تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 54

الموضوع: تفسير سورة البقرة

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة

    من آية 137إلى 141

    "فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"137.
    أي: فإنْ آمَن اليهودُ والنَّصارى إيمانًا مماثلًا من كلِّ الوجوه لإيمانكم- أيُّها المسلمون- ومِن ذلك الإيمانُ بجميعِ كتُب الله تعالى، وبجميع رُسله عليهم الصَّلاة والسَّلام- فقد رَشَدوا ووُفِّقوا للحقِّ والخير.واهتدوا للصراط المستقيم, الموصل لجنات النعيم. و والهُدَى هو العلم بالحق, والعمل به.
    وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ:أي: فإنْ أعرَض أولئك اليهودُ والنَّصارى عن الحقِّ بعد إقامة الحُجَّة عليهم، فلم يُؤمِنوا بمِثل إيمانكم، فاعلموا- أيُّها المؤمنون- أنَّهم يَقصِدون المخالفةَ والمنازعةَ والعداوةَ لكم.الدرر موسوعة التفسير .
    فالمشاق: هو الذي يكون في شق والله ورسوله في شق، ويلزم من المشاقة المحادة, والعداوة البليغة, التي من لوازمها, بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلهذا وعد الله رسوله, أن يكفيه إياهم أي يكفيه شرهم . وقد أنجز الله لرسوله وعده, وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم, وسبى بعضهم, وأجلى بعضهم, وشردهم كل مشرد. ففيه معجزة من معجزات القرآن, وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه, فوقع طبق ما أخبر.تفسير السعدي.
    وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ : فهو سبحانه السميع لأقوالهم العليم بأحوالهم و بما يُبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحَسد والبغضاء.
    "صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ"138.
    صِبْغَةَ اللَّهِ : الصبغة في الآية بمعنى الإيمان . وإنما أطلقت الصبغة على الإيمان ،لأن الإيمان يمتزج بالقلوب امتزاج الصبغ بالمصبوغ، وتبدو آثاره على المؤمنين كما تبدو آثار الصبغ على المصبوغ. وكأنهم قالوا صبغنا الله بالإيمان صبغته.
    وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً : والاستفهام هنا للإنكار والنفي ، والمعنى: لا أحد أحسن من الله صبغة لأنه هو الذي يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم من أدران الكفر والضلال، فهي صبغة ثابتة لا تزول لأن الإيمان متى خالطت بشاشته القلوب لا يرتد عنه أحد سخطة له.
    بخلاف ما يتلقنه أهل الكتاب عن أحبارهم ورهبانهم من الأديان الباطلة فهو من الصبغة البشرية، التي تجعل من الدين الواحد أديانا مختلفة ومذاهب متنافرة.
    وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ :عابدون أي مطيعون . والمعنى: قل لهم يا محمد إننا نحن معاشر المسلمين نعبد الله وحده وصبغته هي صبغتنا ولا نعبد غيره فلا نتخذ الأحبار والرهبان أربابًا يزيدون في ديننا وينقصون ويحلون ويحرمون ويمحون من النفوس صبغة التوحيد، ليحلوا محلها بأهوائهم صبغة الشرك والكفر.
    "قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ"139.
    قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ :المحاجة هي: المجادلة بين اثنين فأكثر, تتعلق بالمسائل الخلافية, حتى يكون كل من الخصمين يريد نصرة قوله, وإبطال قول خصمه، فكل واحد منهما, يجتهد في إقامة الحُجة على ذلك. والمعنى أتجادلوننا في شأن الله، وتقولون أنكم الأقرب إلى الله، وتزعمون أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى. وإن ديننا هو الأقدم وكتابنا هو الأسبق ولو كنتَ نبيًّا لكنتَ منَّا.
    وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ: يعنى ليس أحد منا أولى بالله من الآخر، لأنه تعالى "رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ" وعطاء الربوبية عام لكل الناس ، المتصرف فينا وفيكم ، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له !
    "وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ" نحن لَنَا أَعْمَالُنَا التى سنحاسب عليها، وأنتم لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ التى ستحاسبون عليها، والعمل وحده هو الذي يقرب لله تعالى، وليس كما تزعمون أنكم أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وأن آبائكم الأنبياء سيشفعون لكم.
    فشُبْهَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَنْجُو مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَتِهِمْ، وَإِنْ أَحْسَنَ فِي عَمَلِهِ وَأَخْلَصَ فِي قَصْدِهِ، وَأَنَّهُمْ هُمُ النَّاجُونَ الْفَائِزُونَ وَإِنْ أَسَاءُوا عَمَلًا وَنِيَّةً؛ لِأَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُنْجُونَهُمْ وَيُخَلِّصُونَه ُمْ بِجَاهِهِمْ، فَالْفَوْزُ عِنْدَهُمْ بِعَمَلِ سَلَفِهِمْ لَا بِصَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا أَعْمَالِهِمْ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ هَدْمٌ لِدِينِ اللهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ .
    "وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ" ونحن مخلصون في أعمالنا، والْإِخْلَاصُ هو رُوحُ الْأَعْمَالِ، والإخلاص, هو الطريق إلى الخلاص، فهذا هو الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
    قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْإِخْلَاصُ أَنْ يُخْلِصَ الْعَبْدُ دِينَهُ وَعَمَلَهُ فَلَا يُشْرِكَ بِهِ فِي دِينِهِ وَلَا يُرَائِيَ بِعَمَلِهِ، قَالَ الفضيل: ترك العمل من أجل النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَكَ الله منهما.الألوكة.
    "أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " 140.
    وهذه دعوى أخرى منهم, ومحاجة في رسل الله، زعموا أنهم أولى بهؤلاء الرسل المذكورين من المسلمين.
    فرد الله عليهم بقوله" أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ " وقال سبحانه في موضع آخر " مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "آل عمران : 67.وهم يقولون: بل كان يهوديًا أو نصرانيًا. فإما أن يكونوا، هم الصادقين العالمين، أو يكون الله تعالى هو الصادق العالم بذلك, فأحد الأمرين متعين لا محالة، وصورة الجواب مبهم، وهو في غاية الوضوح والبيان، حتى إنه - من وضوحه - لم يحتج أن يقول بل الله أعلم وهو أصدق، ونحو ذلك، لانجلائه لكل أحد، كما إذا قيل: الليل أنور، أم النهار؟ والنار أحر أم الماء؟ والشرك أحسن أم التوحيد؟ ونحو ذلك. وهذا يعرفه كل من له أدنى عقل حتى إنهم بأنفسهم يعرفون ذلك, ويعرفون أن إبراهيم وغيره من الأنبياء, لم يكونوا هودا ولا نصارى, فكتموا هذا العلم وهذه الشهادة، فلهذا كان ظلمهم أعظم الظلم. ولهذا قال تعالى "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ " ولا أحدَ أشدُّ ظلمًا في كِتمان الشَّهادة؛ ممَّن يَكتُم ما أنزل الله في كُتبه . فهي شهادة عندهم، مودعة من الله، لا من الخلق، فيقتضي الاهتمام بإقامتها، فكتموها، وأظهروا ضدها، جمعوا بين كتم الحق، وعدم النطق به، وإظهار الباطل، والدعوة إليه، أليس هذا أعظم الظلم؟ بلى والله، وسيعاقبهم عليه أشد العقوبة، فلهذا قال سبحانه " وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " فيه تهديد ووعيد شديد، فالله سبحانه وتعالى ليس بسَاهٍ عن هؤلاء اليهودِ والنَّصارى، بل هو على عِلمٍ بجميع أعمالِهم محيط بها ، ولا يَخفَى عليه منها شيء.فقد أحصى أعمالهم، وعدها وادخر لهم جزاءها، فبئس الجزاء جزاؤهم, وبئست النار، مثوى للظالمين.تفسير السعدي.وموسوعة التفسير .
    "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ"141.
    تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ : أي : تِلْكَ إشارة إلى إبراهيم وبنيه، أي أن إبراهيم وذريته، أمة قد مضت وانقرضت،. لهم أعمالهم ولكم أعمالكم، وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم ، من غير متابعة منكم لهم ، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا مثلهم منقادين لأوامر الله واتباع رسله ، الذين بعثوا مبشرين ومنذرين ، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل ، ولا سيما من كفر بسيد الأنبياء ، وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من سائر المكلفين ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين .من تفسير ابن كثير.

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة

    من آية 142إلى 144
    " سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" 142.
    وقد بدأ الكلام بما سيقع من اعتراضهم على التحويل، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به قبل وقوعه، ولقّنه الحجة البالغة والحكمة فيه، ليوطّن نفسه عليه، فإن مفاجأة المكروه أشدّ إيلامًا، والعلم به قبل وقوعه يبعد القلق عن النفس.وليعدّ الجواب قبل الحاجة إليه، والجواب المعدّ أقطع لحجة الخصم.
    فقد كان صلى الله عليه وسلم يستقبل بيت المقدس وهو في مكة وكان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس فيستقبلهما معًا كما يفيده حديث ابن عباس:
    "كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يصلِّى نحوَ بَيتِ المقدِسِ والكعبةُ بينَ يدَيهِ وبعدَما هاجرَ إلى المدينةِ ستَّةَ عشرَ شَهرًا ، ثمَّ تَوجَّه إلى الكعبةِ"الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : ابن حجر العسقلاني - المصدر : موافقة الخبر الخبر-الصفحة أو الرقم : 2/279 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
    بقى المسلمون يجمعون فى الصلاة بين القبلتين ما شاء الله ،ثم أُذن لهم فى الهجرة من مكة فخرجوا إلى المدينة ولحق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وفى المدينة تعذر على النبي والذين آمنوا معه الجمع بين القبلتين .. فكان المسلمون يصلون مع رسول الله ويستقبلون بيت المقدس حتى نزل الوحي بتحويل القِبْلَة إلى الكعبة.
    عن البراء بن عازب " كانَ أوَّلَ ما قَدِمَ المَدِينَةَ نَزَلَ علَى أجْدَادِهِ، أوْ قالَ أخْوَالِهِ مِنَ الأنْصَارِ، وأنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وكانَ يُعْجِبُهُ أنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وأنَّهُ صَلَّى أوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ العَصْرِ، وصَلَّى معهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى معهُ، فَمَرَّ علَى أهْلِ مَسْجِدٍ وهُمْ رَاكِعُونَ، فَقالَ: أشْهَدُ باللَّهِ لقَدْ صَلَّيْتُ مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كما هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وكَانَتِ اليَهُودُ قدْ أعْجَبَهُمْ إذْ كانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ، وأَهْلُ الكِتَابِ، فَلَمَّا ولَّى وجْهَهُ قِبَلَ البَيْتِ، أنْكَرُوا ذلكَ."صحيح البخاري.
    شَرائِعُ الدِّينِ مَبنيَّةٌ على الوحْيِ وما أمَرَ به اللهُ سُبحانه، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَّبِعًا لذلك، وإنْ مالَتْ نفْسُه إلى أمرٍ فإنَّه لا يَفعَلُه ما لم يُؤمَرْ به.وفي هذا الحَديثِ يَروي البَراءِ بْنُ عازِبٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا قدِمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المدينةَ نزَلَ على بني النَّجَّارِ؛ لأنَّهم هم أخوالُه أو أجدادُه مِن جِهةِ جَدِّ أبيه هاشمِ بنِ عبدِ مَنافٍ. وفي أوَّلِ أمرِ الإسلامِ لمَّا فُرِضَت الصَّلاةُ كانت قِبلتُه إلى بيتِ المقدِسِ، وظلَّ يتَّجِهُ إليه سِتَّةَ عشَرَ شَهرًا، أو سَبعةَ عشَر شَهرًا، وكان يُعجِبُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ تكونَ قِبلتُه قِبَلَ الكعبةِ؛ وقد أخبَرَ اللهُ سُبحانه عن حالِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذه في قولِه تعالى"قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ"البقرة: 144، فوَعَدَه أنْ يُوجِّهَه إلى القِبلةِ التي يَرْضاها، وكانت أوَّلُ صَلاةٍ صلَّاها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتوجِّهًا إلى الكعبةِ هي صَلاةَ العصرِ، ولا خِلافَ أنَّ ذلك كان في السَّنةِ الثَّانيةِ مِن الهجرةِ، وصلَّى معه بَعضُ أصحابِه، فخرَجَ رجلٌ ممَّن صلَّى معه، فمَرَّ على أهلِ مَسجدٍ، فوجَدَهم يُصَلُّون، وكانوا راكعينَ، فقال لهم: أحْلِفُ باللهِ، لقدْ صلَّيتُ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتوجِّهًا إلى الكعبةِ في الصَّلاةِ، فلمَّا سَمِعوه صدَّقوه وَدارُوا ناحيةَ المسجدِ الحرامِ، ولم يَقطَعوا الصَّلاةَ، بلْ أتمُّوها إلى جِهةِ الكعبةِ، فصلَّوا صَلاةً واحدةً إلى جِهتينِ: جِهةِ المسجدِ الأقْصى، وجِهةِ المسجدِ الحرامِ.وكان اليهودُ يُعجِبُهم تَوجُّهُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى بَيتِ المقدِسِ؛ لأنَّه قِبْلَتُهم، فلمَّا تَوجَّه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى البيتِ الحرام، أنكَروا ذلك، فنَزَل قولُه تعالى"سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"البقرة: 142. الآياتِ، كما جاء مُصرَّحًا به في رِواياتٍ أُخرى.وكان بعضُ الصَّحابةِ ممَّن صلَّى إلى بَيتِ المقدِسِ مات أو قُتِل قَبلَ أنْ تُحوَّلَ القِبلةُ إلى البيتِ الحرام، فسُئِل صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنهم؛ فأنزَلَ اللهُ"وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ"البقرة: 143، أي: صَلاتَكم.وفي الحديثِ: ما كان عندَ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم مِن سُرعةِ تَلبيةِ واستجابةِ أوامرِ اللهِ عزَّ وجلَّ ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.وفيه: مَشروعيَّةُ الحَلِفِ على الشَّيءِ لتَأكيدِه.وفيه: الحضُّ على حُسنِ الاستِجابةِ لِداعي اللهِ ورَسولِه.الدرر السنية.
    أخبَر اللهُ تعالى أنَّ السفهاء : وهم الذين لا يعرفون مصالح أنفسهم، بل يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن، وهم اليهود والنصارى, ومن أشبههم من المعترضين على أحكام الله وشرائعه، سيتساءلون اعتراضًا- والرِّيبة تملأ قلوبَهم- عن السَّبب الذي صرَف المسلمين عن استقبال بيت المقدِس في صلاتهم.
    قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ :أي: قلْ يا محمَّدُ، لهؤلاء المتسائلين: لله تعالى وحْده دون غيرِه مُلكُ المشرق والمغرب وما بينهما، فكلُّ الجِهات مخلوقةٌ ومملوكة له؛ فله أن يأمُرَ بالتوجُّه إلى أيِّ جِهةٍ شاء سبحانه
    يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ : الله هو الذي يهدى من يشاء هدايته، إلى السبيل الحق، فيوجه إلى بيت المقدس مدة حيث اقتضت حكمته ذلك، ثم إلى الكعبة، حيث يعلم المصلحة فيما أمر به.
    وإذا سأل سائل ما الحكمة من تغيير القبلة؟
    إذا أتانا الأمر من الله وجب علينا قبوله والتسليم له - وإن لم تظهر لنا حكمته - كما قال تعالى"وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا "الأحزاب 36 .
    والله سبحانه وتعالى لا يحكم بحكم إلا لحكمة عظيمة - وإن لم نعلمها - كما قال تعالى"ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"الممتحنة 10.
    والله سبحانه وتعالى لا ينسخ حكمًا إلا إلى ما هو أفضل منه أو مثله ، كما قال تبارك وتعالى "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"سورة البقرة 106 .الإسلام سؤال وجواب.
    ومن الحكم العظيمة التي تظهر لنا من تحويل القبلة تنقية الصف المسلموامتحان المؤمن الصادق واختباره ، فالمؤمن الصادق يقبل حكم الله جل وعلا ، بخلاف غيره.كما ستوضحه الآية التالية.
    "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ". 143.
    وَكَذَلِكَ : أي: وكما هديناكم صراطًا مستقيمًا جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا: أيعدولًا خيارًا، لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ: تشهد هذه الأمة لجميع الرسل الذين قد بلغوا رسالات ربهم وبلغوا أممهم.وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا :أي شهيدًا على صدقكم.
    ونقل البغوي في تفسيره :1/122، عن الكلبي أنه قال : وَسَطًا " يعني : أهل دين وسط ، بين الغلو والتقصير ، لأنهما مذمومان في الدين "
    قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية " فمعنى ذلك : وكذلك جعلناكم أمة وسطًا عدولًا شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بَلَّغَتْ ما أُمِرَتْ ببلاغِهِ من رسالاتي إلى أممها ، ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليكم بإيمانكم به ، وبما جاءكم به من عندي " انتهى ."جامع البيان " 2/8 .
    جعل الله هذه الأمة، وسطًا في كل أمور الدين، وسطًا في الأنبياء، بين من غلا فيهم، كالنصارى، وبين من جفا منهم كاليهود، بأن آمنوا بكل الأنبياء على الوجه اللائق بذلك، ووسطًا فِي مَجَالِ الْعِبَادَةِ: جَاءَ الْإِسْلَامُ وَسَطًا بَيْنَ الرَّهْبَانِيَّ ةِ – الَّتِي اهتمت بالروح وقَطَعَتْ كُلَّ صِلَةٍ بِالْحَيَاةِ، وَانْقَطَعَتْ لِلْعِبَادَةِ، وَبَيْنَ الْإِغْرَاقِ فِي الْمَجَالِ الْمَادِّيِّ وَالِاهْتِمَامِ بِالنَّوَاحِي الْحِسِّيَّةِ وَالْمَادِّيَّة ِ وَالطُّغْيَانِ الْمَالِيِّ وَالِانْصِرَافِ عَنِ الْعِبَادَةِ وَتَرْقِيَةِ النَّفْسِ.
    فجاء الإسلام جامعًا بين الحقّين حق الروح وحق الجسد، وأعطى المسلم جميع الحقوق الإنسانية، فالإنسان جسد وروح..ووهبهم الله من العلم والحلم، والعدل والإحسان، ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا " أُمَّةً وَسَطًا " كاملين، ليكونوا " شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم. تشهد هذه الأمة يومَ القِيامةِ لجميع الرسل الذين قد بلغوا رسالات ربهم وبلغوا أممهمإذا كذَّبوا وأنكَرُوا أنَّ اللهَ بَعَثَ إليهم الأنبياءَ.وهي لا يَشْهَدُ عَلَيْها إلّا رَسُولُها صلى الله عليه وسلم.والأُمَّة لا تَشْهَدُ عَلى النَّبِي ولِهَذا كانَ يَقُولُ في حَجَّةِ الوَداعِ "ألَا هلْ بَلَّغْتُ؟، قالوا: نَعَمْ، قالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ " الحديث..... الراوي : أبو بكرة نفيع بن الحارث - المصدر : صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم : 1741 . فَجَعَلَ اللَّهَ هو الشّاهِدَ عَلى تَبْلِيغِهِ.
    يَجِيءُ نُوحٌ وأُمَّتُهُ، فيَقولُ اللَّهُ تَعالَى: هلْ بَلَّغْتَ؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، فيَقولُ لِأُمَّتِهِ: هلْ بَلَّغَكُمْ؟ فيَقولونَ: لا ما جاءَنا مِن نَبِيٍّ، فيَقولُ لِنُوحٍ: مَن يَشْهَدُ لَكَ؟ فيَقولُ: مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أنَّه قدْ بَلَّغَ، وهو قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ"البقرة: 143. والوَسَطُ: العَدْلُ."الراوي : أبو سعيد الخدري - صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم : 3339 .
    يَجِيءُ النبيُّ يومَ القيامةِ ومعه الرجلُ ، والنبيُّ ومعه الرجلانِ ، والنبيُّ ومعه الثلاثةُ ، وأكثرُ من ذلك ، فيُقالُ له : هل بَلَّغْتَ قومَك ؟ فيقولُ : نعم ، فيُدْعَى قومُه ، فيُقالُ لهم : هل بَلَّغَكم هذا ؟ فيقولونَ : لا ، فيُقالُ له : مَن يَشْهَدُ لك ؟ فيقولُ : مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ ، فيُدْعَى مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ فيُقالُ لهم : هل بَلَّغَ هذا قومَه ؟ فيقولونَ : نعم ، فيُقالُ : وما عِلْمُكُم بذلك ؟ فيقولونَ : جاءنا نبيُّنا ، فأَخْبَرَنا أنَّ الرُّسُلَ قد بَلَّغُوا فصَدَّقْناه ، فذلك قولُه : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" الراوي : أبو سعيد الخدري -المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع -الصفحة أو الرقم : 8033 -خلاصة حكم المحدث : صحيح .
    وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا: والجَعْلُ هُنا جَعْلُ التَّشْرِيعِ،جَعَلْنَا: أي شَرَعْنا وهي استقبال بيت المقدس أولًا، ففي أوَّلِ أمرِ الإسلامِ لمَّا فُرِضَت الصَّلاةُ كانت قِبلتُه إلى بيتِ المقدِسِ كما سبق وبيناه في تفسير الآية السابقة.خاطَب الله عزَّ وجلَّ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّه إنَّما شرَع له استقبال بيت المقدس أولًا، ثمَّ نسخَه بالتوجُّه إلى الكعبة؛ امتحانًا؛ لكي يَعلمَ مَن يُطيع الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ممَّن يرتدُّ عن دِينه، وإنْ كان أمر تحويل القِبلة شاقًّا على النفوس وعظيمًا، إلَّا على مَن وفَّقه الله لطريق الهداية.
    إِلَّا لِنَعْلَمَ :أي: علمًا يتعلق به الثواب والعقاب، وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها. ولكن هذا العلم، لا يعلق عليه ثوابًا ولا عقابًا، لتمام عدله، وإقامة الحجة على عباده، بل إذا وجدت أعمالهم، ترتب عليها الثواب والعقاب، أي: شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن"مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ " من يؤمن به، فيتبعه على كل حال، لأنه عبد مأمور.فالمؤمن المنصف نسخ استقبال بيت المقدس كقبلة للصلاة والتوجُّه إلى الكعبة يزيده إيمانًا وطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم. وأما من انقلب على عقبيه- مثنى عقب وهو مؤخر القدم، وهي كناية عن الارتداد وعن الرجوع إلى الأمر الأول، وهو الكفر -، وأعرض عن الحق، واتبع هواه، فإنه يزداد كفرًا إلى كفره، وحيرة إلى حيرته، ويدلي بالحُجة الباطلة، المبنية على شبهة لا حقيقة لها.
    "وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ " " وَإِنْ كَانَتْ " أي: وإن كان صرفك عن استقبال بيت المقدس كقبلة للصلاة " لَكَبِيرَةً " أي: شاقة " إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ "يسيرة على الذين هداهم الله للحق ، فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم، وشكروا، وأقروا له بالإحسان، حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم، الذي فضله على سائر بقاع الأرض، وجعل قصده, ركنًا من أركان الإسلام, وهادما للذنوب والآثام, فلهذا خف عليهم ذلك, وشق على من سواهم.
    وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ " ثم طمْأنَ الله سبحانه المؤمنين بأنَّه عزَّ وجلَّ لن يُضيع ثوابَ صلاتهم إلى بيت المقدِس، قبل تحويل القِبلة، بل هو محفوظٌ عنده عزَّ وجلَّ؛ فهو سبحانه عظيم الرحمة بالنَّاس. ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة، فإن الله لا يضيع إيمانهم، لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها. ، وفي هذا دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح.فقد سمى التوجه للقبلة إيمان وهو عمل من أعمال الجوارح.

    إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ :والرأفة شدَّة الرَّحْمَة ومنتهاها، فالرَّؤُوف بِمَعْنى الرَّحِيم مَعَ الْمُبَالغَة فِيهِ.
    الفرق بين الرأفة والرحمة "والرَّأْفَةُ أَخصُّ وأَرَقُّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَلَا تَكاد تَقَعُ فِي الْكَرَاهَةِ، والرحمةُ قَدْ تَقَعُ فِي الْكَرَاهَةِ للمَصْلحةِ" لسان العرب:9:112.
    وقوله" إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ " أي: شديد الرحمة بهم عظيمها، فمن رأفته ورحمته بهم، أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها، وأن ميَّزَ عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه، وأن امتحنهم امتحانا، زاد به إيمانهم، وارتفعت به درجتهم، وأن وجههم إلى أشرف البيوت وأجلها.
    "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ"144.
    "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ" تَقَلُّبَ :تردده المرة بعد المرة في السماء، وهي مصدر الوحي وقبلة الدعاء.كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ يتشوّف لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ويقع في روعه أن ذلك كائن، لأن الكعبة قِبلة أبيه إبراهيم، وقد جاء بإحياء ملته وتجديد دعوته، ولأنها أقدم القبلتين، ولأن ذلك أدعى إلى إيمان العرب، وهم الذين عليهم المعول في إظهار هذا الدين، لأنهم أكثر الناس استعدادًا لقبوله، ولأنها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارًا ومطافًا، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، ولو لا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة، فَكَرِهَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قبلتهم.تفسير المراغي.
    عن البَراء بن عازبٍ رضي الله عنه، قال : كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، سِتَّةَ عَشَرَ أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحِبُّ أنْ يُوَجَّهَ إلى الكَعْبَةِ، فأنْزَلَ اللَّهُ "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ" فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ، .... صحيح البخاري.
    أي: يُؤكِّد الله تعالى لنبيِّه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ رُؤيتَه له وهو يتلفَّت محوِّلًا وجهَه في جِهات السماء؛ متلهِّفًا لنزول الوحي بخبَر تحويل القِبلة إلى الكعبة.
    "فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا "أي فلنوجهنَّك ولنجعلنّك تلي جهة عظيمةٍ تحبها وتتشوف لها وتطمئنُّ إليها في صلاتك غير جهة بيت المقدس.وتَرْضاها معناه تحبها وتقر بها عينك. تَرْضَاهَا: أي : تحبها وتقر بها عينك.
    فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ :أي اصرف وجهك - والمراد بالوجه هو الذات كلها- وَحوِّله بحيث يلي جهة المسجد الحرام " الشطر "، النحوَ والقصدَ والتّلقاء.. وفي ذكر "الْمَسْجِدِ الْحَرامِ" دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة حين الصلاة إذا كان بعيدًا عنها بحيث لا يراها، ولا يجب استقبال عينها إلا لمن يراها بعينه.
    وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ :ثم عمم القرآن الكريم هذا التشريع على الأمة الإسلامية جميعها.أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض ، شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا ، ولا يستثنى من هذا شيء ، سوى النافلة في حال السفر ، فإنه يصليها حيثما توجه قالبه ، وقلبه نحو الكعبة . وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال ، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده ، وإن كان مخطئًا في نفس الأمر ، لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها .
    وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ :أي: إنَّ اليهود والنَّصارى يَعلمون مِن كتُبهم أنَّ استقبال النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنين الكَعبةَ، أمرٌ حقٌّ، قد فرَضه الله سبحانه وتعالى.
    وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ: فهو العليم بالظاهر والباطن والمحاسب على ما في السرائر، والرقيب على الأعمال، فيجازي كل عامل بما عمل، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.ولا يخفَى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد لليهود على عنادهم، وإيقادهم نار الفتنة بين المؤمنين.

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة

    من آية 145إلى 150
    "وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ "145.
    والمعنى:لو أتيت - يا محمد- أهل الكتاب بكل برهان وحُجة ما آمنوا بدينك ولا اتبعوا قبلتك. لماذا؟ لأنهم لا يبحثون عن دليل ولا يريدون الاقتناع بصحة الدين الجديد.. ولو كانوا يريدون دليلا أو اقتناعا لوجدوه في كتبهم التي أنبأتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه النبي الخاتم وأعطتهم أوصافه..
    ولئن جئت- يا محمد- اليهود ومن على طريقتهم في الكفر بكل برهان وحُجة ما آمنوا بدينك ولا اتبعوا قبلتك ، لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة يزيلها الحجة والبرهان، وإنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من أنك على الحق المبين.
    وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ : إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به ، وأنه كما هم مستمسكون بآرائهم وأهوائهم ، فهو أيضًا مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته ، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ، وما كان متوجها إلى بيت المقدس ; لأنها قبلة اليهود ، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى .
    وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ : اليهود تستقبل بيت المقدس وهو المغرب ، والنصارى تستقبل المشرق، وقبلة المسلمين الكعبة.أي إن اليهود لا تترك قبلتها وتتجه إلى المشرق، والنصارى لا تغيّر قبلتها وتتجه إلى المغرب، لأن كلا منهما متمسك بما هو فيه، محقّا كان أو مبطلًا، ولا ينظر إلى حجة وبرهان.
    وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ:
    ثم ساق القرآن الكريم بعد ذلك تحذيرًا للأمة كلها من اتباع أهل الكتاب، وجاء هذا التحذير في شخص النبي صلّى الله عليه وسلّم
    أي ولئن وافقتهم فيما يريدون، فصليت إلى قبلتهم مداراة لهم وحرصًا على اتباعك والإيمان بك، بعد ما جاءك الحق اليقين، والعلم الذي لا شكّ فيه - لتكونن من جملة الظالمين - وحاشاك أن تفعل ذلك.تفسير المراغي.
    وأي ظلم أعظم, من ظلم, من علم الحق والباطل, فآثر الباطل على الحق، وهذا, وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم, فإن أمته داخلة في ذلك، وأيضًا, فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم لو فعل ذلك -وحاشاه- صار ظالمًا مع علو مرتبته, وكثرة حسناته فغيره من باب أولى وأحرى.تفسير السعدي.
    "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ "146.
    هذا كالدليل لما ذُكر في قوله تعالى" وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ" البقرة 144. فكأنه قال: إن سبب العلم بأنه الحق، أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبهم من البشارة به ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره، كما يعرفون أبناءهم الذين يربّونهم ويحوطونهم بعنايتهم، فلا يفوتهم شيء من أمرهم.تفسير المراغي.
    فمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم, وصلت إلى حد لا يشُكُّون فيه ولا يمترون، ولكن فريقًا منهم - وهم أكثرهم - الذين كفروا به, كتموا هذه الشهادة مع تيقنها, وهم يعلمون " ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ"البقرة :140.
    وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ :
    أي وإن فريقًا منهم عاندوا وكتموا الحق الذي يعرفونه، من أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي، وأن الكعبة قِبْلَة، وأضاف الكتمان إلى فريق منهم، لأنهم لم يكونوا كلهم كذلك، إذ منهم من اعترف بالحق وآمن به واهتدى، ومنهم من كان يجحده عن جهل، لأنهم كفروا به تقليدًا، ولو علموا به حق العلم لجاز أن يقبلوه.
    قال عبد الله بن سلام لليهود في حديث طويل " ............. يا مَعْشَرَ اليَهُودِ، اتَّقُوا اللَّهَ؛ فَواللَّهِ الذي لا إلَهَ إلَّا هُوَ، إنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أنَّه رَسولُ اللَّهِ، وأنَّهُ جاءَ بحَقٍّ، ....."الراوي : أنس بن مالك - صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم : 3911 .
    "أنَّ اليَهُودَ جَاؤُوا إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم برَجُلٍ منهمْ وامْرَأَةٍ قدْ زَنَيَا، فَقَالَ لهمْ: كيفَ تَفْعَلُونَ بمَن زَنَى مِنكُمْ؟ قالوا: نُحَمِّمُهُما ونَضْرِبُهُمَا، فَقَالَ: لا تَجِدُونَ في التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ؟ فَقالوا: لا نَجِدُ فِيهَا شيئًا، فَقَالَ لهمْ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ، فَأْتُوا بالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَوَضَعَ مِدْرَاسُهَا الذي يُدَرِّسُهَا منهمْ كَفَّهُ علَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَطَفِقَ يَقْرَأُ ما دُونَ يَدِهِ وما ورَاءَهَا، ولَا يَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ، فَنَزَعَ يَدَهُ عن آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَالَ: ما هذِه؟! فَلَمَّا رَأَوْا ذلكَ قالوا: هي آيَةُ الرَّجْمِ، فأمَرَ بهِما فَرُجِما قَرِيبًا مِن حَيْثُ مَوْضِعُ الجَنَائِزِ عِنْدَ المَسْجِدِ، فَرَأَيْتُ صَاحِبَهَا يَحْنِي عَلَيْهَا يَقِيهَا الحِجَارَةَ.."الراوي :عبدالله بن عمر- صحيح البخاري .الدرر السنية.

