بسم الله الرحمن الرحيم
[إقرار أحد الزوجين بالرضاع وإذا طلق الزوج ثلاثا ثم جحد الطلاق - من مسألة شهود الرضاع]
الدعوى إما أن يدعيها الرجل على نفسه فيكون إقرارا لازما له لا يملك أن يرجع عنه إلا فى الحدود أو يدعيها على غيرها فهذه الدعوى التى يذهب فيها أهل العلم أنْ لا يُعطى أحد بدعواه على غيره إلا أن يأتى ببينة للخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «البينة على المدعى» وأجمع أهل العلم أن إقرار الرجل والمرأة على أنفسهما لازم لهما فيما سوى الحدود فمن أقر على نفسه بشىء لزمه ولم يملك أن يدفعه عن نفسه ثم اختلفوا فى الإقرار على الرضاع.
فإذا أقر الرجل بشىء فى يديه أنه لفلان وادعاه فلان أُلزِمَ بدفعه إليه على ما أحب وكره ولا يقبل رجوعه فى إقراره أبدا. وإذا باع الرجل سلعة ثم قال بعد بيعها لم تكن لى بل لفلان وصدقه فلان وأراد أن يأخذها بإقرار البائع لم يكن له ذلك إلا ببينة وكانت تلك دعوى لا إقرارا لأن السلعة بعد البيع ملك للمشترى فإذا قال هى لفلان بعد البيع فهو مدع فى ملك غيره ولا تقبل دعواه إلا ببينة. فإذا عادت إليه السلعة ببيع أو هبة أو ميراث أو غير ذلك ثم قام عليه المُقَرُّ له لزمه أن يدفع إليه السلعة التى كان قد أقر له بها لأنه فى هذه الحال يملك أن يدفعها إليه. وإذا أقر الرجل بعتق عبد له ثم رجع وقال كنت كاذبا لم يقبل رجوعه وأعتق عليه. وإذا باع عبدا ثم قال كنت قد أعتقته قبل البيع لم يقبل قوله لأنه مدع على ملك غيره فإذا عاد العبد إليه بأى وجه من وجوه الملك عتق عليه على ما أحب وكره بإقراره الأول. وإذا كان بيتٌ بين شريكين فأقر أحدهما بأن البيت لفلان وادعاه فلان لزمه إقراره فى حصته من البيت دون شريكه ولشريكه حق الشفعة وذلك أن إقراره فى نصيب شريكه وحقه فى الشفعة دعوى لا تقبل إلا ببينة فلا يبطل حق شريكه بإقراره.
وإذا أقر الرجل أن فلانة أخته من الرضاع ثم نكحها فُرِّقَ بينهما على ما أحب وكره لأنه يملك الطلاق ولا يقبل رجوعه عن إقراره الأول وهذا قول مالك والشافعى وأحمد وأكثر أهل العلم وبه أقول. وقال أبو حنيفة: القياس أن يفرق بينهما ولا يقبل رجوعه غير أنى أستحسن فأقبل رجوعه عن إقراره إذا ادعى أنه أخطأ إلا أن يثبت عليه فلا يقبل رجوعه بعد ذلك أبدا.
وإذا فرق بينهما فعليه نصف المهر إن لم يكن دخل بها فإن كان دخل بها فعليه المهر كاملا إلا أن تصدقه المرأة أنها أخته من الرضاع فلا مهر ولا نصف ولا متعة.
وإنما لزمته الفرقة لأنه يملكها وهى حقه فلزمه إقراره فيما يملك ولم يسقط عنه المهر لأنه حق المرأة فلا يسقط بإقراره على ملك غيره لأنه دعوى لا تقبل إلا ببينة.
وإذا أقرت المرأة قبل النكاح أن فلانا أخوها من الرضاعة ثم نكحته فالقول فيها كالقول فى الرجل سواء لا يختلف فى شىء ولا مهر لها ولا نصف ولا متعة من قبل أن المهر حقها فإقرارها يلزمها فى حقها.
