المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حمزة الكتاني
عرضت على أخي وشيخي العلامة أبي محمد الحسن بن علي الكتاني هذه النازلة، فأجاب حفظه الله بقوله:
الحمد لله و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و آله.
مسألة اعتبار خلاف أهل البدع في الإجماع
الذي أراه و أعتقد به هو قبول خلاف كل من تضلع في الفقه و اتبع قواعد أصول الفقه المقررة دون نظر لاعتقاده، فكل من احتج لمذهبه بطريقة صحيحة ففقهه مقبول سواء أكان من أتباع المذاهب الأربعة أو الظاهرية أو الزيدية أو الإباضية أو الجعفرية أو غيرهم ممن لا يلزم مذهبا معينا.
و ذلك لأمور:
أولا: لأنه الذي كان عليه الصدر الأول من السلف الصالح قبل أن يحدث التعصب المذهبي في بدايات القرن الثالث ثم الرابع. فإنك إذا نظرت لمذاهب الناس في عقائدهم وجدت التشيع و الإرجاء غالبا على أهل الكوفة والقدر والنصب على أهل البصرة و الشام و التجهم على أهل خراسان. و مع هذا فالسلف يذكرون مذاهب الفقهاء في مؤلفاتهم المسندة و يتعاملون معها بالقواعد العلمية دونما نظر لعقيدتهم.
فهذا أبو حنيفة و أصحابه غالبهم مرجئة متشيعة، و فيهم عدد كبير من المعتزلة، بل جل أئمة الاعتزال أحناف.
وهذا الحسن بن صالح بن حي كان زيديا، وجابر بن زيد و عكرمة متهمان بمذهب الإباضية.
ثانيا: لأن مسألة البدعة غير منضبطة، فلو قلنا إننا لن نعتبر إلا من كان سلفيا أثريا على محض السنة البيضاء، فإننا سنهجر فقه أمة من المسلمين، فإن من كان هذا حاله تناقص بعد القرون المفضلة حتى أصبح معدودا على الأصابع.
فإن عامة الحنفية ماتريدية، و فيهم عدد كبير من أئمتهم معتزلة و كرامية. و الجهمية الذين عذبوا أئمة السنة زمن المامون فمن بعده كلهم كانوا أحنافا، و ذلك في المشرق و المغرب، و هو من أعظم ما ولد النفرة بينهم و بين أهل الحديث.
ومع هذا ففيهم عدد كبير من الفقهاء و الأصوليين كأبي بكر الجصاص و أبي الحسن الكرخي و أبي الحسين البصري و كتبهم معتمدة و فقههم مدون مستفاد منه، و هذا الزمخشري المفسر المشهور لا يخفى حاله على أحد و اهتمام الناس بكتبه.
والمالكية غالبهم أشاعرة و كذلك الشافعية، و معلوم أن مذهب الماتريدية و الأشعرية ليس هو السنة البيضاء و محض اعتقاد السلف.
و الحنابلة طوائف، منهم محدثون سلفيون و منهم غلاة في الإثبات و طوائف مالوا لمذاهب المتكلمين كالقاضي أبي يعلى في "المعتمد" و ابن عقيل و ابن الجوزي و آل رزق الله.
والظاهرية طوائف فيهم مثل ابن حزم و كلامه معروف وافق السلف تارة و وافق الجهمية أخرى و استفرد بآراء، و فيهم مثل أبي بكر بن أبي عاصم السلفي صاحب "السنة".
وفي جميع هؤلاء جماعات من الصوفية بطرائقهم المتعددة.
فكثير من السلفيين المحدثين صوفية مشاهير كأبي إسماعيل الأنصاري و أبي بكر ابن أبي داود و أبي الوقت السجري و غيرهم كآل قدامة المقدسيين.
وكثير من المعتزلة و الأشاعرة و الماتريدية منحرفون عن الصوفية منكرون عليهم. فمن أرضاك في باب أسخطك في آخر. و من أجل هذا قلنا إن الحق المحض انقسم في طوائف المسلمين بعد القرون الثلاثة.
ثالثا: فإذا تأملت ما سبق ظهر لك أن إهمال مذاهب الزيدية و الجعفرية و الإباضية لا مسوغ له إلا التعصب المذهبي.
فإن قلت: إن مذاهبهم غير منضبطة و فيها شذوذ كبير.
قلنا: ذاك واقع في الإمامية الجعفرية دون غيرهم، و مع هذا فهو في مسائل غير مجمع عليها عندهم.