    نُحَمِّمُهما ونَضْرِبُهما، أي: نُسوِّدُ وُجوهَهما بالحُممِ -وهو الفَحْمُ- ونَضرِبُهما.

    حرَّفَ أهلُ الكتابِ مِنَ اليهودِ والنَّصارى كُتبَهمُ المُنْزَلةَ عليهم، فحَذَفوا وغيَّروا وأدْخَلوا فيها ما ليس منْها، وما بَقِيَ منه لم يَعمَلُوا به، وأخفَوْه وكتَمُوه وهمْ يَعلَمونَ.

    وفي هذا الحديثِ صُورةٌ مِن صُوَرِ جُحودِ اليهودِ وكِتمانِهم ما أنْزَلَ اللهُ تعالى عليهم مِنَ التَّوراةِ.

    فسألهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الرَّجمِ :لا تَجِدُونَ في التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ؟:وإنما سألهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُلزِمَهم بما يعتَقِدونَه في كتابِهم الموافِقِ لحُكمِ الإسلامِ إقامةً للحُجَّةِ عليهم، لا لتقليدِهم ومَعرفةِ الحُكمِ منهم.فأنكروا وجود حكم الرجم في كتابهم وأخفوه.وكان عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رضِي اللهُ عنه مِن عُلمائِهم قبْلَ إسلامِه، فرَدَّ عليهم، وقال لهمْ: كذبْتُم، فَأْتوا بِالتَّوراةِ فَاتْلُوها إنْ كُنتُم صادقِينَ؛ فإنَّ ذلك موجودٌ فيها لم يُغَيَّرْ.الدرر.
    "الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ "147.
    أي: اعلمْ يا محمَّد، أنَّ الحقَّ وحده هو الذي جاءك من ربِّك، لا ما يقوله اليهود أو النَّصارى، أو غيرهم؛ فلا يحصُل لك أدنى تردُّدٍ وريبةٍ فيه.موسوعة التفسير .الدرر السنية.
    فالقبلة التي وجهك نحوها هي القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم ومن بعده من الأنبياء، فاعمل بما أمرك ربك ولا تلتفت إلى أوهام الجاحدين، فلا يحصل لك أدنى شك وريبة فيه،فتمتري وتشك في الحق بعد ما تبين.
    والنهى في هذه الآية كالوعيد في "وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم ....."، موجه فيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد من كانوا غير راسخي الإيمان من أمته، ممن يخشى عليهم أن يغترّوا بزخرف القول من أولئك المخادعين الذين جعلوا همهم إشعال نار الفتنة بين المؤمنين.تفسير المراغي.
    "وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" 148.
    " وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا "أي ولكل أمة جهة توليها في صلاتها، فإبراهيم وإسماعيل كانا يوليان نحو الكعبة، وبنو إسرائيل كانوا يستقبلون صخرة بيت المقدس، والنصارى كانوا يستقبلون المشرق، فأي شبهة تتجه من المشاغبين في أمر تحويل القبلة وكيف يكون ذلك مسوّغا للطعن في النبي وشرعه، فالقبلة إذًا من المسائل التي اختلفت باختلاف الأمم، فليست الجهة أساس من أسس الدين كتوحيد الله والإيمان بالبعث والجزاء، فالواجب فيها التسليم لأمر الوحي كما هو الشأن في أمثالها كعدد الركعات، ومقدار النصيب الواجب في الزكاة.تفسير المراغي.
    فالقبلة, فإنه من الشرائع التي تتغير بها الأزمنة والأحوال, ويدخلها النسخ والنقل, من جهة إلى جهة، ولكن الشأن كل الشأن, في امتثال طاعة الله, والتقرب إليه, وطلب الزلفى عنده، وهو الذي خلق الله له الخلق, وأمرهم به."وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"الذاريات 56.أي خلقَهم لعبادتِه وطاعته ، خلقَهم ليعبدوه وحدَه لا شريكَ له.
    فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ : والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها, يتضمن فعلها, وتكميلها, وإيقاعها على أكمل الأحوال, والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات, فهو السابق في الآخرة إلى الجنات, فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل, من صلاة, وصيام, وزكوات وحج, عمرة, وجهاد, ونفع متعد وقاصر. ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير, وينشطها, ما رتب الله عليها من الثواب قال: أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا:أي: في أي بقعة يدرككم الأجل، وتموتون فيها، يجمعكم الله- تعالى- يوم القيامةبقدرته,فهو لا يعجزه أن يحشر الناس يوم الجزاء مهما بعدت بينهم المسافات. وتناءت بهم الديار والجهات. فيجازي كل عامل بعمله. وفي هذا وعد لأهل الطاعة، ووعيد لأهل المعصية.
    إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: ثم وصف نفسه تعالى بالقدرة على كل شيء لتناسب الصفة مع ما ذُكِرَ من الإعادة بعد الموت والبلى .قادر على جمعكم بعد مماتكم من قبوركم حيث كنتم، وإن تفرقت أجسادُكم وأبدانُكم، كما أنه- سبحانه- قدير على كل شيء.
    "وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"149.
    هذا تأكيد لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره .أي: ومن أي موضع خرجت وإلى أي مكان آخر سرت، فول- يا محمد- وجهك عند صلاتك إلى المسجد الحرام، وإن هذا التوجه شطره لهو الحق الذي لا شك فيه عند ربك .
    والخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد أيضًا أمته،لذا قال سبحانه: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ: أي فالله ليس بساه عن أعمالكم وإخلاصكم في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يجىء به من أمر الدين، بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم غير مغفول عنها, بل مجازون عليها أتم الجزاء, إن خيرًا فخير, وإن شرًا فشر.
    " وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" 150.
    أى: ومن أي مكان خرجت- يا محمد- فول وجهك تلقاء المسجد الحرام، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله، فولوا وجوهكم في صلاتكم تجاهه ونحوه.
    وتلك هي المرة الثالثة التي تكرر فيها الأمر للمؤمنين بالتوجه إلى المسجد الحرام في صلاتهم، وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده لأن تحول القبلة كان أول نسخ في الإسلام- كما قال كثير من العلماء- فاقتضى الأمر تأكيده في نفوس المؤمنين حتى يستقر في مشاعرهم، ويُذهب ما يثار حولها من شبهات أدراج الرياح، ولأن الله- تعالى- أناط بكل واحد من هذه الأوامر الثلاثة بالتحول ما لم ينط بالآخر من أحكام فاختلفت فوائدها، فكأنه- سبحانه- يقول لنبيه- صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين،الزموا هذه القبلة لأنها هي القبلة التي ترضونها وترغبون فيها وطالما تمنيتموها، والزموها- أيضا- لأنها هي القبلة التي لن تنسخ بعد ذلك.
    والزموها- كذلك- لأن لزومكم إياها يقطع حجة اليهود الجاحدين، وغيرهم من المعاندين والخاسرين.
    وقد اقترن هذا الأمر الثالث بالتوجه إلى المسجد الحرام في هذه الآية الكريمة بحكم ثلاث.
    أولها: قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ :أي: حوَّلنا قِبلتَكم إلى الكَعبة؛ كي لا يحتجَّ اليهودُ عليكم قائلين: إنكم ما دُمتم قد وافقتمونا في قِبلتنا نحو بيت المقدس، فلِمَ تَعيبون دِينَنا، ولِمَ لا تتبعون ملَّتَنا؟ لكن ستبقى حُجَّة الظالمين- وهم مشركو قريش- الذين يحتجُّون عليكم بالباطل قائلين: إنكم ما دُمتم قد عُدتم إلى قِبلتنا، فلا بدَّ أن تتَّبعوا دِيننا
    فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي :أي: لا تخشَوا هؤلاء الظلمةَ المتعنتين، ولا حُجَجهم الباطلة، وأفرِدوا الخشية لي؛ فإنِّي وحْدي المستحقُّ لذلك .
    وثانيها: قوله تعالى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ:أي: شرَعت لكم استقبال الكعبة؛ لأُكمل لكم شرائعَ ملَّتكم الحَنيفيَّة بإعطائكم قبلة مستقلة في بيت ربكم الذي وضع قواعده جدكم إبراهيم عليه السلام، وجعل الأمم الأخرى تبعًا لكم فيه، وطَهَرَهُ من عِبَادَةِ الأوثان والأصنام.
    وثالثها: قوله- تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ : أي: ومن أسباب تحويل القبلة إلى الكعبة أنْ ترجُوا بامتثال أوامر الله تعالى نيلَ هُداه، فتنتبهون وتعلمون الحق وتعملون به؛ ابتغاءَ رِضاه ،والهداية هي الطريق المستقيم الموصل إلى الغاية ،وغاية هذه الحياة هي أن تصل إلى نعيم الآخرة بامتثال أوامر الله عز وجل.الوسيط ومصادر أخرى.

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة


    من آية 151إلى 157
    "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ" 151.
    يقول تعالى: إن إنعامنا عليكم باستقبال الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم المتممة, ليس ذلك ببدع من إحساننا, ولا بأوله, بل أنعمنا عليكم من قبل بإرسال هذا الرسول الكريم لكم ،وهو منكم, تعرفون نَسبَهُ وأخلاقَهُ الفاضلة وصدقه, وأمانته وكماله ونصحه.
    يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا: وهذا يَعُم الآيات القرآنية وغيرها، فهو يتلو عليكم الآيات المبينة للحق من الباطل, والهدى من الضلال, التي دلتكم أولًا, على توحيد الله وكماله, ثم على صدق رسوله, ووجوب الإيمان به, ثم على جميع ما أخبر به من المعاد والغيوب, حتى حصل لكم الهداية التامة, والعلم اليقيني.
    وَيُزَكِّيكُمْ : أي يطهر نفوسَكُم من أدران الرذائل التي كانت فاشية في العرب من عبادة الأصنام ومن وأد البنات والخمر والميسر والربا، وقتل الأولاد تخلصًا من النفقة، وسفك الدماء لأوهن الأسباب، ويغرس فيها فاضل الأخلاق وحميد الآداب. بتربيتها على الأخلاق الجميلة, وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة, وذلك كتزكيتكم وتطهيركم من الشرك, إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص, ومن الكذب إلى الصدق, ومن الخيانة إلى الأمانة, ومن الكِبر إلى التواضع, ومن سوء الخلق إلى حُسن الخلق, ومن التباغض والتهاجر والتقاطع, إلى التحاب والتواصل والتواد, وغير ذلك من أنواع التزكية.
    وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ : وإذا أشرقت النفوس بنور الحق، وتحلت بالأخلاق الحميدة، قويت على تلقي ما يَرِد عليها من الحقائق السامية. المراد بالكتاب: القرآن، وتعليمه بيان ما يخفى من معانيه، فهو غير التلاوة، فلا تكرار بين قوله يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وبين قوله وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ.

    وَالْحِكْمَةَ: السنة ، أي ما يصدر عنه صلّى الله عليه وسلّم من الأقوال والأفعال التي جعل الله للناس فيها أسوة حسنة.
    وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ: أي ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي. ومما لم يكونوا يعلمونه وعلمهم إياه صلّى الله عليه وسلّم مثل وجوه استنباط الأحكام من النصوص أو الأصول المستمدة منها، وأخبار الأمم الماضية، وقصص الأنبياء، وغير ذلك مما لم تستقل بعلمه عقولهم. وبهذا النوع من التعليم صار الدين كاملا قبل انتهاء عهد النبوة.
    ولقد كان العرب قبل الإسلام في حالة شديدة من ظلام العقول وفساد العقائد ...
    فلما أكرمهم الله- تعالى- برسالة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وتلا عليهم الآيات، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، خرج منهم رجال صاروا أمثالًا عالية في العقيدة السليمة، والأخلاق القويمة والأحكام العادلة، والسياسة الرشيدة لمختلف البيئات والنزعات.تفسير الوسيط.

    "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ "152.
    أي: عليكم بذِكري في مقابل تلك النعم التي تقدَّم ذكرها. وهذا الذِّكر المأمور به عامٌّ يَشملُ ذِكْرَ اللهِ قولًا باللِّسانِ، وعملًا بالقلبِ وبالجوارحِ، أَذْكُرْكُمْ ووعد عليه أفضل جزاء على هذا الذِّكر ، وهو أن يَذكُر هو سبحانَه مَن ذكَره.
    "يقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. "الراوي : أبو هريرة- صحيح البخاري.
    وفي الحَديثِ: التَّرغيبُ في حُسنِ الظَّنِّ باللهِ تَعالَى. وفيه: بَيانُ أنَّ الجَزاءَ من جِنسِ العَمَلِ.الدرر السنية.
    وهذه أفضل تربية من الله لعباده، إذا ذكروه ذكرهم بإدامة النعمة والفضل، وإذا نسوه نسيهم وعاقبهم بمقتضى العدل.
    وبعد أن أعلمهم ما يحفظ النعم، أرشدهم إلى ما يوجب المزيد منها بمقتضى الجود والكرم فقال: وَاشْكُرُوا لِي:
    أي: اشكُروني على ما مَنحتُكم من نِعمٍ بأن تستعملوا النعم في طاعته سبحانه، باللِّسانِ وبالقلب والجوارح، ولا تجحدوا إحساني إليكم. ومن أعظمِ ذلك: نِعمةُ الإسلام، وإرسالُ محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسلام، والهدايةُ إلى الشَّرائع الصَّحيحة، ومنها استقبالُ الكعبة الشريفة فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة, وزيادة في النعم المفقودة، قال تعالى:
    "لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ " إبراهيم:7.
    ولما كان الشكر ضده الكفر, نهى عن ضده فقال " وَلَا تَكْفُرُونِ"
    المراد بالكفر هاهنا ما يقابل الشكر, فهو كفر النِّعم وجحدها، ويحتمل أن يكون المعنى عامًّا, فيكون الكفر أنواعًا كثيرة, أعظمه الكفر بالله, ثم أنواع المعاصي, على اختلاف أنواعها وأجناسها, من الشرك, فما دونه.تفسير السعدي.
    وهذا تحذير لهذه الأمة حتى لا تقع فيما وقع فيه بعض الأمم السابقة التي فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.
    "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"153.
    بعد أن أمر- سبحانه- عباده بذكره وشكره، وجه نداء إليهم بيَّنَ لهم فيه ما يعينهم على ذلك، كما بين لهم عاقبة الصابرين على البلاء.
    فالصبر هو: حبس النفس وكفها عما تكره, فهو ثلاثة أقسام: صبرها على طاعة الله حتى تؤديها, وعن معصية الله حتى تتركها, وعلى أقدار الله المؤلمة فلا تتسخطها، فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر.
    وَالصَّلَاةِ : الصَّلاةُ أعظمُ أركانِ الإسلامِ العَمليَّةِ، ولها أهمِّيَّتُها الخاصَّةُ في الشَّرعِ، وفيها مِن الرُّوحانيَّاتِ والصِّلةِ باللهِ ما يَجْعَلُ القلبَ يَرْتاحُ ويَخْرُجُ مِنْ متاعبِ الدُّنيا إلى مَعِيَّةِ الحَقِّ سُبْحانَه، وقد جعلتُ قُرَّةُ عينِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّلاةِ.
    "وجعلَتْ قرةُ عَيني في الصلاةِ "الراوي : أنس بن مالك -المحدث : الألباني- المصدر : صحيح النسائي.
    فلا شيءَ يُسعِدُه ويُدخِلُ عليه السُّرورَ بمِثْلِ ما تُدخِلُ عليه الصَّلاةُ؛ فقُرَّةُ العينِ يُعبَّرُ بها عنِ المَسرَّةِ ورؤيةِ ما يُحِبُّه الإنسانُ.وهي عبادةٌ جليلةٌ فيها تَصْفو بها الرُّوحُ مِن الكَدَرِ والمُنغِّصاتِ النَّفسيَّةِ، وفيها يَقِفُ العبدُ بينَ يدَيْ ربِّه ويَدْعوه لِتَفريجِ هُمومِه؛ فهو وحْدَه القادِرُ على إزالةِ الهمِّ والحزنِ وتسهيلِ الصِّعابِ. وفي الحديث: بَيانُ عِظَمِ قَدْرِ الصَّلاةِ عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وأنَّها يَنبغي أنْ تكونَ الأَوْلَى عندَ كلِّ مسلِمٍ .الدرر السنية.
    عن حذيفةَ قالَ : كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إذا حزبَهُ أمرٌ صلَّى " المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود.
    وهذا مِن تعليمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم لأمَّتِه، فإنَّه يُعلِّمُنا حُسْنَ التَّوكُّلِ على اللهِ واللُّجوءَ إليه في كلِّ الأمورِ.
    " يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها "الراوي : سالم بن أبي الجعد -المحدث : الألباني- المصدر : صحيح أبي داود.
    وطَلَبُ الرَّاحةِ في الصَّلاةِ يَصْدُرُ ممَّنْ كان خاشعًا فيها ومُحِبًّا لها، وإنْ كانت ثَقيلةً على البعضِ؛ كما قال اللهُ"وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ" البقرة: 45.
    وفي الحَديثِ: أنَّ الصَّلاةَ راحةٌ للقَلْبِ مِنْ تَعَبِ الدُّنيا ومَشاغِلِها.
    "الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمانِ،..... والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها."الراوي : أبو مالك الأشعري- المحدث : مسلم- المصدر : صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم : 223.
    والصَّلاةُ نُورٌ : قيل: المَعنَى: إنَّ من أجرِها أن يَجعَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ نورًا لصاحِبِها يَومَ القيامةِ، ويَكونُ في الدُّنيا أيضًا على وَجهِه البَهاءُ، بخِلافِ مَن لم يُصَلِّ، وقيل: هي تَمنَعُ منَ المَعاصي وتَنهَى عنِ الفَحشاءِ والمُنكَرِ، وتَهدي إلى الصَّوابِ، كما أنَّ النُّورَ يُستَضاءُ به، وقيل: كُلُّ هذا؛ فهي نُورٌ للعَبدِ في قَلبِه، وفي وَجهِه، وفي قَبرِه، وفي حَشرِه.
    والصَّبْرُ ضِياءٌ"، والضِّياءُ هو النُّورُ الذي يَحصُلُ فيه نَوعُ حَرارةٍ وإحراقٍ، كضياءِ الشَّمسِ، بخِلافِ القَمَرِ؛ فإنَّه نورٌ مَحضٌ، فيه إشراقٌ بغَيرِ حَرارةٍ، ولمَّا كان الصَّبرُ شاقًّا على النُّفوسِ يَحتاجُ إلى مُجاهدةِ النَّفسِ وحَبسِها وكَفِّها عمَّا تَهواهُ، كان ضياءً.الدرر السنية.
    إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ : أي: مع من كان الصبر لهم خلقا, وصفة, وملكة بمعونته وتوفيقه, وتسديده، أي: إنَّه سبحانه وتعالى مع الصَّابرين معيَّةً خاصَّةً تَقتضي قُربَه منهم، ومحبَّتَه لهم، ونصْرهم وتأييدَهم، وإعانتهمفهانت عليهم بذلك, المشاق والمكاره, وسهل عليهم كل عظيم, وزالت عنهم كل صعوبة، وهذه منقبة عظيمة للصابرين، فلو لم يكن للصابرين فضيلة إلا أنهم فازوا بهذه المعية الخاصة من الله, لكفى بها فضلًا وشرفًا.تفسير السعدي.
    الفرق بين المعية الخاصة والعامة:المعيَّةُ الخاصَّةُ : هي للمُتَّقينَ والصَّابرينَ والمحسِنينَ، فهذه المعيَّةُ الخاصَّةُ هي بالنَّصرِ والتَّوفيقِ والإعانةِ والتسديدِ ونحوِ ذلك.كقوله تعالى "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ "النحل: 128 ،" إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ " البقرة: 153. ،" لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا "التوبة: 40.
    والمعيَّةُ العامَّةُ : عامة للمؤمنِ والكافرِ، وأمَّا المعِيَّةُ العامَّةُ فبالسَّمعِ والبَصَرِ والعِلمِ ، وهي المذكورةُ في قَولِه" مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ" إلى قَولِه" وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْأَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "المجادلة: 7 ، "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ "الحديد: 4 ؛ لأنَّ جميعَ الكائناتِ بسَمواتِها وأرضِها في يدِ خالِقِ السَّمَواتِ والأرضِ أصغَرُ مِن حَبَّةِ خَردَلٍ، فهو مع جميعِها بالإحاطةِ الكامِلةِ العَظيمةِ، وبالإحاطةِ العِلميَّةِ ونُفوذِ التصَرُّفِ كما لا يخفى.الموسوعة العقدية/الدرر السنية.ومصادر أخرى.

    "وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ "154.
    لما ذكر تبارك وتعالى، الأمر بالاستعانة بالصبر على جميع الأمور ذكر نموذجًا مما يُستعان بالصبر عليه, وهو الجهاد في سبيله, وهو أفضل الطاعات البدنية, وأشقها على النفوس, لمشقته في نفسه, ولكونه مؤديًا للقتل, وعدم الحياة, التي إنما يرغب الراغبون في هذه الدنيا لحصول الحياة ولوازمها، فكل ما يتصرفون به, فإنه سعى لها, ودفع لما يضادها. ومن المعلوم أن المحبوب لا يتركه العاقل إلا لمحبوب أعلى منه وأعظم، فأخبر تعالى: أن من قتل في سبيله, بأن قاتل في سبيل الله, لتكون كلمة الله هي العليا, ودينه الظاهر, لا لغير ذلك من الأغراض, فإنه لم تفته الحياة المحبوبة, بل حصل له حياة أعظم وأكمل, مما تظنون وتحسبون. فالشهداء " وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ "آل عمران الآيات 169-170.فهل أعظم من هذه الحياة المتضمنة للقرب من الله تعالى, وتمتعهم برزقه البدني في المأكولات والمشروبات اللذيذة, والرزق الروحي, وهو الفرح، والاستبشار وزوال كل خوف وحزن، وهذه حياة برزخية أكمل من الحياة الدنيا. تفسير السعدي.
    وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ : أي: لا تحسون ولا تدركون حالهم بالمشاعر، لأنها من شؤون الغيب التي لا طريق للعلم بها إلا الوحي.
    "وَلَنَبْلُوَنَّ كُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ " 155.
    وبعد أن أمر- سبحانه- عباده أن يستعينوا بالصبر والصلاة على احتمال المكاره، أردف ذلك بذكر بعض المواطن التي لا يمر فيها الإنسان بسلامة إلا إذا اعتصم بعرى الصبر.
    فأخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي -والبلاء وهو الامتحان والاختبار- عبادَهُ بالمحنِ, ليتبين الصادقَ منَ الكاذبِ, والجازعَ مِنَ الصابرِ, ولتمييز أهل الخير من أهل الشر وهذه سنته تعالى في عباده.
    قوله: بِشَيْءٍ: للتقليل.أي بشيء يسير من كل واحد من هذه البلايا والمحن المذكورة.لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله, أو الجوع, لهلكوا, والمحن تمحص لا تهلك.
    والمعنى: ولنصيبنكم بشيء من الخوف وبشيء من الجوع، وبشيء من النقص في الأنفس والأموال والثمرات، ليظهر هل تصبرون أو لا تصبرون، فنرتب الثواب على الصبر والثبات على الطاعة، ونرتب العقاب على الجزع وعدم التسليم لأمر الله- تعالى-.
    ولقد حدث للمسلمين الأولين خوف شديد بسبب تألب أعدائهم عليهم كما حصل في غزوة الأحزاب. وحدث لهم جوع أليم وقلة ذات يدهم .عن عبد الله بن شقيق قال : أقمتُ مع أبي هريرةَ بالمدينةِ سنةً ، فقالَ لي ذاتَ يَومٍ ونحنُ عندَ حُجرةِ عائشةَ : لقد رأيتُنَا وما لَنا ثيابٌ إلَّا البُرُدُ المُتفتِّقَةُ ، وإنَّه لَيأتي على أحدِنا الأيَّامُ ما يجدُ طعامًا يُقيمُ بهِ صُلبَه حتَّى إن كانَ أحدُنا لِيأخذُ الحجَرَ فيَشدُّ بهِ على أخْمَصِ بطنِه ، ثمَّ يشُدُّه بثوبِه ليُقيمَ صُلبَه."الراوي : أبو هريرة- المحدث : الألباني -المصدر : صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم : 3307 - خلاصة حكم المحدث : صحيح موقوف .
    "أنَّ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ يُقَالُ له أبو شُعَيْبٍ، كانَ له غُلَامٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ له أبو شُعَيْبٍ: اصْنَعْ لي طَعَامَ خَمْسَةٍ لَعَلِّي أدْعُو النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وأَبْصَرَ في وجْهِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الجُوعَ، فَدَعَاهُ فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ هذا قَدِ اتَّبَعَنَا، أتَأْذَنُ له؟، قَالَ: نَعَمْ. "الراوي : أبو مسعود عقبة بن عمرو- المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري .
    . وحدث لهم نقص في أموالهم بسبب اشتغالهم بإعلاء كلمة الله. وحدث لهم نقص في أنفسهم بسبب قتالهم لأعدائهم. ولكن كل هذه الآلام لم تزدهم إلا إيمانًا وتسليمًا لقضاء الله وقدره، واستمساكًا بتعاليم دينِهِم.
    وفي الآية إيماء إلى أن الانتساب إلى الإيمان لا يقتضى سعة الرزق وبسط النفوذ وانتفاء المخاوف.
    ومع هذا فإن من الهدي سؤال الله العافية :
    "لم يَكُنْ رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - يَدَعُ هؤلاءِ الكَلِماتِ حين يُمْسِي وحين يُصْبِحُ : اللهم ! إني أَسْأَلُكَ العافيةَ في الدنيا والآخرةِ، اللهم ! إني أَسْأَلُكَ العَفْوَ والعافيةَ في دِينِي ودُنْيَايَ، وأهلي ومالي، اللهم ! اسْتُرْ عَوْراتِي وآمِنْ رَوْعاتِي، اللهم ! احْفَظْنِي من بينِ يَدَيَّ، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعَظَمَتِكَ أن أُغْتالَ من تحتي ؛ يعني : الخَسْفَ "الراوي : عبدالله بن عمر - المحدث : الألباني - المصدر : هداية الرواة -صحيح.
    قامَ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ على المنبرِ ثمَّ بَكى فقالَ: قامَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلم عامَ الأوَّلِ على المنبرِ ثمَّ بَكى فقالَ سلوا اللَّهَ العفوَ والعافيةَ فإنَّ أحدًا لم يُعطَ بعدَ اليقينِ خيرًا منَ العافيةِ "الراوي : رفاعة بن عرابة الجهني - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي- الصفحة أو الرقم : 3558- خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح .
    الشرح: "سَلُوا اللهَ"، أي: اطلُبوا في دُعائِكم مِن اللهِ، "العفوَ"، أي: مَحْوَ الذُّنوبِ وسَتْرَ العيوبِ، "والعافيةَ"، أي: السَّلامةَ في الدِّينِ مِن الفِتنةِ، وفي البَدنِ مِن الأمراضِ، أو السَّلامةَ في الدُّنيا مِن النَّاسِ وشُرورِهم، وأن يُعافِيَك اللهُ مِنهم ويُعافِيَهم منك؛ "فإنَّ أحَدًا لم يُعطَ بعدَ اليَقينِ"، أي: بعد الإيمانِ والبصيرةِ في الدِّينِ "خيرًا مِن العافيةِ"، فكان هذا الدُّعاءُ مِن جَوامعِ الدُّعاءِ.الدرر السنية.
    ولكن لنحذر من الخوف المفتعل من المجهول ومن المستقبل وأنه قد يقع بلاء كذا أو كذا فآفة الناس أنهم يعيشون في المصائب قبل وقوعها، وبذلك يكبر حجم المصيبة بالتوجس منها والرهبة من مواجهتها؟ إنك لو توكلت على الله وسألت الله العافية قد لا تقع ، ولو وقعت المصيبة فهو برحمته ينزل معها اللطف، فكأنك إن عشت في المصيبة قبل أن تقع، فأنت تعيش في المصيبة وحدها معزولة عن اللطف المصاحب لها.
    "تنزِلُ المعونَةُ مِنَ السماءِ علَى قَدْرِ المؤْنَةِ ، وينزلُ الصبرُ على قدرِ المصيبةِ"الراوي : أبو هريرة- المحدث : الألباني- المصدر : صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 3001- خلاصة حكم المحدث : صحيح.
    الشرح: "تنزلُ المَعونةُ"، أي: الإعانةُ بجَميعِ صُوَرِها؛ مِن مالٍ وغيرِه، " مِن السَّماءِ"، أي: يُنَزِّلُها اللهُ عزَّ وجلَّ على العبْدِ "على قدْرِ المُؤْنةِ"، والمُؤْنةُ هي القُوتُ الذي يُحتاجُ إليه، وقِيل: هي الشِّدَّةُ والتَّعبُ، والمعنى: أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُنَزِّلُ للعبْدِ رِزقَه على قدْرِ حاجتِه.وعِمادُ ذلك طلَبُ المَعونةِ مِن اللهِ تعالى بصِدقٍ وإخلاصٍ.
    " ويَنزِلُ الصَّبرُ"، أي: يأْتي مِن اللهِ تعالى للعبْدِ المُصابِ، "على قَدْرِ المُصيبةِ"؛ فإنْ عظُمَت المُصيبةُ أفرَغَ اللهُ عليه صبْرًا كثيرًا؛ لُطْفًا منه تعالى به؛ لئلَّا يَهلِكَ جَزعًا، وإنْ خفَّتَ فبقَدْرِها.
    وفي الحَديثِ: إرشادٌ إلى الاعتِصامِ بحَولِ اللهِ وقوَّتِه، وتَوجيهِ الرَّغباتِ إليه بالسُّؤالِ والابتهالِ.الدرر السنية.
    نسأل الله السلامة والعافية من كل بلاء.
    وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ: أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب.
    القائلين إذا أصابتهم مصيبة:
    " الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"156.
    قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ :أي: مملوكون لله, مدبرون تحت أمره وتصريفه.
    ومع أننا مملوكون لله, فإنا إليه راجعون يوم المعاد, فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفورًا عنده، وإن جزعنا وسخطنا, لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله, وراجع إليه, من أقوى أسباب الصبر.تفسير السعدي.
    يقولون هذه المقالة المعبرة عن الإيمان بالقضاء والقدر - بالظفر بحسن العاقبة في أمورهم كلها بحسب ما وضع من السنن في الكون. والصبر لا ينافي ما يحدث من الحزن حين حلول المصيبة، فإن ذلك من الرقة والرحمة الطبيعيين في الإنسان.تفسير المراغي.
    قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وبشّر، يا محمد، الصابرين الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمنّي, فيُقرون بعبوديتي, ويوحِّدونني بالربوبية, ، ويصدقون بالمعاد والرجوع إليّ فيستسلمون لقضائي, ويرجون ثَوابي، ويخافون عقابي.تفسير الطبري.
    "أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" 157.
    أُولَٰئِكَ :الموصوفون بالصبر المذكور.
    عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ :أي: إنَّ هؤلاءِ الصَّابرين المبشَّرين الذين يقولون: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، لهم من الله تعالى ثناءٌ عليهم وتنويهٌ بشأنهم، وتتنزَّل عليهم منه سبحانه الرَّحمات.
    "ما مِن مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فيَقولُ ما أمَرَهُ اللَّهُ"إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"البقرة: 156، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْها، إلَّا أخْلَفَ اللَّهُ له خَيْرًا مِنْها ...."الراوي : أم سلمة أم المؤمنين - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم : 918.
    "إذا أصابَت أحدَكُم مُصيبةٌ فليقُل : إنَّا للَّهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ ، اللَّهمَّ عندَكَ أحتسِبُ مُصيبتي ، فآجِرني فيها ، وأبدِل لي بِها خيرًا مِنها "الراوي : أم سلمة أم المؤمنين - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود -الصفحة أو الرقم: 3119 - خلاصة حكم المحدث : صحيح .
    الشرح: أمَرَنا اللهُ عزَّ وجلَّ بالصَّبرِ عند المصائِبِ، ومِمَّا يُعينُ على الصَّبرِ ما أخبَر به النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في هذا الحديثِ بقولِه: "إذا أصابَت أحدَكم مُصيبَةٌ"، أي: إذا وقَعَ على الإنسانِ ما يَكرَهُ ويتَأذَّى منه، وليس له القُدرَةُ على دَفْعِه؛ "فليَقُلْ: إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجِعون"، أي: إيمانًا منه وتَسْليمًا بقَضاءِ اللهِ وقدَرِه على ما أصابَه، فنحن مَملُوكون للهِ وعَبيدٌ له، وإليه عزَّ وجلَّ نَرجِعُ في حَوْلِنا وقوَّتِنا، "اللَّهمَّ عِندَك أحتَسِبُ مُصيبَتي"، أي: أجعَلُ أجرَها وجزاءَ ما بُليتُ به عندَك لا عندَ أحدٍ سِواكَ، "فأْجُرْني فيها"، أي: فاجعَلْ لي فيما أصابَني يا أللهُ أجْرًا وثَوابًا في الآخِرَةِ، "وأبدِلْ لي بها خيرًا منها"، أي: أبدِلْ تلك المُصيبَةَ الَّتي وقعَتْ بي بنعمَةٍ خيرًا مِنها وأفضَلَ في الدُّنيا، فيكونُ العبْدُ بذلك إذا ما حلَّتْ به مصيبَةٌ فإنَّه يَطلُبُ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ بها ثَوابًا في الآخِرَةِ ونعمَةً في الدُّنيا بعد الثَّناءِ على اللهِ والخضُوعِ له، فيَجمَعُ بينَ الخيرَينِ فضْلًا مِن اللهِ ونعمَةً.
    وفي الحديثِ: الأمرُ باللُّجوءِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ عندَ المصيبةِ بالصَّبرِ والذِّكرِ والدُّعاءِ.الدرر السنية.
    وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ : وهؤلاء هم الذين عرفوا الحق وعملوا به , وهو في هذا الموضع, علمهم بأنهم لله, وأنهم إليه راجعون, وعملوا به وهو هنا صبرهم لله.
    فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها, لتخف وتسهل, إذا وقعت، وبيان ما تقابل به, إذا وقعت, وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر, وما للصابر من الأجر، ويعلم حال غير الصابر, بضد حال الصابر.تفسير السعدي.