وإذا أقر الرجل بعد النكاح أن امرأته أخته من الرضاع فالقول فيها كالقول فى إقراره قبل النكاح لا يختلف فى شىء ولا يسقط عنه من المهر شىء لأن الفرقة والطلاق بيده فيلزمه إقراره فيما يملك.
وأجمع أهل العلم على أن المرأة إذا أقرت بعد النكاح أن زوجها أخوها من الرضاع وليس معها بينة وأنكر الزوج فإنها لا تملك أن تفارقه أبدا إلا أن يصدقها زوجها فيكون القول فيها كالقول فى إقرارها قبل النكاح سواء.
فإن قال قائل: فكيف فرقتم بين إقرارها قبل النكاح وبعده ولم تصنعوا ذلك فى إقرار الرجل؟ قيل له – إن شاء الله – إن المرأة بعد النكاح مملوكة لا تملك أن تفارق زوجها بنص كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين أن لزوجها أن يمسكها لنفسه وأنه أملك بها من نفسها فإقرارها فى نفسها بعد النكاح مردود لأنها صارت ملكا لزوجها فهى مدعية عليه تريد إبطال ملكه عنها فلا تقبل دعواها إلا ببينة. أما الرجل فهو مالك لها فيلزمه إقراره فيما يملك فلأجل هذا فرق أهل العلم بينهما والله أعلم.
وإذا طلقها زوجها فأبانها ثم أراد أن ينكحها وأرادت نكاحه وقالت كنت كاذبة لم تمكن من نكاحه أبدا لأنها بعد أن أبانها صارت أملك بنفسها منه فلزمها إقرارها فى نفسها.
وأجمع أهل العلم على أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا ثم جحد طلاقها وليس معها بينة فإنها لا تملك فراقه أبدا ولو أعطته كل مالها وهى امرأة ابتليت فلتصبر ومن أهل العلم من يأمرها أن تهرب وتختفى لأن السلطان لو قدر عليها عاقبها وردها إلى زوجها. ومنهم من يقول إن لها أن تقتله إن أرادها على نفسها غير أنها إن قتلته ولا بينة معها قُتِلَت به قصاصا.
فعلى هذا الإقرار والدعوى فى النكاح والطلاق والخلع والرجعة والرضاع كله وقياسه.
قال سحنون: "قلت: أرأيت لو أن رجلا قال في امرأة هذه أختي من الرضاعة أو غير ذلك من النساء اللاتي يحرمن عليه، ثم قال بعد ذلك أوهمت أو كنت كاذبا أو لاعبا فأراد أن يتزوجها؟
قال: سئل مالك عما يشبهه من الرضاع إذا أقر به الرجل أو الأب في ابنه الصغير أو في ابنته ثم قال بعد ذلك إنما أردت أن أمنعه أو قال: كنت كاذبا، قال مالك: لا أرى أن يتزوجها ولا أرى للوالد أن يزوجها، قال ابن القاسم: قال مالك: ذلك في الأب في ولده. قلت: فإن تزوجها، أيفرق السلطان بينهما؟
قال: نعم، أرى أن يفرق بينهما ويؤخذ بإقراره الأول.
