بسم الله الرحمن الرحيم
قد وضع أبو بكر بن أبى شيبة رحمه الله فى مصنفه كتابا للرد على أبى حنيفة رحمه الله فى ما خالف فيه - بزعمه - الأثر الذى جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأت الكتاب وجدت أن ابن أبى شيبة قد أسرف على نفسه فى رده على أبى حنيفة وزعمه أنه خالف الأثر. فمن ذلك أنه احتج فى بعض الأبواب بأحاديث ضعاف لا يثبت أهل الفقه مثلها ولا يحتجون بها ومن ذلك أنه خالف جماعة أهل العلم فى غير مسألة فإما أتى بحديث ضعيف فقال به وأهل العلم على خلافه أو أنه أتى بحديث له تأويل قد تأوله أهل العلم وقالوا به وتأوله أبو بكر على خلاف ما تأولوه. وفى الكتاب أيضا مسائل لم ينفرد أبو حنيفة بالقول بها بل كثير منها قول الجمهور ومنها قول مالك وأبى حنيفة وكثير منها قول فقهاء الكوفيين أخذه عنهم أبو حنيفة كإبراهيم النخعى وعامر الشعبى. ومن هذه المسائل ما خالف فيه أبو حنيفة الأثر حقا. فأردت أن أجمع أقوال أهل العلم فى هذه المسائل لأرى ما أصاب فيه ابن أبى شيبة وما أخطأ فيه من عيبه على أبى حنيفة خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا رابط الكتاب الذى فيه المسائل التى جمعت أقوال أهل العلم فيها ولم أنته بعد من مسائل الكتاب كلها:
https://archive.org/details/20250810_20250810_2127

[مسألة سن الإجازة]
قال أبو بكر حدثنا ابن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: "عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فاستصغرني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني" قال نافع: "فحدثت به عمر بن عبد العزيز" قال: فقال: "هذا حد بين الصغير والكبير" قال: "فكتب إلى عماله أن يفرضوا لابن خمس عشرة في المقاتلة ولابن أربع عشرة في الذرية"
قال أبو بكر: وذكر أن أبا حنيفة قال: ليس على الجارية شيء حتى تبلغ ثمان عشرة أو سبع عشرة

نص كتاب الله وسنة رسوله على أن الصبى إذا احتلم والمرأة إذا احتلمت أو حاضت فقد وجب عليهما الفرائض والأحكام وهذا قول أهل العلم جميعا لا خلاف بينهم فيه.
واختلفوا فى الإنبات أيكون مثل الاحتلام أم لا؟ فقال أحمد وإسحاق وأبو ثور من أنبت فهو بالع كالحالم سواء. وقال مالك من أنبت ثم أتى حدا أقيم عليه وخالفه صاحبه ابن القاسم. وقال الشافعى أما من أخذنا من المشركين فأردنا أن نقتل البالغين منهم استدللنا بالإنبات على البلوغ لأن المشركين يكذبون مخافة القتل وأما المسلون فلا يكون من أنبت منهم بالغا حتى يحتلم.
واختلفوا فى السن التى إذا بلغها الصبى ولم يحتلم أو ينبت والجارية ولم تحتلم ولم تحض ولم تنبت فقد صارا بالغين ووجبت عليهما الأحكام والفرائض والحدود فقال الشافعى وأكثر أهل العلم إذا استكمل خمس عشرة سنة فهو بالغ وقال أحمد والأوزاعى إذا بلغ خمس عشرة سنة فقد صار كالمحتلم وإن لم يستكملها ولأحمد قول يفرق فيه بين الجارية والغلام فقال لا تكون الجارية بالغا إلا بالحيض وحده وقال إسحاق إذا بلغ أربع عشرة ثم طعن فى الخمس عشرة فهو بالغ وقال مالك إذا بلغ الغلام السن التى لا يجاوزها غلام غيره إلا احتلم فقد وجب عليه ما يجب على من بلغ الحلم وقال سفيان الثورى فى الغلام ثمانى عشرة وفى الجارية حتى تلد أو تبلغ السن الذى تلد فيه مثلها وقال أبو حنيفة فى الغلام ثمانى عشرة أو تسع عشرة وفى الجارية سبع عشرة وهذا منه استحسان وقال أبو يوسف خمس عشرة وروى عن محمد بن الحسن كقول أبى يوسف.
