وجوه العبث بالتراث
ولقد هبَّت في عصرنا ريحٌ طيبة ، أنعشت ذوي القُدرة واليسار في العلم ، بإحياء كنوز التراث وإظهاره للناس ، لكن : (( لا بدَّ في التمر مِنْ سُلاَّءِ النَّخّل ، وفي العسل من إبر النحل )) فقد صاحب هذه البشارة نَذَارَة ، صاحبها ريحٌ عاصفٌ ، وأصابها صرٌّ قاصف ؛ إذ أضحت هذه الثروة التي تَمَيَّزَ بها المسلمون عن سائر الأمم ، نِهَابَاً تَرَاهَا في كفِّ كل لاقط ، يتوازعها الجياعُ بصلابةِ جبين ، فيتلقونها بأكفٍّ مفتوحةٍ كأنما هي من كدِّهم وكدِّ أبيهم ، وترقصُ أقلامهم بين سطورها متصرفةً بما بدا لها ، تصرف المُلاَّك في أملاكهم ، وذوي الحقوق في حقوقهم ، وهم لا يستحقونها بنسبٍ ولا بسببٍ ؛ بل هم محجوبون ممنوعون لاختلاف الدين ، أو رِقٍّ أصاب العقول .
فصار إظهارُ جملةٍ كبيرةٍ من التراث مطبوعاً يعتريه عوامل نَحْسٍ مَهُوْلَةٍ تُمَثِّلُ ظاهرةً مؤلمةً جاءت بالخاطئة ، ونهضةٍ مهجنةٍ خافضة ، ترتعدُ من هُجنتها فرائص أهل البصائر ، منها :
1 – مسخ الكتاب عن مكانته التي خطَّها قلمُ مؤلفه ؛ فإذا كان العلماء بالأمس يقولون : ( الناسخ ماسخٌ ) فإنَّا نقول اليوم : (( الطابع عابث )) ؛ لِمَا تراه من الفرق بين الأصل والمطبوع ، كالفرق بين طَلْعَةِ الصُّبْحِ وفَحْمَةِ الدُّجَى .
2 – اغتيال الطبعة القديمة ؛ فترى الفرق بين الطبعتين كالفرق بين الرجلين .
3 – وَأْدُ التحقيق ؛ فترى الكتاب يخدمه عالمٌ متقنٌ ن ثم يستله متعالمٌ صعلوك ، فَيُحَوِّرُ في الحواشي ، بعد أنْ يتنمَّر في المقدمة بِثَلْبِ الطبعة السابقة ، ولهم مسالك شتى .
4 – تَنْتِيْفُ الكتب ، باختيار بحثٍ أو سَلْخِهِ من كتاب لابن القيم – رحمه الله تعالى – مثلاً ، فيُكْتَبُ على غلافهِ : تأليف ابن القيِّم ، دون الإشارة إلى أنَّه من كتاب له ، وهذا غاية في التغرير والتلبيس .
5 – تقصُّد التحريف ؛ والتبديل ، وتحويل النصوص إلى تأييد مذهبٍ ما ؟! وقد أفردتُ عن ( تحريف النصوص ) كتاباً وهو مطبوع .
6 – عبث الورَّاقين ؛ من دور النشر ، والطباعة ، والكتبيين مُتَحسِّسين حاجة السوق ، فيخرج الكتاب من عمل مكتب التحقيق – الوهمي – بالمطبعة ، أو المكتبة .
7 – وأخصُّ منه : أن يرسم على طرة الكتاب : حققه فلان ، وما رآه قط ! يملون هذا استغلالاً لأسماء ذائعة الصيت ، مسموعة الصوت في الأوساط العلمية ، طلباً لكسب الثقة بإخراج الكتاب وترويجه .
8 – وأخصُّ من هذا : نسبة الكتاب إلى غير مؤلفه للترويج تارة ، ولإفساد الأحكام والعقائد تارة أخرى .
9 – وأشمل من هذه : انتحال الكتب والرسائل لاسيما في الأطروحات .
وانتحال الكتب واستلالها داء قديم ، وفيه مؤلفات مفردة ، وباسم : (( السرقات الأدبية )) .
10 – التصرف باسم الكتاب ، حتى إن الكتاب يطبع عدةَ طبعات بعدة أسماء ، ليس فيها واحد سمَّاه به مؤلفه ، بل إنَّ التغيير لاسم الكتاب قد يَنُمُّ عن ذِلَّةٍ وانهزام ، وكان من آخر ما رأيته مطبوعاً كتاب : (( مقامع أهل الصلبان ، ومراتع أهل الإيمان )) لأبي عبيدة أحمدُ بن عبد الصمد الخَزرجي ، المتوفى سنة 582 هـ طبع باسم : (( بين الإسلام والمسيحية )) وهو عنوان مختلق موضوع ، وفيه ملاينة للنصارى من وجوه لا تخفى .
وهذا بابٌ يصعب حصره .
11 – نفخ الكتاب بالترف العلمي ، وزغل التحقيق .
