بسم الله الرحمن الرحيم
هذا شىء كتبته فى مسألة في الزرع بغير إذن صاحب الأرض من الرد على ابن أبى شيبة فى رده على أبى حنيفة وقد احتج أحمد بن حنبل رحمه الله ومن أخذ بقوله فى هذه المسألة على قول عامة أهل العلم بالنهى عن الضرر والضرار ولم يكن فى الذى احتجوا به حجة ونقلت كلام الشافعى ومن وافقه من أهل العلم وذكرت احتجاج الدروز فى استحلالهم الزنا على المسلمين بالنهى عن الضرر والضرار والحث على العدل والإنصاف وموافقة النجدية إياهم وخلافهم للمسلمين. ثم أعدت نشره هنا للفائدة.
قال الشافعى رحمه الله: "ولو اغتصبه أرضا فغرسها نخلا أو أصولا أو بنى فيها بناء أو شق فيها أنهارا كان عليه كراء مثل الأرض بالحال الذي اغتصبه إياها وكان على الباني والغارس أن يقلع بناءه وغرسه فإذا قلعه ضمن ما نقصَ القلعُ الأرضَ حتى يرد إليه الأرض بحالها حين أخذها ويضمن القيمة بما نقصها. قال: وكذلك ذلك في النهر وفي كل شيء أحدثه فيها لا يكون له أن يثبت فيها عرقا ظالما وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ليس لعرق ظالم حق» ولا يكون لرب الأرض أن يملك مال الغاصب، ولم يُمَلِّكْه إياه كان ما يَقْلَعُ الغاصبُ منه ينفعه أو لا ينفعه؛ لأن له منع قليل ماله كما له منع كثيره، وكذلك لو كان حفر فيها بئرا كان له دفنها وإن لم ينفعه الدفن وكذلك لو غصبه دارا فزوقها كان له قلع التزويق وإن لم يكن ينفعه قلعه، وكذلك لو كان نقل عنها ترابا كان له أن يرد ما نقل عنها حتى يوفيه إياها بالحال التي غصبه إياها عليها لا يكون عليه أن يترك من ماله شيئا ينتفع به المغصوب كما لم يكن على المغصوب أن يبطل من ماله شيئا في يد الغاصب.
فإن تأول رجل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا ضرر ولا ضرار» فهذا كلام مجمل لا يحتمل لرجل شيئا إلا احتمل عليه خلافه، ووجهه الذي يصح به: أن لا ضرر في أن لا يحمل على رجل في ماله ما ليس بواجب عليه، ولا ضرار في أن يمنع رجل من ماله ضررا ولكل ما له وعليه. فإن قال قائل: بل أحدث للناس في أموالهم حكما على النظر لهم، وأمنعهم في أموالهم على النظر لهم قيل له - إن شاء الله تعالى - أرأيت رجلا له بيت يكون ثلاثة أذرع في ثلاثة أذرع في دار رجل له مقدرة أعطاه به ما شاء مائة ألف دينار أو أكثر وقيمة البيت درهم أو درهمان، وأعطاه مكانه دارا مع المال أو رقيقا هل يجبر على النظر له أن يأخذ هذا الكثير بهذا القليل؟ أو رأيت رجلا له قطعة أرض بين أراضي رجل لا تساوي القطعة درهما فسأله الرجل أن يبيعه منها ممرا بما شاء من الدنيا هل يجبر على أن يبيع ما لا ينفعه بما فيه غناه؟ أو رأيت رجلا صناعته الخياطة فحلف رجل أن لا يستخيط غيره ومنعه هو أن يخيط له فأعطاه على ما الإجارة فيه درهم مائة دينار أو أكثر أيجبر على أن يخيط له؟ .
