مقدمة
تعتبر سورة المائدة من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر أن فيها بعض الآيات نزلت قبيل الفتح. هذه الآيات في سورة المائدة تعتبر وتشكّل الوصايا العظيمة التي أكّدها القرآن،
عادةً الإنسان حين يكتب وصية له – ولله المثل الأعلى – فهو يوصي بأهم الأشياء في حياته وأكثر وأقرب الأشياء التي يهتم بها ويحرص عليها، ولله المثل الأعلى، سورة المائدة من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى البشرية على الإنسانية فكان هذا التوقيت في نزول السورة له دلالة خاصة،
دلالة على أن هذه الأوامر والوصايا التي حوتها سورة المائدة هي من أعظم الوصايا التي يجب على الإنسان أن يقف عندها طويلًا صحيح أن الكثير من هذه الوصايا والأوامر والتعاليم والتشريعات جاءت في سور أخرى ولكن على الرغم من كل هذا فإن تأكيد هذه الأوامر والتعليمات له دلالة من نوع خاص.
الأمر الآخر كذلك الذي تتضح معه دلالات هذه السورة العظيمة أن سورة المائدة يمكن أن لا تسمى فقط بأنها سورة المائدة باعتبار قصة المائدة التي ذكرت في أواخرها وإنما هي سورة العقود والمواثيق التي ابتدأها الله سبحانه وتعالى بقوله
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)
وذكرت فيها المواثيق في أكثر من موضع الأمر الذي يؤكد أن المحور الذي تدور عليه سورة المائدة محور المواثيق، وأعظم ميثاق منه تتفرع كافة العقود والالتزامات المختلفة بين الإنسان ونفسه وبينه وبين أهله وبينه وبين الآخرين وبينه وبين الدولة، هذه المواثيق أعظمها ذلك العقد والميثاق الذي بين الإنسان وربه وجاءت الآيات في سورة المائدة بالحديث عنه بوسائل متنوعة كعادة القرآن العظيم.
أمر آخر في السورة أنها حوت على ما يزيد على خمسة عشر نداء بـ
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا)
له دلالة خاصة إذا علمنا أن السورة من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم السورة تخاطب المؤمنين وقد استقر الإيمان في قلوبهم حتى يأتي التشريع وتأتي الأوامر وتأتي الأحكام مبنية على أساس رصين قوي من الإيمان بالله ومعرفته، وهذه هي عظمة التشريعات في كتاب الله عز وجلّ ليست مجرد قوانين صورية شكلية وإنما مؤسسة على الإيمان وعلى معرفة الله سبحانه وتعالى,
ولقائل أن يسأل هذا إذا نظرنا إلى أن هذه السورة من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم لكنها في ترتيب المصحف جاءت بعد سورة النساء إذن هي من أوائل السور في كتاب الله عز وجلّ،
إذن فما وجه أن يخاطب الإنسان من البداية، بداية القرآن العظيم
بـ(يا أيها الذين آمنوا)؟
ذكرنا سابقًا – وهذه من أعظم وأبسط مبادئ التدبر في كتاب الله عز وجلّ – أن ترتيب السور والآيات في كتاب الله عز وجلّ توقيفي أوحي به إلى النبي صلّ الله عليه وسلم وكل ما يتعلق بهذا الكتاب دور النبي صلّ الله عليه وسلم فيه البلاغ (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ)، هذه نقطة.
