توحيد الله بالأدلة)
قال الله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. قال البغوي: سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا يا محمد صف لنا ربك وانسبه فأنزل الله هذه الآية وسورة الإخلاص.
قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) يخبر تعالى أنه إله واحد أي متوحد متفرد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله فليس له شريك في ذاته ولا سميَّ له ولا كفوًا ولا مثيل ولا نظير ولا خالق ولا مدبر غيره، فإذا كان كذلك فهو المستحق لأن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة ولا يشرك به أحد من خلقه لأنه (الرحمن الرحيم) المتصف بالرحمة العظيمة التي لا يماثلها رحمة أحد فقد وسعت كل شيء وعمت كل حي، فبرحمته أوجدت المخلوقات وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالات وبرحمته اندفع عنها كل نقمة وبرحمته عرف عباده نفسه بصفاته وآلائه وبين لهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب فإذا كان هو المنفرد بجميع أصناف النعم فهو المستحق لجميع أنواع العبادة، وأن يفرد بالمحبة والخوف والرجاء والتعظيم والتوكل والدعاء وغير ذلك من أنواع الطاعات؛ ففي هذه الآية دليل إجمالي على وحدانية الله تعالى ثم ذكر الأدلة التفصيلية فقال (إن في خلق السماوات) أي في ارتفاعها واتساعها وإحكامها وإتقانها وما جعل فيها من الشمس والقمر والنجوم وتنظيمها لمصالح العباد وفي خلق (الأرض) مهادًا وفراشًا للخلق يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها والاعتبار بذلك ما يدل على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقهم وحكمته التي بها أتقنها وأحسنها ونظمها وعلمه ورحمته التي أودع فيها ما أودع من منافع الخلق ومصالحهم وضروراتهم وحاجاتهم وفي ذلك أبلغ دليل على كماله واستحقاقه أن يفرد بالعبادة لانفراده بالخلق والتدبير والقيام بشؤون عباده.
وفي (اختلاف الليل والنهار) وهو تعاقبهما على الدوام إذا أذهب أحدهما خلفه الآخر وفي اختلافهما في الحر والبرد والتوسط والطول والقصر والتوسط وما ينشأ عن ذلك من الفصول التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم وجميع ما على وجه الأرض من أشجار#
ونوابت كل ذلك بانتظام وتدبير وتسخير تنبهر لها العقول ما يدل على قدرة مصرفها وعلمه وحكمته ورحمته الواسعة ولطفه الشامل مما يوجب أن يؤله ويعبد ويفرد بالمحبة والتعظيم والخوف والرجاء. وفي (الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) وهي السفن والمراكب ونحوها مما ألهم الله عباده صنعتها وخلق لهم من الآلات ما أقدرهم عليها ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال والبضائع التي هي من منافع الناس وبها تقوم مصالحهم وتنتظم معائشهم (وما أنزل الله من السماء من ماء) وهو المطر النازل من السحاب (فأحيا به الأرض بعد موتها) فأظهرت من أنواع الأقوات وأصناف النبات ما هو من ضرورات الخلائق التي لا يعيشون بدونها (وبث فيها من كل دابة) أي نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة وسخرها للناس ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع فمنها ما يأكلون من لحمه ويشربون من دره ومنها ما يركبون ومنها ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم ومنها ما يعتبر به وفي ذلك دليل على قدرته وعظمته ووحدانيته وسلطانه العظيم. وفي (تصريف الرياح) باردة وحارة وجنوبًا وشمالا وشرقًا وغربًا وبين ذلك وتارة تثير السحاب وتارة تؤلف بينه وتارة تلقحه وتارة تدره وتارة تمزقه وتزيل ضرره وتارة تكون رحمة وتارة ترسل بالعذاب وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير فيسوقه الله إلى حيث شاء فيحيي به البلاد والعباد ويروي به التلول والوهاد وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه فينزله رحمة ولطفًا ويصرفه عناية وعطفًا.
أخبر الله تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة آيات أي أدلة على وحدانيته وألوهيته، وعظيم سلطانه ولكنها (لقوم يعقلون) أي لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له ويتفكرون بها في صنع الله ويستدلون بهذه المخلوقات على قدرة الله ويستعينون بنعمه على طاعته فلله الحمد أولا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا وله الحمد في السماوات والأرض والدنيا والآخرة سبحانه لا نحصي ثناء عليه.
ما يستفاد من هذه الآيات سوى ما تقدم:
1- إثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى وإلهيته ونفيها عن غيره من المخلوقين، وبيان أصل الدليل على ذلك وهو إثبات رحمته التي من آثارها وجود جميع النعم واندفاع جميع النقم.
2- مشروعية التفكر في مخلوقات الله ومصنوعاته، والاستدلال بها على توحيده وقدرته.
3- الدلالة على البعث والجزاء لأن الذي بدأ الخلق سوف يعيده ويجزي كل عامل#
بعمله وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ (27) من سورة الروم والذي يحيي الأرض بعد موتها بالمطر قادر على إحياء الأموات بعد فنائهم وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ سورة فصلت آية (39).
4- وجوب شكر نعم الله باستعمالها في مرضاته، وعدم الاستعانة بها على معاصيه.
5- إثبات صفة الرحمة الواسعة لله التي من آثارها أن خلق خلقه، ورزقهم من الطيبات وحملهم في البر والبحر وسخر لهم جميع المخلوقات وفضلهم على كثير ممن خلق فاستحق منهم أن يشكروه ويعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وأن يتقوه حق تقاته بطاعته وذكره وشكره وامتثال أمره واجتناب نهيه.
6- من آيات الله ومخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة ووحدانيته السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن والليل والنهار والرياح، والسفن التي تجري في البحر بما ينفع الناس والمطر الذي به حياة الأرض.
7- جواز ركوب البحر مطلقًا لتجارة كان أو عبادة كالحج والجهاد.
8- انفراد الله بالخلق والإيجاد بما في ذلك إرسال الرياح، وإنشاء السحاب وإنزال المطر وإنبات النبات وغير ذلك.
9- الرد على الطبائعيين الذي يضيفون مخلوقات الله إلى الطبيعة.#
كتاب المنجيات والمهلكات لعبد الله جار الله