أو رأيت رجلا عنده أمة عمياء لا تنفعه أعطاه بها ابن لها بيت مال هل يجبر على أن يبيعها؟ فإن قال لا يجبر واحد من هؤلاء على النظر له. قلنا: وكل هؤلاء يقول إنما فعلت هذا إضرارا بنفسي وإضرارا للطالب إلي حتى أكون جمعت الأمرين فإن قال، وإن أضر بنفسه وضار غيره فإنما فعل في ماله ما له أن يفعل. قيل: وكذلك حافر البئر في أرض الرجل والمزوق جدار الرجل وناقل التراب إلى أرض الرجل إنما فعل ما له أن يفعل ومنع ما له أن يمنع من ماله" (الأم 3/255)
والذى قال الشافعى فى تأويل ما يُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: «لا ضرر ولا ضرار» كما قال إن شاء الله ومعناه أن لا يجوز لأحد أن يمنع غيره من حقه لأن هذا ضرر محرم وإذا أضر أحد بغيره فليس لمن وقع عليه الضرر أن يرجع على المضار له بأكثر من حقه لأنه هذا هو الضرار. فلو أن رجلا مات وترك ابنين أحدهما غنى والآخر فقير غارم فالميراث بينهما نصفان فإن قال الفقير أنا محتاج إلى المال وأخى غنى عنه فزيدونى فى نصيبى لأسد دينى وأدفع حاجتى قيل له ليس ذلك لك وهذا الضرر الذى نهى عنه الله ورسوله ولو أن الغنى قال إنى لغنى عن هذا المال وما لى به حاجة إلا أنى أحب أن أغيظك لم يجبر على دفع شىء من نصيبه إليه.
وقد حرم الله تبارك تعالى قتل النفس التى حرم إلا بالحق ثم أجاز لولى المقتول ظلما أن يقتل قاتله فقال سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}
فلو أن رجلا صالحا اختصم مع رجل فاسق له ابن فاسق بينه وبين أبيه خصومة وعداوة فقتله الصالح ظالما ثم تاب وندم وسأل الفاسقَ ابنَ الرجل الفاسق أن يعفو عنه وأشار عليه أهل العلم والصلاح أن يعفو عنه لفضل العفو ولما فيه من المصلحة فأبى الابن الفاسق أن يعفو عنه وقال لم أكن أشد فرحا منى بقتل أبى للعداوة التى كانت بينى وبينه وإنى لأعلم أن خيرا لى أن أعفو عنه ولكنى أحب أن أراه يقتل فإن ذلك له ولا يملك أحد أن يجبره على العفو لأن الله قد جعل له أن يقتل القاتل بدم أبيه ولو كان بينه وبين أبيه عداوة.
وفى قول من أجاز الصلح على الدم بأكثر من الدية أن الابن الفاسق لو قال للقاتل إنى ليس بى حاجة إلى قتلك ولقد كنت أشد حرصا منك على قتل أبى ولكنك سبقتنى إليه غير أنى لا أعفو عنك إلا أن تعطينى كذا وكذا وسمى مالا عظيما يبلغ ديات فإن أديته إلى عفوت عنك وإلا قتلتك فلم يقدر القاتل على أدائه فإن لولى المقتول أن يقتله. وليس فى شىء من هذا ضرر ولا ضرار.
ولكن لو منعه السلطان من قتل قاتل أبيه للمصلحة كان ذلك عين الضرر لأنه منعه حقا قد أعطاه الله سبحانه وتعالى إياه.
وقد أجمع أهل العلم على أن الرجل إذا أدى لامرأته حقها من المهر والنفقة والجماع فإن له أن يمسكها ويحبسها لنفسه على ما أحبت وكرهت ولو كان أبغض الناس إليها ولو بذلت له كل أموال الدنيا ولا يملك أن يفتكها منه أب ولا ولى ولا سلطان لقول الله تبارك وتعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وقال سبحانه: {فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} وقال عز وجل: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} وقال: {أمسك عليك زوجك} وقال: {وبعولتهن أحق بردهن} ومعنى الإمساك أن المرأة إذا أرادت أن تفارق وأراد الرجل حبسها لنفسه فذلك له كما قال الله تعالى فى الزانيات: {فأمسكوهن فى البيوت} يعنى فاحبسوهن فإن أردن أن يخرجن لم يملكن ذلك حتى تخرجوهن.
وكل هذا مما أجمع عليه أهل العلم وأجمعوا أن الطلاق والخلع حق الرجل لأن الله تبارك وتعالى خاطبه بالطلاق والخلع ولم يخاطبها بشىء من ذلك فقال: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} وقال: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء} وقال: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} فهذا فى الطلاق وقال فى الخلع: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} ولم يقل: ولا يحل لكن.
ولهذا قال أهل العلم إن للرجل أن يخلع امرأته بغير علمها وبغير رضاها كما له أن يطلقها بغير علمها وبغير رضاها وهذا قول مالك والشافعى وأحمد وأبى حنيفة وعامة أهل العلم وكذلك أقول. فإذا كان الرجل مبغضا لامرأته وهو يؤدى إليها حقها وكانت مبغضة له ناشزة عليه مريدة فراقه باذلة له أضعاف مهرها على فراقه إياه وهو ممتنع عن الفراق حابس لها على نفسه ليغيظها بذلك فإن ذلك حلال جائز ولا يملك أحد أن يجبره على فراقها وهذا كله إجماع أهل العلم لا يختلفون فى ذلك.
