بسم الله الرحمن الرحيم
قد وضع أبو بكر بن أبى شيبة رحمه الله فى مصنفه كتابا للرد على أبى حنيفة رحمه الله فى ما خالف فيه - بزعمه - الأثر الذى جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأت الكتاب وجدت أن ابن أبى شيبة قد أسرف على نفسه فى رده على أبى حنيفة وزعمه أنه خالف الأثر. فمن ذلك أنه احتج فى بعض الأبواب بأحاديث ضعاف لا يثبت أهل الفقه مثلها ولا يحتجون بها ومن ذلك أنه خالف جماعة أهل العلم فى غير مسألة فإما أتى بحديث ضعيف فقال به وأهل العلم على خلافه أو أنه أتى بحديث له تأويل قد تأوله أهل العلم وقالوا به وتأوله أبو بكر على خلاف ما تأولوه. وفى الكتاب أيضا مسائل لم ينفرد أبو حنيفة بالقول بها بل كثير منها قول الجمهور ومنها قول مالك وأبى حنيفة وكثير منها قول فقهاء الكوفيين أخذه عنهم أبو حنيفة كإبراهيم النخعى وعامر الشعبى. ومن هذه المسائل ما خالف فيه أبو حنيفة الأثر حقا. فأردت أن أجمع أقوال أهل العلم فى هذه المسائل لأرى ما أصاب فيه ابن أبى شيبة وما أخطأ فيه من عيبه على أبى حنيفة خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا رابط الكتاب الذى فيه المسائل التى جمعت أقوال أهل العلم فيها ولم أنته بعد من مسائل الكتاب كلها:
https://archive.org/details/20250810_20250810_2127

[مسألة نصاب القطع]
قال أبو بكر حدثنا ابن مسهر عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: «قطع النبي صلى الله عليه وسلم في مجن قُوِّمَ ثلاثة دراهم»
قال أبو بكر حدثنا يزيد عن سليمان بن كثير وإبراهيم بن سعد قالا جميعا أخبرنا الزهري عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقطع في ربع دينار فصاعدا»
قال أبو بكر حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن عيسى بن أبي عزة عن الشعبي عن عبد الله «أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في خمسة دراهم»
وهذا منقطع بين الشعبى وعبد الله بن مسعود
قال أبو بكر: ذكر أن أبا حنيفة قال: لا يقطع في أقل من عشرة دراهم

خالف أبو حنيفة ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى القطع فى ربع دينار فصاعدا. وقال كقوله سفيان الثورى وإبراهيم النخعى وعطاء بن أبى رباح وسعيد بن المسيب وعمرو بن شعيب ويروى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما.
وأخذ أصحابه يعتلون ببعض العلل لتوهين ما جاء من الأحاديث فزعم بعضهم أن حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما ليس بحجة لأن الذى قَوَّمَ المجن إنما هو عبد الله بن عمر ولم يقل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثمن المجن ثلاثة دراهم وقال كقولهم فى هذا الحديث ابن المنذر. وردوا حديث عائشة بأنه مرة يروى مرفوعا ومرة موقوفا ومرة أنها هى التى وقتت النصاب كحديث عبد الله بن عمر.
ثم رووا ما يوافق مذهبهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ورواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا يحتج بها كثير من أهل العلم منهم الشافعى ثم ليس فيه تقويم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمن المجن وإنما كان التقويم من عمرو بن شعيب فذلك أبعد من أن يكون حجة.
ورووا أيضا حديثا يشبه أن يكون موضوعا عن أيمن ابن أم أيمن وقد مات أيمن يوم حنين فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يحدث عنه بعده؟
ورووا عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود رضى الله عنهم أن القطع فى عشرة دراهم وحديث ابن مسعود منقطع.
روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة بنت عبد الرحمن أن سارقا سرق في زمان عثمان أترجة فأمر بها عثمان بن عفان أن تقوم. فقومت بثلاثة دراهم. من صرف اثني عشر درهما بدينار. فقطع عثمان يده.