النقطة الأخرى أن القرآن كان ينزل – ولا بد الآن حين نقرؤه أن نستحضر هذه الحقيقة كذلك – يعالج واقعًا، الوقائع، الأحداث، الأسئلة، الأمور تعرض للمجتمع المسلم، للجيل الأول الذي نزل فيه القرآن فتأتي الآيات وتنزل السور تعالج تلك الحوادث والأمور وتأتي الإجابات على الأسئلة بطرق مختلفة ووسائل متنوعة على عادة القرآن العظيم. اليوم حين نقرؤه بهذا الترتيب الذي جاء في كتاب الله عز وجلّ الترتيب مقصود، ترتيب السور مقصود وليس لدينا الآن حادثة بعينها معينة يأتي القرآن ليعالجها كما كان عليه الحال في عصر النزول ولكن القرآن يقدم لنا نماذج للأسئلة، نماذج حاصلة في وقت التنزيل لكن عليّ أنا المؤمن بالله المتدبر لهذا الكتاب العظيم أن أدرك أن هذا العصر والأجواء التي أعيش فيها اليوم صحيح هي تختلف كأجواء إنسانية حصل فيها تطور، حصل فيها تقدّم، تغيرات كبيرة ولكن السؤال ربما في الصيغة يختلف والإجابة موجودة في كتاب الله عز وجلّ المطلوب مني كمتدبر أن أتعلم كيف أقوم بتشكيل هذا السؤال الذي يأتيني في واقعي وأبحث عن الإجابة في كتاب الله عز وجلّ وأتفاعل مع تلك الإجابة لأجل أن أطبقها في حياتي وفي واقعي فهنا يكون الترتيب بهذا الشكل في كتاب الله عز وجلّ واضح الحكمة والمقصد في حياتي. القرآن الآن هو بين أيدينا ونحن نؤمن به وإيماننا بكتاب الله عز وجلّ وتلاوتنا لكتاب الله عز وجلّ بهذا الترتيب أمر مقصود تماما فهو يعالج حين يعالج ويناديني بـ(يا أيها الذين آمنوا) من أوائل القرآن العظيم ومن أوائل السور لأجل أني في قضية الإيمان أحتاج لكل تلك القضايا والتعاليم حتى أعالج ما أمر به.
فإدراك أجواء التنزيل ونزول سور القرآن ومحاولة ربط بين تلك الأجواء وما أعيشه اليوم تساعدني في صياغة الأسئلة التي تعرض لي والحوادث والمشاكل التي أتعرض إليها في واقعي لأتعلم من خلال المقارنة والإطلاع كيف أصل إلى الإجابات في كتاب الله عز وجلّ كيف أجعل القرآن العظيم بمنهجه القويم يعدّل حياتي ويعدل الإشكاليات التي تعرض لي في حياتي.
سورة المائدة سورة العقود والمواثيق وربي في أول السورة، لأن التناسب له أشكال بين أول السورة وخاتمة السورة بين نهاية سورة النساء وبين بدايات المائدة، بين آخر المائدة وبين بدايات الأنعام، أشكال من التناسب ولكن نبدأ بأول شكلين من التناسب:
الأول ما بين النساء وخاتمتها وما بين بداية سورة المائدة:
سورة النساء تحدثت عن بناء القيم العدالة والحرية والمساواة على عين من تقوى الله عز وجلّ وجاءت بتحديد نماذج لتحقيق تلك القيم من خلال النموذج الأسري بشكل واضح جدًا وعملي وانتقلت من الأسرة إلى المجتمع إلى العالم ولذلك خطابات (يا أيها الناس) كانت واضحة في سورة النساء.
سورة المائدة تبدأ بـ(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لأن القرآن يبني إنسانًا مؤهلًا للقيام بمهمة الخلافة على الأرض.
بداية سورة المائدة (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بما فيها تلك العقود والالتزامات التي جاءت في السورة والتي قبلها في سورة النساء وآل عمران والبقرة وفي الفاتحة رغم الفوارق الزمنية فيما بين تلك السورة ولكن كل تلك الالتزامات بين مختلف الأطراف إنما هي عقود عليك الوفاء بها.