وروى عن الصحابة التشبير فمن بلغ ستة أشبار فقد وجب عليه الحدود وبه يقول إسحاق بن راهويه وروى أيضا خمسة أشبار والله الموفق للصواب.
وليس فى إجازة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر يوم أحد وهو ابن خمس عشرة سنة حجة قاطعة لمن قال إن من استكمل خمس عشرة سنة فهو كمن ناهز الحلم لأنه قد يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجازه يوم الخندق لِجَلَدٍ رآه فيه لم يكن يوم أحد. ويروى أنه صلى الله عليه وسلم أجاز رافع بن خديج وسمرة بن جندب يوم أحد وهما دون خمس عشرة والله أعلم.
قال أبو بكر حدثنا مروان بن معاوية عن حميد عن أنس: «أن أبا بكر أتي بغلام قد سرق، فلم يتبين احتلامه فشبره فنقص أنملة، فتركه، فلم يقطعه»
وحميد يدلس عن أنس وقيل إنه يروى عنه عن ثقة. ولم ينظر أبو بكر رضى الله عنه إلى سن الغلام.
قال ابن المنذر حدثنا علي بن عبد العزيز قال: حدثنا حجاج قال: حدثنا حماد عن قتادة عن خلاس بن عمرو أن علي بن أبي طالب قال: «إذا بلغ الغلام خمسة أشبار جرت عليه الحدود فاقتص واقتص منه فإذا استعانه رجل بغير إذن أهله ولم يبلغ خمسة أشبار فهو ضامن حتى يرجع، وإذا استعانه فأذن أهله فلا ضمان عليه»
روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: سمعت عبد الله بن أبي مليكة يقول: "أتي ابن الزبير بوصيف لعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة قد سرق فأمر به ابن الزبير فشبر فوجد ستة أشبار فقطعه" وأخبرنا عند ذلك ابن الزبير: "أن عمر بن الخطاب كتب إلى العراق في غلام من بني عامر يدعى نميلة سرق وهو غلام" فكتب عمر: «أن اشبروه فإن بلغ ستة أشبار فاقطعوه» فشبروه فنقص أنملة فتركوه فسمي نميلة فَسَادَ بَعْدُ أهلَ العراق.
ولست أعلم أحد قال بالتشبير بعدهم إلا إسحاق بن راهويه.
عبد الرزاق عن الثوري قال: سمعنا أن "الحلم أدناه أربع عشرة وأقصاه ثماني عشرة فإذا جاءت الحدود أخذنا بأقصاها" قال عبد الرزاق: "والناس عليه وبه نأخذ"
قال الشافعى: "فالبلوغ استكمال خمس عشرة سنة الذكر والأنثى في ذلك سواء إلا أن يحتلم الرجل أو تحيض المرأة قبل خمس عشرة سنة فيكون ذلك البلوغ" (الأم 3/220)
قال الشافعى: "فقال قائل: لا تقام الحدود على الغلام إذا لم يحتلم حتى يستكمل تسع عشرة ولا على الجارية حتى تستكمل سبع عشرة فلا أدري ما أراد بهذه السنين ولا إلى أي شيء ذهب؟ أرأيت لو قال قائل: لا أقيم عليه الحد حتى يبلغ أربعين سنة؛ لأنها السن التي ذكرها الله تبارك وتعالى ما حجته عليه؟ أرأيت إذا فرق بين الجارية والغلام وهي إذا بلغت المحيض والغلام إذا بلغ الحلم فذلك الوقت وقت وجوب الحد عليهما ما الحجة فيما قال من الفرق بينهما؟ وخالفه أصحابه في هذا وقالوا قولنا فيه فقالوا: يقام الحد على من استكمل خمس عشرة سنة ذكرا كان أو أنثى واحتجوا بحديث ابن عمر فيه" (الأم 6/143)
قال الشافعى فى المشركين: "فإن اتهم أن يكون أحد منهم بلغ ولم يقر عنده بأن قد استكمل خمس عشرة سنة أو قد احتلم ولم يقم بذلك عليه بينة مسلمون أقل من يقبل في ذلك شاهدان عدلان كشفه كما «كشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني قريظة فمن أنبت قتله» فإذا أنبت قال له إن أديت الجزية وإلا حاربناك فإن قال أنبت من أني تعالجت بشيء تعجل إنبات الشعر لم يقبل منه ذلك إلا أن يقوم شاهدان مسلمان على ميلاده فيكون لم يستكمل خمس عشرة فيدعه، ولا يقبل لهم ولا عليهم شهادة غير مسلم عدل" (الأم 4/214)
ولا تؤخذ الجزية عنده إلا من أهل الكتاب اليهود والنصارى وكان يلحق بهم المجوس ويزعم أنه كان لهم كتاب فرُفِع.