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة


    من آية 158إلى 162.
    "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ "158.
    قال الآلوسي: بعد أن أشار- سبحانه- فيما تقدم إلى الجهاد عقَّبَ ذلك ببيان معالِم الحج، فكأنه جمع بين الحج والغزو، وفيهما شق الأنفس وتلف الأموال. وقيل لما ذكر الصبر عقَّبه ببحث الحج لما فيه من الأمور المحتاجة إليه.ا.هـ.
    أخبَر الله تعالى أنَّ السَّعي بين الصَّفا والمروة "مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ " أي من أعلام دينه الظاهرة، التي تعبَّدَ اللهُ بها عبادَهُ, وإذا كانا من شعائر الله، فقد أمر الله بتعظيم شعائره فقال" وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ " الحج:32.فدل مجموع النصين أنهما من شعائر الله، وأن تعظيم شعائره، من تقوى القلوب. والتقوى واجبة على كل مكلف، وذلك يدل على أن السعي بهما فرض لازم للحج والعمرة، كما عليه الجمهور، ودلت عليه الأحاديث النبوية وفعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال " يا أَيُّها الناسُ خُذُوا عَنِّي مناسكَكم ، فإني لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بعد عامي هذا"الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع-صحيح.
    فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا:
    والجُناح- بضم الجيم- الإثم والحرج مشتق من جنح إذا مال عن القصد، وسمى الإثم به للميل فيه من الحق إلى الباطل.
    هذا دفع لوهم من توهم وتحرج من المسلمين عن الطواف بينهما، فبعض المسلمين كانوا مترددين في كون السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله، وكانوا يظنون أن السعي بينهما من أحوال الجاهلية.
    فنفى تعالى الجناح وهو الإثم لدفع هذا الوهم،لا لأنه غير لازم. ودل تقييد نفي الجناح – الإثم والحرج- فيمن تَطَوَّفَ بهما في الحج والعمرة، أنه لا يتطوع بالسعي مفردًا إلا مع انضمامه لحج أو عمرة، بخلاف الطواف بالبيت، فإنه يشرع مع العمرة والحج، وهو عبادة مفردة. فأما السعي والوقوف بعرفة ومزدلفة, ورمي الجمار فإنها تتبع النُّسك، فلو فُعِلَت غير تابعة للنُّسك كانت بدعة، لأن البدعة نوعان: نوع يتعبد لله بعبادة لم يشرعها أصلا، ونوع يتعبد له بعبادة قد شرعها على صفة مخصوصة، فتفعل على غير تلك الصفة, وهذا منه. تفسير السعدي.
    فالجناح هو الإثم، يعني فلا إثم عليه في أن يتطوف بهما، أن يطوف أصلها يتطوف، ولكنه غلبت التاء طاء لعلة تصريفية فصار أن يطوف، وقوله"بهما" المراد بينهما كما تفسره سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس المراد أن يطوف بهما يدور عليهما كما يطوف بالبيت العتيق، فإن هذا قطعًا لا يُراد لأنه شيء غير ممكن والسنة تفسر القرآن.العثيمين.أهل الحديث والأثر.
    ورد في حديث جابر الطويل في حج رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    ".......ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البَابِ إلى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ"إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ"البقرة: 158، أَبْدَأُ بما بَدَأَ اللَّهُ به، فَبَدَأَ بالصَّفَا، فَرَقِيَ عليه، حتَّى رَأَى البَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ، وَقالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، له المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهو علَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بيْنَ ذلكَ، قالَ مِثْلَ هذا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إلى المَرْوَةِ، حتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ في بَطْنِ الوَادِي سَعَى، حتَّى إذَا صَعِدَتَا مَشَى، حتَّى أَتَى المَرْوَةَ، فَفَعَلَ علَى المَرْوَةِ كما فَعَلَ علَى الصَّفَا، حتَّى إذَا كانَ آخِرُ طَوَافِهِ علَى المَرْوَةِ،.... " صحيح مسلم . الراوي : جابر بن عبد الله .

    ويقال للسعي طواف وللطواف سعي أيضًا :
    "وسَعَى بيْنَ الصَّفَا، والمَرْوَةِ " صحيح البخاري.
    "ثُمَّ يَطُوفُ بيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ" صحيح البخاري.
    يَروي التَّابِعيُّ عاصِمُ بنُ سُلَيمانَ الأحوَلُ أنَّه سألَ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه : قُلتُ لأنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ؟ قالَ: نَعَمْ؛ لأنَّهَا كَانَتْ مِن شَعَائِرِ الجَاهِلِيَّةِ حتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ"إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا"البقرة: 158.الراوي : أنس بن مالك - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 1648 - خلاصة حكم المحدث : صحيح
    "سَأَلْتُ أنَسَ بنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، عَنِ الصَّفَا، والمَرْوَةِ فَقالَ: كُنَّا نَرَى أنَّهُما مِن أمْرِ الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كانَ الإسْلَامُ أمْسَكْنَا عنْهما فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى"إنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فمَن حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فلا جُنَاحَ عليه أنْ يَطَّوَّفَ بهِمَا"البقرة: 158.الراوي : أنس بن مالك - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري.
    وقوله : وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا : تذييل قُصد منه الإتيان بحكم كلي في أفعال الخيرات كلها- من حج وعمرة, وطواف، وصلاة، وصوم وغير ذلك...-.وتَطَوَّعَ من التطوع وهو فعل الطاعة فريضة كانت أو نافلة، وقيل هو التطوع بالنفل خاصة.تفسير الوسيط.
    فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ: الشاكر والشكور, من أسماء الله تعالى، الذي يقبل من عباده اليسير من العمل، ويجازيهم عليه، العظيم من الأجر، الذي إذا قام عبده بأوامره، وامتثل طاعته، أعانه على ذلك، وأثنى عليه ومدحه، وجازاه في قلبه نورًا وإيمانًا, وسعة، وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء. ثم بعد ذلك، يُقْدِمُ على الثواب الآجل عند ربه جزاءً موفورًا.تفسير السعدي.
    ونلاحظ أن اسم "الشاكر" قد اقترن باسم "العليم" سبحانه واقترانه به يفيد أنه تعالى شاكر أي يثيب على القليل بالكثير، مع علمه التام المحيط بمن يستحق الثواب الكامل, بحسب نيته وإيمانه وتقواه ممن ليس كذلك، عليم بأعمال العباد, فلا يضيعها بل يجدونها أوفر ما كانت على حسب نياتهم التي اطلع عليها العليم الحكيم.
    وتَرغيبًا في فِعل الطاعة والاستزادة منها أخْبَر تعالى أنَّ مَن يأتي بالطاعات، سواء ما كان منها مَفروضًا أو مستحبًّا، ويَزداد منها؛ فإنَّ الله مُجازيه على عمَله خيرَ الجزاء، فهو سبحانه شاكرٌ لا يُضيع أجْرَ مَن أحسن عملًا، عليمٌ لا يَخفَى عليه ذاك الإحسانُ.موسوعة التفسير.الدرر السنية.
    "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ"159.
    الكتمان تارة يكون بستر الشيء وإخفائه، وتارة أخرى بإزالته ووضع آخر مكانه، واليهود فعلوا في التوراة كليهما، فقد أخفوا حكم رجم الزاني، وأنكروا بشارة التوراة بمحمد ﷺ، وتعسفوا في تأويل ما ورد فيها من ذلك على وجه لا ينطبق على محمد عليه السلام.تفسير المراغي.
    هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب، وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته.
    لكنها أيضًا حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله " مِنَ الْبَيِّنَاتِ " الدالات على الحق المظهرات له، " وَالْهُدَى " وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم، من طريق أهل الجحيم، مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ: والمراد ما اشتملت عليه الكتب السماوية السابقة على القرآن من صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن هداية وأحكام.والمراد بالكتاب جنس الكتب، فيصح حمله على جميع الكتب التي أنزلت على الرسل- عليهم السلام-. وقيل: المراد به التوراة.
    فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم، بأن يبينوا للناس ما مَنّ اللهُ به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين، كتم ما أنزل الله. "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ" آل عمران: 187.
    وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ، ويسلك بهم مسلكهم ، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع ، الدال على العمل الصالح ، ولا يكتموا منه شيئا ، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
    "من سُئل عن علمٍ فكتمه ألجمه اللهُ بلِجامٍ من نارٍ يومَ القيامةِ "الراوي : أبو هريرة - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود -الصفحة أو الرقم: 3658 - خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح .
    أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ : يلعنهم أي يبعدهم ويطردهم عن رحمته ،وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ أي ويلعنهم كل من تتأتى منه اللعنة- كالملائكة والمؤمنين- بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله لكتمانهم لما أمر الله بإظهاره.
    " إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"160.
    بعد هذا الوعيد الشديد لأولئك الكاتمين لما أمر الله بإظهاره، أورد القرآن في أعقاب ذلك آية تفتح لهم نافذة الأمل، وتبين لهم أنهم إذا تابوا وأنابوا قبل الله توبتهم ورحمهم.
    أي: استثنى الله عزَّ وجلَّ منهم مَن رجَع عن كِتمانه، معترفًا لله تعالى بذنبه، مُصلحًا حالَ نفْسِه بالتقرّبِ إلى اللهِ بصالحِ الأعمالِ، مبيِّنًا للنَّاسِ ما كتَمَه مِنَ الحقِّ. أي بينوا خلاف ما كانوا عليه من الباطل.
    ولا يكفي في التوبة من أي ذنب قول القائل : قد تبت ، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول ، فإن كان مرتدًا رجع إلى الإسلام مُظهِرًا شرائعه ، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح ، وجَانَب أهل الفسادِ والأحوال التي كان عليها ، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام ، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه منَ الباطلِ.
    فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: فهؤلاء يتوب اللهُ عليهم فأذن بتوبتهم ووفقهم لها ، ويفيضُ عليهم مغفرتَهُ تفضلًا منه ورحمة، وهو الذي يرجع قلوبَ عبادِهِ المنصرفة عنه ويردها إليه بعد إدبارها عن طاعته، وهو الرّحيم بالمقبلين عليه يتغمدهم برحمته ويشملهم بعفوه، ويصفح عما كانوا اجترحوا من السيئات.
    وفي الآية ترغيب للقلوب الواعية التي تخاف سخط الله وشديد عقابه، في التوبة عما فرط من الذنوب، وطرد لليأس من رحمة الله مهما ثقلت الذنوب وكثرت الآثام.
    تعقيب:
    توبة الله على العبد لها معنيان :
    الأول : توفيق الله تعالى للعبد أن يتوب .
    الثاني : أن يقبل الله تعالى توبة العبد .
    قال ابن القيم في "مدارج السالكين" 1/312 :
    "وتوبة العبد إلى ربه: محفوفة بتوبة مِنَ اللهِ عليه قبلها ، وتوبة منه بعدها ، فتوبته بين توبتين من الله ، سابقة ولاحقة ، فإنه تاب عليه أولًا، إذنًا وتوفيقًا وإلهامًا ، فتاب العبد ، فتاب الله عليه ثانيًا قبولًا وإثابة .ا.هـ.
    "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"161.
    لَمَّا لعَن الله الكاتمين للحق؛ واستثنى منهم التائبين، ذكَر المُصرِّين على كفرهم حتَّى ماتهم، ولم يتوبوا، معبِّرًا عن كتمانهم بالكُفر؛ لتعمَّ العبارةُ كلَّ كُفر ولو بغير معصية الكتمان، فهؤلاء يستحقون اللعن الأبدي الذي يلزمه الخلود في دار الذل والهوان، وهذا لا يكون إلا إذا مات صاحبه على الكفر.
    أي: إنَّ الله تعالى يطردُ أولئك الكفَّار من رحمته، وأمَّا الملائكة وجميع النَّاس فيَسألون الله عزَّ وجلَّ أن يُبعدَهم ويطردَهم من رحمته.
    "خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ "162.
    الخلود البقاء إلى غير نهاية. أي: هم خالدون أبدًا في هذه اللَّعنة المستَتْبِعةِ للخلود الأَبديِّ في نار جهنَّمَ، التي لا يَنقُص فيها عذابُهم زمنًا ولا مِقدارًا؛ فهُم في عذابٍ دائمٍ وشديد.
    وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ:لا يُمهلون فيُؤخَّر عنهم العذاب ،أو ولا هم يُمْهَلُون ليتوبوا ويعملوا صالح الأعمال.

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة

    من آية 163إلى.164.

    "وَ"إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ" 163.
    قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ معطوف على قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا عطف القصة على القصة.
    حكم الله في الآية السابقة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى باللعنة والطرد من رحمته إلا إن تابوا، فإن هم ماتوا على كتمانهم كانوا خالدين في اللعنة لا يخفف عنهم من العذاب شيء. إنما ذكر الوحدانية- وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ - والرحمة - الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - دون غيرهما من صفاته، لأن الوحدانية تُذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق أن شارع الدين واحد لا معبود سواه ، وبأنهم لا يجدون ملجأ غير الله يقيهم عقوبته ولعنته، والرحمة بعدها ترغبهم في التوبة وتحول بينهم وبين اليأس من فضله، بعد أن اتخذوا الوسطاء والشفعاء عنده.
    وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ :أي: متوحد منفرد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فليس له شريك في ذاته، ولا سمي له ولا كفو له، ولا مثل، ولا نظير ، فإذا كان كذلك، فهو المستحق لأن يؤله ويُعبد بجميع أنواع العبادة، ولا يشرك به أحد من خلقه.لذا قال سبحانه بعدها:لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ .
    الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ : وأتى- سبحانه- بهذين اللفظين في ختام الآية، لأن ذكر الإلهية والوحدانية يحضر في ذهن السامع معنى القهر والغلبة وسعة المقدرة وعزة السلطان، وذلك مما يجعل القلب في هيبة وخشية، فناسب أن يورد عقب ذلك ما يدل على أنه مع هذه العظمة والسلطان، مصدر الإحسان ومولى النعم، فقال: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، وهذه طريقة القرآن في الترويح على القلوب بالتبشير بعد ما يثير الخشية، حتى لا يعتريها اليأس أو القنوط.
    ثم ذكر - عزت قدرته - بعض ظواهر الكون الدالة على وحدانيته ورحمته لتكون برهانا على ما ذكر في الآية قبلها فقال:
    "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"164.
    وبعد أن أخبر- سبحانه- بأنه هو الإله الذي لا يستحق العبادة أحد سواه، عقب ذلك بإيراد ثمانية آيات أي: أدلة تشهد بوحدانيته وإلهيته، وقدرته وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته ، وتشتمل على آيات ساطعات، وبينات واضحات، تهدي أصحاب العقول السليمة إلى عبادة الله وحده، وإلى بطلان ما يفعله كثير من الناس من عبادة مخلوقاته.
    إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: إن إيجاد السَّموات والأرض من عدمٍ، وصُنعِهما المتقن لآيات بينات للفِطَرِ والعقولِ السليمةِ.
    إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ : وما فيها والسموات التي تتألف أجرامها من طوائف، لكل طائفة منها نظام محكم وللمجموع نظام واحد، يدل على أنه صادر من إله واحد لا شريك له في الخلق والتقدير، والحكمة والتدبير، وأقرب تلك الطوائف إلينا المجموعة الشمسية التي تفيض شمسها على أرضنا أنوارها، فتكون سببًا في حياة الحيوان والنبات، ويتبعها جملة كواكب تختلف مقاديرها وأبعادها، استقر كل منها في مداره، وحفظت النسبة بين بعضها وبعض بسنة إلهية محكمة يعبرون عنها بالجاذبية، ولولا ذلك لتفلتت هذه الكواكب السابحة في أفلاكها فصدم بعضها بعضا وهلكت العوالم جميعًا.
    ...وَالْأَرْضِ : الأرض،جعلها سبحانه مهادًا للخلق، يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها ففي جرمها ومادتها وشكلها والعوالم المختلفة التي عليها من الجماد والنبات والحيوان وجميع المخلوقات ، وفي منافعها المختلفة باختلاف أنواعها، ما يدل على إبداع.الحكيم العليم." وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ" الذاريات : 20. والموقنون هم العارفون المحققون وحدانية ربهم ، وصدق نبوة نبيهم ، خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بتلك الآيات وتدبرها "وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ".الحج:5.
    "وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ "الرعد : 4. المقصود أنها مع تجاورها وتقاربها مختلفة في أوصافها مما يشهد بقدرة الله- تعالى- العظيمة. قال ابن كثير ما ملخصه: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ أي: أراض يجاور بعضها بعضًا، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس، وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئًا، وهذه تربتها حمراء، وتلك تربتها سوداء، وهذه محجرة وتلك سهلة، والكل متجاورات، فهذا مما يشهد بقدرة الله ، لا إله إلا هو ولا رب سواه .
    خلقَ سبحانه هذه الأرض وأرساها بالجبال؛ يقول - جل وعلا " وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ "النحل : 15. ألقى في الأرض رواسي أي جبالا ثابتة . رسا يرسو إذا ثبت وأقام .والميد : هو الاضطراب ، لتقر الأرض ولا تميد أي : تضطرب بما عليها من الكائنات الحية فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك.
    ويقول - جل وعلا " وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا "النازعات : 32. أي: ثبتها في الأرض.
    وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ : وهو تعاقبهما على الدوام، إذا ذهب أحدهما، خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر، والبرد، والتوسط، وفي الطول، والقصر، والتوسط، أي : تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر ، فتارة يطول هذا ويقصر هذا ، ثم يعتدلان ، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ، ويقصر الذي كان طويلا وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم ، وما ينشأ عن ذلك من الفصول، التي بها انتظام مصالح بني آدم . – مثاله في فصل الصيف يطول النهار ويقصر الليل وفي الشتاء يطول الليل ويقصر النهار وهذا مُشَاهَد -
    إن هذا الإخبار عن ذلك فيه حث على التأمل والتفكر، فالله ذكر ذلك في سياق مدح لهؤلاء المتفكرين المُعتبرين.
    وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ:وهي السفن والمراكب ونحوها، مما ألهم الله عباده صنعتها، ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح، التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال، والبضائع التي هي من منافع الناس، وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم. وجه العلاقة بين ذكر الفلك وما قبله : والنكتة في ذكرها عقيب آية الليل والنهار، هي أن المسافرين في البر والبحر هم أشد الناس حاجة إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به، والمسافرون في البحر أحوج إلى معرفة الأوقات وتحديد الجهات، لأن خطر الجهل عليهم أشد، وفائدة المعرفة لهم أعظم، ولذلك كان من ضروريات رباني السفن معرفة علم النجوم، وعلم الليل والنهار من فروع هذا العلم -الجغرافية الفلكية-. قال- تعالى" وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ " الأنعام: 97 .
    وخص- سبحانه- النفع بالذكر وإن كانت السفن تحمل ما ينفع وما يضر لأن المراد هنا عَدّ النِّعَم، ولأن الذي يحمل فيها ما يضر غيره هو في الوقت نفسه يقصد منفعة نفسِهِ.
    ومن وجوه الاستدلال بالفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس على وجود الله وقدرته، أن هذه الفلك وإن كانت من صنع الناس إلا أن الله- تعالى- هو الذي خلق الآلات والأجزاء التي صارت بها سفنا، وهو الذي سخر لبحر لتجرى فيه مقبلة ومدبرة مع شدة أهواله إذا هاج، وهو الذي جعلها تشق أمواجه شقا حتى تصل إلى بر الأمان، وهو الذي رعاها برعايته وهي كنقطة صغيرة في ذلك الماء الواسع، ووسط تلك الأمواج المتلاطمة حتى وصلت إلى ساحل السلامة وهي حاملة الكثير مما ينفع الناس من الأطعمة والأشربة والأمتعة المختلفة، فسبحانه من إله قادر حكيم.الوسيط.
    وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا:
    والمراد بالسماء: جهة العلو، أي: وما أنزل من جهة السماء من ماء.
    قال تعالى" اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ " الروم:48.
    وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا :أي: ويجعله قطعًا بعضها فوق بعض تارة أخرى. والكسف: جمع كسفه، وهي القطعة من السحاب.
    الْوَدْقَ: المطر ، يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ : أي: المطر يخرج ويتساقط من خلال هذا السحاب، ومن بين ذراته. فَإِذا أَصابَ بِهِ، أي: بهذا المطر مَنْ يَشاءُ. إصابته به مِنْ عِبادِهِ بأن ينزله على أراضيهم وعلى بلادهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي: يفرحون بذلك، لأنه يكون سببا في حياتهم وحياة دوابهم وزروعهم.
    وهذا الوصف الموجز هو ما بينه العلماء بقولهم: إن المطر يتوالد عن طريق تجمع هائل لبخار المياه المتصاعدة من المسطحات المائية المختلفة ومن التربة - ثم يتعرض لعوامل مختلفة من درجات الحرارة الباردة و اتجاه تيارات الرياح فيؤدي لتكثيف البخار وتتكون سُحُبًا يسقط الماء – المطر - من خلالها وينزل إلى الأرض لثقله .
    وأعرف الناس بنعمة المطر، أولئك الذين يعيشون في الأماكن البعيدة عن الأنهار. ممن تقوم حياتهم على مياه الأمطار.
    فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا:أي وبهذا الماء تحدث حياة الأرض بالنبات، وبه أمكن معيشة الكائنات الحية على سطحها،قال تعالى"وتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ"الحج:5.
    وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ : وَبَثَّ فِيهَا :أي: نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة. الدابة اسم من الدبيب والمشي ببطء، كل ما يمشى فوق الأرض فهو بحسب الوضع اللغوي يطلق عليه دابة. والظاهر أن المراد بالدابة هنا هذا المعنى العام، لا ما يجرى به العرف الخاص باستعماله في نوع خاص من الحيوان كذوات الأربع.الوسيط.
    وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ:أي: وتصريف أي تقليب الرياح للسحاب. تقليب الرِّيح ركودًا وهبوبًا، وجعْلها تهبُّ من اتجاهات عِدَّة، واختلافها في الشِّدَّة والضَّعف، والنَّفع والضر، وتذليله سبحانه السَّحابَ بين السَّماء والأرض لمصالح خَلْقه، على حسب إرادته- سبحانه- ووفق حكمته.

    الْمُسَخَّرِ : والْمُسَخَّرِ: المُذلَّل، وَالمُيسَّر، من التسخير وهو التذليل والتيسير ، والتسخير معناه حمل الشيء على حركة مطلوبة منه لا اختيار له فيها، والله يسخر السحاب لأنه يريده أن يمطر هنا، فيأتي مسخر الرياح فيسوقه إلى حيث يريد الله.
    لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: هذه الدلائلَ والعلامات يَعيها مَنْ مَنَّ الله عليه بعقلٍ يتدبَّر به، فيَفهَم حكمة الله عزَّ وجلَّ منها.

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة

    من آية 165إلى171. .
    "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ"165.
    ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها، فإنه تعالى, لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة, وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين, المزيلة لكل شك، ذكر هنا أن " وَمِنَ النَّاسِ " مع هذا البيان التام مَنْ يتخذ مِنَ المخلوقين أندادا لله ، الأنداد واحدها ندّ وهو المماثل .أي: يتخذون نظراء ومثلاء، يساويهم في الله بالعبادة والمحبة, والتعظيم والطاعة. ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة، وبيان التوحيد - عُلم أنه معاند لله، مشاق له, أو معرِض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته, فليس له أدنى عذر في ذلك، بل قد حقت عليه كلمة العذاب. وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله، لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير، وإنما يسوونهم به في العبادة، فيعبدونهم، ليقربوهم إليه، وفي قوله: " يَتَّخِذُ " دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له، تسمية مجردة، ولفظا فارغا من المعنى.
    قال تعالى "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ " الزمر:3.
    مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى : يقولون إننا ما نعبد هذه المعبودات إلا من أجل أن نتوسل بها، لكي تقربنا إلى الله قربى، ولتكون شفيعة لنا عنده حتى يرفع عنا البلاء والمحن.
    وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ : الله هو المستحق للمحبة الكاملة, والذل التام، فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله "وَالَّذِينَ آمَنُوا أَ شَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ"
    أي: الذين آمنوا أشد حبًا لله من أهل الأنداد لأندادِهم، لأن المؤمنين أخلصوا محبتهم لله، وهؤلاء أشركوا بها، ولأن المؤمنين أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة، الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه، ولقد ضرب المؤمنون الصادقون أروع الأمثال في حبهم لله- تعالى- لأنهم ضحوا في سبيله بأرواحهم وأموالهم وأبنائهم وأغلى شيء لديهم، ولأنهم لم يعرفوا عملا يرضيه إلا فعلوه، ولم يعرفوا عملا يغضبه إلا اجتنبوه.
    والمشركون أحبوا من دون الله من لا يستحق من الحب شيئًا، ومحبته عين شقاء العبد وفساده، وتشتت أمره. لذا أخبر- سبحانه- عما ينتظر الظالمين من سوء المصير ، والظالمون هم المشركون وظلموا باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله وبحملهم على أن يحذو حذوهم، ويتخذوا الأنداد مثلهم ، وسعيهم فيما يضرهم وتوعدهم الله بقوله " وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ "
    والمعنى: ولو يرى أولئك المشركون حين يشاهدون العذاب المعَدّ لهم يوم القيامة فتقطع بهم الأسباب، ولا تغني عنهم الأنداد والأرباب، أن القدرة والقوة كلها لله وحده، وأن عذابه الذي يصيب به المتخبطين في ظلمات الشرك شديد، بها يتصرف في كل موجود، لعلموا أن هذه القوة التي تدبر عالم الآخرة هي عين القوة التي تدبر عالم الدنيا، وأنهم كانوا ضالين حين لجأوا إلى سواها، وأشركوا معها غيرها، وكان ذلك منشأ عقابهم وعذابهم.
    لو يعلمون ذلك، لرأوا ما لا يوصف من الهول والفظاعة، ولوقعوا فيما لا يكاد يوصف من العذاب والحسرة والندامة.
    " إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ"166.
    وتَبَرَّأَ من التَّبَرُؤ وهو التخلص والتنصل والتباعد، ومنه برئت من الدين أي: تخلصت منه، وبرأ المريض من مرضه، أي: تخلص من مرضه.
    والمراد بالذين اتُّبِعُوا: أئمة الكفر الذين يحلون ويحرمون ما لم يأذن به الله.
    والمراد بالذيناتَّبَعُوا: أتباعهم وأشياعهم الذين يتلقون جميع أقوالهم بالطاعة والخضوع بدون تدبر أو تعقل.
    وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ: وتقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون من ورائها النجاة. والْأَسْبابُ جمع سبب، وهو في الأصل الحبل الذي يرتقَى به الشجر ونحوه، ثم سمي به كل ما يتوصل به إلى غيره، عينا كان أو معنى. فيقال للطريق سبب، لأنك بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تريده، ويقال للمودة سبب لأنك تتواصل بها إلى غيرك، والمراد بالأسباب هنا:

