه ، وهذا الذي ذكرت يقع لكل من اشتغل بالصنعة الحديثية لا نستثني من ذلك أحداً ، بل إمام أئمة النقد يحيي بن معين رحمه الله كان ربما شَهِدَ على الراوي في أحايين شهادةً ثم غيَّرها بعد ذلك إن تبيَّن له خلافها.
بهذا التوجيه يُقال إذا لم نقف على تعريفه له في موضعٍ آخر من كتبه أو رسائله .. فكيف وقد عرَّفه وأثنى عليه في أحد رسائله آخرة العهد بقوله: ((وأما الحفظ فهو ضبط ألفاظ الأحاديث ، وتثقيف سوادها في الذكر ، والمعرفة بأسانيدها ، وهذه صفة حفاظ الحديث كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود وابن عقدة( ) والدارقطني والعقيلي والحاكم ونظرائهم ، فهؤلاء في هذه الطريقة فوق هؤلاء المذكورين إلا أحمد ، فإنه في الحفظ نظير هؤلاء ، وبالله تعالى التوفيق)). ( ) فهذا النقل قطعٌ لكل من قال بتجهيل الإمام ابن حزم للإمام الترمذي ، وليس بعد ذلك إلا النقمة وحط الأقدار.
(ثانياُ) التعقيب على قولهم بأن الإمام ابن حزم قام بتجهيل الإمام الترمذي في كتابه "المُحلَّى" (وهو قول الحافظ ابن كثير) ، فأقول:
لعل الحافظ رحمه الله وَهِمَ في ذلك والله أعلم ، وعليه فقد تبعه على ذلك عددٌ من النقلة .. فمن المعاصرين فضيلة الشيخ سعد الحميِّد حفظه الله حيث قال: (لكننا نعجب من ابن حزم رحمه الله حينما نص على أن الترمذي مجهول في كتابه المحلى وفي غيره أيضاً من كتبه). ( )
والصحيح أن الإمام الترمذي لم يُذكر في "المُحلَّى" إلا في موضعٍ واحد ولم يُتعرض له بتجهيلٍ ولا بغيره ، وهاكه بتمامه:
قال رحمه الله: ((وموَّه بعضهم بان قال: قد روى عن رسول الله أنه قال: أفرض أمته زيد بن ثابت قلنا: هذه رواية لا تصح إنما جاءت إما مرسلة وإما مما حدثنا به أحمد ابن عمر بن أنس العذري قال: نا على بن مكي بن عيسون المرادى وأبو الوفا عبد السلام بن محمد بن على الشيرازي قال مكي: نا أحمد بن أبى عمران الهروي نا أبو حامد احمد ابن على بن حسنويه المقرى بنيسابور نا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي نا سفيان ابن وكيع نا حميد بن عبد الرحمن عن داود بن عبد الرحمن العطار عن معمر عن قتادة عن أنس عن رسول الله فذكره وفيه وافرضهم زيد بن ثابت وأقرؤهم أبى بن كعب وقال أبو الوفاء: إنا عبد الله بن محمد بن احمد بن جعفر السقطي نا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار نا احمد بن محمد بن غالب نا عبيد الله بن معاذ العنبري نا بشر ابن المفضل عن خالد الحذاء عن أبى قلابة عن انس عن النبي فذكره وفيه وأقرؤهم أُبيّ وافرضهم زيد قال إسماعيل بن محمد الصفار: ونا الحسن بن الفضل بن السمج نا محمد بن أبي غالب نا هشيم عن الكوثر عن نافع عن ابن عمر عن النبي فذكره، وفيه :و(أنَّ أقرأها لأُبيّ ، وأنَّ أفرضها لزيد ، وأنَّ أقضاها لعلي).
قال أبو محمد –وهو ذاته ابن حزم-: هذه أسانيدٌ مظلمةٌ لأن أحمد بن أبى عمران وأبا حامد بن حسنويه مجهولان ، وإسماعيل الصفار مثلهم ، وأحمد بن محمد بن غالب إن كان غلام خليل فهو هالكٌ متهمٌ ، وإن كان غيره فهو مجهول ، والحسن بن الفضل ، ومحمد بن أبى غالب ، والكوثر مجهولون ثم لو صحَّت لما كان لهم فيها حُجَّة ، لأنه لا يوجب كونه أفرضهم أن يقلِّد قوله كما لم يجب عندهم ما في هذه الأخبار من أن أبىَّ بن كعب أقرؤهم وعلياً أقضاهم أن يقتصروا على قراءة أبىٍّ دون سائر القراءات ولا على أقضية عليٍّ دون أقضية غيره ، وهم يقرُّون أن الصحابةَ خالفوا زيداً في هذه المسألة))( )
قلتُ: وهنا تلحظ أن سياق إيراد الروايات هنا: أنه في مقام التعليل لها ، ولو كان يقول بجهالة الترمذي كما نُقِلَ عنه لصرَّح بها هنا إمعاناً في إسقاط الرواية وما تردد !! ، فبه قد قام اليقين أنه ذكره في مقامِ تعليلٍ ولم ينتقده بشيءٍ ، لا بتجهيلٍ ولا بغيره ، وليست هذه عادته رحمه الله !! ، وعليه .. فهذه حجةٌ ثانيةٌ على عدم تجهيله له في آخره.
