شرح حديث ( مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله)
فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
وَقَوْله فِي أَوَّل حَدِيث اِبْن عُمَر " مَفَاتِيح الْغَيْب - إِلَى أَنْ قَالَ - لَا يَعْلَم مَا تَغِيض الْأَرْحَام إِلَّا اللَّه " فَوَقَعَ فِي مُعْظَم الرِّوَايَات " لَا يَعْلَم مَا فِي الْأَرْحَام إِلَّا اللَّه " وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان عَلَى أَقْوَال : فَقِيلَ مَا يَنْقُص مِنْ الْخِلْقَة وَمَا يَزْدَاد فِيهَا , وَقِيلَ مَا يَنْقُص مِنْ التِّسْعَة الْأَشْهُر فِي الْحَمْل وَمَا يَزْدَاد فِي النِّفَاس إِلَى السِّتِّينَ , وَقِيلَ مَا يَنْقُص بِظُهُورِ الْحَيْض فِي الْحَبَل بِنَقْصِ الْوَلَد وَمَا يَزْدَاد عَلَى التِّسْعَة الْأَشْهُر بِقَدْرِ مَا حَاضَتْ , وَقِيلَ مَا يَنْقُص فِي الْحَمْل بِانْقِطَاعِ الْحَيْض وَمَا يَزْدَاد بِدَمِ النِّفَاس مِنْ بَعْد الْوَضْع , وَقِيلَ مَا يَنْقُص مِنْ الْأَوْلَاد قَبْلُ وَمَا يَزْدَاد مِنْ الْأَوْلَاد بَعْدُ , وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْنُ أَبِي جَمْرَة نَفَعَ اللَّه بِهِ اِسْتَعَارَ لِلْغَيْبِ مَفَاتِيح اِقْتِدَاء بِمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَاب الْعَزِيز ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْب ) وَلِيُقَرِّب الْأَمْر عَلَى السَّامِع ; لِأَنَّ أُمُور الْغَيْب لَا يُحْصِيهَا إِلَّا عَالِمهَا وَأَقْرَبُ الْأَشْيَاء إِلَى الِاطِّلَاع عَلَى مَا غَابَ الْأَبْوَاب , وَالْمَفَاتِيح أَيْسَر الْأَشْيَاء لِفَتْحِ الْبَاب فَإِذَا كَانَ أَيْسَر الْأَشْيَاء لَا يُعْرَف مَوْضِعهَا فَمَا فَوْقهَا أَحْرَى أَنْ لَا يُعْرَف قَالَ وَالْمُرَاد بِنَفْيِ الْعِلْم عَنْ الْغَيْب الْحَقِيقِيّ فَإِنَّ لِبَعْضِ الْغُيُوب أَسْبَابًا قَدْ يُسْتَدَلّ بِهَا عَلَيْهَا لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ حَقِيقِيًّا قَالَ فَلَمَّا كَانَ جَمِيع مَا فِي الْوُجُود مَحْصُورًا فِي عِلْمه شَبَّهَهُ الْمُصْطَفَى بِالْمَخَازِنِ وَاسْتَعَارَ لِبَابِهَا الْمِفْتَاح وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ) قَالَ وَالْحِكْمَة فِي جَعْلهَا خَمْسًا الْإِشَارَة إِلَى حَصْر الْعَوَالِم فِيهَا فَفِي قَوْله ( وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَام ) إِشَارَة إِلَى مَا يَزِيد فِي النَّفْس وَيَنْقُص وَخَصَّ الرَّحِم بِالذِّكْرِ لِكَوْنِ الْأَكْثَر يَعْرِفُونَهَا بِالْعَادَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَنَفَى أَنْ يَعْرِف أَحَد حَقِيقَتهَا فَغَيْرهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَفِي قَوْله وَلَا يَعْلَم مَتَى يَأْتِي الْمَطَر إِشَارَة إِلَى أُمُور الْعَالَم الْعُلْوِيّ وَخَصَّ الْمَطَر مَعَ أَنَّ لَهُ أَسْبَابًا قَدْ تَدُلّ بِجَرْيِ الْعَادَة عَلَى وُقُوعه لَكِنَّهُ مِنْ غَيْر تَحْقِيق , وَفِي قَوْله " وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ " إِشَارَة إِلَى أُمُور الْعَالَم السُّفْلِيّ مَعَ أَنَّ عَادَة أَكْثَر النَّاس أَنْ يَمُوت بِبَلَدِهِ وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ حَقِيقَة بَلْ لَوْ مَاتَ فِي بَلَده لَا يُعْلَم فِي أَيّ بُقْعَة يُدْفَن مِنْهَا وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَقْبَرَة لِأَسْلَافِهِ بَلْ قَبْر أَعَدَّهُ هُوَ لَهُ وَفِي قَوْله " وَلَا يَعْلَم مَا فِي غَد إِلَّا اللَّهُ " إِشَارَة إِلَى أَنْوَاع الزَّمَان وَمَا فِيهَا مِنْ الْحَوَادِث وَعَبَّرَ بِلَفْظِ غَد لِتَكُونَ حَقِيقَته أَقْرَب الْأَزْمِنَة وَإِذَا كَانَ مَعَ قُرْبِهِ لَا يَعْلَم حَقِيقَة مَا يَقَع فِيهِ مَعَ إِمْكَان الْأَمَارَة وَالْعَلَامَة فَمَا بَعُدَ عَنْهُ أَوْلَى , وَفِي قَوْله " وَلَا يَعْلَم مَتَى تَقُوم السَّاعَة إِلَّا اللَّه " إِشَارَة إِلَى عُلُوم الْآخِرَة فَإِنَّ يَوْم الْقِيَامَة أَوَّلهَا وَإِذَا نَفَى عِلْم الْأَقْرَب اِنْتَفَى عِلْم مَا بَعْده فَجَمَعَتْ الْآيَة أَنْوَاع الْغُيُوب وَأَزَالَتْ جَمِيع الدَّعَاوِي الْفَاسِدَة وَقَدْ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَة الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْله تَعَالَى ( فَلَا يُظْهِر عَلَى غَيْبه أَحَدًا , إِلَّا مَنْ اِرْتَضَى مِنْ رَسُول ) أَنَّ الِاطِّلَاع عَلَى شَيْء مِنْ هَذِهِ الْأُمُور لَا يَكُون إِلَّا بِتَوْفِيقٍ اِنْتَهَى مُلَخَّصًا.