قلت: أرأيت إن أقرت امرأة أن هذا الرجل أخي من الرضاعة وشهد عليها بذلك شهود ثم أنكرت بعد فتزوجته والزوج لا يعلم أنها كانت أقرت به؟
قال: لا أرى أن يقر هذا النكاح بينهما، وما سمعت من مالك فيه شيئا إلا أن مالكا سأله رجل من أصحابنا عن امرأة كانت لها بنت وكان لها ابن عم، فطلب بنت عمه أن يتزوجها، فقالت أمها قد أرضعته ثم إنها بعد ذلك قالت: والله ما كنت إلا كاذبة وما أرضعته ولكني أردت بابنتي الفرار منه؟
قال مالك: لا أرى أن يقبل قولها هذا الآخر ولا أحب له أن يتزوجها، وليس قول المرأة هذا أخي وقول الزوج هذه أختي كقول الأجنبي فيهما؛ لأن إقرارهما على أنفسهما بمنزلة البينة القاطعة، والمرأة الواحدة ليس يقطع بشهادتها شيء" (المدونة - الشهادة على الرضاعة)
قال الشافعى: "وإذا أقر رجل أن امرأة أمه من الرضاعة أو ابنته من الرضاعة ولم ينكح واحدة منهما وقد ولدت المرأة التي يزعم أنها أمه أو كان لها لبن يعرف للمرضع مثله وكان لها سن يحتمل أن يرضع مثلها مثله لو ولد له وكانت له سن تحتمل أن ترضع امرأته أو أمته أو أمته التي ولدت منه مثل الذي أقر أنها ابنته لم تحلل له واحدة منهما أبدا في الحكم ولا من بناتهما، ولو قال مكانه غلطت أو وهمت لم يقبل منه لأنه قد أقر أنهما ذواتا محرم منه قبل يلزمه لهما أو يلزمهما له شيء. وكذلك لو كانت هي المقرة بذلك وهو يكذبها ثم قالت غلطت لأنها أقرت به في حال لا تدفع بها عن نفسها ولا تجر إليها ولا تلزمه ولا نفسها بإقرار شيئا" (الأم - الإقرار بالرضاع)
قال: "ولو كانت المسألة في دعواها بحالها فقال هذه أختي من الرضاعة أو قالت هذا أخي من الرضاعة قبل أن يتزوجها وكذبته أو صدقته أو كذبها في الدعوى أو صدقها كان سواء كله ولا يحل لواحد منهما أن ينكح الآخر ولا واحدا من ولده في الحكم ويحل فيما بينه وبين الله تعالى إن علما أنهما كاذبان أن يتناكحا أو ولدهما" (الأم - الإقرار بالرضاع)
قال: "ولو كان ملك عقدة نكاحها ولم يدخل بها حتى أقر أنها ابنته أو أخته أو أمه وذلك يمكن فيها وفيه سألتها فإن صدقته فرقت بينهما ولم أجعل لها مهرا ولا متعة وإن كذبته أو كانت صبية فأكذبه أبوها أو أقر بدعواه فسواء لأنه ليس له أن يبطل حقها وفرق بينهما بكل حال وأجعل لها عليه نصف المهر الذي سمى لها لأنه إنما أقر بأنها محرم منه بعدما لزمه لها المهر إن دخل ونصفه إن طلق قبل أن يدخل فأقبل إقراره فيما يفسده على نفسه وأرده فيما يطرح به حقها الذي يلزمه" (الأم - الإقرار بالرضاع)
قال: "ولو كانت هي المدعية لذلك أفتيته بأن يتقي الله عز وجل ويدع نكاحها بتطليقة يوقعها عليها لتحل بها لغيره إن كانت كاذبة ولا يضره إن كانت صادقة ولا أجبره في الحكم على أن يطلقها لأنه قد لزمها نكاحه فلا أصدقها على إفساده وأحلفه لها على دعواها ما هي أخته من الرضاعة فإن حلف أَثْبَتُّ النكاح وإن نكل أحلفتها فإن حلفت فسخت النكاح ولا شيء لها وإن لم تحلف فهي امرأته بحالها" (الأم - الإقرار بالرضاع)
انظر إلى قوله: "لزمها نكاحه" وقوله: "فإن حلف أَثْبَتُّ النكاح" ثم انظر إلى قول قرامطة الوهابية إن المرأة لا يلزمها النكاح أبدا ومتى شاءت فارقت زوجها. واسأل الله العافية.
