بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد العلماء العابدين , والشكر له شكر العارفين الطالبين , والصلاة والسلام على إمام الأولين والآخرين , وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد :
فها نحن في مجالس الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله , تلك المجالس التي أعاد درة العلماء الشيخ بكر رحمه الله في الحديث عنها للنفوس بهجتها , وللقلوب ذكرى أئمتها , وكأني حين أقرأ ما خطه رحمه الله في ترجمة الإمام أعيش في بغداد بين منازلها وأزقتها , وأرقب أحداث الفتنة العمياء وخيبة مؤججها , فغدت ترجمة بَكْر للإمام كأنها بِكْر التراجم التي أقرأها , فزد اللهم بكرا نعيما وسرورا في قبره , واجعل منزله وسكناه وحط رحاله في جنة الفردوس تحت ظل عرشك يا كريم .. آمين آمين .
قد يطول بنا الحديث في هذا المجلس لكن حسبنا أنه من آخرها فقد قاربت على الانتهاء , وختام الخير مسك , وهل لباغي المسك من مستراح ؟! فاللهم أعن ويسر , وامنن بالقبول والصفح والنفع والستر يا ستير .
** ترجمة الإمام **
قال بكر رحمه الله : إن أوفى الكتب المطبوعة .. كتاب ابن الجوزي ت. سنة ( 598 هـ ) " مناقب الإمام أحمد بن حنبل " فإنه رحمه الله استفرغ جُلَّ ما في الكتب المسندة في ترجمة أحمد في نحو ستمائة "600 " صفحة , فالمترجمون للإمام بعد ابن الجوزي عيال عليه . أ. هـ
وستعرض هذه المجالس لمحة عن الإمام أحمد من الرحلة حملا في بطن أمه , إلى حمله على أكتاف أعيان الأمة , وتشييعه من أهل الملة إلى بطن الأرض في مقبرة باب حرب من بغداد , دار السلام .
** نسبه **
هو : وحيد أبويه: أبو عبدالله , أحمد بن محمد , بن حنبل بن هلال بن أسد , ويتصل نسبه إلى مازن, بن شيبان, بن ذهل, بن ثعلبة, وينتهي إلى: ربيعة, بن نزار, بن معد, بن عدنان !
و" شيبان " سيدة قبائل ربيعة في الجاهلية والإسلام , وكان منهم: المثنى بن حارثة أول فاتح للعراق , ومنهم : محارب بن دثار السدوسي قاضي الكوفة الذي قال :
لما أكرهت على القضاء بكيت , وبكى عيالي , فلما عزلت عن القضاء , بكيت وبكى عيالي !
وقد كانت منازلهم في الإسلام في البصرة , فقد كان يتردد الإمام أحمد على مسجد يقال له : مسجد مازن ! فلما سئل عن تردده , قال : إنه مسجد آبائي !
فتبين لنا أن الإمام أحمد من العرب , لا عجمى فيه ولا تهجين , ومع ذلك فإنه لم يفخر يوما بذلك !
كان جده " حنبل " واليا على سرخس , ومن القائمين بالدعوة العباسية , وكان والده واليا على " مرو " ومن أجنادها إلا أنه لم يلبس زي الجند قط ؛ ومع هذه المكانة التي كانت لجده ولوالده فإنها لم تشفع له أيام محنته ! قال بكر رحمه الله : فهل من معتبر ؟!
** ميلاده ومولده **
توفي والد الإمام أحمد في الثلاثين من عمره , فانتقلت أمه من خراسان إلى بغداد وكان الانتقال خيرا على أمه وأمته ؛ يقول الإمام أحمد كما روى ابنه عبدالله :
قدمت بي أمي حمْلاً من خراسان , وولدتُ سنة 164 هـ
وقال ابنه صالح : جيء بي من مرو حملا !
وأفادت الروايات أن ميلاده كان في العشرين من شهر ربيع الأول عام ( 164 هـ ) وأن مولده كان في بغداد ؛ وقيل ولد في ربيع الآخر وولادته في مرو ثم جاءت به أمه إلى بغداد طفلا !
والمعتمد الأول؛ لأنه من قول أحمد عن نفسه , وهو بها أعلم .
** كنيته وحياته **
يبدو أن لجده " حنبل " شهرة واسعة لذا اشتهر به ونسب إليه , يكنى الأمام بأبي عبدالله , وهو الابن الثاني فابنه صالح أكبر منه ! وعللّ بعض العلماء ذلك بتعليلات منها :
1 ) أن للإمام ابن اسمه عبدالله لكنه توفي في صغره .
2 ) أن الإمام اشتهر بهذه الكنية وغلبت عليه ولاسيما أنه لم يتزوج إلا بعد الأربعين . وهو الأظهر .
قال بكر رحمه الله : وكم في بطون التاريخ , والسير من معالم , طويت معالمها , وغابت أخبارها , فهذا: شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي: عبدالله بن محمد الأنصاري. ت سنة ( 481 هـ ) لا يعرف سوى ابنيه: مجاهد , وعبدالهادي , فمن أين جاءت تكنيته بأبي إسماعيل ؟ يدور في هذا تعليلات كثيرة والله أعلم.