وهذا منقطع بين عمرة وعثمان.
قال مالك: "أحب ما يجب فيه القطع إلَيَّ ثلاثة دراهم. وإن ارتفع الصرف أو اتضع. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم. وأن عثمان بن عفان قطع في أترجة قومت بثلاثة دراهم. وهذا أحب ما سمعت إلي في ذلك" (الموطأ - باب ما يجب فيه القطع)
ففى قول مالك إنما ينظر فى نصاب السرقة إلى الدراهم لا الدنانير فيقطع فى ثلاثة دراهم فصاعدا ولعل من حجته أن يقول إن الصرف كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الدينار باثنى عشر درهما فثبت نصاب القطع على ذلك. وهذا عنده إذا كان المسروق سلعة فأما إذا سرق ذهبا فبلغ ربع دينار أو أكثر فتقطع يده وإن كان ذلك أقل من ثلاثة دراهم وإن كان أقل من ربع دينار لم تقطع يده وإن جاوز ثلاثة دراهم. وكذلك قال فى من سرق دراهم إنها إذا كانت أقل من ثلاثة لم يقطع وإن جاوزت ربع دينار وإن كانت ثلاثة فصاعدا قطع وإن نقص ذلك عن ربع دينار.
وفى قول الشافعى إن القطع فى ربع دينار سواء كان الدينار صرف اثنى عشر درهما أو أكثر أو أقل وإنما ينظر الشافعى إلى الدينار لا الدراهم.
وقال أحمد فى الذهب والفضة كقول مالك فإذا سرق متاعا فجاوز ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطعت يده.
قال سحنون: "قلت: أرأيت من سرق ما يسوى ثلاثة دراهم ذلك اليوم وهو لا يسوى ربع دينار اليوم لارتفاع صرف الدينار، أيقطع فيه في قول مالك؟
قال: قال مالك، نعم يقطع إذا سرق قيمة ثلاثة دراهم اليوم.
قال مالك: «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في ثلاثة دراهم» وأن عثمان قطع في ثلاثة دراهم وأن عمر قوم الدية اثني عشر ألف درهم، فلا ينظر إلى الصرف في هذه الأشياء إن ارتفع الصرف أو انخفض، وإنما ينظر في هذا إلى، ما مضت به السنة.
قلت: أرأيت إن اتضع الصرف صرف الذهب فسرق ربع دينار من ذهب، وهو لا يسوى ثلاثة دراهم، أتقطع يده لأنه ربع دينار؟ قال: نعم، وإنما تقوم الأشياء كلها بالذهب والفضة.
قلت: أرأيت إن سرق سلعة، فأنت إن قومتها بالذهب تبلغ ربع دينار، وإن قومتها بالفضة بلغت ثلاثة دراهم، أتقطع يده في قول مالك؟
قال: نعم تقطع عند مالك. وإنما تقوم هذه الأشياء بالدراهم. وكذلك إن كانت هذه السلعة، إن قومتها بالذهب بلغت ربع دينار وإن قومتها بالفضة لم تبلغ ثلاثة دراهم.
قال: قال مالك في السلع: لا قطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم، قل الصرف أو كثر.
قال: فقيل لمالك: أرأيت لو أن رجلا سرق سرقة فقومت بدرهمين وهو ربع دينار لانخفاض الصرف يومئذ، أتقطع يده؟ قال: قال مالك: لا تقطع يده حتى تبلغ سرقته ثلاثة دراهم" (المدونة 4/526)

قال الشافعى: "قال الله تبارك وتعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله} (قال الشافعي) : وقال قائلون كل من لزمه اسم سرقة قطع بحكم الله تعالى ولم يلتفت إلى الأحاديث (قال الشافعي) : فقلت لبعض الناس قد احتج هؤلاء بما يرى من ظاهر القرآن فما الحجة عليهم؟ قال: إذا وجدت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة كانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دليلا على معنى ما أراد الله تعالى قلنا: هذا كما وصفت والسنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن القطع في ربع دينار فصاعدا (قال الشافعي) أخبرنا سفيان عن ابن شهاب عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «القطع في ربع دينار فصاعدا».