وفى أصل محمد بن الحسن: "وإذا أقر الزوج أن امرأة هي أخته من الرضاعة أو أمه من الرضاعة، ثم أراد بعد ذلك أن يتزوجها، وقال: إنما أوهمت أو أخطأت، أو نسيت، فصدقته المرأة، فإنهما يصدقان، وله أن يتزوجها إن شاء. وإن ثبت على قوله الأول فقال: هو حق كما قلت، ثم تزوجها، فإنه يفرق بينهما، ولا مهر لها عليه إن لم يكن دخل بها. وكذلك إذا قال: هي ابنتي من الرضاعة. وإذا أقرت المرأة بذلك وأنكر الزوج، ثم أكذبت المرأة نفسها، وقالت: أخطأت، وتزوجها الرجل، فهو جائز. ولو أقرا جميعا بذلك ثم أكذبا أنفسهما وقالا: أخطأنا، ثم تزوجها، فإن النكاح جائز، ولا يفرق بينهما. وكذلك هذا الباب الأول كله في النسب. ليس يلزم من هذا إلا ما ثبتا عليه. ولو قالت المرأة: هو ابني من الرضاعة أو أخي أو أبي، ثم تزوجها الرجل قبل أن تكذب نفسها، كان النكاح جائزا، ولا تصدق المرأة على هذه المقالة، لأن المرأة ليس في يدها من الفرقة شيء، إنما الفرقة في يدي الزوج. وإذا أقر الزوج بهذه المقالة، وثبت عليها، وأشهد الشهود، ثم تزوجته المرأة، ولا تعلم بذلك، ثم جاءت بهذه الحجة بعد النكاح، فرقت بينهما.
ولو أن رجلا تزوج امرأة، ثم قال بعد النكاح: هي أختي من الرضاعة أو ابنتي أو أمي من الرضاعة، ثم قال: أوهمت أو أخطأت، وليس الأمر كما قلت، استحسنت أن لا أفسد نكاحهما، والقياس أن يفسد النكاح" (الأصل – باب الرضاع)
قال الطحاوى: "قال أصحابنا إذا قال لامرأته هي أختي من الرضاع ثم قال أوهمت صُدِّق فإن ثبت عليه فرق بينهما
وقال مالك والشافعي يفرق بينهما ولا يصدق على الخطأ" (مختصر اختلاف العلماء - فيمن قال لامرأته هي أختي من الرضاع)
قال ابن قدامة: "وجملته أن الزوج إذا أقر أن زوجته أخته من الرضاعة، انفسخ نكاحه، ويفرق بينهما. وبهذا قال الشافعي" (المغنى 8/192)
قال: "فإنه إن كان قبل الدخول، وصدقته المرأة، فلا شيء لها؛ لأنهما اتفقا على أن النكاح فاسد من أصله، لا يستحق فيه مهر، فأشبه ما لو ثبت ذلك ببينة، وإن أكذبته، فالقول قولها؛ لأن قوله غير مقبول عليها في إسقاط حقوقها، فلزمه إقراره فيما هو حق له، وهو تحريمها عليه، وفسخ نكاحه، ولم يقبل قوله فيما عليه من المهر" (المغنى 8/193)
قال: "وجملته أن المرأة إذا أقرت أن زوجها أخوها من الرضاعة فأكذبها، لم يقبل قولها في فسخ النكاح؛ لأنه حق عليها، فإن كان قبل الدخول، فلا مهر لها؛ لأنها تقر بأنها لا تستحقه، فإن كانت قد قبضته، لم يكن للزوج أخذه منها؛ لأنه يقر بأنه حق لها، وإن كان بعد الدخول، فأقرت أنها كانت عالمة بأنها أخته وبتحريمها عليه، ومطاوعة له في الوطء، فلا مهر لها أيضا، لإقرارها بأنها زانية مطاوعة، وإن أنكرت شيئا من ذلك، فلها المهر؛ لأنه وطء بشبهة، وهي زوجته في ظاهر الحكم؛ لأن قولها عليه غير مقبول، فأما فيما بينها وبين الله تعالى، فإن علمت صحة ما أقرت به، لم يحل لها مساكنته وتمكينه من وطئها، وعليها أن تفر منه، وتفتدي نفسها بما أمكنها؛ لأن وطأه لها زنى، فعليها التخلص منه مهما أمكنها، كما قلنا في التي علمت أن زوجها طلقها ثلاثا، وجحدها ذلك" (المغنى 8/193)