الشكل الآخر من أشكال التناسب بين أول المائدة
(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)
وبين آخر السورة الآية الأخيرة يقول فيها الله عز وجلّ
(لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
أول سورة المائدة
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ)
ثم تلتها عشرات النماذج للعقود،
ما وجه التناسب؟
الآية الأخيرة في سورة المائدة قال
(لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ)
كل شيء في هذا الكون سماء، أرض، أنعام، طيور، أشكال المنتفعات التي ينتفع بها الإنسان كل شيء ورد ذكره في هذه السورة وغيرها في القرآن هو ملك حقيقي صرف لله سبحانه وتعالى لا يشاركه في ذلك الملك أحد على الإطلاق.

العقود والمواثيق بينك وبين الله
الآية الأولى
(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)
بمعنى آخر بيننا وبين المالك الحقيقي سبحانه وتعالى عقد.
معنى هذا: نحن في حياتنا الدنيا اعتدنا أننا حين نؤجر بيتًا أو مسكنًا أو ما شابه نذهب لإجراء عقد بيننا وبين مالك البيت الحقيقي أو المكان الذي نريد أن نستأجره وبناء على هذا العقد وما يضعه المالك من شروط يوقع هذا الإنسان المستأجِر ويلتزم تجاه المالك الحقيقي ولله المثل الأعلى
نحن سُخر لنا ما في هذا الكون شجر سماء ماء أرض حتى ما نقول باستعماله من سمع من بصر من أدوات إدراك وهبنا الله سبحانه وتعالى إياها سخرها لنا لنقوم بالانتفاع بها نحن لسنا ملّاكا المالك الحقيقي الذي قالت فيه آخر سورة المائدة
(لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
هو المالك الحقيقي. ونحن ربي سبحانه وتعالى بفضله ورحمته وكرمه هيأ لنا وسائل الانتفاع بتلك الأشياء التي يمتلكها هو لا غيره على وجه الحقيقية والشيء الطبيعي في عقود الانتفاع والملكية أن الذي يعطيني ويفرض عليّ الشروط للانتفاع بالأشياء المالك الحقيقي لها ولله المثل الأعلى الذي يعطيني افعل ولا تفعل وتصرّف ولا تتصرف وحلال وحرام وأعطاني حق الاستخدام والانتفاع عن طريق التسخير إلا هو سبحانه
ولذلك جاءت
(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ)
من الذي يحلّ ويحرّم سوا الذي خلق؟!
ولذلك منذ أن خلق الله الخليقة وإلى أن تقوم الساعة لم يدّعي أحد من البشر مهما طغي ومهما علا ومهما تجبر أنه خلق على سبيل المثال الأنعام، لم يدّعي أحد فأما وأنه ليس هناك من خلق ولا حتى من يجرؤ أن يدّعي أنه خلق وملك فمن الذي يملك الحق في أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا هو سبحانه وتعالى؟! تناسب رائع.
ولذلك آيات سورة المائدة تكلمت كثيرًا عن الحكم بما أنزل الله
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ)
لأن قضية الحكم والتشريع هي صلاحية واضحة لن يمتلك وليس لمن لا يمتلك. غير المالك حتى في أعرافنا البشرية نحن وتعاملاتنا البشرية على هذه الأرض لا يحق له أن يشترط شيئا ولا أن يملي شروطًا لأنه لا يملك وربي سبحانه وتعالى له المثل الأعلى هو الذي يملك فهو الذي يبيح وهو الذي يحرّم وهو الذي يقول افعل وهو الذي يقون لا تفعل

القرآن يعلمك الانضباط
منذ بداية السورة وإلى ختام السورة السورة تؤكد حقيقة أنت آمنت ورضيت بالله ربًا وبمقتضى ذلك الإيمان أنك تؤمن بأنه المالك سبحانه وتعالى فإذا ما آمنت بهذا واستقر ذلك الإيمان في قلبك سلّم زمام حياتك لله عز وجلّ، سلّم القيادة، سلّم أخذ الأوامر والنواهي إليه فقط دون غيره سبحانه وتعالى وعليك أن تستذكر في كل هذا أن بينك وبينه عقد فعليك الوفاء به فهو المالك.