قال الشافعى: "أصل فرض الجهاد والحدود على البالغين من الرجال والفرائض على البوالغ من النساء من المسلمين في الكتاب والسنة من موضعين فأما الكتاب فقول الله تعالى {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم} فأخبر أن عليهم إذا بلغوا الاستئذان فرضا كما كان على من قبلهم من البالغين وقوله عز وجل {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا} وكان بلوغ النكاح استكمال خمس عشرة وأقل فمن بلغ النكاح استكمل خمس عشرة أو قبلها ثبت عليه الفرض كله والحدود ومن أبطأ عنه بلوغ النكاح فالسن التي يلزمه بها الفرائض من الحدود وغيرهما استكمال خمس عشرة والأصل فيه من السنة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد عبد الله بن عمر عن الجهاد وهو ابن أربع عشرة سنة وأجازه وهو ابن خمس عشرة سنة وعبد الله وأبو عبد الله طالبان لأن يكون عبد الله مجاهدا في الحالين فأجازه إذا بلغ أن تجب عليه الفرائض ورده إذا لم يبلغها وفعل ذلك مع بضعة عشر رجلا منهم زيد بن ثابت ورافع بن خديج وغيرهم» فمن لم يستكمل خمس عشرة ولم يحتلم قبلها فلا جهاد ولا حد عليه في شيء من الحدود وسواء كان جسيما شديدا مقاربا لخمس عشرة وليس بينه وبين استكمالها إلا يوما أو ضعيفا موديا بينه وبين استكمالها سنة أو سنتان لأنه لا يحد على الخلق إلا بكتاب أو سنة فأما إدخال الغفلة معهما فالغفلة مردودة إذا لم تكن خلافهما فكيف إذا كانت بخلافهما؟ (قال الشافعي - رحمه الله تعالى -) : وحد البلوغ في أهل الشرك الذين يقتل بالغهم ويترك غير بالغهم أن ينبتوا الشعر وذلك أنهم في الحال التي يقتلون فيها مدافعون للبلوغ لئلا يقتلوا وغير مشهود عليهم فلو شهد عليهم أهل الشرك لم يكونوا ممن تجوز شهادتهم وأهل الإسلام يشهدون بالبلوغ على من بلغ فيصدقون بالبلوغ. فإن قال قائل: فهل من خبر سوى الفرق بين المسلمين والمشركين في حد البلوغ؟ قيل: نعم كشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني قريظة حين قتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم فكان في سنته أن لا يقتل إلا رجل بالغ فمن كان أنبت قتله ومن لم يكن أنبت سباه" (الأم 4/275)
قال سحنون: "قلت: أرأيت الصبي إذا سرق أو زنى أو أصاب حدا وقد بلغ سن من يحتلم - ومن الصبيان من يبلغ ذلك السن فلا يحتلم، ويحتلم بعد ذلك بسنة أو سنتين أو ثلاثة - أينتظره حتى يبلغ من السن ما لا يجاوزه أحد من الغلمان إلا احتلم، أم يقام عليه الحد إذا بلغ أول سن الاحتلام في قول مالك؟
قال: لا أقيم عليه الحد حتى يبلغ من السن ما لا يجاوزه غلام إلا احتلم إذا لم يحتلم قبل ذلك. قلت: والجارية إذا لم تحض كذلك؟ قال: نعم.