عاش الإمام يتيما في رعاية ربه ثم أمه , يقول الإمام رحمه الله : لم أر جدي , ولا أبي !
وأمه هي :
صفية بنت ميمونة بنت عبدالملك الشيباني, من بني عامر , وعبدالملك من وجوه بني عامر, وساداتهم .
كان لجده حنبل ثلاثة أبناء : عبدالله , وعمر , وإسحاق , وهؤلاء هم أعمام الإمام أحمد .
فأما عبدالله فكان له ولد اسمه أحمد , سمع من الإمام أشياء .
وإسحاق ولد له: حنبل , وقد روى عن الإمام أحمد .
وعمر : ولدت له : ريحانة , زوجة الإمام أحمد .
لما بلغ الإمام سن الأربعين تزوج عباسة بنت الفضل من نسل العرب , من الرَّبض أقامت معه ثلاثين عاما , لم يختلف معها بكلمة واحدة !
ولدت له هذه المرأة الصالحة في سنة ( 203 هـ) ابنه : صالحا والذي يكنى بأبي الفضل
ولي قضاء طرسوس وتوفي بأصبهان سنة ( 266 هـ ) وله ثلاث وستون سنة .
كان الإمام يحبها ويثني عليها خيرا وطوبى لامرأة ماتت وزوجها راض عنها !
بعد وفاة أم صالح تزوج الإمام بابنة عمه عمر : ريحانة , وولدت له : راوية المسند عبدالله فقد ألف الإمام كتابه الشهير المسند قبل المحنة ولم يسمعه ابنه إلا بعدها , إلا أنها ماتت كذلك في حياته .
وكانت للإمام جاريتان:
الأولى اسمها : حُسْن , اشتراها بعد وفاة أم عبدالله . وولدت له بقية أولاده : زينب , والحسن والحسين وهما توأمان وماتا قرب ولادتهما , ثم الحسن ومحمد , ثم سعيد قبل وفاة الإمام بخمسين ليلة وهو الذي تولى قضاء الكوفة ! وزهير وفاطمة ولا يعرف من أي زوجة كانت.
فكانت ذريته عشرة أولاد , ثمانية بنين , وابنتان .
الثانية : اسمها ريحانة .
** صفة الإمام الخَلْقية **
كان شيخا ربعة , وقيل : طوالا , أسمر شديد السمرة , حسن الوجه , مخضوبا يخضب بالحناء , خضابا ليس بالقاني , وفي لحيته شعرات سود .
تعلو محياه السكينة والوقار والخشية , عظّم الله في قلبه , فأعظم منزلته في قلوب خلقه !
يقول أبو عبيد : ما هبت أحدا في مسألة ما هبت أحمد بن حنبل !
ويقول آخر : دخلت على إسحاق بن إبراهيم – والي بغداد – وفلان وفلان من السلاطين فما رأيت أهيب من أحمد بن حنبل , صرت إليه أكلمه في شيء فوقعت عليَّ الرعدة حين رأيته من هيبته !
كان يهتم بمظهره فيلبس النظيف ويختار من ألوان الثياب البياض , وكان لباسه غليظا , يتنور في بيته وما دخل الحمام قط ؛ وكان أكثر جلوسه متربعا .
** صفته الخُلُقية **
تميز الإمام بمزايا عديدة , بل ظهرت في ملامحه لأهل الفراسة النباهة والشأن , قال أبو سهل الحافظ الهيثم بن جميل الأنطاكي في أحمد : إن عاش هذا الفتى فسيكون حجة على أهل زمانه !
قال بكر رحمه الله : فلله أبوه , ما أصدق فراسته , فقد كان حجة على أهل زمانه إلى الآخر , فسبحان المنعم المتفضل .
تميز الإمام بالورع , وعفة لسانه , وقلمه , يحكى أن عمه أرسل معه أوراقا إلى ديوان الخليفة فغاب أحمد طويلا , دون أن يردَّ على عمه , وسنه عند ذلك صغيرة .
فلما قابله عمه سأله عن الأوراق , فعرف أنه لم يوصلها , فسأله: لماذا لم توصلها , فأجاب أحمد الغلام :
ما كنت لأرفع تلك الأخبار , لقد ألقيت بها في البحر , فجعل عمه يسترجع , ويقول : هذا غلام يتورع فكيف نحن .. ؟!
وكان رحمه الله إذا نظر إلى نصراني أغمض عينيه , فقيل له في ذلك ؟ فقال : لا أقدر أنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه !
وقال إسحاق عم أحمد : دخلت على أحمد ويده تحت خده , فقلت له : يا ابن أخي : أي شيء هذا الحزن ؟! فرفع رأسه وقال : طوبى لمن أخمل الله ذكره !!!