(قال الشافعي) أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم» (قال الشافعي) : وهذان الحديثان متفقان؛ لأن ثلاثة دراهم في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت ربع دينار وذلك أن الصرف كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثني عشر درهما بدينار وكان كذلك بعده فرض عمر الدية اثني عشر ألف درهم على أهل الورق وعلى أهل الذهب ألف دينار. وقالت عائشة وأبو هريرة وابن عباس - رضي الله عنهم - في الدية اثني عشر ألف درهم (أخبرنا الربيع) قال (أخبرنا الشافعي) قال أخبرنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرة أن سارقا سرق أترجة في عهد عثمان فأمر بها عثمان فقومت ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما بدينار فقطع عثمان يده قال مالك وهي الأترجة التي يأكلها الناس.
(قال الشافعي) أخبرنا ابن عيينة عن حميد الطويل قال: سمعت قتادة يسأل أنس بن مالك عن القطع فقال أنس حضرت أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قطع سارقا في شيء ما يسوى ثلاثة دراهم أو قال ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم.
(قال الشافعي) : فقلت لبعض الناس: هذه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحد «أن القطع في ربع دينار فصاعدا» فكيف قلت لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم فصاعدا؟ قلت له: وما حجتك في ذلك؟ قال روينا عن شريك عن منصور عن مجاهد عن أيمن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبيها بقولنا. قلنا: أوتعرف أيمن؟ أما أيمن الذي روى عنه عطاء فرجل حدث لعله أصغر من عطاء روى عنه عطاء حديثا عن ربيع ابن امرأة كعب عن كعب فهذا منقطع والحديث المنقطع لا يكون حجة.
قال فقد روينا عن شريك بن عبد الله عن مجاهد عن أيمن بن أم أيمن أخي أسامة لأمه. قلت لا علم لك بأصحابنا، أيمن أخو أسامة قتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين قبل مولد مجاهد ولم يبق بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحدث عنه. قال فقد روينا عن عمرو بن شعيب عن عبد الله بن عمر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في ثمن المجن» قال عبد الله بن عمرو كان قيمة المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دينارا (قال الشافعي) : فقلت هذا رأي من عبد الله بن عمر. وفي رواية عمرو بن شعيب والمجان قديما وحديثا سلع يكون ثمن عشرة ومائة ودرهمين فإذا قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ربع دينار قطع في أكثر عنه وأنت تزعم أن عمرو بن شعيب ليس ممن تقبل روايته وتترك علينا أشياء رواها توافق أقاويلنا وتقول غلط فكيف ترد روايته مرة وتحتج به على أهل الحفظ والصدق مع أنه لم يرو شيئا يخالف قولنا؟ قال: فقد روينا قولنا عن علي - رضي الله عنه - قلنا: ورواه الزعافري عن الشعبي عن علي - رضي الله عنه - وقد أخبرنا أصحاب جعفر بن محمد عن جعفر عن أبيه أن عليا - رضي الله عنه - قال: «القطع في ربع دينار فصاعدا» وحديث جعفر عن علي - رضي الله عنه - أولى أن يثبت من حديث الزعافري عن الشعبي قال: فقد روينا عن ابن مسعود أنه قال «لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم» قلنا: فقد روى الثوري عن عيسى بن أبي عزة عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع سارقا في خمسة دراهم» وهذا أقرب من أن يكون صحيحا عن عبد الله من حديث ابن مسعود عن القاسم عن عبد الله قال فكيف لم تأخذوا بهذا؟ قلنا هذا حديث لا يخالف حديثنا إذا قطع في ثلاث دراهم قطع في خمسة وأكثر.