قلت: أرأيت إن أنبت الغلام ولم يحتلم ولم يبلغ أقصى سن الاحتلام، أيحد في قول مالك أم لا؟ قال: قد قال مالك: يحد إذا أنبت، وأحب إلي أن لا يحد وإن أنبت حتى يحتلم أو يبلغ من السن ما لا يجاوزه غلام إلا احتلم.
قال ابن القاسم: وقد كلمته في الإنبات فرأيته يصغى إلى الاحتلام" (المدونة - باب القطع في السرقة)

وفى أصل محمد بن الحسن: "قلت: وكذلك الصبي يقر بالسرقة أو الصبية؟ قال: إقرار هذين باطل ولا يجري عليهما الأحكام. قلت: فلو كان الصبي قد احتلم مثله ولم يحتلم هو، والجارية قد حاضت مثلها ولم تحض هي؟ قال: إن كانا قد بلغا الوقت الذي لا يبلغه إلا من احتلم أو حاض أجزت إقرارهما، وكانا في ذلك بمنزلة الرجل والمرأة، فإن كانا لم يبلغا ذلك الوقت بعد لم أجز إقرارهما في هذا. قلت: فهل عندك في هذا وقت؟ قال: أستحسن في الغلام تسع عشرة سنة، وفي الجارية سبع عشرة سنة. وقال أبو يوسف: أما أنا فأرى فيهما جميعا خمسة عشر سنة، بلغنا نحوا من ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو قول محمد" (الأصل 7/269)
قال إسحاق بن منصور: "قلت: قال: سئل سفيان عن امرأة قالت لأخيها وهو صغير لم يحتلم بعد: زوجني، فزوجها؟ قال: ليس بولي حتى يحتلم.
وسئل عن: المعتوه؟ قال: ليس بولى.
قال أحمد: جيد.
قال إسحاق: كلاهما كما قال، أو يبلغ خمس عشرة سنة، أو تنبت عانته، أو يحتلم. فأي الخصال الثلاثة كانت فيه جاز تزويجه إلا أن يكون فاسقا، وإن لم يعرف من العلامات الثلاثة علامة وعلم أنه بلغ ستة أشبار فهو مثل إحدى العلامات الثلاث" (مسائل الكوسج 864)

قال ابن هانئ: "سألت أبا عبد الله عن رجل يحج بولده ولم يحتلم، هل يجوز حجه؟
قال: أكثر شيء عندنا إذا هو احتلم، وأما الإنبات وابن خمس عشرة في الحدود، يجوز عليهم" (مسائل ابن هانئ 713)

قال عبد الله: "سئل أبي وأنا أسمع عما يجب الحد؟
قال: الحدود ثلاثة: الاحتلام، وأن ينبت، وأن يبلغ خمس عشرة. هذه حدود كلها قد رويت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، كل من بلغ هذه الحدود يحد، إن سرق، أو زنى" (مسائل عبد الله 1560)

قال أحمد: "وحد بلوغ الجارية الحيض الذي سمينا بلوغها بالحيض" (مسائل عبد الله 1193)
قال الطحاوى: "روى محمد عن أبي حنيفة في حد البلوغ في الجارية إذا لم تحض سبع عشرة سنة وفي الغلام إذا لم يحتلم تسع عشرة سنة
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في الغلام ثماني عشرة سنة
وقال زفر في الجارية سبع عشرة سنة وفي الغلام ثماني عشرة سنة
وقال مالك في الإنبات إذا لم تحض الجارية ولم تحتلم أو تبلغ من السن ما يعلم أن مثله لا يبلغه حتى يحتلم فيكون عليه الحد
وقال الثوري في الغلام ثماني عشرة سنة وقال في الجارية سمعت من يذكر عن إبراهيم قال إذا ولدت أو ولد مثلها
وقال الأوزاعي خمس عشرة سنة في الغلام والجارية وهو قول أبي يوسف
وذكر أبو جعفر أن محمد أملى بالرقة أن الذي يذهب إليه في الغلام خمس عشرة مثل قول أبي يوسف وفي الجارية مثل قول أبي حنيفة
وقال الحسن بن حي والليث إذا أنبت واحد منهما فقد بلغ
والشافعي يعتبر في المجهول الولادة النبات وفي المعلوم الولادة خمس عشرة فيها جميعا" (مختصر اختلاف العلماء - في حد البلوغ)