ومما تميز به الإمام تواضعه ومن ذلك ما سبق ذكره , أنه لم يفتخر بعروبته أبدا ؛ يقول صديقه الإمام يحيى بن معين : ما رأيت خيرا من أحمد بن حنبل , ما افتخر علينا بالعربية قط ولا ذكرها .
يحكي ابن الجوزي أن أحمد كان من أحب الناس وأكرمهم نفسا , وأحسنهم عشرة وأدبا , كثير الإطراق والتقى , معرضا عن القبح واللغو لا يسمع منه إلا المذاكرة بالحديث , وذكر الصالحين , والزهاد في وقار , وسكون , ولفظ حسن , وإذا لقيه إنسان بش به , وأقبل عليه , وكان يتواضع للشيوخ تواضعا شديدا , وكانوا يكرمونه ويعظمونه !
كان مطبقا للسنة فيجيب الدعوة في المناسبات المشروعة مثل الزواج والختان , وكان في حضوره ملاطفا للناس , متواضعا , لكن كان أمّارا بالمعروف, نهّاءً عن المنكر , يقوم السلوك , ويزيل المنكر , فإن لم يمكنه انصرف ! وكان ربما بذل شيئا من المال؛ لإدخال السرور .
قال بكر رحمه الله: إن أعظم صفة أخذت بمجامع قلبي , هي ما أفاض به مترجموه رحمه الله تعالى في أخبار تعبده , وزهده , وتألهه , وقراءته القرآن , وورعه , مما لا ينقضي منه العجب , لكنها المعونة الربانية, والعناية الإلهية , وهي بحق تقضي له الإمامة في العلم والدين , إذ العالم لا يكون عالما حتى يكون عاملا , تقبل الله منا ومنه , آمين .
كان من هديه: أنه لا يظهر النسك , وكثيرا ما يقول: اللهم سلم, سلم . ولم تكن الدنيا جارية على لسانه , وكان يعد إظهار المحبرة من الرياء !
يقول الإمام أحمد : ما كتبت حديثا إلا وقد عملت به, حتى مر بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة دينارا فأعطيت الحجام دينارا حين احتجمت !
كان يحب العزلة, يقول ابنه عبدالله : كان أصبر الناس على الوحدة , وبِشْرٌ لم يكن يصبر على الوحدة , كان يخرج إلى ذا وإلى ذا .
وكان يقول : أشتهي مكانا لا يكون فيه أحد من الناس ! ويقول : الخلوة أروح لقلبي !
قال محمد بن الحسن بن هارون : رأيت أبا عبدالله إذا مشى في الطريق , يكره أن يتبعه أحد !
قال بكر رحمه الله : فليعتبر من إذا مشى معه من لا يفرح به , أو احتوشه بعض الطلاب , ضاقت الطريق به ؟
ويقول عيسى بن محمد الرملي : عن الدنيا ما كان أصبره , وبالماضين ما كان أشبهه , وبالصالحين ما كان ألحقه , عرضت له الدنيا فأباها , والبدع فنفاها !
كان يكره الشهرة وطلب المناصب والرئاسة وله في ذلك الأخبار المشهورة.
قال بكر رحمه الله بعد ذكر أحد أخباره : فما بالنا نبذل النفس , والنفيس , ونغض الطرف عن أمر بمعروف , أو نهي عن منكر , متربصين شيئا من ذلك , ثم لا نكتفي بهذا الإثم بل نزيده إثما بتخريجه فقها؛ ليفيد شرعيته؛ ولهذا نزلت القيمة بنزول القيم , وارتفع أهل الأهواء , والماديون , والسَّفل !
كان لا يملك الكثير من المال لكنه ملك القناعة والعفة فضبط نفسه وعلت همته !
وما أجمل ما قاله مصعب بن عبدالله الزبيري :
ومن في ورع أحمد ؟ يرتفع على جواز السلطان , حتى يُظن أنه الكِبر , ويكري نفسه مع الحمالين , حتى يظن أنه الذل , ويقطع نفسه عن مباشرة عامة الناس وغشيان خاصتهم أنسا بالوحدة , فلا يراه الرائي إلا في مسجد , أو عيادة مريض , أو حضور جنازة , ولم يقض لنفسه بعض ما قضيناه من شهوات !
** طلبه للعلم **
تربى الإمام أحمد على يد امرأة صالحة , ألا وهي أمه الكريمة التي آثرت البقاء عليه والتفرغ له , فأعقبها الله جل جلاله بأن جعل ابنها ووحيدها , فريد عصره , وأخلد ذكره إلى يوم النشور !
قدمت به أمه دار السلام بغداد وكانت آنذاك بلد العلم والعلماء فرعته وربته حتى توفي الإمام مالك رحمه الله وحماد بن زيد , فبدأ بطلب علم الحديث, وكان أول سماعه من هُشيم بن بشير الواسطي ولازمه حتى توفي سنة 183 هـ
وكان أول من كتب أحمدُ عنه الحديثَ : هو أبو يوسف !