    الوشانج والصلات التي كانت بين الأتباع والمتبوعين في الدنيا، من القرابات والمودات والأحلاف والاتفاق في الدين ... إلخ.
    "وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ "167.
    الكرة: الرجعة والعودة. والمعنى: وقال الذين كانوا تابعين لغيرهم في الباطل بدون تعقل أو تدبر ليت لنا رجعة إلى الحياة الدنيا فنتبرأ من هؤلاء الذين اتبعناهم وأضلونا السبيل كما تبرءوا منا في هذا اليوم العصيب - بأن يتركوا الشرك بالله، ويقبلوا على إخلاص العمل لله،ويهتدوا بكتاب الله وسنة رسوله ثم يعودوا إلى موضع الحساب- فنتبرأ من هؤلاء الضالين كما تبرءوا منا، ونسعد بعملنا حيث هم أشقياء بأعمالهم.
    وهيهات هيهات، فات الأوان ، وليس الوقت وقت إمهال وإنظار.فتبرؤوا جميعًا من بعض في حال رؤيتهم للعذاب.
    كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ: المعنى: كما أرى الله- تعالى- المشركين العذاب وما صاحبه من التبرؤ وتقطع الأسباب بينهم، يريهم- سبحانه- أعمالهم السيئة يوم القيامة فتكون حسرات تتردد في صدورهم كأنها شرر الجحيم.
    ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان عاقبة أمرهم فقال: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.لكن هذا التحسُّر والندم لا يُفيدهم شيئًا؛ فإنَّهم باقون في النار غير خارجين منها. بل هم مستقرون فيها استقرارًا أبديًا.
    " يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ"168.
    لما بيَّنَ تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه المستقل بالخلق ، شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه فوجه نداء عاما إلى البشر أمرهم فيه بأن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات- كُلُوا صيغة أمر واردة في معنى الإباحة.- ، فذكر ذلك في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبًا ، أي : مستطابا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول وَالطَّيِّبُ: هو المستلذ المستطاب الذي تقبل عليه النفوس الطاهرة وتنبسط لتناوله، وإنما تنبسط النفوس الطاهرة لتناول طعام غير قذر ولا موقع في تهلكة، إذ القذر ينفر منه الطبع السليم، والموقع في تهلكة يمجه العقل القويم.، فكأنه يدعو غير المؤمنين: لو عقلتم، لوجب أن تحتاطوا إلى حياتكم بألا تأكلوا إلا حلالا أحله الله للمؤمنين، ونهاهم عن اتباع وساوس وخطوات الشيطان :
    وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل للنهي عن اتباع الشيطان. بَيِّن العداوة، وقيل: مظهر العداوة، وقد أظهر عداوته بإبائه السجود لآدم وغروره إياه حتى أخرجه الله من الجنة.
    ثم بين كيفية عداوته وفنون شره وإفساده فقال تعالى :
    "إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" 169.
    هذه الآية استئناف لبيان كيفية عداوته، وتفصيل لأنواع شروره ومفاسده.
    إِنَّمَا يَأْمُرُكُم: والأمر في الأصل: الطلب بالقول، واستعمل في تزيين الشيطان المعصية، لأن تزيينها في معنى الدعوة إليها.
    قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف كان الشيطان آمرا مع قوله "لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ؟"
    قلتُ: شَبَّهَ تزيينَهُ وبعثَهُ على الشرِّ بأمرِ الآمرِ، كما تقول: أمَرَتنِي نفسي بكذا.
    بِالسُّوءِ :والسوء كل مايُحزِن . والمراد به هنا، كل ما يغضب الله- تعالى- من المعاصي، لأنها تسوء صاحبَهَا وتُحْزِنه في الحال أو المآل.
    وَالْفَحْشَاءِ : ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال مما يستفحشه من له عقل .عطف الفحشاء على السوءمن باب عطف الخاص على العام؛ لأن الفحشاء من المعاصي .
    وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ : أي ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون علم اليقين أنه شرعه لكم من عقائد وشعائر دينية، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم، أو تحريم ما الأصل فيه الإباحة، ففي كل ذلك اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان، فإنه الأصل في إفساد العقائد، وتحريف الشرائع.
    فيدخل في ذلك، القول على الله بلا علم، في شرعه,، وقدره، فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو نفى عنه ما أثبته لنفسه، أو أثبت له ما نفاه عن نفسه، فقد قال على الله بلا علم، ومن زعم أن لله ندا، وأوثانا، تقرب من عبدها من الله، فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: إن الله أحل كذا, أو حرم كذا، أو أمر بكذا، أو نهى عن كذا، بغير بصيرة، فقد قال على الله بلا علم.
    قال الطبري : وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ : يريد ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها مما جعلوه شرعًا.
    "مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَظ°كِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ "المائدة : 103.
    هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما أحله الله، فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما، على حسب اصطلاحاتهم التي عارضت ما أنزل الله فقال" مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ "وهي: ناقة يشقون أذنها، ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة. " وَلَا سَائِبَةٍ "وهي: ناقة، أو بقرة، أو شاة، إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه، سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل، وبعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة. " وَلَا حَامٍ " أي: جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل، إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم. فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان. وإنما ذلك افتراء على الله، وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم.تفسير السعدي.
    "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ"170.
    أي: وإذا قيل لأولئك الذين اقتفوا خطوات الشيطان، وقالوا على الله بدون علم ولا برهان، أي: إذا قيل للمشركين: التزِموا باتِّباع الوحيِ الإلهيِّ فحسبُ؛ فأحِلُّوا حلالَه، وحرِّموا حرامَه، دون التَّقوُّلِ على الله تعالى بلا عِلمٍ ،ولا تتبعوا من دونه أولياء – جنحوا إلى تقليد الآباء وأعرضوا عن ذلك وقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والخضوع للرؤساء.
    أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ: أي كيف يتبعون آباءهم وآباؤهم جُهال لا يعقلون شيئًا من أمور الدين. إذ ليس لديهم عقلٌ سليم يُرشِدهم إلى اتِّباع الحقِّ، ويزجُرُهم عن اتِّباع الباطل، ولا يحمِلون عِلمًا نافعًا يعمَلون على وَفْقِه عملًا صالحًا؛ فكيف يتَّبعون هؤلاء ومِثْلُهم لا يصلُحُ أنْ يُقتدى بهم . قال جلَّ وعلا في موضع آخر" إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ "الصافات:69-70.
    "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ "171.
    الذي ينعق هو الذي يُصَوِّتُ ويصرخ للبهائم، وهو الراعي.
    شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ، ولا تفهم ما يقول ، هكذا فسره ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والزجاج والفراء وسيبويه.
    أي: شبَّه اللهُ تعالى الكفَّارَ عند دعوة الدَّاعي لهم إلى الإيمان -كالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ- شبَّههم بالبهائمِ التي يصوِّت لها راعيها، فتسمَعُ الصَّوت ولا تفهَمُ المعنى، فكذلك حالُ الكفَّارِ الَّذين لا ينتفعون مِن تلك الدَّعوة بشيء، لكنَّهم يسمعون ما تُقام عليهم به الحجَّة.
    دُعَاءً وَنِدَاءً : والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد أي أن ثانيهما تأكيد للأول، وقيل: الدعاء للقريب والنداء للبعيد.
    صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ : زيادة في تبكيتهم وتقريعهم، أي: هم صم عن استماع دعوة الحق، بُكْم عن إجابة الداعي إليها، عمي عن آيات صدقها وصحتها، فهم لإعراضهم عن الهادي لهم إلى ما ينفعهم وينجيهم من العذاب صاروا بمنزلة من فقد حواسه، فأصبح لا يسمع ولا ينطق ولا يبصر.
    وقوله:فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ: وارد مورد النتيجة بعد البرهان، بجانب كونه توبيخا لهم، لأنهم بفقدهم أهم طرق الإدراك وهما السمع والبصر، وأهم وسيلة للثقافة وهي استطلاع الحقائق من طريق المحاورة والتكلم، صاروا بعد كل ذلك بمنزلة من فقد عقله الاكتسابى، فأصبح لا يفقه شيئا لأن العقل الذي يكتسب به الإنسان المعارف والحقائق يستعين استعانة كبرى بهذه الحواس الثلاث.الوسيط.
    وبعد هذا البيان البليغ لحال الذين يتخذون من دون الله أندادا، ولحال الكافرين المقلدين لآبائهم في الضلال بدون تدبر أو تعقل، بعد كل ذلك وجهت السورة الكريمة نداء إلى المؤمنين بينت لهم فيه- وفيما سيأتى بعده من آيات- كثيرا من التشريعات والآداب والأحكام التي هم في حاجة إليها .

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة


    من آية 172إلى 176..
    "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ"172."إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"173.
    بعد أن بين سبحانه حال الذين يتخذون الأنداد من دونه، ثم خاطب الناس جميعًا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها بشرط أن يكون حلالا طيبًا، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم، لأنه لا استقلال لهم برأى ولا يهتدون بعقل.
    ثم في هذه الآية وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، وأحرى بالاهتداء، فأمرهم – أمر إباحة - أن يأكلوا من الطيبات ويشكروا الله على ما أنعم به عليهم، ثم حصر محرمات المطاعم في أنواع معينة، ليعلموا أن التحريم لا يعدوها، وأن أكثر ما خلق الله من الأرزاق والأطعمة مباح لهم، فمن الحق أن يكون الشكران غدوّا وعشيا على تلك المنن التي لا تحصى، والنعم التي لا تحصر ولا تعدّ.
    طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ: أي طاب كسبه من الحلال.وما طاب من الرزق بتحليل الله له.أي: يا من آمنتم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كلوا من ألوان الطيبات التي أحللناها لكم.
    وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ :والشكر: هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم لموجدها، ووضعها في الموضع الذي أمر به.أي استخدام نعم الله في طاعة الله لنؤدي شكرها.
    "إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا."الراوي : أنس بن مالك - صحيح مسلم
    أي: تمتعوا بنعم الله، واعترفوا له بها على وجه التعظيم، بأن تمتثلوا ما أمر به، وتجتنبوا ما نهى عنه، إن كنتم تخصونه بالعبادة حقًا، وتفردونه بالطاعة صدقًا.
    قال الآلوسى: وجملة إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ بمنزلة التعليل لطلب الشكر، كأنه قيل "واشكروا له لأنكم تخصونه بالعبادة، وتخصيصكم إياه بالعبادة، يدل على أنكم تريدون عبادة كاملة تليق بكبريائه، وهي لا تتم إلا بالشكر، لأنه من أجل العبادات"الوسيط.
    إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ: لمَّا قيَّد سبحانه وتعالى الإذنَ لعباده بالطيِّب من الرِّزق، افتقَر الأمرُ إلى بيان الخبيث منه ليُجتَنَب، فبيَّن صريحًا ما حرَّم عليهم ممَّا كان المشركون يستحلُّونه ويحرِّمون غيرَه، وأفهَم حِلَّ ما عداه، وأنه كثيرٌ جدًّا؛ ليزدادَ المخاطَب شكرًا.
    الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ :بيان لما حرمه الله- تعالى- علينا من المطاعم رعاية لمنفعتنا.
    والْمَيْتَةَ في عرف الشرع: ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة، فيدخل فيها: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما عدا عليها السبع، ويدخل في حكم الميتة ما قطع من جسم الحيوان الحي.
    قال تعالى"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَ ةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ " المائدة: 3.
    قال صلى الله عليه وسلم"ما قُطِعَ منَ البَهيمةِ وَهيَ حيَّةٌ فما قُطِعَ منها فَهوَ مَيتةٌ"
    الراوي : عبدالله بن عمر - المحدث : الألباني - صحيح ابن ماجه.
    الْمُنْخَنِقَةُ: أي: الميتة بخنق، بيد أو حبل، أو إدخال رأسها بشيء ضيق، فتعجز عن إخراجه حتى تموت. " وَالْمَوْقُوذَة ُ " أي: الميتة بسبب الضرب بعصا أو حصى أو خشبة، أو هدم شيء عليها، بقصد أو بغير قصد. " وَالْمُتَرَدِّي َةُ " أي: الساقطة من علو، كجبل أو جدار أو سطح ونحوه، فتموت بذلك."وَالنَّطِيحَةُ ْ" وهي التي تنطحها غيرها فتموت. " وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ْ" من ذئب أو أسد أو نمر، أو من الطيور التي تفترس الصيود، فإنها إذا ماتت بسبب أكل السبع لها، فإنها لا تحل.
    وَالدَّمَ : أي الدم المسفوح، لأنه قذر وضارّ كالميتة. الدم المسفوح هو الدم الذي يخرج من البهيمة عند الذبح يحرم شربه.استثنى الشرع من الميتة السمك والجراد ومن الدم الكبد والطحال فأحلها.
    "أحلَّت لَكُم ميتتانِ ودَمانِ ، فأمَّا الميتَتانِ ، فالحوتُ والجرادُ ، وأمَّا الدَّمانِ ، فالكبِدُ والطِّحالُ"الراوي : عبدالله بن عمر - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح ابن ماجه.
    وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ:كذلك حرم عليهم لحم الخنزير ، سواء ذكي أو مات حتف أنفهويدخُل فيه شحمُه.
    وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ:وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى, كالذي يذبح للأصنام والأوثان من الأحجار, والقبور ونحوها.وأصل الإهلال رفع الصوت لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا بذلك أصْواتَهم.
    فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح وإن لم يجهر بالتسمية مهل.
    فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ :
    غَيْرَ بَاغٍ :أي: غير طالب للمحرم, مع قدرته على الحلال, أو مع عدم جوعه.
    وَلَا عَادٍ :أي: متجاوز الحد في تناول ما أبيح له, اضطرارا، فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال، وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها.
    أي فمن ألجئ إلى أكل شيء مما حرم الله، بأن لم يجد غيره وخاف على نفسه الهلاك إن لم يأكل منه، ولم يكن راغبًا فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة فلا إثم عليه، لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعًا أشد ضررًا من أكل الميتة أو الدم، بل الضرر في ترك الأكل محقق وهو في فعله مظنون كما أن من أكل مما أهلّ به لغير الله مضطرا، لم يقصد إجازة عمل الوثنية.ويحمل معه ما يبلغه الحلال ، فإذا بلغه ألقاه.
    والإنسان بهذه الحالة, مأمور بالأكل, بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة, وأن يقتل نفسه. فيجب, إذًا عليه الأكل, ويأثم إن ترك الأكل حتى مات, فيكون قاتلا لنفسه. وهذه الإباحة والتوسعة, من رحمته تعالى بعباده, فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة:
    إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ : أنَّه رفَع بمغفرته الإثمَ عنهم في تناوُل ما حرَّمه؛ تجاوزًا منه سبحانه، وهو الرَّحيم بعباده، ومن رحمته أنْ شرَع لهم ذلك توسعةً منه.
    أي إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة، إذ وكل ذلك إلى اجتهادهم، رحيم بهم، إذ رخص لهم في تناولها ولم يوقعهم في الحرج والعسر، ورفَع بمغفرته الإثمَ عنهم في تناوُل ما حرَّمه؛ تجاوزًا منه سبحانه، وهو الرَّحيم بعباده، ومن رحمته أنْ شرَع لهم ذلك توسعةً منه.
    وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة " الضرورات تبيح المحظورات " فكل محظور, اضطر إليه الإنسان, فقد أباحه له, الملك الرحمن.
    مع مراعاة القاعدة التالية: الضرورة بقدرها.
    وَلَيْسَ وَاجِبٌ بِلاَ اقْتِدَارِ *****وَلاَ مُحَرَّمٌ مَعَ اضْطِرارِ

    وَكُلُّ مَحْظُورٍ مَعَ الضَّرُورَةْ *****بِقَدْرِ ما تَحْتَاجُهُ الضَّرُورَةْ.
    " إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" 174.
    إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ : يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم ، مما تشهد له بالرسالة والنبوة ، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم.فخشوا لعنهم الله إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم ، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك .فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة .
    وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا : وهو عرض الحياة الدنيا، والحطام الدنيوي .وسمى قليلا لأن كل عوض عن الحق فهو قليل حتى ولو كان ملء الأرض ذهبا.قال تعالى "قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا" النساء: 77.
    أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ:أي إن أولئك الكاتمين لكتاب الله المتّجرين به، ما يأكلون في بطونهم من ثمنه إلا ما يكون سببا لدخول النار، وانتهاء مطامعهم بعذابها.
    وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ :أي لا يكلمهم بالرحمة وبما يسرهم إنما يكلمهم بالتوبيخ . وقيل أراد به أنه يكون عليهم غضبان كما يقال فلان لا يكلم فلانا إذا كان عليه غضبان.
    وَلَا يُزَكِّيهِمْ:أي: ولا يطهرهم من دنس الكفر والذنوب بالمغفرة، من التزكية بمعنى التطهير. يقال: زكاه الله، أي: طهره وأصلحه.
    وتستعمل التزكية بمعنى الثناء، ومنه زكى الرجل صاحبه إذا وصفه بالأوصاف المحمودة وأثنى عليه، فيكون معنى وَلا يُزَكِّيهِمْ لا يثني عليهم- سبحانه- ومن لا يثني عليه الله فهو معذب.
    فهؤلاء الذين كتموا الحق نظير شيء قليل من حطام الدنيا، فقدوا رضا الله عنهم وثناءه عليهم وتطهيره لهم. الوسيط.

    وقيل :أي: إنَّ جزاءَهم في الآخرة مِن جِنس ما عمِلوه في الدُّنيا، فكما أكَلوا في بطونهم ما حرَّم الله تعالى بما اكتَسَبوه من مالٍ حرامٍ؛ لكتمانِهم العِلمَ- فكذلك يُطعَمون يومَ القيامة نارًا في بطونهم؛ جزاءً وِفاقًا.الموسوعة الحديثية/الدرر السنية.
    وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان سوء منقلبهم، وشدة ألم العذاب الذي ينالهم فقال- تعالى- وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أى. موجع مؤلم.
    قال الآلوسى: وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة بحسب المعنى، لأنه لما ذكر- سبحانه- اشتراءهم بذلك- الثمن القليل- وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية، بدأ أولا في الخبر بقوله: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ. وابتنى على كتمانهم واشترائهم بما أنزل الله ثمنا قليلًا، أنهم شهود زور وأحبار سوء، آذوا بهذه الشهادة الباطلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآلموه فقوبلوا بقوله- سبحانه: وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. الوسيط.
    "أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ"175.
    ثم بين- سبحانه- ما هم عليه من جهل وغباء وسوء عاقبة فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ .
    الاشتراء: استبدال السلعة بالثمن. والمعنى: أولئك الذين تقدم الحديث عنهم وهم الكاتمون لما أنزل الله قد بلغ بهم انطماس البصيرة أنهم باعوا الهدى والإيمان ليأخذوا في مقابلهما الكفر والضلال، وباعوا ما يوصلهم إلى مغفرة الله ورحمته ليأخذوا في مقابل ذلك عذابه ونقمته، فما أخسرها من صفقة، وما أخسر هؤلاء الكاتمين الذين فعلوا ذلك نظير عرض من أعراض الدنيا الفانية، فخسروا بما فعلوه دنياهم وآخرتهم. الوسيط.
    بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ: المقصود تعجيب المؤمنين من جراءة أولئك الكاتمين لما أنزل الله على اقترافهم ما يلقي بهم في النار، شأن الواثق من صبره على عذابها المقيم.
    وشبيه بهذا الأسلوب في التعجب- كما أشار صاحب الكشاف- أن تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان: ما أصبرك على القيد والسجن فأنت لا تريد التعجب من صبره، وإنما تريد إفهامه أن التعرض لما يغضبه لا يقع إلا ممن شأنه الصبر على القيد والسجن، والمقصود بذلك تحذيره من التمادي فيما يوجب غضب ذلك السلطان. الوسيط.
    "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ"176.
    لَمَّا ذكَر جلَّ وعلا جزاءهم، ذكَر السَّبب الموجِبَ لهذا العقاب العظيم.
    بين- سبحانه- أن سبب استحقاقهم للعذاب الأليم، هو ارتكابهم لما نهى الله عنه عن قصد وسوء نية فقال: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ.
    أي: ذلك العذاب الأليم حل بهم بسبب أن الله أنزل التوراة مصحوبة ببيان الحق الذي من جملته التبشير ببعثة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم فكتموا هم هذا الحق وامتدت إليه أيديهم الأثيمة بالتحريف والتأويل إيثارا لمطامع دنيوية على هُدَى الله الذي هو أساس كل سعادة.
    فاسم الإشارة ذلِكَ يعود على مجموع ما سبق بيانه من أكل النار، وعدم تكليم الله إياهم، وعدم تزكيتهم.. إلخ.
    والباء في قوله: بِأَنَّ للسببية، والمراد بـ الْكِتَاب: التوراة.
    وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ :
    اختلفوا: خالف بعضهم بعضا، وأصله من اختلاف الطريق، تقول اختلفوا في الطريق.
    أي: جاء بعضهم من جهة والبعض الآخر من جهة أو جهات أخرى. ثم استعمل في الاختلاف في المذاهب والاعتقاد.
    والكتاب: التوراة، أو التوراة والإنجيل، إذ يصح أن يراد جنس الكتاب والمقام يقتضى صرفه إلى هذين الكتابين، وقد أبعد في التأويل من قال بأن المراد به القرآن لأن الحديث عن أهل الكتاب الذين كتموا ما في كتبهم من بشارات بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ،واختلافهم في الكتاب من مظاهره: إيمانهم ببعضه وكفرهم بالبعض الآخر، وتحريفه عن مواضعه وتأويله على غير ما يراد منه.
    والشقاق: الخلاف، هم في عَداوة بعيدة ، كأن كل واحد من المختلفين في شق غير الشق الذي يكون فيه الآخر، وإذا وصف الخلاف بالبعد فهم منه أنه بعيد عن الحق، يقال: قال فلان قولا بعيدا، أي بعيدا من الصواب.
    والمعنى: ذلك العذاب الأليم حل بأولئك الأشقياء بسبب كتمانهم لما أنزله الله في كتابه من الحق، وإن الذين اختلفوا في شأن ما أنزله الله في كتبه فأظهروا منها ما يناسب أهواءهم وأخفوا ما لا يناسبها- لفي بعد شديد عن الحق والصواب.

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة

    من آية 177إلى 182.
    " لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ "177.
    الآيات السابقة قد ذكرت ألوانًا من العقوبات الأليمة التي توعد الله بها كل من يكتم أمرًا نهى الله عن كتمانه، لكي يقلع كل من يتأتى له الخطاب عن هذه الرذيلة وفاء للعهد الذي أخذه الله على الناس بصفة عامة، وعلى أولي العلم بصفة خاصة.
    ثم ساق القرآن الكريم آية جامعة لأنواع البر، ووجوه الخير، تهدي المتمسك بها إلى السعادة الدنيوية والأخروية " لَّيْسَ الْبِرَّ أَن......
    الْبِرّ : اسم جامع لكل خير ، ولكل طاعة وقُرْبَة يتقرب بها العبد إلى خالقه - عز وجل- .
    البِرّ: قُرِئ بالنَّصب والرَّفْع؛ فعَلى قِراءة النصب، فالبرّ خبَر "ليس" مقدَّم منصوب ، وقوله: أَن تُوَلُّوا- مصدر مُؤوَّل، أي: توليكم- في محلِّ رفْع اسم "ليس" مؤخَّر.
    وأمَّا على قراءة رفع البِرّ ، فلا تقديم ولا تأخير. فالبِرّ: اسم "ليس"، وأن تولوا: مصدر مُؤوَّل، أي: توليكم خبرُها في محلِّ نصب خبر "ليس". موسوعة التفسير-الدرر.بقليل تصرف بمزيد تفصيل وتوضيح.
    لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ :
    لما أمر اللهُ تعالى المؤمنين أولًا بالتوجه إلى بيت المقدس ، ثم حولهم إلى الكعبة ، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين ، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك ، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل ، وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجه ، واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة ، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه.تفسير ابن كثير.

    والمعنى : ليس البر - الذي هو كل طاعة يتقرب بها الإِنسان إلى خالقه - في تولية الوجه عند الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب فقط ، وإنما البر الذي يجب الاهتمام به لأنه يؤدي إلى السعادة والفلاح – يكون أيضًا في الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وفي إنفاق المال في وجوه الخير ، وفي اتباع ما ذكرته الآية الكريمة من خصال جليلة .الوسيط و.....
    وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى:
    مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ : وقد ابتدأت الآية حديثها عن خصال البر بالإِيمان بالله ، لأنه أساس كل بِر . وأصل كل خير ، والإِيمان بالله : هو التصديق بأنه إله واحد, موصوف بكل صفة كمال, منزه عن كل نقص ، هو الواحد الفرد الصمد ، الذي لا تعنو – أي لا تخضع - الوجوه إلا له ، ولا تتجه القلوب بالعبادة إلا إليه ، ومتى رسخ هذا الإِيمان في النفوس ارتفع بها إلى مكانة التكريم التي أرادها الله - تعالى - لبني آدم وصانها عن الذلة والاستكانة وأعطاها نبراس الهداية والسداد في كل نواحي الحياة .
    وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ" الإيمانُ باليَومِ الآخِرِ: هو التَّصديقُ بيَومِ القيامةِ، وما اشتَمَلَ عليه مِنَ الإعادةِ بَعدَ المَوتِ، والنَّشْرِ، والحَشْرِ، والحِسابِ والميزانِ والصِّراطِ، والجَنَّةِ والنَّارِ، وأنَّهما دارَا ثَوابِه وجَزائِه لِلمُحْسِنِينَ والمُسيئِينَ، إلَى غَيرِ ذلك مِمَّا صَحَّ نَصُّه، وثَبَتَ نَقلُه"ا.هـ.
    وقال ابنُ بازٍ: أمَّا الإيمانُ باليَومِ الآخِرِ فيَدخُلُ فيه الإيمانُ بكُلِّ ما أخبَرَ اللَّهُ به ورُسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِمَّا يَكونُ بَعدَ المَوتِ كَفتنةِ القَبرِ وعَذابِه ونَعيمِه، وما يَكونُ يَومَ القيامةِ مِنَ الأهوالِ والشَّدائِدِ والصِّراطِ والميزانِ والحِسابِ والجَزَاءِ ونَشْرِ الصُّحُفِ بَينَ النَّاسِ، فآخِذٌ كِتابَه بيَمينِه وآخِذٌ كِتابَه بشِمالِه، أو من وراءِ ظَهرِه، ويَدخُلُ في ذلك أيضًا الإيمانُ بالحَوضِ المَورودِ لنَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والإيمانُ بالجَنَّةِ والنَّارِ، ورُؤيةِ المُؤمِنينَ لِرَبِّهم سَبحانَه وتَكليمِه إيَّاهم، وغَيرُ ذلك مِمَّا جاءَ في القُرآنِ الكِريمِ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ عَن رَسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَجِبُ الإيمانُ بذلك كُلِّه وتَصديقُه على الوَجهِ الَّذي بَيَّنَه اللَّهُ ورُسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.مجموع فتاوى ابن باز: 1/ 21.الموسوعة العقدية.الدرر.
    والإِيمان باليوم الآخر من ثماره أنه يغرس في النفوس محبة الخير ، والحرص على إسداء المعروف وينفرها من اقتراف الشرور وارتكاب الآثام .
    وَالْمَلَائِكَة ِ : أجسام لطيفة نورانية ، قادرون على التشكل في صورة حسنة مختلفة ، وصفهم القرآن بأنهم" لَا يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ "التحريم:6. - ومن وجوه دخول التصديق بالملائكة - في حقيقة الإِيمان ، أن الله وسطهم في إبلاغ وحيه لأنبيائه ، وبيَّن ذلك في كتابه ، وتحدث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عنهم في كثير من أحاديثه ، فمن لم يؤمن بالملائكة على هذا الوجه الذي جاءت به الشريعة فقد أنكر الوحي ، إذ الإِيمان بهم أصل للإِيمان بالوحي ، فيلزم من إنكارهم إنكار الوحي ، وهو يستلزم إنكار النبوة وإنكار الدار الآخرة .الوسيط.
    وَالْكِتَابِ : والمراد به القرآن لأنه المقصود بالدعوة ، ولأنه هو الأمين على الكتب قبله ، فما وافقه منها كان حقًا وما خالفه كان باطلًا. والإِيمان به يستلزم الإِيمان بجميع الكتب المنزلة من عند الله على أنبيائه ، لأنه هو الذي أخبرنا بذلك وأمرنا بذلك وأمرنا بأن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله .الوسيط.
    الإيمان بالكتب السابقة فهو إيمان مجمل يتناول أصولها وما فيها من حق دون ما أدخل فيها من تحريف وتبديل؛ لأن الله أمر بالإيمان بها مع ذكره سبحانه أن أهلها قد حرفوها وغيروا فيها، فالإيمان بأصولها وأنها من عند الله دون ما فيها من تحريف وتبديل فهذا مردود على أصحابه، قال تعالى‏:‏ ‏"‏فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً"سورة البقرة‏:‏ آية 79‏‏، وقال تعالى"وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"سورة آل عمران‏:‏ آية.78.واقتضت حكمة الله أن تكون الكتب السابقة لآجال معينة ولأوقات محدودة.
    أما الإيمان بالقرآن؛ فإنه إيمان مفصل؛ يكون بالإقرار به بالقلب واللسان، واتباع ما جاء فيه،وتحكيمه في كل صغيرة وكبيرة ،والإيمان بأنه كلام الله غير مخلوق ، القرآن الكريم محفوظ من الخالق الأعلى، قال سبحانه وتعالى
    "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"الحجر:9. ...
    وَالنَّبِيِّينَ : أي : التصديق بأنهم رجال اصطفاهم الله - تعالى - لتلقي هدايته وكتبه وتبليغها للناس بصدق وأمانة وسلامة بصيرة .
    والنبيون الذين يجب الإِيمان بهم : كل من ثبتت نبوته عن طريق القرآن الكريم أو الحديث الصحيح. ولقد قام الدليل القاطع على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين.
    قال صلى الله عليه وسلم" إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به، ويَعْجَبُونَ له، ويقولونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ؟ قالَ: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتِمُ النَّبيِّينَ."الراوي : أبو هريرة - صحيح البخاري.
    وفي هذا الحَديثِ يَضرِبُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المثَلَ له وللنَّبيِّينَ صلَّى اللهُ عليهم وسلَّمَ، وما بَعَثَهمُ اللهُ به مِن الهُدى والعِلمِ، وما يَنفَعُ النَّاسَ؛ كمَثلِ رَجلٍ بَنى بَيتًا، إلَّا أنَّ هذا البِناءَ مع جَمالِه وحُسنِه، كانت هناك لَبِنةٌ واحِدةٌ فيه بَقيَ مَوضِعُها فارِغًا، واللَّبِنةُ هي القِطعةُ مِن الطِّينِ، تُعجَنُ وتُعَدُّ للبِناءِ، ويُقالُ لها -ما لم تُحرَقْ : لَبِنةٌ، فإذا أُحرِقتْ فهي آجُرَّةٌ.فجعَلَ النَّاسُ يَطوفونَ بالبيتِ، ويَعجَبونَ مِن حُسنِه، ويَقولونَ: لو وُضِعَتْ هذه اللَّبِنةُ لَكان غايةً في الحُسنِ والكَمالِ، فكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو اللَّبِنةَ الَّتي بها اكتمَلَ البِناءُ؛ فهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالنِّسبةِ إلى الأنْبياءِ السَّابِقينَ كاللَّبِنةِ المُتَمِّمةِ لذلك البِناءِ؛ لأنَّ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَمالَ الشَّرائِعِ السَّابِقةِ، وليس مَعنى هذا أنَّ الأدْيانَ السَّابِقةَ كانت ناقِصةً، وإنَّما المُرادُ أنَّه وإنْ كانت كُلُّ شَريعةٍ كامِلةً بالنِّسبةِ إلى عَصرِها، فإنَّ الشَّريعةَ المُحَمَّديَّةَ هي الشَّريعةُ الأكمَلُ والأتَمُّ، وكَونُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاتَمَ النَّبيِّينَ، أي: لا نَبيَّ بعْدَه.الدرر.
    وقد جمعت هذه الأمور الخمسة التي ذكرتها الآية كل ما يلزم أن يُصَدِّق به الإِنسان ، ليكون ذا عقيدة سليمة ، تصل به إلى الفلاح والسعادة .
    ".....ما الإيمانُ قالَ أن تؤمِنَ باللَّهِ وملائكتِهِ ورسلِهِ وكتبِهِ واليومِ الآخرِ والقدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ ....." الراوي : عمر بن الخطاب - المحدث : الألباني-المصدر :صحيح ابن ماجه.