قال: فقد روينا عن عمر أنه لم يقطع في ثمانية.
(قال الشافعي) : قلت: رواه عن عمر بحديث غير صحيح وقد رواه معمر عن عطاء الخراساني عن عمر قال «القطع في ربع دينار فصاعدا» فلم ير أن يحتج به؛ لأنه ليس بثابت (قال الشافعي) : وليس في أحد حجة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المسلمين اتباعه فلا إلى حديث صحيح ذهب من خالفنا ولا إلى ما ذهب إليه من ترك الحديث واستعمل ظاهر القرآن" (الأم 6/140)

قال الشافعى: "فبهذا كله نأخذ فإذا أخذ سارق قومت سرقته في اليوم الذي سرقها فيه فإن بلغت قيمتها ربع دينار قطع وإن نقصت عن ربع دينار لم يقطع ولو حبس لتثبت البينة عليه وكانت يوم سرقها لا تسوى ربع دينار فلم تصح البينة حتى صارت تسوى ربعا لم يقطع ولو قومت يوم سرقها بربع دينار فحبس لتصح عليه البينة فرخصت حتى صارت لا تسوى ربع دينار قطع؛ لأن القيمة يوم سرق ولا يلتفت إلى ما بعد سرقته من غلاء السلعة ورخصها وما سرق من طعام رطب أو يابس أو خشب أو غيره مما يحوزه الناس في ملكهم يسوى ربع دينار قطع والأصل ربع دينار فلو غلت الدراهم حتى يكون درهمان بدينار قطع في ربع دينار وإن كان ذلك نصف درهم ولو رخصت حتى يصير الدينار بمائة درهم قطع في ربع دينار وذلك خمسة وعشرون درهما وإنما الدراهم سلعة كالثياب والنعم وغيرها فلو سرق ربع دينار أو ما يسوى ربع دينار أو ما يسوى عشر شياه كان يقطع في الربع وقيمته عشر شياه وكذلك لو سرق ما يسوى ربع دينار وذلك ربع شاة كان إنما يقطع في ربع الدينار وإذا كان الأصل الدينار فالدراهم عرض من العروض لا ينظر إلى رخصها ولا إلى غلائها والدينار الذي يقطع في ربعه المثقال فلو كان يجوز ببلد أنقص منه لم يقطع حتى يكون سرق ما يسوى ربع دينار مثقالا؛ لأنه الوزن الذي كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يقطع حتى يكون سرق من حرز ويكون بالغا يعقل" (الأم 6/159)
قال إسحاق بن منصور: "قلت: تقطع اليد في ثمن ثلاثة دراهم؟
قال: بلى، كلما احتاج إلى أن يقوم، فعلى حديث ابن عمر -رضي الله عنه- ثلاثة دراهم؛ لأن الحجفة قومت ثلاثة دراهم، فإذا سرق ذهبا فربع دينار، وإذا سرق فضة فثلاثة دراهم.
قال إسحاق: كما قال سواء" (مسائل الكوسج 2422)

قال إسحاق بن منصور: "قلت: قال: سئل سفيان عن ثلاثة نفر اجتمعوا، فسرقوا عشرة دراهم، يقطعون؟
قال: لا، حتى تكون حصة كل واحد منهم عشرة دراهم.
قال أحمد: إذا سرقوا ما يقوم ثلاثة دراهم قطعوا.
قال إسحاق: إذا سرقوا ما يبلغ حصة كل واحد ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطعوا حينئذ" (مسائل الكوسج 2670)

وقول الشافعى فيها كقول إسحاق سواء أعنى فى أنه لا يقطع واحد منهم حتى تبلغ حصة كل واحد من السرقة النصاب. والنصاب عند الشافعى ربع دينار كان أقل من ثلاثة دراهم أو أكثر. وقد وافقهم سفيان الثورى فى أن لا يقطع واحد منهم حتى تبلغ حصته من السرقة النصاب ثم خالفهم فى النصاب فجعله عشرة دراهم.