يعد الإمام أحمد أول من اشتهر بالرحالات لطلب الحديث , فقد رحل من بغداد إلى الكوفة , والبصرة , وإلى عبادان , وإلى الجزيرة , وإلى واسط , وإلى الحرمين الشريفين : مكة والمدينة , ورحل ماشيا إلى صنعاء اليمن , وإلى طرسوس مرابطا وغازيا , وإلى الشام .
وربما منعه من السفر خوف والدته وقلة ذات يده , وأول سفره كان إلى الكوفة بعد وفاة شيخه هُشيم , وأخذ العلم عن وكيع , ثم عاد إلى أمه بسبب حمى أصابته !
وأخذ في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج عن يزيد بن هارون , وفي الحجاز أخذ عن ابن عيينة والشافعي , وأخذ عن عبدالرزاق بن همام محدث اليمن وعن إبراهيم بن عقيل!
كان لأحمد بن حنبل شيوخ كثر , منهم في المسند ما يزيد عن 280 شيخا كما ذكر الذهبي رحمه الله .
يقول الإمام أحمد عن شيخه هُشيم : وكان هشيم كثير التسبيح , ولازمته أربعة , أو خمسة أعوام, ما سألته عن شيء هيبة إلا مرتين , في الوتر , ومسألة أخرى عن أشعث !
قال بكر رحمه الله : هكذا الأدب , وصدق الطلب , وإخلاص العمل , وإجلال الشيوخ , فأين هذا من بعض الطلبة المتعالمين , الذين يتنمرون على شيوخهم بأسئلة يصنعونها؛ ليظهروا عجزه , وفضلهم عليه ؟ وهؤلاء حقيق أن يفشلوا , ولا ينجحوا , وقد شوهد هذا !
نال الإمام أحمد علما جما , فقصده العلماء قبل الطلبة للرواية عنه , عقد ابن الجوزي لتسميتهم " الباب الحادي عشر" نحو عشرين شيخا حدثوا عنه , منهم الإمام الشافعي رحمه الله , لكنه لم يسمه بل يقول حدثني الثقة ! كما ذكر ذلك الذهبي رحمه الله .
أما التلاميذ فلا يحصون كثرة , بل قيل إن في بعض دروس يحضرها خمسة آلاف نسمة !
كان علما رحمه الله في علم الحديث والرجال والعلل وله في ذلك المصنفات ؛ روى عنه البخاري مباشرة وروى عن أحمد بن الحسن عنه , وحدث عنه مسلم , وأبو داود بجملة وافرة , وروى أصحاب السنن عن رجل عنه أحاديث !
** من أقواله الشهيرة **
ما قاله الوراق: سمعت أحمد بن حنبل يقول : ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمِّي فسقط !
ومنها قول ابنه عبدالله : سمعت أبي يقول : قولوا لأهل البدع : بيننا وبينكم يوم الجنائز !
** مصنفاته **
صنف الإمام المصنفات العديدة من أشهرها ديوان الإسلام " المسند " ذلك السفر العظيم والذي بلغ 50 مجلدا !
وكان يكره التصنيف أول أمره ويرى أن هذا ابتداع , وأن هذه آراء لا ينبغي أن تكتب فقد تتغير , وإنما الذي يكتب الكتاب والسنة ! ولما رأى أن النفوس قرت بما يريد من الانصراف إلى نصوص الوحي ! طفق العلية من أصحابه وتلاميذه يكتبون عنه أجوبته , وفتاويه , ومنهم من كان يعرضها عليه !
فمن كتبه :
المسند وهو مطبوع .
وفضائل الصحابة . مطبوع في مجلدين.
والعلل ومعرفة الرجال . مطبوع .
الأسامي والكنى . مطبوع .
الزهد . مطبوع .
الورع . مطبوع .
الرد على الزنادقة والجهمية . مطبوع .
كتاب الأشربة, وكتاب الوقوف والوصايا, وكتاب أحكام النساء , وكتاب الترجل وكلها مطبوعة .
إلى غير ذلك من الكتب والمصنفات ..
** سعة علمه **
قال عبدالله بن أحمد : قال لي أبو زرعة : أبوك يحفظ ألف ألف حديث ! فقيل له : وما يدريك ؟! قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب !
قال الذهبي معلقا : فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبدالله , وكانوا يعدون في ذلك المكرر , والأثر , وفتوى التابعي , وما فسر , ونحو ذلك , وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك !
وقال تلميذه عبدالوهاب بن عبدالحكم الوراق :
ما رأيت مثل أحمد بن حنبل , قيل له: وأيش الذي بان لك من فضله , وعلمه على سائر من رأيت ؟! قال : رجل سُئِل عن ستين ألف مسألة , فأجاب فيها بأن قال : حدّثنا , أخبرنا !
وقال أبو القاسم ابن الجبُّلي : إذا سئل عن المسألة كأن علم الدنيا بين عينيه !