    ثم ذكرت الآية بعد بيان أصول الإِيمان لمحة من الأعمال الصالحة فقالت:
    وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ: أي: ومِن الأعمال الدَّاخلةِ في مسمَّى البِرِّ: أنْ يُعطيَ العبدُ المالَ وهو محبٌّ له وراغبٌ فيه.
    " جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وتَأْمُلُ الغِنَى، ولَا تُمْهِلُ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، ولِفُلَانٍ كَذَا وقدْ كانَ لِفُلَانٍ."الراوي : أبو هريرة - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري .
    شرح الحديث:أَنْ تَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وتَأْمُلُ الغِنَى :صحيحٌ ليس فيه مرَضٌ أو عِلَّةٌ تقْطَعُ أمَلَه في الحياةِ، وهو وقتٌ يُصادِفُ مَن يكونُ مِن شأنِه الشُّحُّ، وهو البُخلُ مع الحِرصِ، ويَخافُ مِن الوُقوعِ في الفَقرِ، ويَأْمُلُ الغِنَى ويَرجوه ويَطمَعُ فيه لِنفْسِه، وهذا في فَترةِ الحياةِ كلِّها، وخاصَّةً وقْتَ الرَّغدِ والنَّعيمِ، فيَكونُ الإنسانُ أكثَرَ حِرصًا، فإذا تصَدَّق مع كلِّ هذه المَوانعِ والمُغرياتِ الَّتي تَحُثُّه على حِفظِ المالِ فذلك أعظَمُ أجرًا.
    ولَا تُمْهِلُ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، ولِفُلَانٍ كَذَا وقدْ كانَ لِفُلَانٍ: ثمَّ حذَّره النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن آفةٍ تُصيبُ كثيرًا مِن النَّاسِ، وذلك بأنَّ يَنتظِرَ ويَتمهَّلَ ويؤخِّرَ التصَدُّقَ، حتَّى إذَا بَلَغَت رُوحُه الحُلْقُومَ، وشعَرَ بقُربِ المَوتِ، وتأكَّدَ أنَّ المالَ لن يَنفَعَه، وأنَّه سيَترُكُه- أَوْصى لِفُلَانٍ بكذا، ولِفُلانٍ بكذا، وأخبَرَ أنَّه قدْ كان لِفُلانٍ مِن الدُّيونِ أو الحُقوقِ، وقد أصبَح المالُ مِلكًا للورَثةِ، فهذا أقَلُّ أجرًا.فبيَّنَ لنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ أفضَلَ الصَّدقةِ أن تَتصدَّقَ حالَ حياتِك وصحَّتِك، مع احتياجِك إلى المالِ واختصاصِك به، لا في حالِ سقَمِك وسياقِ مَوتِك؛ لأنَّ المالَ حينَئذٍ خرَج عنك وتعلَّقَ بغيرِك.الدرر السنية.
    ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ:
    فيدفعه صدقةً لأقاربِه، وللصِّغار اليتامى الَّذين فقدوا آباءهم وهم دون البلوغ ولا كاسبَ لهم، وللمساكين الَّذين لا يجِدون ما يَكفيهم ويُغْنيهم، وللمسافر المجتاز يريد نفقةً تُوصلُه لموطنه، وللطَّالبين حاجةً ممَّا يعرِضُ لهم مِن سوء، ولعِتْق الرِّقاب ونحوها - الأسارى والأرقاء-. أي : آتى المال على حبه في تخليص الأسرى من أيدي العدو بفدائهم ، وتخليص الأرقاء بشرائهم وإعتاقهم ، وهذه الأوصناف الستة التي ذكرت في تلك الآية الكريمة ليس المقصود من ذكرها الاستيعاب والحصر ، ولكنها ذكرت كأمثلة وخصت بالذكر لأنها أحوج من غيرها إلى العون والمساعدة.
    عني القرآن عناية كبرى بالفقراء والمساكين وجميع أصناف المحتاجين بالحث على الإِنفاق عليهم ، وبذل العون في مساعدتهم - وأيضًا - هناك عشرات الأحاديث في الحض على مد يد العون إلى ذوي القرابة والمعسرين ، وذلك لأن المجتمعات تحيا وتنهض بالتراحم ، وتذل وتشقى بالتقاطع والتدابر بين أبنائها .
    ثم ذكرت الآية ألوانًا أخرى من البر تدل على قوة الإِيمان وحسن الخلق فقالت : وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ:
    وَأَقَامَ الصَّلَاةَ :وإقامة الصلاة أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وسننها وخشوعها على الوجه الشرعي الذي أمر الله به.
    وَآتَى الزَّكَاةَ:أي الزكاة المفروضة على الوجه الذي فصلته السنة المطهرة، وإيتاؤها : يكون بإعطائها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهم ممن ذكرهم الله في قوله - تعالى " إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبُهُمْ وَفِي الرقاب والغارمين وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل فَرِيضَةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ "التوبة:60. وفي ذكر الزكاة المفروضة بعد ذكر إيتاء المال على حبه لذوي القربى واليتامى . . إلخ دليل على أن في الأموال حقوقًا لذوي الحاجات سوى الزكاة ، وذلك لأنه من المعروف بين أهل العلم أن الحاجة إذا بلغت بطائفة من أبناء الأمة حد الضرورة ، يجب على الأغنياء منهم أن يسعو في سدها ولو مما زاد على قدر الزكاة .
    والأغنياء الذين يكتفون بدفع الزكاة ، ولا يمدون يد المساعدة لسد حاجة المحتاجين ، وتفريج كرب المكروبين ، ودفع ضرورة البائسين ، ليسوا على البر الذي يريده الله من عباده المتقين .
    وقلما تجئ الصلاة في القرآن الكريم إلا وهي مقترنة بالزكاة, لكونهما أفضل العبادات, وأكمل القربات, عبادات قلبية, وبدنية, ومالية, وبهما يوزن الإيمان, ويعرف ما مع صاحبه من اليقين.
    وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا الوفاء بالعهد يشمل ما عاهد المؤمنون عليه الله من الإِذعان لكل ما جاء به الدين ،. فدخل في ذلك حقوق الله كلها, لكون الله ألزم بها عباده والتزموها, ودخلوا تحت عهدتها, ووجب عليهم أداؤها.ويشمل ما يعاهد به الناس بعضهم بعضًا مما لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا ، وحقوق العباد, التي أوجبها الله عليهم.
    ويشمل الحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور, ونحو ذلك
    والموفون بعهدهم هم الذين إذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا بروا في أَيمانهم ، وإذا قالوا صدقوا في قولهم ، وإذا ائتمنوا أدوا الأمانة ، وقد وعدهم الله على ذلك بأجزل الثواب ، وأعلى الدرجات .
    وفي قوله - تعالى " إِذَا عَاهَدُواْ " إشارة إلى أن إيفاءهم بالعهد لا يتأخر عن وقت حصول العهد .
    ثم ختم - سبحانه - خصال البر بقوله : وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ :
    البأساء من البؤس ، وهي ما يصيب الناس في الأموال كالفقر والاحتياج .والضراء من الضر ، وهي ما يصيبهم في أنفسهم كالأمراض والأسقام. وحين البأس ، أي : ووقت القتال في سبيل الله لإعلاء كلمته .
    وليس الصبر هو الخضوع والاستكانة والاستسلام من غير مقاومة ولا عمل وإنما الصبر جهاد ومحاولة للتغلب على المصاعب ، ومع الاحتفاظ برباطة الجأش والثقة بحسن العاقبة .
    وقد خصت الآية ثلاثة حالات بالصبر؛ لأن هذه الحالات هي أبرز الأشياء التي يظهر فيها هلع الهالعين وجزع الجازعين ، كما يتميز فيها أصحاب النفوس القوية المطمئنة من غيرهم .
    وخص هذه المواطن الثلاثة مع أن الصبر محمود في جميع الأحوال، لأن من صبر فيها كان في غيرها أصبر فالفقر إذا اشتدت وطأته ضاق به الصدر، وكاد يفضي إلى الكفر، والضرّ إذا برّح بالبدن أضعف الأخلاق والهمم، وفي الحرب التعرض للهلاك بخوض غمرات المنيّة والظفر مقرون بالصبر، وبالصبر يحفظ الحقّ الذي يناضل صاحبه دونه.
    أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ:
    أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا : أي صدقوا في دعواهم الإيمان، دون الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.
    وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ : أي وأولئك هم الذين جعلوا بينهم وبين سخط الله وقاية، بالبعد عن المعاصي التي توجب خذلان الله في الدنيا، وعذابه في الآخرة.
    وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على خمسة عشر نوعًا من أنواع البر الذي يهدي إلى الحياة السعيدة في الدنيا ، وإلى رضا الله - تعالى - في الآخرة ، وذلك لأنها قد أرشدت إلى أن البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير : بر في العقيدة ، وبر في العمل ، وبر في الخلق .
    بر العقيدة: فقد بينته أكمل بيان في قوله تعالى "مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ "
    وبر في العمل: ذُكِرَ في قوله تعالى : وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ:
    ولا شك أن إنفاق المال في تلك الوجوه من شأنه أن يسعد الأفراد والجماعات والأمم ، ويكون مظهرًا من أفضل مظاهر العمل الصالح الذي يرضي الله - تعالى - .
    وأما بر الخلق: فقد ذُكِرَ بأحكم عبارة في قوله - تعالى :وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ.
    وذلك لأن التمسك بهذه الفضائل . أداء الصلاة وإيتاء الزكاة . والوفاء بالعهود ، والتذرع بالصبر - يدل على صفاء الإِيمان وطهارة الوجدان وحسن الخلق وكمال الاستقامة .
    وهكذا تجمع آية واحدة من كتاب الله بين بِرِّ العقيدة و بِرِّ العمل و بِرِّ الخُلُق ، وتربط بين الجميع برباط واحد لا ينفصم ، وتضع على هذا كله عنوانًا واحدًا " البِرّ " وتمدح من استجمع أنواعه بالصدق والتقوى .الوسيط.
    "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ "178.
    بعد أن بيَّن - سبحانه - أنَّ البِرَّ الجامعَ لألوانِ الخيرِ يتجلى في الإِيمان بالله واليوم الآخر .... . وفي بذل المال في وجوه الخير ، وفي المحافظة على فرائضة - سبحانه - وفي غير ذلك من أنواع الطاعات التي ذكرتها الآية السابقة بعد كل ذلك شرع - سبحانه - في بيان بعض الأحكام العملية الجليلة التي لا يستغني عنها الناس في حياتهم ، وبدأ هذه الأحكام بالحديث عن حفظ الدماء لماله من منزلة ذات شأن في إصلاح العالم.
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى :
    كُتِبَ عَلَيْكُمُ : أي : فُرِضَ عليكم .
    الْقِصَاصُ: العقوبة بالمثل من قتل أو جرح .
    وقد وجه - سبحانه - الخطاب إلى المؤمنين كافة مع أن تنفيذ الحدود من حق الحاكم لإشعارهم بأن عليهم جانبًا من التبعة في تنفيذ هذه العقوبات التي شرعها الله .ولإِشعارهم كذلك بأنهم مطالبون بعمل ما يساعد الحكام على تنفيذ الحدود بالعدل . وذلك بتسليم الجاني إلى المكلفين بحفظ الأمن ، وأداء الشهادة عليه بالحق والعدل ، وغير ذلك من وجوه المساعدة.
    والمعنى : يأيها الذين آمنوا فرض عليكم وأوجب القصاص بسبب القتلى . بأن تقتلوا القاتل عقوبة له على جريمته مع مراعاة المساواة التي قررها الشارع الحكيم ، فلا تتعدوا بالقصاص إلى غير القاتل والجاني -كما لو قَتلت الأُنثى أُنثى أُخرى، فإنَّ الأنثى الجانية هي التي تُقتل، ولا يَحِلُّ أن يُقتل بهذه الأنثى المقتولة رجلٌ لم يقتلها، ومثل ذلك: الحرُّ بالحرِّ، والعبدُ بالعبد، والذَّكَرُ بالذَّكَر-، كما لا يجوز لكم أن تسرفوا في القتل بأن تقتلوا القاتل وغيره من أقاربه .وقد بين العلماء أن القصاص يفرض عند القتل الواقع على وجه التعمد والتعدي . وعند مطالبة أولياء القتيل بالقود - أي القصاص - من القاتل . ولفظ " في " في قوله - تعالى : فِي القتلى : للسببية ، أي : فرض عليكم القصاص بسبب القتلى . كما في قوله صلى الله عليه وسلم " دخلت امرأة النار في هرة " أي بسببها ." دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، ولَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِن خَشَاشِ الأرْضِ" .الراوي : عبدالله بن عمر - صحيح البخاري.
    وقوله تعالى " الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى" بيان لمعنى المساواة في القتل المشار إليها بلفظ القصاص فالجملة تتمة لمعنى الجملة السابقة ، ومفادها أنه لا يقتل في مقابل المقتول سوى قاتله ، لأن قتل غير الجاني ليس بقصاص بل هو اعتداء يؤدى إلى فتنة في الأرض وفساد كبير وقد يفهم من مقابلة " الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " أنه لا يقتل صنف بصنف آخر ، وهذا الفهم غير مراد على إطلاقه ، فقد جرى العمل منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل الرجل بالمرأة .-طالما المرأة قتلت رجل تقتل، ولو قتل رجل امرأة يقتل وهذا تفصيل ما سبق- .
    قال القرطبي " أجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل " .
    والخلاف في قتل الحر بالعبد . فبعض العلماء يرى قتل الحر بالعبد ، وبعضهم لا يرى ذلك ، ولكل فريق أدلته التي يمكن الرجوع إليها في كتب الفقه .
    والغرض الذي سيقت من أجله الآية الكريمة ، إنما هو وجوب تنفيذ القصاص بالعدل . والمساواة وإبطال ما كان شائعًا في الجاهلية من أن القبيلة القوية كانت إذا قتلت منها القبيلة الضعيفة شخصًا لا ترضى حتى تقتل في مقابلة من الضعيفة أشخاصًا . وإذا قتلت منها عبدًا تقتل في مقابله حرًا أو أحرارًا ، وإذا قتلت منها أنثى قتلت في نظيرها رجلًا أو أكثر . فيترتب على ذلك أن ينتشر القتل ، ويشيع الفساد ، وقد حكى لنا التاريخ كثيرًا مما فعله الجاهليون في هذا الشأن .
    ثم أورد - سبحانه - بعد إيجابه للقصاص العادل - حكمًا يفتح باب التراضي ، بين القاتل وأولياء المقتول ، بأن أباح لهم أن يسقطوا عنه القصاص إذا شاؤوا ويأخذوا في مقابل ذلك الدية. فقال سبحانه:
    فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ :
    عُفِيَ : من العفو وهو الإِسقاط . والعفو عن المعصية ، ترك العقاب عليها . والذي "عُفِيَلَهُ" هو القاتل ، و "أَخِيهِ"الذي عفا هو ولي المقتول . والمراد بلفظ "شَيْء"القصاص.
    والمعنى : أن القاتل عمدًا إذا أسقط عنه أخوه ولي دم القتيل القصاص ، راضيًا أن يأخذ منه الدِّيَة بدل القصاص ، فمن الواجب على ولي الدم أن يتبع طريق العدل في أخذ الدِّيَة من القاتل بحيث لا يطالبه بأكبر من حقه ، ومن الواجب كذلك على القاتل أن يدفع له الدِّيَة بالإحسان ، بحيث لا يماطله ولا يبخسه حقه .
    فقوله - تعالى" فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وصية منه - سبحانه - لولي الدم أن يكون رفيقًا في مطالبته القاتل بدفع الدية .
    وقوله"وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ"وصية منه - سبحانه - للقاتل بأن يدفع الدِّيَة لولي الدم بدون تسويف أو مماطلة .
    وفي هذه الوصايا تحقيق لصفاء القلوب ، وشفاء لما في الصدور من آلام ، وتقوية لروابط الأخوة الإِنسانية بين البشر . وسمى القرآن الكريم القاتل أخا لولي المقتول ، تذكيرًا بالأخوة الإِنسانية والدينية ، حتى يهز عطف كل واحد منهما إلى الآخر ، فيقع بينهم العفو ، والاتباع بالمعروف ، والأداء بإحسان .
    ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ:أي : ذلك الذي شرعناه لكم من تيسير أمر القصاص بأداء الدية إلى ولي القتيل إذا رضي طائعًا مختارًا ، أردنا منه التخفيف عليكم إذ في الدِّيَة تخفيف على القاتل بإبقاء حياته وإنقاذها من القتل قصاصًا ، وفيها كذلك نفع لولي القتيل ، إذ هذا المال الذي أخذه نظير عفوه يستطيع أن ينتفع به في كثير من مطالب حياته .
    وبهذا نرى أن الإِسلام قد جمع في تشريعه الحكيم لعقوبة القتل بين العدل والرحمة ..وبالعدالة والرحمة تسعد الأمم وتطمئن في حياتها؛ إذ العدالة هي التي تكسر شره النفوس ، وتغسل غل الصدور ، وتردع الجاني عن التمادي في الاعتداء ، لأنه يعلم علم اليقين أن من وراء الاعتداء قصاصًا عادلًا .
    والرحمة هي التي تفتح الطريق أمام القلوب لكي تلتئم بعد التصدع وتتلاقَى بعد التفرق ، وتتوادد بعد التعادي ، وتتسامَى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو . فلله هذا التشريع الحيكم الذي ما أحوج العالم إلى الأخذ به . والتمسك بتوجيهاته .
    ثم ختم - سبحانه - الآية بالوعيد الشديد لمن يتعدى حدوده ، ويتجاوز تشريعه الحيكم فقال : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ:
    أي : فمن تجاوز حدوده بعد هذا التشريع الحكيم الذي شرعناه بأن قتل القاتل بعد قبول الدية منه ، أو بأن قتل غير من يستحق القتل فله عذاب شديد الألم؛ من الله - تعالى - لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول يدل على نكث العهد ، ورقه الدين ، وانحطاط الخلق .
    ثم بين - سبحانه - الحكمة في مشروعية القصاص توطينًا للنفوس على الانقياد له ، وتقوية لعزم الحكام على إقامته فقال - تعالى :
    "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"179. أي : ولكم في مشروعية القصاص حياة عظيمة ، فالتنوين للتعظيم "حَيَاةٌ ".
    أي: إنَّ في مشروعيةِ القِصاص حياةً، لِمَن أعمَل عقلَه؛ ليتدبَّرَ ويفهمَ عن الله تعالى مرادَه من هذا الحُكم، فينزجِر ويجتنِب القتل؛ فإنَّ مَن أراد القتل إذا علِم أنَّه يُقتَل قِصاصًا بمن قتَله، كفَّ عن القتل؛ فكان في ذلك حياةٌ له ولِمَن أراد قَتْلَه، وإذا رُئي القاتلُ مقتولًا انزَجر بذلك غيرُه، كما أنَّه كان في أهل الجاهليَّةِ مَن إذا قُتل الرَّجلُ مِن قومهم قتَلوا به أكثرَ مِن واحد من عشيرةِ القاتل؛ فشرَع اللهُ تعالى القِصاص، فلا يُقتَلُ بالمقتولِ غيرُ قاتلِه، وفي ذلك حياةٌ لقومِه .موسوعة التفسير.الدرر السنية.
    لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ : أي ولما كان في القصاص حياة لكم كتبناه عليكم وشرعناه لكم لعلكم تتقون تتقون القتل و الاعتداء فتسلَمون من القصاص وتكفّون عن سفك الدماء، إذ العاقل يحرص على الحياة، ويحترس من غوائل القصاص.
    وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة, أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله, ويعظم معاصيه فيتركها, فيستحق بذلك أن يكون من المتقين.
    "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين َ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ"180.
    فبعد أن يوصي الحق عباده بأن يضربوا في الحياة ضربًا يوسع رزقهم ليتسع لهم، ويفيض عن حاجتهم، فهذا الفائض هو الخير،فعليه أن يوصي به قبل أن يموت.
    أي: فرض الله عليكم, يا معشر المؤمنين " إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ" فسر بحضور أسباب الموت ، وظهور أماراته ، من نحو العلل المخوفة والهرم البالغ, وحضور أسباب المهالك.ولكن نظرًا لأنه لا يعرف أحد متى يموت فعليه أن يوصي وصية عامة لكن أموره ....
    عن عبد الله بن عمر أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ" ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ له شيءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا ووَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ".
    الراوي : عبدالله بن عمر -صحيح البخاري.
    في الحديث :حثَّ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وأكَّدَ على المُبادَرةِ بكِتابةِ الوَصيَّةِ قبْلَ مُباغَتةِ الموتِ، وبيَّنَ أنَّه لَيس لائقًا بالمسلمِ -سَواءٌ كان رجُلًا أو امرأةً- وله شَيءٌ يُوصِي فيه مِن الأموالِ، والبَنينَ الصِّغارِ، والحُقوقِ التي له، وعليه؛ مِن دِيونٍ، وكفَّاراتٍ، وزَكَواتٍ فرَّطَ فيها، أنْ تَمضِيَ عليه لَيلتانِ أو أكثرُ؛ إلَّا ووَصيَّتُه بهذا الشَّيءِ مَكتوبةٌ ومَحفوظةٌ عِندَه.
    وفيه: أنَّ الأشياءَ المهمَّةَ يَنْبغي أنْ تُضبَطَ بالكتابةِ؛ لأنَّها أثبَتُ مِن الضَّبطِ بالحِفظِ؛ لأنَّه يَخونُ غالِبًا.
    وفيه: النَّدبُ إلى التَّأهُّبِ للموتِ، والاحترازِ قبْلَ الفَوتِ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يَدْري مَتى يَفجَؤُه الموتُ.الدرر السنية.
    .علينا أن نفهم أن الحق ينبهنا إلى أن يكتب الإنسان ما له وما عليه في أثناء حياته. فيقول ويكتب وصيته التي تنفذ من بعد حياته. يقول المؤمن: إذا حضرني الموت فلوالدي كذا وللأقربين كذا.
    أي أن المؤمن مأمور بأن يكتب وصيته وهو صحيح، ولا ينتظر وقت حدوث الموت ليقول هذه الوصية.
    إِن تَرَكَ خَيْرًا: وهو المال الكثير عرفًا, فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف, على قدر حاله من غير سرف, ولا اقتصار على الأبعد, دون الأقرب، بل يرتبهم على القرب والحاجة, ولهذا أتى فيه بأفعل التفضيل. وقوله" حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ " دل على وجوب ذلك, لأن الحق هو: الثابت، وقد جعله الله من موجبات التقوى. واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين, مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل، والأحسن في هذا أن يقال: إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة, ردها الله تعالى إلى العرف الجاري. ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث, بعد أن كان مجملًا، وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو وصف - أو لمانع من الإِرث كالكفر والاسترقاق ، وقد كانوا حديثي عهد بالإِسلام يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقد أوصى الله بالإِحسان إليهما .-, فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره، وهذا القول تتفق عليه الأمة, ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين, لأن كلا من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا, واختلف المورد. فبهذا الجمع, يحصل الاتفاق, والجمع بين الآيات, لأنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ, الذي لم يدل عليه دليل صحيح.
    وإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران فهما لا يرثانه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ وَلَا الكَافِرُ المُسْلِمَ.
    الراوي : أسامة بن زيد - صحيح البخاري. لكن له أن يوصي لهما بما يؤلّف به قلوبهما. فقد نص أهل العلم على جواز الوصية لغير المسلم ما لم تكن بمصحف، فقد نقل صاحب التاج والإكليل في شرحه لمختصر خليل المالكي عن مالك قوله: ..... إن الوصية للكافر الذمي فيها أجر على كل حال، والكراهة إنما لإيثار الذمي على المسلم لا بنفس الوصيةاتفق الفقهاء المسلمون من الحنفية والحنابلة وأكثر الشافعية على صحة الوصية إذا صدرت من مسلم لذميّ ، أو من ذمي لمسلم ، بشروط الوصية الشّرعية ، واحتجوا لذلك بقوله تعالى "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ." سورة الممتحنة /8 ، ولأن الكفر لا ينافي أهلية التملك ، وكما يصح بيع الكافر وهبته فكذلك تصحّ وصيته.
    يَحكي سَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه "جاءَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعُودُنِي وأنا بمَكَّةَ، وهو يَكْرَهُ أنْ يَمُوتَ بالأرْضِ الَّتي هاجَرَ مِنْها، قالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْراءَ، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُوصِي بمالِي كُلِّهِ؟ قالَ: لا، قُلتُ: فالشَّطْرُ؟ قالَ: لا، قُلتُ: الثُّلُثُ؟ قالَ: فالثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إنَّكَ أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِياءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَدَعَهُمْ عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ في أيْدِيهِمْ، وإنَّكَ مَهْما أنْفَقْتَ مِن نَفَقَةٍ، فإنَّها صَدَقَةٌ، حتَّى اللُّقْمَةُ الَّتي تَرْفَعُها إلى فِي امْرَأَتِكَ، وعَسَى اللَّهُ أنْ يَرْفَعَكَ، فَيَنْتَفِعَ بكَ ناسٌ ويُضَرَّ بكَ آخَرُونَ. ولَمْ يَكُنْ له يَومَئذٍ إلَّا ابْنَةٌ."الراوي : سعد بن أبي وقاص - صحيح البخاري.
    "فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" 181.
    ثم توعد - سبحانه - من يبدل الوصية أي يغيرها بعد ما علمها،وتغيير الوصية يتأتى بالزيادة في الموصَى به أو النقص منه أو كتمانه ، أو غير ذلك من وجوه التغيير للموصَى به بعد وفاة الموصِي .
    بَعْدَ مَا سَمِعَهُ : أي علمه وتحقق منه ، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله . والضمائر البارزة في " بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه " عائدة على القول أو على الكلام الذي يقوله الموصِي والذي دل عليه لفظ الوصية أو على الإِيصاء المفهوم من الوصية ، وهو الإِيصاء أو القول الواقع على الوجه الذي شرعه الله .
    فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ:والمعنى : فمن غير الإِيصاء الذي أوصى به المتوفى عن وجهه ، بعدما علمه وتحقق منه ، فإنما إثم ذلك التغيير في الإيصاء يقع على عاتق هذا المُبَدِّل ، لأنه بهذا التبديل قد خان الأمانة ، وخالف شريعة الله ، ولن يلحق الموصي شيئًا من الإِثم لأنه قد أدى ما عليه بفعله للوصية كما يريدها الله - تعالى .
    وقد ختمت الآية بقوله - تعالى " إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ " للإِشعار بالوعيد الشديد الذي توعد الله به كل من غير وبدل هذا الحق عن وجهه ، لأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شيء من حيل الناس الباطلة ، فهو - سبحانه سميع لوصية الموصي ،وسميع وعليم بما يقع فيها من تبديل وتحريف.
    "فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"182.
    ثم استثنى من إثم التبديل حالة ما إذا كان للإصلاح وإزالة التنازع.
    خَافَ : من الخوف ، وهو في الأصل حالة تعتري النفس عند الانقباض من شر يتوقع حصوله على سبيل الظن أو على سبيل العلم .
    والجنف : الميل والجور
    أَوْ إِثْمًا : والإِثم : الذَّنب الذي يَسْتحقّ فاعله العُقوبة عليه. أثم: تدل على أصل واحد، وهو البطء والتأخر. يقال: ناقة آثمة، أي: متأخرة. و"الإثم" مشتق من ذلك؛ لأن ذا الإثم بطيء عن الخير متأخر عنه.إسلام ويب.
    ويرى جمهور العلماء أن هذه الآية الكريمة واردة في الوصي يرى أن الموصِي قد حاد في وصيته عن حدود العدل ، فللوصي حينئذ أن يصلح فيها بحيث يجعلها متفقة مع ما شرعه الله ، وهو في هذه الحالة لا إثم عليه لأنه قد غير الباطل بالحق وعلى هذا الرأي يكون المعنى : أن الوصي إذا رأى في الوصية ميلًا عن الحق خطأ أو عمدًا وأصلح بين الموصَى لهم يردهم إلى الوجه المشروع فلا إثم عليه في التغيير في الوصية .

    والضمير في قوله " بَيْنَهُمْ " عائد على الموصى لهم .
    وقوله " إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ " تذييل أتى به - سبحانه - للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه ، فإن من يغفر الذنوب ويرحم المذنبين تكون مغفرته ورحمته أقرب إلى من يقصد بعمله الإِصلاح ولو اعتمد على ظن غالب أو أخطأ وجه الصواب فيما أتى من أعمال .
    وبهذا تكون الآيات الكريمة قد بينت للناس حكمًا آخر من أحكامها السامية ، يتعلق بالوصية في الأموال ، وفي هذا الحكم دعوة إلى التراحم والتكافل ، وغرس لأواصر المودة والمحبة بين الأبناء والآباء وبين الأقارب بعضهم مع بعض .الوسيط.

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة


    من آية 183إلى188.

    "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"183.
    لما ذكر سبحانه ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية ذكر أيضا عبادة عظيمة من العبادات التي جعلها الله - تعالى - ركنًا من أركان الإِسلام وهي صوم رمضان.
    قال صلى الله عليه وسلم "بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ."الراوي : عبدالله بن عمر- صحيح البخاري .
    الصيام مصدر صام كالقيام مصدر قام ، وهو في اللغة : الإِمساك وترك التنقل من حال إلى حال ، فيقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام ومنه قوله - تعالى - مخبرًا عن مريم " إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْمًا " أي : سكوتًا عن الكلام . وصوم الريح ركودها وإمساكها عن الهبوب وتقول العرب : صام النهار وصامت الشمس عند قيام الظهيرة لأنها كالممسكة عن الحركة .
    الصيامُ في شريعةِ الإسلامِ عِبادةٌ بدنيَّةٌ، تعني: الإمساكَ، بنيَّةِ التعبُّدِ، عن الأكْلِ والشُّربِ وغِشيانِ النِّساءِ، وسائرِ المُفطِّراتِ، مِن طلوعِ الفَجرِ إلى غُروبِ الشَّمسِ.
    كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ : أي : أن عبادة الصوم كانت مكتوبة ومفروضة أيضًا على الأمم السابقة ، ولكن بكيفية لا يعلمها إلا الله ، إذ لم يرد نص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا فيه كيف كان صيام الأمم السابقة على الأمة الإسلامية .الوسيط.والدرر السنية.
    لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: جملة تعليلةجيء بها لبيان حِكمة مشروعية الصيام فكأنه - سبحانه - يقول لعباده المؤمنين : فرضنا عليكم الصيام كما فرضناه على الذين من قبلكم ، لعلكم بأدائكم لهذه الفريضة تنالون درجة التقوى والخشية من الله ، وبذلك تكونون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه . ولا شك أن هذه الفريضة ترتفع بصاحبها إلى أعلى عليين متى أداها بآدابها وشروطها ، ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال في شأن الصوم " الصَّومُ جُنَّةٌ منَ النَّارِ "الراوي : عثمان بن أبي العاص الثقفي - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح النسائي.
    والجُنَّةُ الوِقايةُ والسَّترُ مِن النَّارِ وحِصْنٌ حَصينٌ مِنها في الآخِرةِ، ووِقايةٌ مِن الوُقوعِ في المنكَراتِ في الدُّنيا، وإنَّه يَقي صاحِبَه ما يُؤذيه مِن الشَّهواتِ؛ فيَنبَغي للصَّائمِ أن يَصونَ نفْسَه وصيامَه ممَّا يُفسِدُه ويَنقُصُ ثوابَه, مِن كلِّ المنكَراتِ والمعاصي.الدرر.
    جُنَّةٌ :أي : وقاية . إذ في الصوم وقاية من الوقوع في المعاصي ، ووقاية من عذاب الآخرة .
    فمما اشتمل عليه الصيام من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها, التي تميل إليها نفسه, متقربًا بذلك إلى الله, راجيًا بتركها, ثوابه، فهذا من التقوى. ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى, فيترك ما تهوى نفسه, مع قدرته عليه, لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان, فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم, فبالصيام, يضعف نفوذه, وتقل منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب, تكثر طاعته, والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع, أوجب له ذلك, مواساة الفقراء المعدمين, وهذا من خصال التقوى.تفسير السعدي.
    "أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ"184.
    أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ :أي: إنَّ هذا الصِّيامَ مفروضٌ عليكم في أيَّامٍ قليلةٍ، مَحصيَّة ساعاتُها ، وهي أيَّامُ شهرِ رَمضانَ.فالله لم يفرض علينا صوم الدهر كله ولا أكثره تخفيفًا ورحمة بالمكلفين.
    فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ :ثم رخص سبحانة للمريض والمسافر الفطر وذلك للمشقة في الغالب. ثم القضاء في أيام أخر إذا زال المرض, وانقضى السفر, وحصلت الراحة.
    وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍفَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ:أي: يجبُ على مَن استطاع الصِّيامَ ولم يصُمْ، أنْ يُقدِّمَ عن كلِّ يومٍ أفطَره فدية طعامًا لمسكينٍ. ويعني ذلك أن الإنسان مخير بين الصيام وبين الإفطار ويفدي ولا يصوم، ولكن هذا قد يكون مشكلًا لأننا قررنا أنه لا فطر إلا لعذر، مرض أو سفر، كيف يكون للإنسان المطيق له أن يترك الصوم ويفدي، نقول: نعم، يمحو الله ما يشاء ويثبِت، كان في أول ما فرض الصيام لما كانوا غير معتادين للصيام يخير الإنسان، إن شاء صام، وإن شاء فدى، والدليل على هذا قوله"وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ" فدل ذلك على أن الإنسان يطيق الصوم، فخيره الله بين الفدية وبين الصوم ولكنه قال: إن الصوم خير.

    فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ :أي: مَن أطعَم أكثرَ مِن مسكين، فذلك أفضلُ من إطعامِ مسكينٍ واحدٍ عن كلِّ يومٍ أفطَره .
    ثمَّ نَسَخ اللهُ عزَّ وجلَّ هذا التخييرَ في حقِّ القادِر على الصيام بقوله تعالى في الآية التي تليها : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، فأوجب عليه الصومَ، وبقِي الفطرُ والإِطعامُ للعاجز عنه.
    عن سلمة بن الأكوع قال"كُنَّا في رَمَضَانَ علَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، مَن شَاءَ صَامَ وَمَن شَاءَ أَفْطَرَ فَافْتَدَى بطَعَامِ مِسْكِينٍ، حتَّى أُنْزِلَتْ هذِه الآيَةُ "فمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ"البقرة:185.الراوي : سلمة بن الأكوع - صحيح مسلم -الصفحة أو الرقم : 1145.

    " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"185.
    شَهْرُ رَمَضَانَ : أي: الأيَّامُ المعدودات هي شهرُ رمضانَ.
    الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ : أي: الصوم المفروض عليكم, هو شهر رمضان, الشهر العظيم, الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم, المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية, وتبيين الحق بأوضح بيان, والفرقان بين الحق والباطل, والهدى والضلال, وأهل السعادة وأهل الشقاوة. فحقيق بشهر, هذا فضله, وهذا إحسان الله عليكم فيه, أن يكون موسمًا للعباد مفروضًا فيه الصيام. تفسير السعدي.
    فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ : أي فمن شهد منكم دخول الشهر ، وشهوده برؤية هلاله في البلد التي هو حاضر فيها، فعلى كل من رآه أو ثبتت عنده رؤية غيره أن يصومه، هذا فيه تعيين الصيام ونَسخ التخيير بين الصيام والفدية للقادر . وبقِي الفطرُ والإِطعامُ للعاجز عنِ الصيام لمرض أو لسفر أو لأي سبب يعجزه عن الصيام .فلو كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه ، أو يؤذيه أو كان على سفر أي في حال سفر فله أن يفطر ، فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من الأيام أي يقضيها ويصوم عدد أيام ما أفطر عند زوال العذر المفطر.
    يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ: أي : إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر ، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح ، تيسيرًا عليكم.
    وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ :وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم بأن تصوموا أيامة كاملة فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته.لئلا يتوهم متوهم, أن صيام رمضان, يحصل المقصود منه ببعضه, دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته أي تكميل عدد أيام الشهر.
    وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ : أي: ويُريد اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ تُكبِّرُوه، والمعنى: يُريد اللهُ شرعًا- أي: يُحبُّ- أنْ تُعظِّموه بقول: اللهُ أكبَرُ، وذلك بعد انقضاءِ شهرِ رمضانَ - ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال إلى فراغ خطبة العيد.
    أي: من أجْل أنْ تكونوا بتكبيرِكم اللهَ عزَّ وجلَّ، وبالقيام بغير ذلك من أنواع شكره كأداء فرائضه وترك محارمه، مِن الشَّاكرين لنِعمة اللهِ تعالى عليكم بتوفيقكم لصِيام شهرِ رمضانَ، وتيسيرِه أحكامَه عليكم
    ويشكر الله تعالى عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده, وبالتكبير عند انقضائه.
    "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ"186.
    قال الإِمام البيضاوي في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها من آيات الصيام : واعلم أنه - تعالى - لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبة بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم سميع لأقوالهم ، مجيب لدعائهم ، مجاز على أعمالهم تأكيدًا له وحثًا عليه.
    الله تعالى, هو الرقيب الشهيد, المطلع على السر وأخفى, يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, فهو قريب أيضا من داعيه, بالإجابة،
    ولهذا قال سبحانه : أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ: فمن دعا ربه بقلب حاضر, ودعاء مشروع, ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء, كأكل الحرام ونحوه, فإن الله قد وعده بالإجابة.
    قال الحافظ ابن كثير : وفي ذكره - تعالى - هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة بل وعند كل فطر.
    "قُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّا إذا رَأيْناك رَقَّتْ قُلوبُنا، وكُنَّا مِن أهْلِ الآخِرةِ، وإذا فارَقْناك أَعْجَبَتْنا الدُّنْيا، وشَمَمْنا النِّساءَ والأوْلادَ، قالَ: "لو تَكونونَ -أو قالَ: لو أنَّكم تَكونونَ- على كلِّ حالٍ على الحالِ الَّتي أنتم عليها عنْدي لَصافَحَتْكم المَلائِكةُ بأَكُفِّهم، ولَزارَتْكم في بُيوتِكم، ولو لم تُذْنِبوا لَجاءَ اللهُ بقَوْمٍ يُذنِبونَ كي يَغفِرَ لهم"، قالَ: قُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، حَدِّثْنا عن الجَنَّةِ، ما بِناؤُها؟ قالَ"لَبِنةٌ ذَهَبٌ، ولَبِنةٌ فِضَّةٌ، ومِلاطُها المِسْكُ الأَذفَرُ وحَصْباؤُها اللُّؤْلُؤُ والياقوتُ، وتُرابُها الزَّعْفَرانُ، مَن يَدخُلُها يَنعَمُ ولا يَبأَسُ، ويَخلُدُ ولا يَموتُ، لا تَبْلى ثِيابُه، ولا يَفْنى شَبابُه، ثَلاثةٌ لا تُرَدُّ دَعْوتُهم: الإمامُ العادِلُ، والصَّائِمُ حتَّى يُفطِرَ، ودَعْوةُ المَظْلومِ تُحمَلُ على الغَمامِ، وتُفتَحُ لها أبْوابُ السَّماءِ، ويقولُ الرَّبُّ عَزَّ وجَلَّ: وعِزَّتي لَأَنْصُرَنَّك ولو بَعْدَ حينٍ "الراوي : أبو هريرة- المحدث : الوادعي- المصدر : الصحيح المسند -الصفحة أو الرقم : 2/366-خلاصة حكم المحدث : صحيح.
    " ومِلاطُها المِسْكُ الأَذفَرُ " والمِلاطُ: هو التُّرابُ الَّذي يُمزَجُ بالماءِ، فيكونُ طِينًا يُستخدَمُ لِربْطِ اللَّبِناتِ بعضِها ببعضٍ؛ حتَّى يَملَأَ ما بيْنها مِن فراغاتٍ، فأخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ هذا المِلاطَ الَّذي يكونُ بيْن لَبِناتِ الجنَّةِ يكونُ مِن "المِسكِ الأَذْفَرِ"، أي: يكونُ مَخلوطًا بالمِسكِ شَديدِ الرَّائحةِ الطَّيِّبةِ، " وحَصْباؤُها اللُّؤْلُؤُ والياقوتُ، وتُرابُها الزَّعْفَرانُ "، أي: إنَّ حصى الجنَّةِ الصَّغيرَ هو "اللُّؤلؤُ والياقوتُ، وتُربَتُها الزَّعفرانُ"، أي: إنَّ تُربةَ أرْضِها في شَكْلِها تكونُ مِن الزَّعفرانِ الطَّيِّبِ، "، مَن يَدخُلُها يَنعَمُ ولا يَبأَسُ "، أي: يكونُ مُنعَّمًا بما فيها، "ولا يَبأَسُ"، أي: لا يكونُ في شِدَّةٍ ولا يَفتقِرُ، "ويَخلُدُ"، أي: تكونُ حياتُهم حياةً أبديَّةً دائمةً، "ولا يَموتُ"، أي: لا يَفقِدون حياتَهم ولا يَفْنَون، "لا تُبْلى ثِيابُهم"، أي: إنَّ ملابِسَهم لا تكونُ مُتَّسِخةً ولا قديمةً، بلْ تكونُ جديدةً، "ولا يَفْنى شَبابُهم"، أي: إنَّ شبابَهم دائمٌ ومُستمِرٌّ لا يَتغيَّرُ، فلا يُصيبُهم الهرَمُ وكِبَرُ السِّنِّ، "ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "ثلاثٌ"، أي: ثلاثُ أصنافٍ مِن النَّاسِ، "لا تُرَدُّ دَعوتُهم"، أي: إنَّ دُعاءَهم يكونُ مُستَجابًا ومَقبولًا، وهم: "الإمامُ العادلُ"، أي: الحاكمُ الَّذي لا يَظلِمُ النَّاسَ ويَنظُرُ في مصالِحِ رَعيَّتِه، "والصَّائمُ" الَّذي امتنَعَ عن الطَّعامِ والشَّرابِ وترَكَ الشَّهواتِ ابتغاء وجه الله، "حينَ يُفطِرُ" عندَ إفطارِه وقْتَ غُروبِ الشَّمسِ، "ودَعوةُ المظلومِ" وهو مَن اعْتُدِيَ عليهِ بغيرِ حقٍّ؛ فإنَّ دُعاءَه ودَعوتَه على مَن ظلَمَهُ، "يَرفَعُها"، أي: تَصعَدُ دَعوتُه بإذنِ اللهِ، "فوقَ الغَمامِ"، أي: السَّحابِ، "وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ"، أي: تكونُ مَداخِلُ السَّماءِ لدَعوةِ المظلومِ مَفتوحةً، ويقولُ الرَّبُّ تَباركَ وتَعالى: "وعِزَّتي" يُقسِمُ اللهُ بعِزَّتِه الَّتي هي عظَمتُه وسُلطانُه، "لَأنصُرنَّكَ"، أي: أستَجِيبُ دُعاءَك ولا أُهْدِرُ حقَّكَ، "ولو بعدَ حِينٍ"، أي: ولو مَضى وقْتٌ طويلٌ.الدرر السنية.
    فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.:أي: فلينقادوا لي، ممتثِلين أوامري، ومجتَنِبين نواهيَّ، وليؤمنوا بأنِّي أُثيبهم على انقيادِهم لي، وأُجِيب دعاءَهم وتضرُّعَهم لي، من أجل إصابةَ الحقِّ بذلك، والتَّوفيقَ للعِلم النَّافع والعملِ الصالح .والمعنى : لقد وعدتكم يا عبادي بأن أجيب دعاءكم إذا دعوتموني ، وعليكم أنتم أن تستجيبوا لأمري ، وأن تقفوا عند حدودي ، وأن تثبتوا على إيمانكم بي ، لعلكم بذلك تصلون إلى ما فيه رشدكم وسعادتكم في الحياتين العاجلة والآجلة . وأمرهم - سبحانه - بالإِيمان بعد الأمر بالاستجابة ، لأنه أول مراتب الدعوة ، وأولى الطاعات بالاستجابة
    لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ::أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة, ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة.
    "أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"187.
    كان في أول فرض الصيام، يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم الأكل والشرب والجماع، فحصلت المشقة لبعضهم، فخفف الله تعالى عنهم ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع، سواء نام أو لم ينم، لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به.
    عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال"كانَ أصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا كانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الإفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أنْ يُفْطِرَ؛ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ ولَا يَومَهُ حتَّى يُمْسِيَ، وإنَّ قَيْسَ بنَ صِرْمَةَ الأنْصَارِيَّ كانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإفْطَارُ أتَى امْرَأَتَهُ، فَقالَ لَهَا: أعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قالَتْ: لا، ولَكِنْ أنْطَلِقُ فأطْلُبُ لَكَ، وكانَ يَومَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قالَتْ: خَيْبَةً لَكَ! فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عليه، فَذُكِرَ ذلكَ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَنَزَلَتْ هذِه الآيَةُ"أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ"البقرة: 187، فَفَرِحُوا بهَا فَرَحًا شَدِيدًا، ونَزَلَتْ"وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ"البقرة: 187.الراوي : البراء بن عازب - صحيح البخاري.
    عنِ ابنِ عبَّاسٍ ، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ" ، فَكانَ النَّاسُ على عَهْدِ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إذا صلَّوا العتَمةَ حرُمَ علَيهِمُ الطَّعامُ والشَّرابُ والنِّساءُ ، وصاموا إلى القابِلةِ ، فاختانَ رجُلٌ نفسَهُ ، فجامعَ امرأتَهُ ، وقد صلَّى العشاءَ ، ولم يُفطِرْ ، فأرادَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن يجعَلَ ذلِكَ يسرًا لمن بقيَ ورخصةً ومَنفعةً ، فقالَ سبحانَهُ " عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ" الآيةَ ، وَكانَ هذا مِمَّا نفعَ اللَّهُ بِهِ النَّاسَ ورخَّصَ لَهُم ويسَّرَ" الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود - الصفحة أو الرقم : 2313 - خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح.
    لَمَّا فُرِضَ الصِّيامُ على المسلِمينَ في أَوَّلِ الأمرِ كان الوقتُ المسموحُ به للطَّعامِ والشَّرابِ والنساء هو بَعْدَ أذانِ المَغْرِبِ إلى أذانِ العِشاءِ فَقَط، وكان في ذلك مَشقَّةٌ كبيرةٌ على المسلِمينَ ، فيسَّرَ اللهُ عزَّ وجلَّ على المسلمينَ، وفَسَحَ لهم ذلك الوقتَ إلى طُلوعِ الفَجْرِ، كما جاء في هذا الحَديثِ."فاخْتانَ رَجُلٌ نَفْسَه"، أي: خان رَجُلٌ نَفْسَه، والْمُرادُ: ظَلَم نَفْسَهُ وأَقْدَم على شيءٍ قد مُنِعَ مِنْهُ، "فجامَعَ امرأتَه"، أي: وَقَعَ عليها في الوقتِ المَنهيِّ عنه، "وقد صلَّى العِشاءَ"، أي: بَعْدَ صلاةِ العِشاءِ، "ولَمْ يُفْطِرْ"، أي: ولم يَأكُلْ ولم يَشْرَبْ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّه أتَى زوجتَه فقط، ولم يَسْتبِحْ لنَفْسِه باقيَ ما نُهي عنه."فأراد اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ يجعَلَ ذلك يُسرًا"، أي: أرادَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ يَجْعَلَ ما فَعَله الرَّجُلُ سببًا للتَّيسيرِ، "لِمَنْ بَقي"، أي: للمُسلِمينَ جَميعًا، "ورُخْصَةً"، أي: وتخفيفًا، "ومنفَعةً"، أي: نْفعًا وإفادةً، فأَنْزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ قولَه"أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" البقرة: 187، أي: فمَدَّ اللهُ عزَّ وجلَّ الأكلَ والشُّربَ وقُرْبَ النِّساءِ إلى طُلوعِ الفَجْرِ، وليس إلى أذانِ العِشاءِ.الدرر السنية.
    أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ:والمعنى : أحل الله لكم في ليالي صومكم الرفث وهوكناية عن الجماع في هذا الموضع والإِفضاء إلى نسائكم ومباشرتهن . وفي معجم اللغة معنى رفث حسب السياق:رَفَثَ في كلامه : صرَّح بكلامٍ قبيحٍ / رفَث الرَّجلُ بزوجته: جامعها، أفضى إليها. وقوله: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ: جعل كل واحد منهما لصاحبه لباسا لأنه سكن له , كما قال جل ثناؤه "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا " الفرقان: 47 .يعني بذلك سكنًا تسكنون فيه . وكذلك زوجة الرجل سكنه يسكن إليها.
    عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ:
    تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ : والخيانة هي انتقاص الحق على جهة المساترة . إذ تعتقدون شيئا ثم لا تلتزمون العمل به ، كانت خيانتهم أنفسهم التي ذكرها الله في شيئين : أحدهما جماع النساء , والآخر : المطعم والمشرب في الوقت الذي كان حرامًا ذلك عليهم.
    فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ :تاب عليكم بأنْ أحلَّ لكم هذا الَّذي حرَّم عليكم من قبلُ، وعفا عنكم بأن محا ذنوبكم و تجاوَز عن ما سلَف من التخوُّنِ.
    فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ:بَاشِرُوهُنَّ : من المباشرة وأصلها اتصال البشرة بالبشرة ، وكنى بها القرآن عن الجماع الذي يستلزمها .
    وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ :أي: انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى والمقصود الأعظم من الوطء، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته، وحصول مقاصد النكاح. فالآن باشروهن واطلبوا من وراء هذه المباشرة ما كتبه لكم الله من الذرية الصالحة ومن التعفف عن إتيان الحرام .
    وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ :والمقصود من الخيط الأبيض : أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره .
    والمقصود من الخيط الأسود : ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة الليل
    والمعنى : لقد أبحنا لكم مباشرة النساء في ليالي الصوم ، وأبحنا لكم كذلك أن تأكلوا وأن تشربوا في هذه الليالي حتى يتبين لكم بياض الفجر من سواد الليل .قال الإِمام الرازي " الْفَجْرِ " مصدر قولك : فجرت الماء أفجره فجرًا ، وفجرته تفجيرًا قال الأزهري : الفجر أصله الشق ، فعلى هذا الفجر في آخر الليل هو انشقاق ظلمة الليل بنور الصبح .ا.هـ.
    وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ :
    والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه .أي ولا تباشروا النساء حال عكوفكم في المساجد للعبادة، فإن المباشرة تبطل الاعتكاف ولو ليلا كما تبطل الصيام نهار.
    تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا :تلك المذكورات والأحكام التي سبق تقريرها من إيجاب وتحريم وإباحة .
    والحدود جمع حد ، وهو في اللغة الحاجز بين الشيئين المتقابلين ليمنع من دخول أحدهما في الآخر . ومنه سمي الحديد حديدًا لأنه يمنع وصول السلاح إلى البدن .و سميت الأحكام التي شرعها الله حدودًا لأنها تحجز بين الحق والباطل.
    أي : تلك الأحكام التي شرعناها لكم من إيجاب الصوم ، وتحريم الأكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام، وتحريم الفطر على غير المعذور، وتحريم الوطء على المعتكف، ونحو ذلك من المحرمات ، هي حدود الله التي حدها لعباده، ونهاهم عنها ولا يحل الاقتراب منها ومجاوزتها . وعبر - سبحانه - عن النهي عن مخالفة تلك الأحكام بقوله :فَلاَ تَقْرَبُوهَا - مبالغة في التحذير من مخالفتها ، لأن النهي عن القرب من الشيء يشمل النهي عن فعل المحرم بالأولى ، والنهي عن وسائله الموصلة ، والآية ترشد بقولها " فَلاَ تَقْرَبُوهَا " إلى اجتناب ما فيه شُبْهَة كما ترشد إلى ترك الأشياء التي تفضي في غالب أمرها إلى الوقوع في حرام .
    والعبد مأمور بترك المحرمات، والبعد عنها غاية ما يمكنه، وترك كل سبب يدعو إليها.وأما الأوامر فيقول الله فيها: تلك حدود الله فلا تعتدوها – فلا تتعدوها وتتركوها بل الزموها ولا تتجاوزوها - فينهى عن مجاوزتها.

    قال صلى الله عليه وسلم "الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ، ألَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا إنَّ حِمَى اللَّهِ في أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ."الراوي : النعمان بن بشير - صحيح البخاري.
    كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ:أي : مثل ذلك البيان الجامع الذي بين الله به حدوده التي أمركم بالتزامها ونهاكم عن مخالفتها ، يبين لكم آياته ، أي : أدلته وحججه لكي تصونوا أنفسكم عما يؤدي بكم إلى العقوبة ، وتكونوا ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه .فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه، فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم، ولو علم تحريمه لم يفعله، فإذا بين الله للناس آياته، لم يبق لهم عذر ولا حجة، فكان ذلك سببًا للتقوى.
    وبذلك تكون الآية الكريمة قد ختمت الحديث عن الصوم ، ببيان مظاهر رفق الله بعباده ، ورعايته لمصالحهم ومنافعهم بأسلوب بليغ جمع بين الترغيب والترهيب ، والإِباحة والتحريم ، وغير ذلك من أنواع الهداية والإِرشاد إلى ما يسعد الناس في دينهم ودنياهم .
    وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن الصيام ، وما يتعلق به من أحكام ، أردف ذلك بالنهي عن أكل الحرام ، لأنه يؤدي إلى عدم قبول العبادات من صيام واعتكاف ودعاء وغير ذلك فقال – تعالى:
    "وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ"188.
    لما كان الكلام في الآية السالفة في الصيام وأحكامه، وفيه حلّ أكل الإنسان مال نفسه في وقت دون وقت، ناسب أن يذكر هنا حكم أكل الإنسان مال غيره.

    الخطاب في الآية الكريمة موجه إلى المؤمنين كافة في كل زمان ومكان.المراد بالأكل هنا الأخذ والاستيلاء بالباطل أي بغير حق
    والباطل نقيض الحق.والمراد بالباطل هنا: الحرام الذي لا يجوز فعله.
    وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ :والإِدلاء في الأصل : إرسال الدلو في البئر لإخراج الماء . ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء؛ ومنه أدلى فلان بحجته ، أي : أرسلها ليصل إلى مراده .
    والمراد بالإِدلاء هنا : الدفع والإِلقاء بالأموال إلى الغير من أجل الوصول إلى أمر معين .
    والحكام : جمع حاكم ، وهو الذي يتصدى للفصل بين الناس في خصوماتهم وقضاياهم .
    وردَ قوله تعالى: وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ بعد قوله سبحانه: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ من باب ذِكر الخاصِّ بعد العامِّ، وفائدته: بيان شدَّة شَناعة هذه الصورة، ولأنها جامعةٌ لمحرماتٍ كثيرة.
    أي: ولا تأخذوا أموالكم أي: أموال غيركم، أضافها إليهم, والأموال مضافة للجميع، فالمال ساعة يكون ملكا لك، فهو في الوقت نفسه يكون مالًا ينتفع به الغير.
    إذن فهو أمر شائع عند الجميع، لكن ما الذي يحكم حركة تداوله؟ إن الذي يحكم حركة تداوله هو الحق الثابت الذي لا يتغير، ولا يحكمه الباطل.
    فينبغي للمسلم أن يحترم مال الغير كما يحترم ماله الذي يخصه؛ ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة. والمراد بالأكل مطلق الأخذ بغير وجه حق.
    لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ :أي ولا تلقوا بأموالكم إلى الحكام رشوة لهم فتكونون بذلك آكِلينَ طائفةً مِن أموال النَّاس بالحرامِ ، وأنتم تعلَمون أنَّكم واقِعونَ في الحرام.
    *ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية, أو نحو ذلك، ويدخل فيه أيضًا, أخذها على وجه المعاوضة, بمعاوضة محرمة, كعقود الربا, والقمار؛ كلها من أكل المال بالباطل, لأنه ليس في مقابلة عوض مباح، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة, ونحوها، ويدخل في ذلك استعمال الأُجراء وأكل أجرتهم، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه ، ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات, والأوقاف، والوصايا, لمن ليس له حق منها, أو فوق حقه. فكل هذا ونحوه, من أكل المال بالباطل, فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه، حتى ولو حصل فيه النزاع وحصل الارتفاع إلى حاكم الشرع, وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة, غلبت حجة المحق, وحكم له الحاكم بذلك، فإن حكم الحاكم, لا يبيح محرمًا, ولا يحلل حرامًا, إنما يحكم على نحو مما يسمع, وإلا فحقائق الأمور باقية، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة, ولا شبهة, ولا استراحة. فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة, وحكم له بذلك, فإنه لا يحل له, ويكون آكلا لمال غيره, بالباطل والإثم, وهو عالم بذلك. فيكون أبلغ في عقوبته, وأشد في نكاله. وعلى هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه, لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى" وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا "تفسير السعدي.
    "سَمِعَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَلَبَةَ خِصَامٍ عِنْدَ بَابِهِ، فَخَرَجَ عليهم فَقالَ: إنَّما أنَا بَشَرٌ، وإنَّه يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضًا أنْ يَكونَ أبْلَغَ مِن بَعْضٍ، أقْضِي له بذلكَ وأَحْسِبُ أنَّه صَادِقٌ، فمَن قَضَيْتُ له بحَقِّ مُسْلِمٍ فإنَّما هي قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أوْ لِيَدَعْهَا."الراوي : أم سلمة أم المؤمنين -صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم : 7185.
    وفي رواية أخرى في صحيح البخاري"إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ."صحيح البخاري.
    وفي هذا الحديثِ تروي أُمُّ سَلَمَةَ هِنْدُ بنتُ أبي أُمَيَّةَ رضِيَ اللهُ عنها، زَوْجُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتَقولُ"سَمِعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَلَبَةَ خِصَامٍ" والجَلَبَةُ: اختِلاطُ الأصواتِ "عندَ بابِه"، وكان في مَنزلِ أُمِّ سَلَمَةَ رضِيَ اللهُ عنها وحُجْرَتِها، وكأنَّهم أتَوا إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَحكُمَ بينهم، فخَرَج إليهم ليتعَرَّفَ على الخُصومةِ التي بينهما، ويقضي فيها، فقال محذِّرًا لكُلِّ واحدٍ منهما من المخاصَمةِ في الباطِلِ"إنَّما أنا بَشَرٌ"، أي: أنَّه لا يعلَمُ الغَيبَ وبواطِنَ الأمورِ إلَّا ما أطلعه اللهُ تعالى عليه، فيَجْري عليه أحكامُ البشَرِ من الخطأِ والسَّهْوِ والنِّسيانِ بطبيعتِه البشريَّةِ، ومن ذلك أنَّه قد يأتيه المتخاصِمون المدَّعِي والمدَّعَى عليه؛ ليحكُمَ بينهم، فربَّما كان أحَدُ المتخاصِمَينِ عند القاضي أحسَنَ إيرادًا للكَلامِ، وأَقْدَرَ على الحُجَّةِ والبَيِّنةِ، وأدفَعَ لِدَعوى خَصْمِه، فأظُنُّ لفصاحتِه ببيانِ حُجَّتِه أنَّه صادِقٌ، فأَقْضِي له بما زعَمَه من الحُجَجِ،"فمَن قَضَيْتُ له بحقٍّ" الذي هو في الحقيقةِ حَقُّ أخيه المسلِمِ، وسلَّمْتُه له، فلا يَستَحِلَّه؛ فإنَّه إذا أخذ ذلك الحَقَّ وهو يعلَمُ أنَّه باطِلٌ وظُلْمٌ لغيرِه، فإنه يأخُذُ شيئًا يؤدِّي به إلى النَّارِ في الآخِرةِ، فليتجَرَّأْ عليها وليأخُذْها، أو ليترُكْها لصاحِبِها؛ خشيةً لله عزَّ وجَلَّ وخوْفًا من وعيدِ النَّارِ في الآخِرةِ.الدرر السنية