روى عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت: «تقطع يد السارق في ربع دينار»
فرواه الثورى موقوفا على عائشة.
وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: «ما طال علي وما نسيت القطع في ربع دينار فصاعدا»
فجعله مالك أيضا من قول عائشة.
وروى مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها قالت: خرجت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ومعها مولاتان لها. ومعها غلام لبني عبد الله بن أبي بكر الصديق فبعثت مع المولاتين ببرد مرجل قد خيط عليه خرقة خضراء قالت: فأخذ الغلام البرد ففتق عنه فاستخرجه وجعل مكانه لبدا أو فروة وخاط عليه فلما قدمت المولاتان المدينة دفعتا ذلك إلى أهله فلما فتقوا عنه وجدوا فيه اللبد ولم يجدوا البرد. فكلموا المرأتين فكلمتا عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أو كتبتا إليها واتهمتا العبد. فسئل العبد عن ذلك. فاعترف. فأمرت به عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: فقطعت يده. وقالت عائشة: «القطع في ربع دينار فصاعدا»
وهذا أيضا من قول عائشة.
روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: كان عطاء يقول: "لا تقطع يد السارق فيما دون عشرة دراهم"
عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن شعيب في حديث اللقطة قال فيه: "وثمن المجن عشرة دراهم"
عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الرحمن بن عبد الله عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود قال: «كان لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم»
وهذا منقطع بين القاسم وعبد الله بن مسعود رضى الله عنه.
عبد الرزاق عن الثوري عن حماد عن إبراهيم عن ابن مسعود قال: «لا تقطع اليد إلا في ترس أو حجفة» قال: سألت إبراهيم ما قيمتها؟ قال: «دينار»
وهو مرسل لكن مراسيل إبراهيم عن عبد الله بن مسعود قوية. والتقويم هنا يشبه أن يكون من إبراهيم لا من عبد الله بن مسعود.
عبد الرزاق عن معمر عن حماد عن إبراهيم قال: "تقطع يد السارق في دينار أو قيمته"
قال أبو بكر حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق قال: حدثني أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس: «لا يقطع السارق في دون ثمن المجن، وثمن المجن عشرة دراهم»
وفى أصل محمد بن الحسن: "قلت: أرأيت الشاهدين يشهدان على رجل بالسرقة، أيسألان عن السرقة ما هي وكيف هي؟ قال: نعم. قلت: فإن وصفا السرقة وأثبتاها، فنظرت إلى السرقة فإذا السرقة لا تساوي عشرة دراهم، هل يقطع؟ قال: لا" (الأصل 7/233)
قال الطحاوى: "فلما اختلف في قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم احتيط في ذلك فلم يقطع إلا فيما قد أجمع أن فيه وفاء بقيمة المجن التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدارا لا يقطع فيما هو أقل منها وهي عشرة دراهم. وقد ذهب آخرون إلى أنه لا يقطع إلا في ربع دينار فصاعدا. واحتجوا في ذلك بما:
حدثنا يونس قال: أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عمرة عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع في ربع دينار فصاعدا»
قيل لهم: ليس هذا حجة أيضا على من ذهب إلى أنه لا يقطع إلا في عشرة دراهم لأن عائشة رضي الله عنها إنما أخبرت عما قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيحتمل أن يكون ذلك لأنها قومت ما قطع فيه فكانت قيمته عندها ربع دينار فجعلت ذلك مقدار ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع فيه. واحتجوا في ذلك أيضا بما:
حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا»
فقالوا: هذا إخبار من عائشة رضي الله تعالى عنها عن قول النبي صلى الله عليه وسلم فدل ذلك أن ما ذكرنا عنها في الحديث الأول من قطع النبي صلى الله عليه وسلم في ربع دينار فصاعدا إنما أخذت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما وقفها عليه على ما في هذا الحديث لا من جهة تقويمها لما كان قطع فيه.