.. وقد شهد بفقهه الأئمة الكبار من شيوخه , وأقرانه , وتلامذته , ممن لهم قدم صدق في الإسلام والعلم والورع والإيمان من أئمة أهل العلم في الأقطار .. فمن الذين نعتوه بالفقه شيخه وتلميذه الإمام الشافعي رحمه الله فقد قال : ما رأيت أحدا أفقه ولا أورع من أحمد بن حنبل !
ووصفه بالفقه أئمة كثر منهم: أبو عبيد القاسم بن سلام , وابن المديني , وبشر بن الحارث , وأبو ثور .. وغيرهم بل إنهم قالوا عنه إنه إمام !
بل نقل الربيع بن سليمان عن الإمام الشافعي قوله :
أحمد إمام في ثمان خصال : إمام في الحديث , إمام في الفقه , إمام في اللغة , إمام في القرآن , إمام في الفقر , إمام في الزهد , إمام في السنة !
قال بكر رحمه الله : ومع هذا فإن العصبية دفعت بأقوام إلى الشغب على الإمام والنيل من أهل مذهبه فصاغوا قولتهم عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى بأنه " محدث وليس بفقيه !واستقوها من تصرف الإمام الطبري: محمد بن جعفر في كتابه " اختلاف الفقهاء " من أنه لم يضم إلى خلاف الثلاثة خلاف أحمد ..؟ أ. هـ
فنال الطبري ما ناله بسبب هذا حتى إنه دفن في داره ليلاً ولا حول ولا قوة إلا بالله !
والعاقل المنصف الذي يريد الحق يعرف صدق عبارة الطبري حينها, لكن مفهوم الطبري ليس بمفهوم التعصب والهوى فالإمام الطبري قصد بالفقيه الذي له المصنفات وله طلبة يقومون به !
ويشهد لذلك قوله " أما أحمد فلا يعد خلافه , فقالوا له , فقد ذكره العلماء في الاختلاف , فقال : ما رأيته روي عنه , ولا رأيت له أصحابا يعول عليهم ". أ.هـ
فلم يرد نفي الفقه عن الإمام أحمد . بل نفى علمه بالرواية وقيام الأصحاب به , فإن الفقه الحنبلي لم يتكون إقراء فروعه إلا بعد وفاة الطبري رحم الله الجميع .
** طيب النفوس وسلامة القلوب بين الإمام الشافعي والإمام أحمد **
تأثر الإمام أحمد بن حنبل بالإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمهما الله جميعا .. فقد أردك الإمام أحمد من حياة الإمام الشافعي أربعين عاما , وتتلمذ عليه واستفاد من فقهه ؛ كما أن الشافعي جلس إلى تلميذه وأخذ عنه الحديث وروى عنه وأثنى عليه خيرا , فمن ذلك قوله والذي ذكرناه سابقا :
قالوا يزورك أحمد وتزوره = قلت الزيارة كلها من أجله !
إن زرته فلفضله أو زارني = فبفضله فالفضل في الحالين له !
وقيل إن أحمد أجابه بقوله :
إن زرتنا فبفضل منك تمنحنا = أو نحن زرنا فللفضل الذي فيكا
فلا عدمنا كلا الفضلين منك ولا = نال الذي يتمنى فيك شانيكا
وقد وعد الإمام أحمد الشافعي بأن يزوره في مصر لكن أدركت المنية الشافعي رحمه الله تعالى قبل الوفاء بالوعد !
كما أن الإمام أحمد كان على علاقة طيبة مع الإمام إسحاق بن راهويه فقد قال ابن تيمية رحمه الله كما في الفتاوى :
وموافقته – أي أحمد – للشافعي , وإسحاق , أكثر من موافقته لغيرهما , وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما , وكان يثني عليهما, ويعظمهما .. إلى آخر كلامه رحمه الله .
فهل يتخلق الأتباع بسير الأسلاف إن كانوا صادقين في المحبة وإرادة الحق !
** فتنة خلق القرآن **
فتنة عمياء جرّت على الأمة الوبال , رُوعَ فيها عباد الله , والترويع حرام , وأكره العلماء على الكفر بالله , وسفكت الدماء حتى غدا أمرها كشرب الماء , ذلك عندما تولت البطانة الفاسدة سدة الحكم , وقُرِّب أهل الأهواء من الخلفاء , وحال بين الراعي والرعية أهل النفاق والبغي والفساد , وكان للرويبضة لسان وسنان , فعاثوا في الأرض فسادا , وفي الدين خرابا , وفي الدماء سفكا , وفي عرى الدين هدما ونقضاً , كانت ضريبة لإخضاع النص للعقل , لا العقل للنص , والعقل يحركه الهوى , والهوى لا عاصم له!
كان الناس في سلام وأمان , وأمرهم جاريا على السُّنَّة والسداد من إثبات صفة الكلام لله تعالى , وأن القرآن كلام الله غير مخلوق .