** (إلحاقةٌ بسؤالٍ)
- ما لدليل على أن ابن حزم اطلع على كتاب الترمذي ؟؟
يجب استحضار أن ما يذهب إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله في كلامه في تهذيب التهذيب المنصوص عليه أعلاه: أنَّ ابن حزم يعرف الترمذي معرفةً تامةً ، وقد اطلع على كتابه ، لكنه حكم بجهالته على سبيل التعنت!! ، ولا مانع من إعادة قوله هنا ، قال ـ رحمه الله ـ : ((ولا يقولنَّ قائلٌ لعله ما عَرََفَ الترمذي ، ولا اطلع على حفظه ، ولا على تصنيفه ، فإن هذا الرجل ـ يعني ابن حزم ـ قد أطلق هذه العبارة في حقِّ خلقٍ من المشهورين من الثقات الحفاظ)).( )
لكن الإمام ابن القطان والحافظ الذهبي يذهبان إلى أن ابن حزم لم يعرف الترمذي ، ولا رأى كتابه الجامع ، فهما لم يذهبا إلى الجزم بوقوعه عنده ، بل نفوا عنه ذلك بالكلية ، والذي أراه القصد بينهما: بأنه لم يقع عنده ابتداءً فجهَّله ، ووقع عنده فيما بعد فأثنى عليه ، أو نقول: اعتراه السهوَ والوَهْمَ حينها ، والله يعلم.
لماذا أقول ذلك ، بل وأقطع به؟؟
لأن من عادة الإمام ابن حزم رحمه الله إذا تبيَّن له خلاف ما قال في راوٍ ، أو أشار عليه أحدٌ بخطئه لم يتردد في تصحيحه والعدول عما كان غلطاً ، فقد كان رحمه الله بحراً لا تكدِّره الدِّلاء ، وإنما بوسع الطاقة التي هي ليست بمعصومة أصالةً ، والتي تثبت البشرية بوقوعها في الخطأ ، فمن ذا الذي يسلم !! ، فهذا تلميذه البار الحميدي من العراق يخبره بصحة حديث (نهى رسول الله أن تغتسل المرأة بفضل الرجل ، وأن يغتسل الرجل بفضل المرأة ، وليغترفا معا) فقد ضعَّفه ابن حزم بداود بن يزيد الأودي وصوابه (داود بن عبد الله الأودي) ، فعَدَلَ وعدَّل.
وهو الذي يقول: ((وكذلك من جهِلَه إنسانٌ ، وعَرَفَ عدالته آخر ، فالذي عندَه يقينُ عدالتِه هو المحق)) ( ) ، فبأي قولٍ بعده تحتجون !!
هذا .. وإن هناك مقولة للحافظ الذهبي رحمه الله ، وهي: (( ... أنَّ جامع الترمذي لم يدخل بلاد الأندلس إلا بعد وفاة ابن حزم)). ( ) يجب التعقيب عليها.
فأقول: هذا القول فيه نظر !! ، فإن جامع الترمذي من مرويات الحافظ أبي عمر ابن عبد البر الأندلسي ، قرين ابن حزم ورفيقه ( ) ، وابن عبد البر يروي الكتاب عن شيخه أبي زكريا يحيى بن محمد الجياني( ) ، فإذا تذكرنا أن ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ لم يخرج من بلاد الأندلس ، فمعنى هذا أن كتاب الترمذي قد أدخل الأندلس قبل وفاة ابن حزم بأكثر من خمس وستين سنة ، فلماذا لا نقول أن الكتاب لعله لم يشتهر هناك إلا بعد وفاته !! ، والله تعالى أعلم.
** (إلماعةٌ أخيرةٌ): نبهني بعض المشايخ أنه قد يكون مدار الإشكال كلُّه: إلى وقوع التصحيف في اسم الترمذي في كلام ابن حزم !!
وإيضاحه: أنه قد يكون مُصحَّفاً من: (محمد بن عيسى بن سورة) إلى: (محمد بن يعقوب بن سورة)( )!!
فتأملتُ وقلتُ: لا وجهَ لذلك ، فإنَّ ابن حزم قد قام بتجهيل "محمد بن يعقوب بن سورة" أيضاً !! ، وفي كلام الحافظ ابن حجر تصريحٌ بأنه جهَّلَه (أعني: ابن يعقوبٍ هذا) عند ذكر عددٍ ممن جهلهم ابن حزم ، فما من إشكالٍ يُدارُ على تنبيههم.
فالراجح الذي أذهبُ إليه وأجزمُ به: ما حررتُه أعلاه ، من عدم صحة نسبة هذا القول للإمام ابن حزم ، وإذا قلنا به تنزُّلاً على الأوَّليِّة ، فهاهو رحمه لم يجهِّله في آخر كتبه التي صنَّفها (وهو المُحلَّى) ، بل ودونك ثناؤه عليه في رسالته (الباهرة) كما سَبَقَ إيرادُ كلامِه بتمام.
والله أعلم وأحكم .. ومنه نوال الخير المجمَّم
وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آل بيته وصحبه أجمعين ..
مشهور الحرازي .