باب هجرة من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ( مكة ) إلى أرض الحبشة فرارا بدينهم من الفتنة قد تقدم ذكر أذية المشركين للمستضعفين من المؤمنين وما كانوا يعاملونهم به من الضرب الشديد والإهانة البالغة
وكان الله عز وجل قد حجرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعه بعمه أبي طالب كما تقدم تفصيله ولله الحمد والمنة
وقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن مسعود قال :
بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا فيهم
[ 164 ]
عبد الله بن مسعود وجعفر وعبد الله بن عرفطة وعثمان بن مظعون وأبو موسى فأتوا النجاشي
وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية
فلما دخلا على النجاشي سجدا له ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ثم قالا له : إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا
قال : فأين هم ؟ قالا : في أرضك فابعث إليهم
فبعث إليهم فقال جعفر : أنا خطيبكم اليوم . فاتبعوه
فسلم ولم يسجد فقالوا له : ما لك لا تسجد للملك ؟
قال : إنا لا نسجد إلا لله عز وجل
قال : وما ذاك ؟
قال : إن الله بعث إلينا رسولا ثم أمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله عز وجل وأمرنا بالصلاة والزكاة
قال عمرو : فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم
قال : فما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه ؟
قال : نقول كما قال الله : هو كلمته وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يفرضها ولد
[ 165 ]
قال : فرفع عودا من الأرض ثم قال : يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما سوى هذا مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجد في الإنجيل وأنه الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم انزلوا حيث شئتم والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه [ وأوضئه ]
وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما
ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرا
وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغه موته
وهذا إسناد جيد قوي وسياق حسن وفيه ما يقتضي أن أبا موسى كان فيمن هاجر من ( مكة ) إلى أرض الحبشة إن لم يكن مدرجا من بعض الرواة . والله أعلم
ورواه أبو نعيم في ( الدلائل ) عن أبي موسى قال :
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي فبلغ ذلك قريشا فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد وجمعوا للنجاشي هدية
[ 166 ]
وقدما على النجاشي فأتياه بالهدية فقبلها وسجدا له . ثم قال عمرو بن العاص : إن ناسا من أرضنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك
قال لهم النجاشي : في أرضي ؟
قالا : نعم
فبعث إلينا فقال لنا جعفر : لا يتكلم منكم أحد أنا خطيبكم اليوم
فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره والقسيسون جلوس سماطين وقد قال له عمرو وعمارة : إنهم لا يسجدون لك
فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان : اسجدوا للملك . فقال جعفر : لا نسجد إلا لله عز وجل
فقال له النجاشي : وما ذاك ؟
قال : إن الله بعث فينا رسولا وهو الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من بعده اسمه أحمد فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر
فأعجب النجاشي قوله
[ 167 ]
فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال : أصلح الله الملك إنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم
فقال النجاشي : ما يقول صاحبكم في ابن مريم ؟
قال : يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر ولم يفرضها ولد
فتناول النجاشي عودا من الأرض فرفعه فقال : يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما نقول في ابن مريم ولا وزن هذه مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده فأنا أشهد أنه رسول الله وأنه الذي بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعليه امكثوا في أرضي ما شئتم
وأمر لنا بطعام وكسوة . وقال : ردوا على هذين هديتهما
وكان عمرو بن العاص رجلا قصيرا وكان عمارة رجلا جميلا وكانا أقبلا في البحر فشربا [ يعني خمرا ] ومع عمرو امرأته فلما شربا قال عمارة لعمرو : مر امرأتك فلتقبلني فقال له عمرو : ألا تستحي ؟ فأخذ عمارة عمرا فرمى به في البحر فجعل عمرو يناشد عمارة حتى أدخله السفينة
فحقد عليه عمرو في ذلك فقال عمرو للنجاشي : إنك إذا خرجت خلفك عمارة في أهلك . فدعا النجاشي بعمارة فنفخ في إحليله فطار مع الوحش
[ 168 ]
وهكذا رواه البيهقي في ( الدلائل ) إلى قوله : ( فأمر لنا بطعام وكسوة ) قال :
( وهذا إسناد صحيح وظاهره يدل على أن أبا موسى كان ب ( مكة ) وأنه خرج مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة
والصحيح عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة عن أبي موسى :
أنهم بلغهم مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم باليمن فخرجوا مهاجرين في بضع وخمسين رجلا في سفينة فألقتهم سفينتهم إلى النجاشي بأرض الحبشة فوافقوا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عندهم فأمره جعفر بالإقامة فأقاموا عنده حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن ( خيبر )
قال : وأبو موسى شهد ما جرى بين جعفر وبين النجاشي فأخبر عنه
قال : ولعل الراوي وهم في قوله : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق ) . والله أعلم )
[ 169 ]
وهكذا رواه البخاري في ( هجرة الحبشة ) ومسلم عن أبي موسى قال :
بلغنا مخرج النبي ونحن باليمن فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فأقمنا معه حتى قدمنا فوافينا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح ( خيبر ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
( لكم أنتم أهل السفينة هجرتان )
وروياه في موضع آخر مطولا . والله أعلم
الكتاب : صحيح السيرة النبوية
المؤلف : محمد ناصر الدين الألباني