هذا الأصل العقدي كغيره من قضايا الاعتقاد محل إجماع , فلما قتل عمر رضي الله عنه وانكسر الباب , قام رؤوس الشر على عثمان حتى ذبح صبرا , وتفرقت الكلمة وتمت وقعة الجمل , ثم صفين , فظهرت الخوارج , وكفرت سادة الصحابة , ثم ظهر الروافض والنواصب !
وفي آخر عهد الصحابة ظهرت القدرية ثم المعتزلة والجهمية والمجسمة , حتى تولى المأمون الخلافة وكان معظما للعقل , ذكيا متكلما , فأخذ بترجمة كتب الفلاسفة اليونان , ورفعت الفرق الضالة كالجهمية والشيعة والمعتزلة رؤوسها وأمنت على نفسها , بعد أن أوقف جماحها من قبله من الخلفاء , فظهرت فتنة خلق القرآن وتولى كبرها المأمون , وحمل الأمة على القول بهذا القول الفاسد , والذي في أصله قول لليهود والصابئين وأهل الشرك والفلسفة.
فعن اليهودي أخذها لبيد بن الأعصم الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم , وعن لبيد أخذها ابن أخته وزوج ابنته : طالوت , فنقلها للعراق , ورواها عنه : أبان بن سمعان , فقتله خالد بن عبدالله القسري , وأحرقه بالنار , ثم أخذها عنه الجعد بن درهم وقتله بسببها خالد بن عبدالله القسري بأمر من هشام بن عبدالملك , وعن الجعد تلقاها: الجهم بن صفوان وقتل بسببها وصار له أتباع يقدمهم يوم القيامة .
وممن أخذ بقول الجهم: بشر المريسي الذي حكم الأئمة بكفره هو وقرينه ابن الثلجي !
هذا أصل البدعة ومعرفة أصول البدع من أنفع الأشياء لطالب العلم .. نعود إلى الإمام أحمد وهذه المحنة :
لما توفي هارون الرشيد سنة 193 للهجرة , وتولى المأمون الخلافة نشأت أو خرجت هذه الفتنة إلى حيز التطبيق , حتى عظمت, واشتد عودها في زمن المعتصم, إلى أن بلغت الواثق بن المعتصم .
لم تكن هذه الفتنة في عهد هارون إلا في مجال الدراسة والمناظرة, مع خوف شديد من هارون الرشيد , لذا لم يجرؤ رؤوس الضلال من نشر أفكارهم , فكبتوا مقالاتهم , وكفوا ألسنتهم !
فلما تولى المأمون سابع خلفاء بني العباس وهو تلميذ لأبي الهذيل العلاف المعتزلي , وسعى في نشر الفلسفة , توغل الفرس في خلافته وكانوا له بطانة !
فتشبعت نفسه بالاعتزال , وقرب رؤوس الضلال ومنهم : ثمامة الأشرس , والجاهل أحمد بن أبي دؤاد الذي ما فتئ يحسن للمأمون الفتنة والقول بها , حتى استجاب المأمون له وفتح باب المناظرة عليها في مجلسه في بغداد , ولم يجرؤ على مراغمة الناس لوجود شيخ أهل السنة في زمانه والذي كان له هيبة ومكانة عند العامة والخاصة : يزيد بن هارون , فلما مات يزيد بن هارون وخرج المأمون إلى طرسوس وتردت حالته دعاه المشؤوم أحمد بن أبي دؤاد على حمل الناس عليها , وإرغامهم على ذلك ! فقبل المأمون وكانت آخر أعماله نعوذ بالله من سوء الختام ؛
فكان على هذا الفتنة ثلاثة نفر :
1/ أحمد بن أبي دؤاد , النافخ في كير هذه الفتنة .
2/ والخادم في بغداد صاحب الشرط إسحاق بن إبراهيم الخزاعي .
3/ وتلميذ ثمامة بن الأشرس: عمرو بن بحر بن محبوب البصري الكناني المعتزلي المشهور بالجاحظ ! وقد أهدى كتابه البيان والتبيين لأحمد بن أبي دؤاد !
كان المأمون يبعث بالرسائل وهو في طرسوس حتى بلغت الرسائل في تلك السنة وهي السنة التي توفي فيها خمس رسائل .
الأولى فيها دعوة العلماء إلى مراكز الشرط ببغداد وأخذ أقوالهم , ثم بعث الجواب إليه ! خاصة من كان من أصحاب المناصب , والذي لم يقل بالخلق فيعزل من فوره !
والثانية فيها طلب إرسال سبعة من المحدثين إليه , وتحت التهديد أجابوا مكرهين !
وغضب عليهم الإمام أحمد وقال: هم أول من ثلم هذه الثلمة ! لأنهم أجابوا, وهم عيون البلد , فاجتُرِأ على غيرهم .
وبعد الإجابة تغير الأسلوب وبدأت شدة اللهجة تظهر في الرسائل , وأن من لم يجب فعقوبته الحبس , وأمر بإحضار علماء بغداد , وامتحانهم على ذلك , فلم يجب أربعة منهم , وهم :
أحمد بن حنبل , ومحمد بن نوح , وعبيدالله بن عمر القواريري , والحسن بن حماد .
