علم أصول النحو من العلوم المهضوم حقها في كثير من البيئات العلمية، وهذه دعوة لفتح باب حوار علمي حول مسائل هذا العلم وقضاياه، ولمن لا يعرف شيئًا عن هذا العلم أقدم تعريفاً موجزًا به على ثلاث دفعات منتظرًا الإفادة من تعقيبات أفاضل المجلس، ثم يعقبها طرح التساؤلات والحوارات ...
مفهوم أصول النحو
لفظ "أصول النحو" مركب إضافى، وهو إمّا أن يكون عَلَمًا على عِلْمٍ بعينه، فلا يُنْظَرُ إليه باعتبار التركيب، أَوْ لا، الثانى له فيه ثلاثة معانٍ تجرى بها استعمالاته فى كلام النحاة، وهى:
(1) أصول النحو بمعنى مبادئ علم النحو، أو القواعد الأساسية فى كل باب، التى تبنى عليها المسائل والتفريعات.
(2) أصول النحو بمعنى القواعد الكلية والضوابط العامَّة التى يسير عليها الفكر النحوى وتدخل كل طائفة منها فى عدة أبواب.
(3) أصول النحو بمعنى أدلة النحو من سماع وقياس وغيرهما دون أن يراد به علم له نسق مُعَيَّن.
وأمّا أصول النحو علمًا على عِلْمٍ مخصوص فأمثل تعريف له في التراث تعريف السيوطى [ت 911هـ] فى الاقتراح، فقد حدَّه ـ رحمه الله تعالى ـ بقوله: « أصولُ النَّحوِ علْمٌ يُبْحَثُ فيهِ عن أدِلَّةِ النَّحوِ الإجماليَّة مِنْ حيثُ هى أدلّتُه، كيفيّةِ الاستدلالِ بها، وحالِ المُسْتَدِلِّ"
ويتضح من هذا التعريف أن موضوع هذا العلم هو:
(1) أدلة النحو الإجمالية من حيث هى أدلته.
(2) كيفية الاستدلال بها.
(3) حال المستدل.
وفيما يتعلق بأدلة النحو ذكر السيوطى أنَّ الغالب منها أربعة هى: السماع، والقياس، والاستصحاب، والإجماع، جامعًا بذلك بين قولى ابن جنى والأنبارى، حيث ذكر ابن جنى ـ فى رأى السيوطى ـ السماع والقياس والإجماع، والأنباريُّ السماع والقياس والاستصحاب.
ولم أقع على العبارة التى ذكرها السيوطى عن ابن جنى فى الخصائص، ولعله حكى عنه المعنى الذى استظهره من كلامه، وظاهر صنيع ابن جنى فى عقده بابًا للاستصحاب بعنوان « باب فى إقرار الألفاظ على أوضاعها الأُوَلِ ما لم يَدْعُ داعٍ إلى الترك والتحول » ـ غيرُ ذلك.
وأمّا إغفال ابن الأنباري للإجماع فى قوله: « أقسام أدلته ثلاثة: نقلٌ وقياسٌ واستصحاب حالِ »، مع ذِكْرِ احتجاج النحاة بالإجماع فى الإنصاف وعدم رده ذلك، فيمكن تفسيره بأنه لم يَرَ الإجماع دليلا غالبًا قويًّا لا أنه لم يعدَّه دليلا أصلا كما ذهب إليه السيوطى.
وأمَّا قوله: « الإجمالية » فيعنى بها النظر فى الدليل مجملا أى غير مُفَصَّل، فيُنْظَرُ ـ مثلا ـ هل القرآن وقراءاته حجة فى النحو؟ ولا يُنْظَرُ فى آياته آيةً آيةً هل هي حجة في هذه المسألة أو تلك؟
وعلى هذا فـ "الإجمالية" قَيْدٌ يخرج علم النحو من الحدِّ؛ لأنه يُبْحَثُ فيه عن الأدلة التفصيلية لا الإجمالية.
وأمّا قوله: « كيفية الاستدلال بها » فإنه يحتمل النظر فى هذه الكيفية حال اجتماع الأدلة أو أجزائِها وهو مراد السيوطى ولهذا قال: « أى عند تعارضها ونحوه كتقديم السماع على القياس، واللغة الحجازية على التميمية إلا لمانع، وأقوى الأقبحين على أشدهما قبحًا، إلى غير ذلك، وهذا هو المعقود له الكتاب السادس » فى التعارض والترجيح.
كما يحتمل النظر فى كيفية الاستدلال بكل دليل على حدة، دون تصور التعارض بينه وبين غيره، أو بين فردين منه، وذلك كالنظر فى كيفية الاستدلال بالمنقول، هل يكون بالاستقراء أو بالمسموع الفرد؟ وهل يستدل به لإثبات التركيب والصيغة أو لبيان عدم التأويل فيهما أخذًا بالظاهر؟ ونحو ذلك، وكذلك الاستدلال بالاستصحاب: هل يستدل به منفردًا أو يكون معضدًا لغيره دائمًا؟ وهذه الكيفيات لا يعقد لها باب خاص بها بل تبحث كل طائفة منها تحت الدليل الذى تنتمى إليه.
وأمّا قوله: « وحال الـمُسْتَدِلِّ » فيتناول حالَ النحوىّ « المستنبط للمسائل من الأدلة المذكورة أى صفاته وشروطه، وما يتبع ذلك من صفة المقلد والسائل ».