12 – تستُّر أهل الأهواء بكتب السلف التي تحمل الإسلام على ميراث النبوة صافياً ، فينهض أهل الأهواء إلى إخراجها ، وتحشيتها بضرائر : من وساوس المبتدعة ، وترَّهات الصوفية ، معاول المؤولة ، وأفاعيل المتعصبة في الأصل والحاشية .
ومن أبرزها ظاهرة (( تحنيف الكتب )) حتى جاؤوا بالمضحكات ، ومنها قول بعضهم على قول أبي الشيخ في كتابه (( أخلاق النبي – صلى الله عليه وسلم – )) : (( وكان – صلى الله عليه وسلم – عنده سيفٌ حنفي )) ، علَّق عليه المتعصب بقوله : (( نسبةً للإمام أبي حنيفة )) ، ثم جاءت نفثات المستغربين الجُدُد ، فطموا الوادي على القُرَى .
13 – (( تسوُّل العلم )) وحقيقته : عملُ المتشبع بما لم يعطَ : باستئجار المملقين لتحقيق التراث ، وإخراجه بتحقيق المستأجِر ، ولم يَخُطَّ قلمهُ حرفاً ، ولم يُشرف على أصل ولا حاشية ، فرحم الله أهل الحياء ، وأعان على قمع هؤلاء المسولين .
وفي (( أمالي ابن الشجري )) : ( 1 / 11 ) :
فإن الدرهم المضروب باسمي * أحبُّ إليَّ من دينار غيري
14 - سَطْوُ فاقدي (( الكفاءة في العلوم الشرعية واللسانية )) على تراث سلف الأمة ، وإخراجه باسم التحقيق .
ولبعضهم (( محققاً )) لمَّا مرَّ على آيةٍ من كتاب الله تعالى ، قال معلِّقاً : ( لم نهتد إلى موضعها من القرآن الكريم ) !!
ولآخر قال عن حديثٍ : ( أخرجه النبي – صلى الله عليه وسلم – ) !!
فالطبيب ، والبيطري ، والصيدلي ، والمنهندس ، والزراعي ، والكهربائي ، و(( الحداد )) وأصحاب الحرف المهنية الأخرى ممن لا تستغني الأمة عنهم في مجالهم ، تطاولوا على كتب السلف ، في التفسير ، والحديث ، والفقه ... :
متى ما أتيت الأمر من غير بابه * ضللت وإن تدخل من الباب تهتد
فنفذَ فيهم قول النبي – صلى لله عليه وسلم – : " اتخذ الناس رؤوساً جهالاً " .
ولا نشك في حسن نية بعض هؤلاء ، لكن من دخل في غير فنِّه أفسده .
والمتيِّن إيصاد الباب ؛ لتعسر التمييز بين الفريقين ، وحتى لا يُفتح بابُ الإذن لمن عري عن نية حسنةٍ .
ونقول لهؤلاء : لا بدَّ من مرحلة الطلب للعلوم الشرعية نظير مرحلة الطلب لهذه الحِرَفِ الأخرى .
15 – وَلَعُ المبتدئين بإخراج التراث ، وهم لم يهضموا ما فيه من العلم بعد " وأنَّى لهم التناوش من مكان بعيد " .
وهاتيك (( الكنى الملحونة )) لا ترشحهم لهذا .
وقد جاؤوا في إثبات نص المخطوطات بالأعاجيب :
أقول له زيداً ، فيسمع خالداً * ويكبه عمراً ، ويقرأه بِشراً
16 – المتابعة لليف من الكفار ( المستشرقين ) بطبع كتب السحر ، والكهانة والتنجيم ، والقصص الكاذب ، والأدب المكشوف ، وكتب أهل البدع والأهواء المضلة كلٌّ بقدر ما استبطنه من الأهواء والشهوات التي تُضِرُّ الخلق ، وتغضب الخالق سبحانه .
وهذا من الدعوة إلى الضلال ، وفي الحديث :
" من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئاً " رواه أحمد ، ومسلم ، وأصحاب السنن .
17 – وَثْبَةُ الأدعياء على كتب العلماء ، باختصارها ممن لا يُحْسِنُ ما فيها ، فيُخِلُّ بمقصود مؤلفِهِ ، ويمسخه عن مكانته ، ولا يكون له من صدق القول إلا ما رُسِمَ على الغلاف ، أما داخله ( الاختصار ) فيحمل غوائل متعددة .
وأقول بلا مواربة : إن أسوأ اختصارٍِ قرع سمعَ الزمان – فيما نعلم – إذ جنى صاحبه على ( الأصل ) هو : مختصر الصابوني لتفسير ابن كثير ، وابن جرير ، ولتفاسير أخرى في ( صفوة التفاسير ) فجميعها لا تترشح للاختصار الأمين .
فقد اعتدى على هذه ( الأصول ) بغير حق ، ومسَّها بتحريف وتبديل ، ولو كان أحدهم حيَّاً ، لتبرأ من هذه الدخولات بما لم يرقمه ولا يعتقده ؟!
*****