فأجاب الأخيران بعد تقية وأصر أحمد ومحمد على الحق وأن كلام الله غير مخلوق !
فحبسا وقيدا وحملا على جملين وبعث بهما إلى المأمون في طرسوس , وكان الإمام أحمد يسأل الله تعالى أن لا يرى المأمون , وقد بلغه أن المأمون يحد سيفه ! فمات المأمون وهما في الطريق إليه سنة 218 للهجرة .
فأعيدا إلى بغداد وفي الطريق توفي محمد بن نوح في مكان اسمه : عانات . فحل قيده وغسله أحمد وصلى عليه , وذهب بأحمد إلى السجن !
قال بكر رحمه الله : هذا ولا يشك الدارسون لخبر هذه المحنة , أن هذه الكتب التي بعث بها المأمون إلى عامله المذكور , من صنع ابن أبي دؤاد , ونسجه !
فلما أحس المأمون بدنو أجله كانت وصيته لأخيه المعتصم الخليفة بعده , أن يواصل أمر المحنة وحمل الناس عليها !
لما تولى المعتصم الخلافة كان على النقيض , فلم يكن من أهل العلم والمعرفة إنما كان رجلا عسكريا , مرّت به كلمة الكلأ فلم يعرف معناها لا هو ولا وزرائه فقال :
لا حول ولا قوة إلا بالله : خليفة أمي , ووزير عامي !
ما زال أحمد بن حنبل في سجنه وقيده , وابن أبي دؤاد في غيه وسلطته , مكث أحمد في سجنه ثلاثين شهرا يصلي بأهل السجن , وهو مقيد , وكان يناظره رجلان :
أحمد بن محمد بن رباح , وأبو شعيب الحجام , وكانا كلما فرغا من مناظرته , زاداه قيدا على قيوده حتى ثقل بها , وسجن في مكان ضيق مظلم لا نور فيه !
وكان بعض الأئمة قد ماتوا في قيدهم وسجنهم , بسبب عدم قولهم بخلق القرآن !
في العشر الأخير من رمضان أُرسِل أحمد إلى المعتصم لمناظرة ابن أبي دؤاد وقد جمع حوله الأتباع والأصحاب , ليحاجوه , فإذا انقطعت حجة أحدهم اعترض المشؤوم ابن أبي دؤاد ومن معه وطلب من المعتصم قتله وأن دمه حلال وفي رقبته ! لكن المعتصم لم يفعل .
كان الإمام أحمد يرفض مناظرة ابن أبي دؤاد ويعتبره جاهلا بل إنه لا ينظر إليه مما زاد من غيظه وقهره , وجعل مكانته تقل أمام الحضور !
ولسائل أن يسأل : ألم يسع الإمام أحمد ما وسع غيره , فأخذ بالتقية ولم يحمل نفسه على هذا العذاب ؟
الجواب : الإمام أحمد يرى أن الاستجابة والأخذ بالتقية هنا خيانة للإسلام والمسلمين وهدم للدين , لذا صبر واحتسب وناظر وأبطل الحجج ولم يلحن في كلمة واحدة مما يدل على صدق الشافعي حين قال إنه إمام في اللغة !
ضرب الإمام أحمد بالسياط , حتى سقط , فإذا أفاق لُعن وسُب وشُتم , وسُحب على وجهه , وخلع يديه بشدهما في خشبتين حتى ينخلعا ! وهو مقيد في كل هذه الأحوال بل إنه كان في صيام !
وكان أشد حجة دامغة عليهم في نقطتين :
هل علم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن كلام الله مخلوق .
فإن كان الجواب بنعم , ألم يسعك ما يسعهم ؟!
وإن كان الجواب بلا , فمن أنت حتى تؤتى من العلم ما لم يؤتى نبينا صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ؟!!
استمرت هذه الحال 28 شهرا , والمعتصم يقول لأحمد : لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي , ما عرضت لك , ويريد أن يخلي سبيله , وابن أبي دؤاد يصرفه عما يريد , ويهول عليه سوء العاقبة إن أطلقه وخلّى سبيله !
ثم إن المعتصم استدعى عم الإمام أحمد وقال : ها هو صحيح البدن , فقال : نعم , قال : سلمته إليكم ! فأخرجه خوف أن يموت في سجنه وقيده ثم يقوم عليه العامة والخاصة والذين لا قبل له بهم ! فقد عظمت منزلة أحمد في نفوس الخلق .
فعاش الإمام حرا طليقا يشهد الجمع والجماعات , وباشر التحديث والفتوى !
ومن عجيب خلق الإمام وسمو نفسه : إعلانه العفو عن كل من آذاه وأنه في حل إلا صاحب بدعة , وجعل المعتصم في حل يوم فتح بابل وعمورية !
توفي المعتصم سنة 227 للهجرة وتولى بعده ابنه الواثق , فلم يستطع أن يعاود الكرة مرة أخرى لكنه أرسل إلى عامله إسحاق ينهى فيه الإمام أحمد عن مساكنته وليذهب حيث شاء !