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة

    من آية 189إلى195.
    "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"189.
    كان الكلام في الآيات السابقة في بيان حكم الصيام وذكر شهر رمضان، فناسب ذلك ذكر الأهِلَّة، لأن الصوم والإفطار مقرونان برؤية الهلال كما جاء في الحديث "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فإنْ غُمِّيَ علَيْكُم فأكْمِلُوا العَدَدَ."الراوي : أبو هريرة- صحيح مسلم .
    "جعل اللهُ الأهلَّةَ مواقيتَ للناسِ ، فصوموا لرؤيتِه ، وأَفطِروا لرؤيتِه ، فإن غُمَّ عليكم فعُدُّوا ثلاثين يومًا"الراوي : عبدالله بن عمر وطلق بن علي - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع- الصفحة أو الرقم : 3093 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
    "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ" والسؤال الذي نحن بصدده يعالج قضية كونية. وعندما يسأل المسلمون عن قضية كونية فذلك دليل على أنهم التفتوا إلى كون الله التفاتًا شرعيًا آخر، لقد وجدوا الشمس تشرق كل يوم ولا تتغير، أما القمر الذي يظهر في الليل فهو الذي يتغير، إنه يبدأ في أول الشهر هلالًا صغيرًا ثم يكبر حتى يصبح بدرًا، وبعد ذلك يبدأ في التناقص حتى يعود إلى ما كان عليه، لقد لفت نظرهم ما يحدث للقمر ولا يحدث من الشمس، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم.
    قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ : أي قل لهم يا محمد – صلى الله عليه وسلم - إن الله - تعالى - قد خلقها ليضبط بها النَّاسُ شوؤنَهم المؤقَّتة بأوقاتٍ كصومهم ، وزكاتهم ، وحجهم ، وعدة نسائهم ، ومدد حملهن ، ومدة الرضاع ، وغير ذلك مما يتعلق بأمور معاشهم . والتوقيت بالأهلة يسهل على العالِم بالحساب والجاهل به، وعلى أهل البدو والحضر.
    وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ:
    "سَمِعْتُ البَرَاءَ رَضيَ اللهُ عنه يقولُ: نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ فِينَا؛ كَانَتِ الأنْصَارُ إذَا حَجُّوا فَجَاؤُوا، لَمْ يَدْخُلُوا مِن قِبَلِ أبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، ولَكِنْ مِن ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَخَلَ مِن قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأنَّهُ عُيِّرَ بذلكَ، فَنَزَلَتْ"وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا"البقرة: 189.الراوي : البراء بن عازب - صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم : 1803.
    الشرح:مِن حِكمةِ اللهِ تعالَى أنَّه لم يُنزِلِ القُرآنَ الكريمَ جُملةً واحدةً، بلْ أنْزَلَه مُفرَّقًا وَفْقَ التَّدرُّجِ الذي أرادهُ اللهُ في بِناءِ وتَربيةِ المجتمَعِ المُسلِمِ الوليدِ، ونزَلَ مُعالِجًا للعاداتِ الخاطئةِ، وما يَطرَأُ مِن مُشكِلاتٍ، وما يَستجِدُّ مِن أحداثٍ.
    وفي هذا الحديثِ يَرْوي البَراءُ بنُ عازبٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ الأنصارَ كانوا قبْلَ الإسلامِ إذا رَجَعوا مِنَ الحجِّ أو العُمرةِ لا يَدخُلونَ بُيوتَهم مِن أبوابِها، بلْ يَدخُلونَ مِن ظُهورِها -وكذلك كان يَفعَلُ كَثيرٌ مِن العرَبِ- فكانوا يَتسلَّقون جُدرانَ بُيوتِهم منَ الخَلْفِ، أو يَفتحونَ فَتحةً في الجِدارِ ويَدخُلونَ منها، وكانوا يَرَوْنَ مُخالَفَةَ ذلك عَيبًا كَبيرًا، ويَرْوَن فِعلَ ذلك هو البِرَّ والتَّقوى، فلمَّا جاء الإسلامُ دَخَلَ رجُلٌ منَ الأنصارِ مِن بابِ بَيتِه، فعَيَّروه بذلك، فأنْزَلَ اللهُ تعالَى قَولَه"وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا"البقرة: 189، فأخْبَرَهم اللهُ تعالَى أنَّ هذا العَملَ مع اعتِقادِه قُربةً، ليس مِن الخيرِ في شَيءٍ، بلْ إنَّ البِرَّ الحقيقيَّ هو أنَّ يَتَّقيَ العبدُ ربَّه عزَّ وجلَّ؛ بامتثالِ أوامرِه، واجتنابِ نَواهِيه، لا التعبُّدُ بما لم يَشْرَعْه اللهُ جلَّ وعلا؛ ولذا أمَرَ بإتيانِ البيوتِ مِن أبوابِها، كما هو الأصلُ الَّذي جَرَتْ به العادةُ؛ إذ لا دَليلَ يَمنَعُ مِن ذلك وقْتَ الإحرامِ، فتَرَكَ النَّاسُ هذه العادةَ وصاروا يَدخلونَ بُيُوتَهم مِن أبوابِها.
    وفي الحديثِ: أنَّ العاداتِ لا تَجعَلُ غيرَ المَشروعِ مَشروعًا.
    وفيه: أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالَى إذا نَهَى عن شَيءٍ فتَح لعِبادِه مِن المأذونِ ما يَقومُ مقامَه؛ فإنَّه لَمَّا نَفى أنْ يكونَ إتيانُ البُيوتِ مِن ظُهورِها مِن البِرِّ، بيَّن ما يَقومُ مَقامَه.الدرر السنية.
    وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ: أمرهم سبحانه أن يلتزموا بالتَّقوى؛ بفعلهم المأمورَ، وتركِهم المنهيَّ عنه، رجاء أنْ يصِلوا بتقواهم تلك إلى الظَّفَر بما يطلُبون – الجنة: رزقنا الله وإياكم الفلاح ودخول الجنة -، والنَّجاةِ ممَّا يحذَرون- النار :أعاذنا الله وإياكم منها-.
    "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"190.
    بعد أن ذكر في الآية السابقة أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم ولا سيما الحج، فهو يكون في أشهر هلالية خاصة كان القتال فيها محرمًا في الجاهلية ،بَيَّنَ هنا أنه لا حرج عليكم في القتال في هذه الأشهر دفاعًا عن دينكم ولإعلاء كلمة الحق ، وتربية لمن يفتنكم عن دينكم، وينكث العهد ،لا لحظوظ النفس وشهواتها وحبّ سفك الدماء.
    وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ: أي ولا تعتدوا بالقتال فتبدءوهم به، ولا في القتال فتقتلوا من لا يقاتل من النساء والصبيان والشيوخ والمرضى، ولا من ألقى إليكم السلم وكفّ عن حربكم، ولا بغير ذلك من أنواع الاعتداء كالتخريب وقطع الأشجار، فإنّ الاعتداء من السيئات التي يكرهها الله تعالى، ولا سيما حين الإحرام وفي أرض الحرم وفي الأشهر الحرم.تفسير المراغي.
    ومن الاعتداء, مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها, فإن ذلك لا يجوز.تفسير السعدي.
    "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ"191.
    والمعنى: عليكم أيها المسلمون أن تقتلوا هؤلاء الذين أذنا لكم بقتالهم حيث وجدتموهم وظفرتم بهم، فإنهم قد بادءوكم بالعدوان، وتمنوا لكم كل شر وسوء.فهذا أمر بقتالهم، أينما وجدوا في كل وقت، وفي كل زمان قتال مدافعة، وقتال مهاجمة .
    ولما كان القتال عند المسجد الحرام، يتوهم أنه مفسدة في هذا البلد الحرام، أخبر تعالى أن المفسدة بالفتنة عنده بالشرك، والصد عن دينه، أشد من مفسدة القتل، فليس عليكم - أيها المسلمون - حرج في قتالهم. ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة، وهي: أنه يرتكب أخف المفسدتين، لدفع أعلاهما.
    ثم استثنى من هذا العموم قتالهم في المسجد الحرام قتال مهاجمة.فقال سبحانه " وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ"أي إن من دخل منهم المسجد الحرام يكون آمنا إلا أن يقاتِل هو فيه وينتهك حرمته، فلا أمان له حينئذ. وأنه لا يجوز قتالهم في المسجد الحرام إلا أن يبدأوا بالقتال، فالبادئ هو الظالم، والمدافع غير آثم.فإنهم يُقاتلون جزاء لهم على اعتدائهم، وهذا مستمر في كل وقت، حتى ينتهوا عن كفرهم فيسلموا، فإن الله يتوب عليهم، ولو حصل منهم ما حصل من الكفر بالله، والشرك في المسجد الحرام، وصد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عنه وهذا من رحمته وكرمه بعباده.
    ولم يقل- سبحانه- فإن قاتلوكم فقاتلوهم، وإنما قال فَإِنْ قاتَلُوكُمْفَاقْتُلُوهُمْ تبشيرًا للمؤمنين بالغلبة عليهم، وإشعارًا بأن هؤلاء المشركين من الخذلان والضعف بحالة أمر الله المؤمنين معها بقتلهم لا بقتالهم فهم لضعفهم لا يحتاجون من المؤمنين إلا إلى القتل.
    كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ : تذييل لما قبله. واسم الإشارة ذلك يعود إلى قتل المقاتلين أينما وجدوا.
    والجزاء: ما يقع في مقابلة الإحسان أو الإساءة، فيطلق على ما يثاب به المحسن، وعلى ما يعاقب به المسيء. والمراد به في الآية العقاب.
    أى: مثل هذا الجزاء العادل من القتل والردع يجازي الله الكافرين الذين قاتلوا المؤمنين وأخرجوهم من ديارهم.الوسيط.
    "فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "192.
    أي: فإن انتهوا عن الكفر وعن مقاتلتكم فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم فإن الله غفور رحيم. وكل من تاب من كفر أو معصية فشأن الله معه أن يغفر له ويرحمه. ونظير هذه الآية قوله- تعالى"قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ"الأنفال:38.
    "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ "193.
    ثم ذكر تعالى المقصود من القتال في سبيله، وأنه ليس المقصود به، سفك دماء الكفار، وأخذ أموالهم، ولكن المقصود به أن " ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ " فيظهر دين الله تعالى، على سائر الأديان، ويدفع كل ما يعارضه، من الشرك وغيره، وهو المراد بالفتنة، فإذا حصل هذا المقصود، فلا قتل ولا قتال. والدين في اللغة: العادة والطاعة ثم استعمل فيما يتعبد به الله- تعالى- سواء أكان ما تعبد به صحيحا أم باطلا.
    والمراد هنا: الدين الصحيح الذي شرعه الله لعباده على لسان نبيهم محمد صلّى الله عليه وسلّم ليتوصلوا به إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل. وقد تحقق ذلك – أي تحقق ظهور دين الله - بالقتال الذي دار بين المسلمين والمشركين في أكثر من عشرين غزوة قادها النبي صلّى الله عليه وسلّم بنفسه، وفي أكثر من أربعين سرية بعث فيها أصحابه، وكانت ثمار هذه المعارك أن انتصر الحق وزهق الباطل. وقبل أن يلتحق النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرفيق الأعلى كان الدين الظاهر في جزيرة العرب هو دين الإسلام الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
    فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ :أي: فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر، فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون لأنفسهم. فمن ظلم منهم، فإنه يستحق المعاقبة، بقدر ظلمه.لأن العقوبة والعدوان إنما تكون على الظالمين تأديبا لهم، ليرجعوا عن ظلمهم وغيهم.
    "الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"194.
    الآية فيها بيان للحكمة في إباحة القتال في الأشهر الحرم، وإيذان بأن مراعاة حرمة الشهر الحرام إنما هي واجبة في حق من يصون حرمته، أما من هتكها فقد صار بسبب انتهاكه لحرمة الشهر الحرام محلا للقصاص والمعاقبة في الشهر وفي غيره.
    وسمي الشهر الحرام لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره من القتال ونحوه. والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب.قال- تعالى"إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم ْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ".التوبة :36.
    قال صلى الله عليه وسلم "الزَّمانُ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَةِ يَومَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ؛ السَّنَةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثَةٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجَّةِ، والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بيْنَ جُمادَى وشَعْبانَ، ..." الراوي : أبو بكرة نفيع بن الحارث -صحيح البخاري.
    وقوله: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ متضمن لإقامة الحجة على الحكم السابق والحرمات: جمع حرمة، وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك.
    والقصاص: المساواة. أي، وكل حرمة يجري فيها القصاص. فمن هتك أية حرمة اقتص منه بأن تهتك له حرمة.
    والمراد: أن المشركين إذا أقدموا على مقاتلتكم- أيها المؤمنون- في الحرم أو في الشهر الحرام، فقاتلوهم أنتم أيضًا على سبيل القصاص والمجازاة بالمثل، حتى لا يتخذوا الأشهر الحرم ذريعة للغدر والإضرار بكم.
    ثم أكد- سبحانه- هذا المعنى بقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ.
    أي: فمن اعتدى عليكم وظلمكم فجازوه باعتدائه وقابلوه بمثل ما اعتدى عليكم دون حيف أو تجاوز للحد الذي أباحه الله لكم. إن الاعتداء المحظور ما كان ابتداء، أما ما كان على سبيل القصاص فهو اعتداء مأذون فيه.وسمي جزاء الاعتداء اعتداء على سبيل المشاكلة. وفي الآية إيماء إلى أن قتال الأعداء كقتال المجرمين بلا هوادة ولا تقصير، فمن يقاتل بالقذائف النارية أو بالمدافع أو بالغازات السامة يقاتل بمثلها حتى يمتنع عن الظلم والعدوان، والفتنة والاضطهاد، ويوجد الأمان والاطمئنان بين الناس.تفسير المراغي.
    قال الآلوسى: واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق. حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء مالح. واستدل بها أيضًا على أن من غصب شيئًا وأتلفه لزمه رد مثله، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة- كما في ذوات الأمثال- وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له .
    ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالأمر بالتقوى والخشية منه فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.أي: اتقوا الله وراقبوه في الانتصار لأنفسكم، وترك الاعتداء فيما لم يرخص لكم فيه، واعلموا أن الله مع المتقين الذين يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه بالمعونة والتأييد، والنصر والتمكين، والغلبة لهم على أعدائهم تأييدًا لدينه وإعلاء لكلمته
    .الوسيط. والمراغي.
    "وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" 195.
    أي أنفقوا في الجهاد ، وابذلوا المال في وسائل الدفاع عن بيضة الدين ، فاشتروا السلاح والكراع وعُدد الحرب التي لعدوكم مثلها إن لم تزيدوا عليه حتى لا يكون له الغلبة عليكم ، فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة، فالنفقة له كالروح، لا يمكن وجوده بدونها، وفي ترك الإنفاق في سبيل الله، إبطال للجهاد، وتسليط للأعداء، وشدة تكالبهم. وإلى هذا أشار بقوله تعالى:
    وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ: أي إنكم إن لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال وإعداد للعدّة فقد أهلكتم أنفسكم. وكلمة " ألقى " تفيد أن هناك شيئا عاليًا وشيئًا أسفل منه، فكأن الله يقول: لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وهل سيلقي الواحد منا نفسه إلى التهلكة، أو أن يلقي نفسه في التهلكة بين عدوه؟ لا، إن اليد المغلولة عن الإنفاق في سبيل الله هي التي تُلقي بصاحبها إلى التهلكة؛ لأنه إن امتنع عن ذلك اجترأ العدو عليه، وما دام العدو قد اجترأ على المؤمنين فسوف يفتنهم في دينهم، وإذا فتنهم في دينهم فقد هلكوا. إذن فالاستعداد للحرب أنفى للحرب، وعندما يراك العدو قويًا فهو يهابك ويتراجع عن قتالك.
    وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ: والإحسان كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن تعبد الله ـ أي تطيع أوامره ـ كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك لحديث جبريل الطويل " ....قالَ: ما الإحْسَانُ؟ قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ،.....".صحيح البخاري.
    فنهايةُ مَقامِ الإحسانِ: أنْ يَعبُدَ المؤمِنُ ربَّه كأنَّه يَراه بقلْبِه، فيكونَ مُستحضِرًا ببَصيرتِه وفِكرتِه لهذا المَقامِ، فإنْ عجَزَ عنه وشقَّ عليه انتقَلَ إلى مَقامٍ آخَرَ؛ وهو أنْ يَعبُدَ اللهَ على أنَّ اللهَ يَراهُ ويطَّلِعُ على سِرِّه وعَلانيتِه، ولا يَخفى عليه شَيءٌ مِن أمرِه. الدرر السنية.
    - فالمسلم حال إنفاقه في سبيل الله يحرص أن يبلغ مقام الإحسان هذا . ودائرة الإحسان لا تقتصر على القتال فقط، للقاعدة الأصولية : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .فالأمر هنا عام، وهذا تحفيز للإحسان في كل شيء.فكل زاوية من زوايا الدين جاءت لتخدم كل جزئيات الحياة، فالإحسان إذا كان بالمال فهذا يقتضي أن يحسن الإنسان الحركة في الأرض، ويعمل عملاً يكفيه ويكفي من يعول، ثم يفيض لديه ما يحسن به.إذا لم يتوافر المال، فعليك أن تُحسن بجاهك وتشفع لغيرك، والجاه قد قومه الإسلام أي جعل له قيمة، فعلى صاحب الجاه أن يشفع بجاهه ليساعد أصحاب الحقوق في الحصول على حقوقهم، وعلى الوجيه أيضًا أن يأخذالضعيف في جواره ويحميه من عسف وظلم القوي، وعليه بجاهه أن يقيم العدل في البيئة التي يعيش فيها. ولم يشهد التاريخ أمة قوية رحيمة بالضعفاء في فتوحها كالأمة الإسلامية.
    إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ :تذييلٌ للترغيب في الإحسان؛ لأنَّ محبة الله عبدَه غايةُ ما يطلبه الناس؛ إذ محبَّة اللهِ العبدَ سببُ الصلاحِ والخيرِ دُنيا وآخِرة، واللام للاستغراق العُرفي، والمراد المحسنون من المؤمنين.موسوعة التفسير،بالدرر السنية.

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة

    آية 196
    "وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" 196.
    المعنى الإجمالي : الكلام فيما مضى في بيان أحكام الحج - -يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ - بعد ذكر أحكام الصيام، لأن شهوره بعد شهر الصيام، وجاء ذكر آيات القتال تابعًا لبيان أحكام الأشهر الحرم والمسجد الحرام.
    وهنا عاد إلى إتمام أحكام الحج، فذكر حكم المحصر وعدم جواز الحلق قبل بلوغ الهدي محله، إلا لمن كان مريضًا أو به جروح ونحوها فإنه يحلق وعليه أن يصوم ثلاثة أيام أو يذبح شاة أو يتصدق بفرق على ستة مساكين - الفرق بالتحريك مكيال بالمدينة يزن ستة عشر رطلا- فإذا زال الخوف من العدوّ، فمن أتم العمرة وتحلل وبقي متمتعًا إلى زمن الحج ليحج من مكة فعليه دم، لأنه أحرم بالحج من غير الميقات، فإن لم يجد ذلك صام ثلاثة أيام في أيام الإحرام بالحج، وسبعة إذا رجع إلى بلده إلا إذا كان مسكنه وراء الميقات.تفسير المراغي.
    الشرح المفصل:
    وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ:كانت شعيرة الحج والعمرة معروفتين عند العرب قبل الإسلام، ولكن بأفعال وبكيفية فيها الكثير من الأباطيل والأوهام، فجاءت شريعة الإسلام فوضعت لهما أفضل الأحكام، وأسمى الآداب، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين أن يسيروا في أدائهما على الطريقة التي سار عليها فقال "رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَرْمِي علَى رَاحِلَتِهِ يَومَ النَّحْرِ، ويقولُ: لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فإنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتي هذِه."الراوي : جابر بن عبدالله - صحيح مسلم.
    لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ: أي: تَعلَّموا مِنِّي واحفَظوا الأحْكامَ الَّتي أَتيْتُ بها في حَجَّتي مِنَ الأَقوالِ والأَفعالِ، فخُذوها عَنِّي واعَمَلوا بِها، وعَلِّمُوها النَّاسَ.
    وقد اختلف العلماء في المقصود من الإتمام في قوله- تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، فبعضهم يرى أن المراد بإتمامهما: إقامتهما وإيجادهما وإنشاؤهما فيكون المعنى: أقيموا الحج والعمرة لله: أي أدوهما وائتوا بهما. فالأمر في «أتموا» مُنْصَب على الإنشاء والأداء.
    أصحاب القول الأول: يرون أن العمرة واجبه كالحج، لأن الله- تعالى- أمر بهما معا، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال"تابعوا بين الحج والعمرة.." .وإلى هذا القول اتجه سعيد بن جُبير، وعطاء، وسُفيان الثوري، والشافعية.
    القول الثاني: يرى كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء كالأحناف والمالكية- أن المراد بإتمامهما: أن على المسلّم إذا شرع فيهما أو في أحدهما أن يتمه ويأتي به كاملًا بأركانه وواجباته، مُخلِصين لله تعالى في ذلك.
    فالأمر على هذا القول منصب على الإتمام لا على أصل الأداء.
    وأصحاب هذا القول يرون أن العمرة ليست واجبة كالحج لعدم قيام الدليل على وجوبها، وليس في الآية ما يفيد الوجوب، بل فيها ما يفيد وجوب الإتمام إن شرع فيهما أو في أحدهما. وفرضية الحج إنما ثبتت بقوله- تعالى" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا"آل عمران 97 .
    فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ : بعد أن أمر الله- تعالى- عباده بأن يتموا الحج والعمرة له سبحانه، أردف ذلك ببيان ما يجب عليهم عمله فيما لو حال حائل بينهم وبين إتمامهما. والإحصار والحصر في اللغة: بمعنى الحبس والمنع والتضييق سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو جور سلطان أو ما يشبه ذلك - على الراجح.
    فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ : والمعنى: أتموا- أيها المؤمنون- الحج والعمرة لله متى قدرتم على ذلك، فإن أُحْصِرْتُمْ أي، مُنعتم بعد الإحرام من الوصول إلى البيت الحرام بسبب عدو أو مرض أو نحوهما، فعليكم إذا أردتم التحلل من الإحرام أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدي، وهو سُبْع بَدَنَة، أو سُبْع بقرة، أو شاة يذبحها المُحْصَر. وذبحها يكون في موضع الإحصار – على قول الجمهور- ولو في الحِلِّ لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحِلِ، فهي ليست من الحرم عند المحققين.
    فَمَا اسْتَيْسَرَ وفي هذه الجملة الكريمة تقرير للمبادئ التي جاءت بها شريعة الإسلام تلك المبادئ التي تتوخى في كل شؤونها التيسير لا التعسير، والرفق لا التشديد قال- تعالى" يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" البقرة : 185. وقال- تعالى"وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ "الحج: 78.
    " وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ." ولا تتحللوا من إحرامكم بالحلق حتى تذبحوا الهدي في الموضع الذي أحصرتم فيه، فإذا تم الذبح فاحلقوا وتحللوا.
    وبعد أن بين- سبحانه- أن الحلق لا يجوز للمحرم ما دام مستمرًا على إحرامه، أردف ذلك ببيان بعض الحالات التي يجوز فيها للمحرم أن يحلق رأسه مع استمراره على إحرامه فقال:
    فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ:أي: فمن كان منكم- أيها المحْرِمُون- مريضًا بمرض يضطر معه إلى الحلق، أو كان به أذى من رأسه كجراحة وحشرات مؤذية، إن حلق وهو على إحرامه – وإزالة الشعر، بحلق أو غيره من محظورات الإحرام - فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك. صيام ثلاثة أيام, أو صدقة على ستة مساكين أو نسك ما يجزئ في أضحية، فهو مخير، والنسك أفضل، فالصدقة، فالصيام.
    يروي التابعيُّ عبدُ اللهِ بنُ مَعقِلٍ " قَعَدْتُ إلى كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ في هذا المَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الكُوفَةِ- فَسَأَلْتُهُ عن "فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ"البقرة: 196، فَقالَ: حُمِلْتُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والقَمْلُ يَتَنَاثَرُ علَى وَجْهِي، فَقالَ: ما كُنْتُ أُرَى أنَّ الجَهْدَ قدْ بَلَغَ بكَ هذا، أمَا تَجِدُ شَاةً؟ قُلتُ: لَا، قالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِن طَعَامٍ، واحْلِقْ رَأْسَكَ. فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وهْيَ لَكُمْ عَامَّةً."الراوي : كعب بن عجرة - صحيح البخاري.
    وعبر- سبحانه- هنا بالفدية دون الكفارة، لأن الذي به مرض أو أذى من رأسه لم يرتكب ذنبًا أو إثمًا حتى يكفر عنه.
    فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: بعد أن بين- سبحانه كيفية التحلل عند الإحصار، وكيفية التحلل الجزئى من بعض المحرمات عند المرض، عقب ذلك ببيان كيفية التحلل في حالة الأمن.
    أي فإذا زال خوفكم وثبت أمنكم الذي منعكم من حجكم أو عمرتكم. فمن انتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة وانتفع بتمتعه بعد الفراغ منها ، إلى وقت الانتفاع بأعمال الحج، فعليه ما استيسر من الهدي أي فعليه دم نسك ، ويأكل منه كالأضحية ويذبح يوم النحر.
    والمراد بالتمتع في الآية المعنى الشرعي بأن يجمع المسلم بين العمرة والحج في عام واحد في أشهر لحج، بأن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج.
    وسمى هذا النوع من الإحرام تمتعا، لأن المحرم به يجمع بين متعة الروح ومتعة الجسد.
    لأنه يحرم بالعمرة أولا ويقوم بمناسكها وتلك متعة روحية وبعد الانتهاء من أدائها يتحلل فيجوز له أن يقرب النساء ويمس الطيب حتى يحرم بالحج وتلك متعة بدنية.
    فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ : أي فمن لم يجد الهدي لعدم وجوده أو عدم المال الذي يشتري به، فعليه صيام ثلاثة أيام في أيام الإحرام بالحج . ويفضل كثير من الفقهاء أن يصوم سادس ذي الحجة وسابعه وثامنه.
    وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ: أي:وتصوموا سبعة أيام إذا فرغتم من أعمال الحج. قال مجاهد وعطاء وإبراهيم: المعنى إذا رجعتم من منى فمن بقي بمكة صامها، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق.
    وقال قتادة والربيع: هذه رخصة من الله تعالى، والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه، إلا أن يتشدد أحد كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان.تفسير ابن عطية.
    ووصف العشرة بأنها كاملة، للتنويه بأن هذا الصوم طريق الكمال لأعمال الحج، وأن الحاج إذا نسي بعضها لا يكون حجه تاما حتى يصوم ما أمره الله- تعالى- به.
    قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
    " يجوز أن يصوم الأيام الثلاثة في أيام التشريق، وهي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة، ويجوز أن يصومها قبل ذلك بعد إحرام العمرة، ويجوز أن يصوم هذه الأيام الثلاثة متوالية ومتفرقة، لكن لا يؤخرها عن أيام التشريق. أما السبعة الباقية فيصومها إذا رجع إلى أهله، إن شاء صامها متوالية، وإن شاء متفرقة" انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" 24/ 376.
    " تَمَتَّعَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ، بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ وأَهْدَى ........فمَن لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ في الحَجِّ وسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلى أهْلِهِ. ....." الراوي : عبد الله بن عمر -صحيح البخاري.
    وقال الشيخ ابن عثيمين :
    " من أخَّر صيام الثلاثة أيام التي في الحج حتى انتهى حجه لغير عذر، فهل تلزمه الفدية؟ الصحيح لا تلزمه، ......وهناك من يقول تلزمه الفِدية، وهو أصلاً ما عنده فِدية، وهو أيضًا لما عُدِمَ الهدي صار الصيام واجبًا في حقه، فنقول: إنه يجب أن يكون في الحج، وإذا تأخر ولا سيما إذا كان لعذر فإنه يقضى كرمضان " انتهى من "الشرح الممتع" 7/ 180.
    ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ : أي: ذلك التمتع الذي يتمتع فيه المحرم بين النُّسكين، إنما هو للشخص الذي ليس أهله من المقيمين في مكة وما حولها ،من كان دون الميقات ، ومن كان منه على مسافة لا تقصر منها الصلاة ; لأن من كان كذلك يعد حاضرا لا مسافرا.وقد شرع- سبحانه- التمتع ليكون تيسيرا ورفقا للمقيمين بعيدا عن مكة ،هذا قول الأحناف.
    وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ : أي واتقوا الله في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه، ومن ذلك, امتثالكم, لهذه المأمورات، واجتناب هذه المحظورات المذكورة في هذه الآية، واعلموا أن الله شديد العقاب لمن لم يخشه ولم يلتزم حدوده.
    وفي هذا الأمر بالتقوى في ختام هذه الآية التي تحدثت عن الحج إشعار بأن هذه الفريضة ليست العبرة فيها بما تعمله الجوارح وإنما العبرة بما تتركه في القلوب من توبة صادقة، وصيانة للنفس عن اقتراف المحارم.
    وفي قوله: وَاعْلَمُوا اهتمام بالخبر، وتحقيق لمضمونه، وترهيب من العقاب مع الترغيب بالثواب، فقد جرت عادة الناس أنهم يصلحون بالثواب والعقاب. وهذا هو الموجب للتقوى، فإن من خاف عقاب الله، انكف عما يوجب العقاب، كما أن من رجا ثواب الله عمل لما يوصله إلى الثواب، وأما من لم يخف العقاب، ولم يرج الثواب، اقتحم المحارم، وتجرأ على ترك الواجبات.

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة

    من آية 197. إلى 202.
    "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ"197.
    بعد أن ذكر سبحانه أعمال الحج وبيَّنَ ما يجب على المُحْصَرِ أن يفعله من ذبح الهدي وعدم الحلق حتى يبلغ الهدي محله، ثم ذكر حُكْم من لم يجد ذلك، أعقب هذا بذكر زمان الحج، وما يجب على من أوجب على نفسه الحج.
    الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ :أي لأداء فريضة الحج أشهر معلومة لدى الناس، وهي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة،فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج .وهذا هو المروي عن ابن عباس، وجرى عليه أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
    فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ: أي فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن أو بالتلبية أو بسوق الهدي، لأن الحج عبادة لها تحريم وتحليل، فلا يكفي للشروع فيه مجرد النية بل لا بد من فعل به يشرع فيه. فمن أحرم به أي شرع فيه ، فالشروع فيه يصيره مثل الفرض من حيث كيفية أداؤه، ولو كان نفلًا، مثل من شرع في صلاة نافلة يلزمة أن يؤديها بأركانها وواجباتها كما يؤدي الفريضة طالما شرع ودخل في النافلة. واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه، على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، ولو قيل: إن فيها دلالة لقول الجمهور، بصحة الإحرام بالحج قبل أشهره لكان قريبا، فإن قوله" فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ " دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة وقد لا يقع فيها، وإلا لم يقيده.
    فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ : أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحج ، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه، من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصا عند النساء بحضرتهن. والفسوق وهو: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام. والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة. والمقصود من الحج، الذل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور، ليس له جزاء إلا الجنة، الحج المبرور: هو الذي وُفيت أحكامه، ولم يخالطه شيء من الإثم. وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان، فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج. واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر، ولهذا قال تعالى "وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ" أي: اتركوا الأقوال والأفعال القبيحة، وسارعوا إلى الأعمال الصالحة خصوصًا في تلك الأزمنة والأمكنة المفضلة، والله- تعالى- لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، وهو- سبحانه- سيجازيكم على فعل الخير بما تستحقون من جزاء.
    وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهمَا قالَ: كانَ أهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ ولَا يَتَزَوَّدُونَ، ويقولونَ: نَحْنُ المُتَوَكِّلُون َ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى" وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى"البقرة: 197.الراوي : عبدالله بن عباس - صحيح البخاري.
    والمعنى: واستَعينوا على أداءِ الحجِّ بأخْذِ ما تَحتاجون إليه مِن طَعامٍ وشَرابٍ، واعْلَموا أنَّ خَيرَ ما تَستَعينون به في كلِّ شُؤونِكم هو تَقْوى اللهِ تعالَى.وفي الحديثِ: أنَّ تَرْكَ سُؤالِ النَّاسِ مِن التَّقوى.
    وفيه: أنَّ التَّوكُّلَ لا يكونُ مع السُّؤالِ؛ وإنَّما التَّوكُّلُ على اللهِ تعالَى ألَّا يَستعينَ بأحَدٍ في شَيءٍ.الدرر السنية.
    لما أمرهم أن يتزودوا بالزاد المادي الحقيقي الذي يغنيهم عن سؤال الناس، ويصون لهم ماء وجوههم. أمرهم وأرشدهم أيضًا إلى زاد الآخرة ، وهو استصحاب التقوى وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والإكثار من العمل الصالح .
    وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ: أي: أخلصوا لي يا أصحاب العقول السليمة الرزينة ، والمدارك الواعية، اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول السليمة.والجملة الكريمة ليست تكرارا لسابقتها، لأن الأولى حث على التقوى وهذه حث على الإخلاص فيها.