قال الشافعى: "وهكذا زوجته لو كانت ناشزة منه عاصية له عظيمة البهتان وترميه بالقذف قد سقته سما لتقتله وضربته بالحديد لتقتله فأفلت من ذلك وبقيت ممتنعة منه وامتنع من فراقها إضرارا لها، ثم مات فأوصى لها لم تجز وصيته؛ لأنها وارث" (الأم 4/119)
ومعنى قوله: "وامتنع من فراقها إضرارا لها" أنه لما علم أنها تكرهه وتحب غيره وتريد أن تنكحه أمسكها لنفسه ليغيظها ببقائها محبوسة على رجل تكرهه وممنوعة من رجل تحبه.
قال الشافعى: "فمن ذلك من ملك زوجة سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عليه أن يخيرها في المقام معه أو فراقها له وله حبسها إذا أدى إليها ما يجب عليه لها وإن كرهته وأمر الله عز وجل رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يخير نساءه فقال {قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها} إلى قوله {أجرا عظيما}" (الأم 5/150)
وقد كان خيار نساء النبى صلى الله عليه وسلم مرة واحدة.
قال الشافعى: "وإن خلع أبو الصبي أو المعتوه أو وليه عنه امرأته أو أبا امرأته فالخلع باطل والنكاح ثابت، وما أخذا من المرأة أو وليها على الخلع فهو مردود كله وهي امرأته بحالها وكذلك إن كان مغلوبا على عقله أو غير بالغ فخالع عن نفسه فهي امرأته بحالها، وكذلك سيد العبد إن خالع عن عبده بغير إذنه لأن الخلع طلاق فلا يكون لأحد أن يطلق عن أحد أب ولا سيد ولا ولي ولا سلطان إنما يطلق المرء عن نفسه أو يطلق عليه السلطان بما لزمه من نفسه إذا امتنع هو أن يطلق وكان ممن له طلاق وليس الخلع من هذا المعنى بسبيل" (الأم 5/214)
قال ابن القاسم صاحب مالك: "في المرأة الناشز تقول: لا أصلي ولا أصوم ولا أتطهر من جنابة فلا يجبر الزوج على فراقها وإن شاء سافر وحل له ما أخذ منها مما قل أو كثر" (النوادر والزيادات 5/256)
قال الخلال: "أخبرني الحسن بن الهيثم أن محمد بن موسى بن مشيش حدثهم قال: سئل أبو عبد الله عن رجل يهودي وتحته يهودية أسلم الزوج؟
قال: هذا تكون امرأته. قيل له: فإن أبت؟ قال: يضرب رأسها" (أحكام أهل الملل 258)
قال حرب: "سألت أحمد، قلت: رجل زوج بنته، وهي صغيرة، فلما أدركت قالت: لا أرضى. قال: ليس لها ذلك.
وسئل إسحاق عن رجل زوج بنته، وهي صغيرة بكر، فلم ترض، وصاحت وضجت حتى سمع الجيران صراخها؟
قال: إذا زوجها الأب وهي بكر جاز عليها رضيت أم كرهت، وإن كانت ثيبا فزوجها الأب، فإنه لا يجوز إلا برضاها واستئمارها" (مسائل حرب 40)
فإذا كان الأب إذا زوجها وهى صغيرة لم ترض لم تملك أن تفارق إذا بلغت وكان النكاح صحيحا عند عامة أهل العلم فكيف بالبالغة التى نكحت برضاها؟
قال عبد الله: "سألت أبي عن جارية زوجها أبوها وهي صغيرة، فلما كبرت تزوجت زوجا آخر؟
فقال: يفرق بينهما، وترد إلى الذي زوجها أبوها.
قلت لأبي: فإن كان دخل بها؟
قال: لها المهر مما استحل من فرجها.
قلت لأبي: فإن كان ولدت منه؟
قال: يلزمه الولد، قال: وترد إلى زوجها الأول" (مسائل عبد الله 1189)
قال صالح: "قلت: الرجل يزوج ابنه وهو صغير، فإذا كبر قال: لا أريد؟
قال: ليس له ذاك، عقد الأب عليه عقد.
قلت: فالجارية الصغيرة يزوجها أبوها؟
قال: ليس بين الناس في هذا اختلاف؛ ليس لها أن ترجع" (مسائل صالح 1175)