فاختبأ الإمام الأحمد في داره ودور أصحابه , وكان لا يزيد عندهم عن ثلاثة أيام تعظيما للسنة ! مع خطورة الموقف
يقول دِعبِل بن علي الخزاعي عن المعتصم والواثق :
خليفة مات لم يحزن له أحد = وآخر قام لم يفرح به أحد !
لم تهدأ بطانة السوء من إشاعة الشر وإيذاء العباد فأججوا الواثق على الإمام أحمد بن نصر الخزاعي لامتناعه القول بخلق القرآن , فقتله الواثق بيده سنة 231 للهجرة , ورؤي رأسه حين قتل يقول : لا إله إلا الله !
وكان رأسه إلى غير القبلة , فتديره الريح إلى القبلة , وبقي الرأس منصوبا ببغداد , والبدن مصلوبا بسامراء ست سنين إلى أن أنزل سنة 237 للهجرة فجمع ودفن ! رحمه الله تعالى وله معه خبر طويل.
ثم إن الواثق تسلط على شيخ أبي داود والنسائي , عبدالله بن محمد الأذرمي , فجيء به مسجونا , مقيدا , مهانا , ليناظر ابن أبي دؤاد , فجرت بينهما مناظرة طويلة كما في النجوم الزاهرة وانتهت بانتصار الأذرمي فحل قيد الشيخ وبكى الواثق وصرفه مكرما , وقيل إنه تاب من القول بخلق القرآن !
فلما ولي المتوكل الخلافة رفع الله به المحنة وأظهر السنة , وأفل نجم التجهم والاعتزال , وكتب بذلك إلى الآفاق سنة 234 للهجرة وكانت له مع أحمد الأخبار الحسان والتي يظهر فيها إكرام العالم وورع الإمام.
وأخيرا وضعت الحرب أوزارها وفرح المسلمون بذلك وخاب الفاتنون .
حكى ابن الجوزي بسند إلى ابن أبي أسامة قال : حُكيَ لنا أن أحمد بن حنبل , قيل له أيام المحنة : يا أبا عبدالله , ألا ترى الحق , كيف ظهر عليه الباطل؟! فقال: كلا . إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة , وقلوبنا بعد لازمة للحق !
خاب المبتدع ابن أبي دؤاد ومات ومكث أياما لم يكفنه ولم يغسله أحد ولم يشهد الصلاة عليه نفر !
قال بكر رحمه الله : وقد قام العالم الفاضل الشيخ : أحمد بن عبدالجواد الدومي بجهد مميز في كتابه : أحمد بن حنبل بين محنة الدين , ومحنة الدنيا . فمن أراد أن يزداد يقينه , ويقوى إيمانه فليقرأ هذا الكتاب. غفر الله لمؤلفه ورحمه, آمين .
** وفاة الإمام أحمد رحمه الله **
بعد أفول هذه الفتنة , والتي ذاق الإمام أحمد مرارتها سنوات طوال , على كبر سنه , تفرغ لعبادة ربه فكان يختم القرآن في كل أسبوع مرتين , مرة في الليل وأخرى في النهار ! وازداد زهده في الدنيا حتى قال : إنما هو طعام دون طعام , ولباس دون لباس , وأيام قلائل !
مرض الإمام وبعث المتوكل ابن ماسويه المتطبب , ليصف له الأدوية !فلا يتعالج فلما طالت المدة قال المتوكل لابن ماسويه : ويحك , ابن حنبل , ما نجح فيه الدواء ؟! فقال له : يا أمير المؤمنين , إن أحمد بن حنبل ليس به علة في بدنه , إنما هذا من قلة الطعام وكثرة الصيام والعبادة , فسكت المتوكل .
حتى توفي الإمام ناصر السنة وقامع البدعة أحمد بن حنبل محموما في بغداد ضحوة يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين للهجرة .
وغسل وصلي عليه ودفن في هذا اليوم , يوم وفاته .
وكان عمره يوم مات: سبعة وسبعين عاما وأحد عشر شهرا واثنتين وعشرين ليلة .
حضر الجمع الغفير جنازته حتى من الكفار , بل إن بعضهم أسلم في ذلك اليوم !
وساق المترجمون له من الرؤى الحسنة عجبا , رحمه الله رحمة واسعة .
قال أبو الحسن ابن الزاغوني :
كشف قبر أحمد حين دفن الشريف أبو جعفر بن أبي موسى إلى جانبه فوجد كفنه صحيحا لم يبل , وجنبه لم يتغير , وذلك بعد موته بمائتين وثلاثين سنة !
وروى الأئمة الثقات , والحفاظ الأثبات : أن عبدالوهاب الوراق قال : ما بلغنا أنه كان للمسلمين جمع أكبر منهم على جنازة أحمد بن حنبل, إلا جنازة في بني إسرائيل .
وإلى مجلس قادم في المذهب الحنبلي والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم اللهم تسليما ..