ولذلك الآيات في سورة المائدة كثيرة تلك التي تكلمت عن البيئة أو ما يعرف بمصطلحاتنا المعاصرة “حماية البيئة”، المحميات المختلفة تكلمت عن الصيد وإباحة الصيد ومتى يكون محرّمًا لأنك أنت في تصرفك في هذه البيئة التي من حولك حيوان نبات أرض شجر سماء ماء أنت متصرف منتفع فقط وقد سُخّرت لك هذه الأشياء وبناءً عليه عليك أن تسير معها وتتعامل معها وفق منهج وفق تشريعات وفق أوامر ربي سبحانه وتعالى أعطاك وسخّر لك وفتح لك فيها.
تدبروا هذه المعاني العظيمة فالقضية ليست كما ستأتي علينا قضية
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ)
هذه تفاصيل،هذه القضية عقد
أنك تسير كإنسان وفق ما حدد الله سبحانه وتعالى في كتابه وفي منهجه.
(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ)
تدبروا ختام الآية،يحكم ما يريد لأنه المالك سبحانه وتعالى
فهو يحكم وتأتي تفاصيل بعد تلك الآيات.
ثم قال
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ)
التعامل مع الأماكن ومع الأراضي ومع الأزمنة (الشهر الحرام) ومع ما كل ما هو حولك من أشياء في البيئة يتم وفق نظام منضبط تمامًا،
القرآن يعلمك الانضباط.
هذه الموجودات المنضبطة بقانون التسخير الذي جاء ذكره في كتاب الله عز وجلّ في أكثر من موضع أنت تسير عليه لكي يتحقق التوازن، كل شيء في الكون خُلق بتوازن وهذه من قدرة الله سبحانه وتعالى كل شيء فيه توازن: عدد ساعات الليل، عدد قطرات المطر، كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى بقدر وخلقه بشكل موزون وعنده خزائنه سبحانه في كل شيء.
دور الإنسان المستخلَف الذي جعله الله خليفة على هذه الأرض دوره أن يسير ضمن ذلك التوازن، النظام المتوازن، يحافظ على التوازن في أثناء تعامله مع تلك الأشياء أو المسَخّرات سواء كانت زمانًا أو مكانًا أو موجودات، كائنات.
فإذا لم يسر ذلك الإنسان الخليفة وفق ما بيّنه الله سبحانه وتعالى له في المنهج في كتابه بدأ الخلل يحدث، بدأ النظام يضطرب، بدأ نظام التوازن يختلّ فإذا حدث اختلال في التوازن حدثت عشرات الكوارث الطبيعية والإنسانية التي تحدث في زماننا هذا!!
تدبروا ونحن نسمع اليوم من هنا وهناك انقراض عشرات الأصناف من الحيوانات وهذا كله له تأثيرات على أشياء أخرى على الأنظمة حتى على الأنظمة الغذائية فالكون يمشي وفق نظام متكامل كل شيء فيه يؤدي إلى شيء آخر بانسجام، باتساق لأن الذي خلقه أحسن كل شيء خلقه فالإنسان أُمر أن يسير وفق هذا المنهج والتفاصيل لأن ربما الإنسان لما يقرأ في سورة المائدة أو سورة النساء والأنعام يقول ما هذه التفاصيل العجيبة؟ ما هذه الدقائق والجزئيات؟! هذه مطلوبة لتبين لك أن عليك كإنسان أن تحافظ على هذا النظام، إذا لم تحافظ عليه سيحدث الخلل،
وإذا حدث الخلل
سيظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
والنتيجة ستكون فوضى، عذابات مستمرة، شقاء للإنسانية سواء على المستوى الطبيعي أو على المستوى الإنساني، مجاعات، فقر، حروب، عواصف تصحر جوع عطش، اختلالات. ما نراه اليوم أعراض لعدم القيام بذلك المنهج الموزون المتوازن والقواعد المنضبطة التي جاء بها في كتاب الله عز وجلّ.
يتبع