قيل لهم: هذا كما ذكرتم لو لم يختلف في ذلك عنها فقد روى ابن عيينة عن الزهري عن عمرة عن عائشة ما قد ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا الفصل فكان ذلك إخبارا منها عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا عن قوله ويونس بن يزيد - عندكم - لا يقارب ابن عيينة فكيف تحتجون بما روى وتدعون ما روى ابن عيينة؟ قالوا: فقد روي هذا الحديث أيضا من غير هذا الوجه عن عمرة عن عائشة كما رواه يونس بن يزيد. فذكروا ما:
حدثنا يونس قال: ثنا ابن وهب قال: أخبرني مخرمة بن بكير عن أبيه عن سليمان بن يسار عن عمرة عن عائشة أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا يقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا»
قيل لهم: كيف تحتجون بهذا وأنتم تزعمون أن مخرمة لم يسمع من أبيه حرفا وأن ما روي عنه مرسل وأنتم لا تحتجون بالمرسل؟ فمما يذكرون مما ينفون به سماع مخرمة عن أبيه ما
حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا ابن أبي مريم عن خاله موسى بن سلمة قال: سألت مخرمة بن بكير: هل سمعت من أبيك شيئا؟ فقال: لا.
قالوا: فإنه قد روى هذا الحديث عن عمرة كما رواه يونس بن يزيد عن الزهري عنها يحيى بن سعيد أيضا وذكروا في ذلك ما:
حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا مسلم بن إبراهيم قال: ثنا أبان بن يزيد قال: ثنا يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا»
قيل لهم: قد روى هذا الحديث عن يحيى من هو أثبت من أبان فأوقفه على عائشة ولم يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب أن مالكا حدثه عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «ما طال علي أي ما طال الزمان علي ولا نسيت: القطع في ربع دينار فصاعدا»
حدثنا محمد بن إدريس المكي قال: ثنا الحميدي عن سفيان قال: ثنا أربعة عن عمرة عن عائشة لم يرفعه عبد الله بن أبي بكر وزريق بن حكيم الأيلي ويحيى وعبد ربه ابنا سعيد والزهري أحفظهم كلهم إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع «ما نسيت ولا طال علي القطع في ربع دينار فصاعدا»
حدثنا يونس قال أخبرنا أنس بن عياض عن يحيى بن سعيد قال: حدثتني عمرة أنها سمعت عائشة تقول القطع في ربع دينار فصاعدا
فكان أصل حديث يحيى عن عمرة هو ما ذكرنا مما رواه عنه أهل الحفظ والإتقان مالك وابن عيينة لا كما رواه أبان بن يزيد. فقد عاد حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها إلى نفسها إما لتقويمها ما قد خولف في توقيته ولم يثبت فيه عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء. وأما ما استدل به ابن عيينة على أن حديث عائشة رضي الله عنها مما رواه يحيى بن سعيد عن عمرة عنها مرفوع بقولها ما طال علي ولا نسيت. فإن ذلك - عندنا - لا دلالة فيه على ما ذكر وقد يجوز أن يكون معناها في ذلك: ما طال علي ولا نسيت ما قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كانت قيمته عندها ربع دينار وقيمته عند غيرها أكثر من ذلك فيعود معنى حديثها هذا إلى معنى ما قد روينا عنها قبل هذا من ذكرها ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع فيه ومن تقويمها إياه بربع دينار" (شرح معانى الآثار 3/163)

إلى أن قال: "فلما اضطرب حديث الزهري على ما ذكرنا واختلف عن غيره عن عمرة على ما وصفنا ارتفع ذلك كله فلم تجب الحجة بشيء منه إذا كان بعضه ينفي بعضا" (شرح معانى الآثار 3/167)