وأنت ترى شيخ الإسلام ابن تيمية احتج بمذهبهم في متعة الحج و طلاق الثلاث في كلمة واحدة، مع أنه في باب الاعتقاد شنع عليهم و شدد في العبارة.
وأيضا فما من مذهب من مذاهب المسلمين إلا و فيه شذوذ مرغوب عنه كالنبيذ عند أهل الكوفة و السماع و إتيان محاش النساء عند أهل المدينة و الصرف و متعة النكاح عند أهل مكة، و نكاح ابنة الزنا من أبيها عند الشافعية، و غير ذلك.
فإن قيل لا يمكن أن نثق في نسبة الأقوال لأئمة كل مذهب. فقد كذب الإمامية على جعفر الصادق كثيرا و كذا الزيدية على زيد بن علي عليهما السلام. و ادعى الإباضية الانتساب لجابر بن زيد أبي الشعثاء البصري رحمه الله.
قلنا: و كذلك في الأحناف عدد غير قليل من الضعفاء و المتروكين بل و الوضاعين، حتى إنهم من لدن إمامهم أبي حنيفة رحمه الله فمن بعده مذكورون في كتب الجرح و التعديل.
و "مسانيد" أبي حنيفة كلها غير معتبرة. و في رجالاتهم أمثال نوح بن أبي مريم الجامع لكل شئ سوى الصدق!!.
و في المالكية روايات كثيرة خارج "الموطأ" فيها نظر، فقد ذكروا عن "العتبية" أنها ملأى بالروايات الباطلة، و اتهموا عبد الملك بن حبيب بالكذب مع أنه صاحب "الواضحة" إحدى أصول المذهب الأربعة، و اتهموا حبيبا كاتب مالك بالكذب.
و "المدونة" نفسها في العديد من أقوالها نظر، لكون الأيادي تداولتها و دخلها الرأي فخالفت مذاهب المقربين من أصحاب مالك أهل المدينة و مصر من أهل الآثار.
و مذهب أحمد كثرت فيه الروايات حتى ما عدنا نعرف حقيقة مذهبه، فإنك واجد له في كل مذهب مروي قولا.
وأصح المذاهب نسبة لأصحابها مذهب الشافعي رحمه الله فإنه صنف كتبه بيده، و جمع أصحابه من ثقات المحدثين الفقهاء.
قال أبو محمد:
تأمل أن كل مذهب بعد القرون الفاضلة تعصب لأصحابه و أهمل حكاية مذهب المخالفين. فأهل الحديث أولا ما كانوا يحكون مذهب أهل الرأي إلا ليردوه، و منهم من لم يكن يحكيه أبدا، كأنه غير موجود.
ثم لما استقر أهل السنة طائفة مستقلة عن غيرها أهملوا مذاهب الشيعة حتى إنهم أهملوا ذكر مذاهب آل البيت عليهم السلام تماما كأنهم لم يكونوا فقهاء و لا علماء فضلا عن نقل مذاهب أصحابهم.
ثم تقوقع كل مذهب على نفسه حتى ما عادوا يحكون مذاهب المخالفين، ثم قعدوا قواعد للتعصب المذهبي و أنه لا يجوز إتباع إلا مذهب، كأن الوحي نزل به!!.
وبعد هذا كله، فالذي أميل إليه هو الاستفادة من جميع الأبحاث الفقهية. لكن مذهب الإمامية متأثر جدا بعقيدتهم الفاسدة، و كذبهم فاحش جدا على الأئمة عليهم السلام، فلا يمكن الاطمئنان إليهم، فضلا عن عدم أخذهم بدواوين السنة و اكتفائهم بما عندهم مما غلب كذبه و خطؤه صوابه.
و الإباضية الخوارج نفسي تنفر منهم، و قد نظرت في بعض كتبهم فلم أجد فيها ما لا يستغنى عنه.
أما الأشاعرة و الماتريدية فهم أئمة الإسلام عبر القرون و منهم خرج كبار الفقهاء و أحمل عليهم حديث: «خير فيه دخن».
و الظاهرية أثريون لهم مباحث قيمة لا غنى عنها.
والزيدية تلاميذ مدرسة آل البيت، و فيهم عدد كبير من أهل الإنصاف و الفقه المحرر كابن الوزير و الكوكباني و الجلال و المقبلي و الصنعاني و الشوكاني و غيرهم كثير، فنحب مذهبهم و تأنس النفس لحكاية خلافهم. و الله أعلم.
وكتب الحسن بن علي الكتاني في سجن عكاشة بالدار البيضاء 29 ربيع سنة 1429ﻫ عجل الله له الفرج و لسائر إخوانه.