    "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ"198.
    بين- سبحانه- أن التزود بالزاد الروحي لا يتنافى مع التزود بالزاد المادي متى توافرت التقوى.
    الجناح: أصله من جنح الشيء إذا مال: يقال جنحت السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها.والمراد بالجناح هنا الإثم والذنب، لأنه لما كان الإثم يميل بالإنسان عن الحق إلى الباطل سمي جناحًا.
    والابتغاء: الطلب بشدة، والفضل: الزيادة وتكون في الخير والشر إلا أنه جرى العرف أن يعبر عن الزيادة الحسنة بالفضل وعن الزيادة القبيحة بالفضول.
    أي: لا إثم ولا حرج عليكم في أن تطلبوا رزقا حلالا ومالا طيبا عن طريق التجارة أو غيرها من وسائل الكسب المشروعة في موسم الحج.فالآية الكريمة صريحة في إباحة طلب الرزق لمن هو في حاجة إلى ذلك في موسم الحج، بشرط ألا يشغله عن أداء فرائض الله.
    عن أبي أُمامةَ التَّيميِّ قالَ : كنتُ رجلًا أُكرِّي في هذا الوجْهِ وَكانَ ناسٌ يقولونَ لي إنَّهُ ليسَ لَكَ حجٌّ فلقيتُ ابنَ عمرَ فقلتُ يا أبا عبدِ الرَّحمنِ إنِّي رجلٌ أُكرِّي في هذا الوجْهِ وإنَّ ناسًا يقولونَ لي إنَّهُ ليسَ لَكَ حجٌّ فقالَ ابنُ عمرَ أليسَ تُحرِمُ وتلبِّي وتطوفُ بالبيتِ وتفيضُ من عرفاتٍ وترمي الجمارَ قالَ قلتُ بلى قالَ فإنَّ لَكَ حجًّا جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فسألَهُ عن مثلِ ما سألتني عنْهُ فسَكتَ عنْهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فلم يُجبْهُ حتَّى نزلت هذِهِ الآيةُ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فأرسلَ إليْهِ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ وقرأَ عليْهِ هذِهِ الآيةَ وقالَ لَكَ حجٌّ "الراوي : أبو أمامة التيمي -المحدث : الألباني -المصدر : صحيح أبي داود -الصفحة أو الرقم : 1733 خلاصة حكم المحدث : صحيح .
    كُنتُ رَجُلًا أَكْري في هذا الوَجْه»، أي: أُؤَجِّرُ دابَّتي في سَفَر الحَجِّ، «وكان ناسٌ يقولون لي: إنَّه ليسَ لك حَجٌّ»؛ لتوهُّمِ عدَمِ وجودِ النِّيَّةِ الخالِصة للحَجِّ؛ لأنَّه حيثُ اشتغَلَ بالكِراءِ فإنَّ سَيرَه لأجْلِ دابَّتِه لا لأعْمالِ الحَجِّ.
    أي: إنَّ كِراءك لِدابَّتك مع أدائك لأعْمالِ الحَجِّ لا يُخِلُّ بِحجِّك.

    قالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهمَا: كانَ ذُو المَجَازِ وعُكَاظٌ مَتْجَرَ النَّاسِ في الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلَامُ كَأنَّهُمْ كَرِهُوا ذلكَ، حتَّى نَزَلَتْ"لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ"البقرة: 198، في مَوَاسِمِ الحَجِّ."الراوي : عبدالله بن عباس - صحيح البخاري.
    وفي هذا الأثرِ يُخبِرُ ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ ذا المَجازِ وعُكاظًا كانَتَا سُوقينِ للناسِ في الجاهليَّةِ، وذو المَجازِ: بناحيةِ عَرَفةَ إلى جانِبِها، وقيل: في مِنًى، وعُكاظٌ: خلْفَ قَرْنِ المَنازل بـ(44 كم) على طَريقِ صَنعاءَ اليمنِ، فلمَّا جاء الإسلامُ كأنَّ المسلمينَ كَرِهوا التِّجارةَ في أيَّامِ الحجِّ مِثلَ المشركينَ، وخَوفًا مِن الوقوعِ في الإثمِ؛ للاشتِغالِ في أيَّامِ النُّسكِ بغَيرِ العبادةِ. حتَّى نزَلَ قولُ اللهِ تعالَى"لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ"البقرة: 198، أي: ليس عليكم إثْمٌ أنْ تَطلُبوا الرِّزقَ الحَلالَ بالتِّجارةِ وغيرِها في أثناءِ الحجِّ، عَطاءً ورِزقًا مِنه سُبحانه، وهذا تَفضُّلٌ مِن اللهِ سُبحانه عليهم.
    وكان ناسٌ مِن العرَبِ في الجاهليَّةِ يَتأثَّمون أنْ يَتَّجِروا أيَّامَ الحجِّ، وإذا دَخَلَ العشْرُ كَفُّوا عن البيعِ والشِّراءِ، فلم يَقُمْ لهم سُوقٌ، ويُسَمُّون مَن يَخرُجُ بالتِّجارةِ الدَّاجَّ، ويَقولون: هؤلاء الداجُّ وليسوا بالحاجِّ، والدَّاجُّ: الأتْبَاع والأعْوانُ.
    وفي الحديثِ: مَشروعيَّةُ البيعِ والشِّراءِ للمُحرِمِ.
    وفيه: مَشروعيَّةُ التِّجارةِ في أسواقِ الجاهليَّةِ والمشركينَ.الدرر السنية.
    فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ :

    الفاء في قوله: فَإِذَا: لتفصيل بعض ما أجمل من قبل في قوله فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ..

    أَفَضْتُم:اندفعتم بكثرة متزاحمين. وذلك تشبيه لهم بالماء إذا كثر ودفع بعضه بعضًا فانتشر وسال من حافتي الوادي والإناء.
    فأصل هذه الكلمة الدفع للشيء بكثرة حتى يتفرق.والمراد: خروجهم من عرفات بشيء من السرعة في تكاثر وازدحام متجهين إلى المزدلفة. وعرفات: اسم للجبل المعروف .
    فأمر الحُجَّاجَ أن يذكروه سبحانه عند المزدلفة بعدَ أن يدفعوا إليها من عَرفات، وهذا الذِّكر الذي أمر الله به يدخُل فيه الصلاةُ والدعاء عندها . والتصريح باسم " عرفات " في هذه الآية للرد على قريش؛ إذ كانوا في الجاهلية يقفون في " جَمْع " وهو المزدلفة؛ لأنهم حُمْس ، فيرون أن الوقوف لا يكون خارج الحرم ، ولما كانت مزدلفة من الحرم كانوا يقفون بها ولا يرضون بالوقوف بعرفة ، لأن عرفة من الحل .

    "...........وكانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِن عَرَفَاتٍ، ويُفِيضُ الحُمْسُ مِن جَمْعٍ، قالَ: وأَخْبَرَنِي أبِي، عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنَّ هذِه الآيَةَ نَزَلَتْ في الحُمْسِ"ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ"البقرة: 199، قالَ: كَانُوا يُفِيضُونَ مِن جَمْعٍ، فَدُفِعُوا إلى عَرَفَاتٍ."الراوي : عائشة أم المؤمنين -صحيح البخاري .
    وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ:أي: اذكروا الله تعالى كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه من أكبر النعم، التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان.

    " ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"199.
    الآية التي قبلها: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وهذه الآية : ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ، فكل ذلك في الإفاضة من عرفة، الأول أعلمهم فيه بما يكون عند انتقالهم من عرفة إلى مزدلفة من الذكر عند المشعر الحرام، وهو مزدلفة، وفي الثانية: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ: فِيهِ قَوْلانِ:
    القَوْلُ الأوَّلُ: المُرادُ بِهِ الإفاضَةُ مِن عَرَفاتٍ. القَوْلُ الثّانِي: وهو اخْتِيارُ الضَّحّاكِ: أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الإفاضَةُ مِنَ المُزْدَلِفَةِ إلى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلرَّمْيِ والنَّحْرِ.تفسير الرازي.
    وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ :فالعبد لا يستغني عن الاستغفار؛ لأنه مهما فعل، وتقرب، وعمل، وبذل وأحسن وأنفق، فإنه لا يؤدي نعمة الله عليه، لا في دينه، ولا في دنياه ، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد، في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة. وهكذا ينبغي للعبد, كلما فرغ من عبادة، أن يستغفر الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة، ومَنَّ بها على ربه، وجَعَلَت له محلا ومنزلة رفيعة، فهذا حقيق بالمقت، ورد الفعل، كما أن الأول، حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أُخر.تفسير السعدي.
    فالمُرادُ مِنهُ الِاسْتِغْفارُ بِاللِّسانِ مَعَ التَّوْبَةِ بِالقَلْبِ، وهو أنْ يَنْدَمَ عَلى كُلِّ تَقْصِيرٍ مِنهُ في طاعَةِ اللَّهِ، ويَعْزِمَ عَلى أنْ لا يُقَصِّرَ فِيما بَعْدُ، ويَكُونَ غَرَضُهُ في ذَلِكَ تَحْصِيلَ مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى لا لِمَنافِعِهِ العاجِلَةِ، كَما أنَّ ذِكْرَ الشَّهادَتَيْنِ لا يَنْفَعُ إلّا والقَلْبُ حاضِرٌ مُسْتَقِرٌّ عَلى مَعْناهُما، وأمّا الِاسْتِغْفارُ بِاللِّسانِ مِن غَيْرِ حُصُولِ التَّوْبَةِ بِالقَلْبِ فَهو إلى الضَّرَرِ أقْرَبُ.تفسير الرازي.
    "فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ"200.
    قال ابن كثير: عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم- بين مسجد منى وبين الجبل بعد فراغهم من الحج يذكرون فضائل آبائهم- فيقول الرجل منهم. كان أبي يطعم الطعام ويحمل الديات ... ليس لهم ذكر غير أفعال آبائهم فأنزل الله- تعالى- على نبيه صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية.ا.هـ.والمعنى: فإذا فرغتم من عباداتكم، وأديتم أعمال حجكم، فتوفروا على ذكر الله وطاعته كما كنتم تتوفرون على ذكر مفاخر آبائكم، بل عليكم أن تجعلوا ذكركم لله- تعالى- أشد وأكثر من ذكركم لمآثر آبائكم.
    فالمقصود من الآية الكريمة الحث على ذكر الله- تعالى- والنهى عن التفاخر بالأحساب والأنساب.
    وبعد أن أمر- سبحانه- الناس بذكره، بيَّنَ أنهم بالنسبة لدعائه وسؤاله فريقان، أما الفريق الأول فقد عبر عنه بقوله: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ:أي: من الناس نوع يقول في دعائه يا ربنا آتنا ما نرغبه في الدنيا فنحن لا نطلب غيرها، وهذا النوع ليس له في الآخرة من خَلاقٍ أي: ليس له نصيب وحظ من الخير.
    "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ :201.
    ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين, ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه. "عنْ عبْدِ العزِيزِ بْنِ صُهَيبٍ قال: سَأَلَ قَتَادَةُ أَنَسًا: أَيُّ دَعْوَةٍ كانَ يَدْعُو بهَا النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أَكْثَرَ؟ قالَ: كانَ أَكْثَرُ دَعْوَةٍ يَدْعُو بهَا يقولُ: اللَّهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. "قالَ: وَكانَ أَنَسٌ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بدَعْوَةٍ دَعَا بهَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بدُعَاءٍ دَعَا بهَا فِيهِ."الراوي : عبدالعزيز بن صهيب - صحيح مسلم .
    وبين- سبحانه- أن هذا النوع الثاني من الناس قد التمس من خالقه أن يقيه عذاب النار مع أن هذا الدعاء مندرج تحت حسنة الآخرة، وذلك لأن هذا النوع من الناس لقوة إيمانه، وصفاء وجدانه، وشدة خشيته من ربه يغلب الخوف على الرجاء، فهو يستصغر حسناته مهما كثرت بجانب نعم الله وفضله، ويلح في الدعاء وفي الطلب أملا في الاستجابة.
    "أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ"202.
    إن الإشارة تعود إلى الفريقين. أي: لكل من الفريقين نصيب من عمله على قدر ما نواه وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم, وهماتهم ونياتهم, جزاء دائرا بين العدل والفضل. ويضعفه أن الله- تعالى- قد ذكر قبل ذلك عاقبة الفريق الأول بقوله: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وقيل اسم الإشارة " أُولَٰئِكَ " يعود إلى الفريق الثاني باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجميلة .الوسيط.
    وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ : وهو سريع المحاسَبة للخَلْق يوم القيامة دون أنْ يظلِمَ أحَدًا شيئًا، ودون الحاجةِ إلى تذكُّرٍ أو تأمُّلٍ، كما أنَّه سبحانه سريعُ المجازاة لعباده.

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة

    203.
    "وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ"203.
    الأيام المعدودات هي أيام منى، وهي أيام التشريق الثلاثة الحاديَ عشَرَ والثَّانيَ عشَرَ والثَّالثَ عشَرَ مِن ذي الحجَّةِ، وسُمِّيَتْ بذلك لِتَشرِيقِ النَّاسِ لُحومَ الأَضاحِيِّ فيها، وهو تَقْدِيدُها ونَشْرُها في الشَّمسِ لِتَجْفيفِها، وهذه كانتْ حالَهم في زَمانِهم، وفي هذه الأيَّامِ تكونُ لُحومُ الأَضاحِيِّ والهَدْيِ مُتوفِّرةً؛. فالآية الكريمة تأمر الحجاج وغيرهم من المسلمين أن يكثروا من ذكر الله في هذه الأيام المباركة، لأن أهل الجاهلية كانوا يشغلونها بالتفاخرو.....
    "أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ. وفي رواية : زاد فيه "وذكرٍ لله"الراوي : نبيشة الخير الهذلي - صحيح مسلم.
    فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَى:
    يجب على الحاج المبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من ليالي أيام التشريق، ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة يرمي عند كل جمرة سبع حصيات. ثم من رمى في اليوم الثاني وأراد أن ينفر ويترك المبيت بمنى في الليلة الثالثة ورمى يومها بعد الزوال- كما يرى الشافعية- وبعده أو قبله- كما يرى الحنفية- فلا إثم عليه في عدم مبيته بمنى في الليلة الثالثة، إذا اتقى كل منهما الله ووقف عند حدوده.
    فالتقييد بالتقوى للتنبيه إلى أن العبرة في الأفعال إنما هي بتقوى القلوب وطهارتها وسلامتها.
    وَاتَّقُوا اللَّهَ: اتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب معاصيه ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ: واعلموا أنكم ستجمعون بعد تفرقكم وتساقون إلى خالقكم يوم القيامة فمجازيكم بأعمالكم، فمن اتقاه، وجد جزاء التقوى عنده، ومن لم يتقه, عاقبه أشد العقوبة، فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله, فلهذا حث تعالى على العلم بذلك. واختير لفظ تُحْشَرُونَ هنا دون تصيرون أو ترجعون ، لأن تحشرون أجمع لأنه يدل على المصير وعلى الرجوع مع الدلالة على أنهم يصيرون مجتمعين كلهم كما كانوا مجتمعين حين استحضار حالهم في هذا الخطاب وهو اجتماع الحج ، فلفظ تحشرون أنسب بالمقام من وجوه كثير.
    وقد ختمت الآيات التي تحدثت عن فريضة الحج بهذا الختام المكون من عنصرين، أحدهما: تقوى الله.
    والثاني: العلم اليقيني بالحشر، للإشعار بأنهما خلاصة التدين، وثمرة العبادات بكل أنواعها وكل طرقها، وإذا خلت أية عبادة من هذين العنصرين كانت صورة لا روح فيها.


  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة

    ملخص مناسك العمرة
    إذا وصل المعتمر الميقات: اغتسل ولبس وأحرم ،فإن كان السفر على متن طائرة لا تتوقف إلاَّ في جُدَّة، فيجوز له أن يلبس الإحرام في المنزل أو في المطار أو في الطائرة، وأن يُحرم بعمرة ـ وجوبًا ـ قبل أن يتجاوز الميقات المكاني المتعلق به.
    الاغتسال والتطيب للرجال
    لبس ثياب الإحرام
    الصلاة
    ينوي الإحرام ويلبي ،والإحرام نية الدخول في النسك والتلبس به ، وصفة التلبية للعمرة :«لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ عُمْرَةً»ويكمل التلبية " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنَّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ" .
    ويستمر في التلبية في العمرة من الإحرام إلى أن يشرعَ في الطواف.
    الطواف :والطواف يكون سبعةَ أشواطٍ، يبتدىء من الحجر الأسود وينتهي به. ولا يصحُّ الطوافُ من داخل الحِجْرِ.فيستلم الحجرَ الأسودَ بيده اليمنى...،
    ويُقَبّله إن تيسّر له ذلك، فإذا وصل الركنَ اليماني استلمه إن تيسّر له بدون تقبيلٍ ،فإن لم يتيسر له فلا يزاحم ولا يشير إليه عن بعد.ويقول بين الركن اليماني والحجَر الأسود"رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاٌّخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار "البقرة 201.
    والسنةُ للرجل في طواف القدوم
    الاضطباع في جميع الأشواط ،والرَّمَل في الثلاثة أشواط الأولى فقط.فإذا أتمَّ سبعةَ أشواطٍ، صلى ركعتين عند مقام إبراهيم لو تيسر.
    ثم يذهب إلى زمزم فيشرب منها ويصب على رأسه.
    ثم يرجع إلى الحجر الأسود ،ويقول الله أكبر ويقبله إذا تيسر .
    السعي بين الصفا والمروة
    التحلل: وذلك يكون بالحلق للرجل ، أو التقصير ، والتقصير للمرأة .
    ملخصأعمـال الحـج
    القارن والمُفرِد: يتوجهون مباشرة إلى منى يوم التروية، دونَ أن يُحرموا مرة أخرى، لأنهم مازالوا على إحرامهم.
    أما المتمتع إذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج ضحى من مكانه الذي أراد الحج منه ، ويفعل عند إحرامه: الآتي:
    الاغتسال والتطيب للرجاللبس ثياب الإحرام
    الصلاة :الصلاة قبل الإهلال.
    ينوي الإحرام ويلبي بالنسك، وصفة التلبية في الحج : لبيك حجًا أو حِجَّة ، إذا كانت الحجة عن أحد يقول :لبيك حجًا عن فلان .ويكمل التلبية ويكمل التلبية " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنَّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ "وتستمر التلبية إلى رمي جمرة العقبة الكبرى .
    المبيت بمِنى يوم التروية:يخرج إلى مِنى - يوم التروية الثامن من ذي الحجة-فيصلي بها: الظهر والعصر والمغرب والعشاء قصرًا منْ غيرِ جمعٍ ،والفجر .
    الوقوف بعرفة:فإذا طلعت الشمس يوم عرفة - التاسع من ذي الحجة- سار من مِنى إلى عرفة فنزل بمسجد نَمِرَة في الجزء الواقع في حدود عرفة إلى الزوال- الزوال : أي زوال الشمس عن كبد السماء أي وقت الظهر- إن تيسر له وإلا فلا حرج لأن النزول بنمرة سنة . ولنتحر معرفة حدود عرفة والتأكد من الوقوف داخلها.
    فإذا زالت الشمس يوم عرفة صلى الظهر والعصر قصرًا وجمعَ تقديمٍ ، ، بأذانٍ واحدٍ وإقامتينِ ،كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليطول وقت الوقوف والدعاء ثم يتفرغ بعد الصلاة للذكر والدعاء والتضرع إلى الله عز وجل ويدعو بما أحب رافعًا يديه - تلقاء وجهه- مستقبلاً القبلة ولو كان الجبل خلفه لأن السنة استقبال القبلة لا الجبل وكان أكثر دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك الموقف العظيم لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- .
    ويحرص على اغتنام آخر النهار بالدعاء فإن خير الدعاء دعاء يوم عرفة . ويستمر بعرفة إلى الليل أي إلى أن تغرب الشمس .
    فائدة :
    إذا وصل الحاج إلى عرفة قبل فجر يوم النحر- 10ذو الحجة - صحت حجته ـ وذلك عند الاضطرار ـ أما إذا وصل بعد الفجر فلا حج له . أقبِلْ على الله بكل جوارحك . فإذا غربت الشمس سار إلى المزدلفة.
    الذهاب للمزدلفة والمبيت بها: فإذا غربت شمس يوم عرفة سار إلى المزدلفة.فإذا وصلها صلى المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا - جمع تأخير- بأذانٍ واحدٍ وإقامتينِ.
    فيبيت بمزدلفة ، فإذا تبين الفجر صلى الفجر مبكرًا بأذان وإقامة ثم قصد المشعر الحرام بمزدلفة - وهو الآن مكان المسجد- فوحَّدَ الله وكبره ودعا بمَا أحب حتى يُسْفِر جدًا ، وإن لم يتيسر له لذهاب إلى المشعر الحرام دعا في مكانه وجمع- أي مزدلفة- كلها موقف
    الدفع إلى مِنَى- العاشر من ذي الحجة- فإذا أسفر جدًا - أي: أضاء الفجرُ إضاءةً تامَّةً- دفع قبل أن تطلع الشمس.فإذا وصل إلى مِنى ـ وذلك صبيحة اليوم العاشر من ذي الحجة وهو يوم النحر عليه الآتي :
    *رمى جمرة العقبة الكبرى .
    *نحر أو ذبح الهَدْي .
    *حلق الرأس أو تقصيرها .
    *الطواف بالكعبة - طواف الإفاضة - والسعي.
    طواف الإفاضة:ويطوف مثل طواف القدوم تمامًا إلا الاضطباع والرَّمَل فهما خاصان بطواف القدوم فقط .
    *ثم السعي بين الصفا والمروة
    ثم يخرج إلى المسعى ليسعى، فإذا دنا من الصفا قرأ "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا "، ولا يقرؤها في غير هذا الموضع - أي في بداية السعي فقط - أبدأ بما بدأ اللهُ بهِ . ثم يرقى على الصفا حتى يرى الكعبة، فيستقبلها ويرفع يديه فيحمدَ الله ويدعو بما شاء أن يدعو- دعاء مطلق-، وَكَانَ- صلى الله عليه وسلم - إِذَا وَقَفَ عَلَى الصَّفَا يُكَبِّرُ ثَلاثًا، وَيَقُولُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ»، يُكررّ ذلك ثلاثَ مراتٍ -دعاء مسنون -، ويدعو بينها - دعاء مطلق- أي:ذكر + دعاء مطلق ،ذكر + دعاء مطلق- ذكر، ثم ينزلُ من الصفا إلى المروة ماشيًا حتى يصلَ إلى العمودِ الأخضرِ؛ فإذا وصَلَه، أسرع إسراعًا شديدًا بِقَدْرِ ما يستطيع إن تيسر له بلا أذية- الهرولة -، حتى يصلَ إلى العمودِ الأخضرِ الثاني، ثم يمشي على عادته حتى يصلَ المروةَ، فيرقَى عليها ويستقبلَ القِبلةَ، ويرفعَ يديه ويقولَ ما قاله على الصفا - الدعاء فقط دون القرآن،. ثم ينزلُ من المروة إلى الصفا يمشي في موضعِ مشيه، ويُسِرعُ في موضع إسراعه- الهرولة-، للرجال فقط على الراجح .فيرقى على الصفا، ويستقبلُ القِبلَة ويرفع يديه ويقولُ مثلَ ما سبق في أول مرة، ويقولُ في بقية سعيه ما أحب من ذكرٍ وقراءةٍ ودعاء.
    العودة لمِنَى:يرجع بعد ذلك إلى مِنى حيث يقيم أيام التشريق - 11، 12، 13من ذي الحجة- وهي أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل .
    فليس عليه في أيام التشريق شيء إلا أن يرمي الجمرات الثلاث ، كل يوم يبدأ بالصغرى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة الكبرى التي رماها يوم النحر ، فيرمي الجمرات الثلاث إذا زالت الشمس -أي بعد أذان الظهر- في يومي -11، 12من ذي الحجة -
    فإذا أتم رمي الجمار في اليوم الثاني عشر، فإن شاء تَعَجَّل ونزل من مِنى ، وإن شاء تأخر فبات بها ليلة الثالث عشر ورمى الجمار الثلاث بعد الزوال ؛كما سبق والتأخر أفضل .ولا يجب عليه التأخر لليوم الثالث عشر إلا إذا غربت الشمس في اليوم الثاني عشر وهو بمِنى، فإنه يلزمه التأخر حتى يرمي الجمار الثلاث بعد زوال اليوم الثالث عشر .
    وبهذا يكون حَجُّه انتهى
    طواف الوداع:فإذا أراد الحاج أن يرتحل من مكة يطوف للوداع ، يطوف بالبيت سبعة أشواط من دون سعي،.ويصلي ركعتين ثم ينصرف*الحائض والنفساء ليس عليهما وداع.

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    افتراضي رد: تفسير سورة البقرة

    من آية 200 إلى آية 209

    "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ"204.
    عطف على جملة ".... فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ"البقرة : 200، لأنه ذكر هنالك حال المشركين الصرحاء الذين لاحظ لهم في الآخرة ، وقابل ذكرهم بذكر المؤمنين الذين لهم رغبة في الحسنة في الدنيا والآخرة حيث قال سبحانه وتعالى " وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ "201 "أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ "202.، فانتقل هنا إلى حال آخرين ممن لَاحَظَّ لهم في الآخرة وهم متظاهرون بأنهم راغبون فيها " وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" من الإعجاب بمعنى الاستحسان ،. مع مقابلة حالهم بحال المؤمنين الخالصين الذين يؤثرون الآخرة والحياة الأبدية على الحياة في الدنيا ، وهم المذكورون في قوله "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ "البقرة : 207 .
    وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ: أي يقرن معسول قوله، وظاهر تودده بإشهاد الله على أن ما في قلبه مطابق لما يجري على لسانه.كأن يقول: الله يشهد أني صادق فيما أقول.. إلى غير ذلك من الأقوال التي يقصد بها تأكيد قوله وصدقه فيما يدعيه ويخبر أن الله يعلم, أن ما في قلبه موافق لما نطق به, وهو كاذب في ذلك، لأنه يخالف قوله فعله. فلو كان صادقا، لتوافق القول والفعل، كحال المؤمن غير المنافق.
    فكل عمل وقول له ظاهر وله باطن. ومن الجائز أن تتقن الظاهر ويستحسنه الناس وتدلس على الناس في باطنك، فإذا كان الناس لهم مع بعضهم ظاهر وباطن ،فالله يعلم ظاهر وباطن كل مخلوق.
    أَلَدُّ الْخِصَامِ: شديد الخصومة أي العداوة. قال صلى الله عليه وسلم"أَبْغَضُ الرِّجالِ إلى اللَّهِ الألَدُّ الخَصِمُ"الراوي : عائشة أم المؤمنين -صحيح البخاري .
    والألدُّ الخَصِمُ هو المُولَعُ بِالخُصومِة -وهي النِّزاعُ والعَدَاوَةُ والمُجادَلةُ- الماهرُ فيها، والدَّائمُ فيها كذلِك.
    إن هذا النوع من الناس يثير الإعجاب بحسن بيانه، ويضللهم بحلاوة لسانه، ويحلف بالأيمان المغلظة أنه لا يقول إلا الصدق، ويجادل عما يقوله بالباطل بقوة وعنف ومغالبة، فهو بعيد عن طباع المؤمنين الذين إذا قالوا صدقوا، وإذا جادلوا اتبعوا أحسن الطرق وأهداها.الوسيط.
    "وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ"205.
    أي: كما أنَّ مقالَه مُعْوجٌّ، واعتقاده فاسدٌ، فأفعاله كذلك سيِّئةٌ وقبيحة، فإذا خرَج وانصرف عنك هذا الذي يُعجِبُك قولُه، سار في الأرض مجتهدًا في إفسادِها، ومعنى الفساد : إتلاف ما هو نافع للناس ،فإهلاك الحرث والنسل كناية عن إتلافه لما به قوام أحوال الناس ومعيشتهم، وعن إيذائه الشديد لهم.
    وقوله وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ أي لا يرضى عن الذي منه الإفساد في الأرض، ويُظْهِر للناس الكلام الحسن وهو يبطن لهم الفعل السيئ، لأنه- سبحانه- أوجد الناس ليصلحوا في الأرض لا ليفسدوا فيها. فالجملة الكريمة تحذير منه- سبحانه- للمفسدين، ووعيد لهم على خروجهم عن طاعته.
    قال صلى الله عليه وسلم "إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأَمْوالِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وأَعْمالِكُمْ."الراوي : أبو هريرة - صحيح مسلم.
    "وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ" 206.
    أي وإذا وعظه واعظ بما يقتضي تذكيره بتقوى الله تعالى غضب لذلك، وأخذته العزة الملابسة للإثم والظلم وهو احتراس لأن من العزة ما هو محمود وهي العزة بالحق قال تعالى " يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّغڑ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ "المنافقون:8. فعزة اللهِ : قهره مَنْ دونه ، وعزة رسولِه : إظهار دينهِ على الأديان كلها ، وعزة المؤمنين : نصر الله إياهم على أعدائهم .
    العِزَّة الحقيقيَّة.. العِزَّة في الحقِّ، وبالحقِّ، والتي يكون صاحبها عزيزًا ولو كان ضعيفًا مَظْلومًا، شامخًا ولو كان طريدًا مُستضَامًا، فتجده لا يركع إلا لله، ولا يتنازل عن شيء ممَّا أَمَره به، فهو يَعْتَزُّ بعِزَّة الله -تبارك وتعالى-، الذي يُعِزُّ من يشاء، ويُذِلُّ من يشاء. فهذه هي العِزَّة بالحقِّ؛ لأنَّها اعْتِزَاز بمن يملكها، وإذعان له، وانتساب لشرعه وهديه. الدرر:موسوعة الأخلاق.
    "مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ..... "فاطر:10.
    ومن العِزَّة ما هو مذموم وهي العزة بالإثم:
    كاعْتِزَاز الكفَّار بكفرهم، وهو -في الحقيقة- ذُلٌّ، يقول – سبحانه""ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ* بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ "ص1: 2.
    أي : إن في هذا القرآن لذكرا لمن يتذكر ، وعبرة لمن يعتبر . وإنما لم ينتفع به الكافرون ؛ لأنهم فِي عِزَّةٍ :أي : استكبار عنه وحمية ، وَشِقَاقٍ: أي : مخالفة له ومعاندة ومفارقة .تفسير ابن كثير.
    أو الاعْتِزَاز بالنَّسب على جهة الفَخْر، أو الاعْتِزَاز بالوطن والمال ونحوها، كلُّ هذه مذمومة.الدرر:موسوعة الأخلاق.
    فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ: أي إن النار مصيره ويكفيه عذابها جزاء له ، وستكون فراشه ومأواه ، وهي بئس المهاد وشره الذي يستقر عليه بسبب غروره وفجوره في جهنم ، والمهاد ما يُمْهد أي يُهَيَّأ لمن ينام ، وإنما سمى جهنَّمَ مهادًا تهكُمًا ، لأن العُصاة يُلْقَون فيها فتصادف جنوبهم وظهورهم .فلا راحة فيها، ولا اطمئنان لأهلها.
    فبِئْسَ للذم، ويقابلها في المدح نِعْمَ.
    "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ"207.
    لَمّا وصَفَ – سبحانه وتعالى- في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ حالَ مَن يَبْذُلُ دِينَهُ لِطَلَبِ الدُّنْيا، ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ حالَ مَن يَبْذُلُ دُنْياهُ ونَفْسَهُ ومالَهُ لِطَلَبِ الدِّينِ. تفسير الرازي — فخر الدين الرازي .أ. هـ.
    يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ :أي: يبيعها ببذلها في طاعة الله وإعلاء كلمته، وتحقيقه أن المكلف قد بذل نفسه بمعنى أنه أطاع الله- تعالى- وحافظ على فرائضه، وجاهد في سبيله، من أجل أن ينال ثواب الله ومرضاته، فكان ما بذله من طاعات بمثابة السلعة، وكان هو بمنزلة البائع، وكان قبول الله- تعالى- منه ذلك وإثابته عليه في معنى الشراء.الوسيط.
    هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبًا لمرضاة الله ورجاء لثوابه، فهم بذلوا الثمن للرؤوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك.
    وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ :الرؤوف من أسماء الله الحسنى.الرأفة: أشدُّ الرحمة.
    فَمِن رَأْفَتِهِ أنَّهُ جَعَلَ النَّعِيمَ الدّائِمَ جَزاءً عَلى العَمَلِ القَلِيلِ المُنْقَطِعِ، ومِن رَأْفَتِهِ جَوَّزَ لَهم كَلِمَةَ الكُفْرِ إبْقاءً عَلى النَّفْسِ، ومِن رَأْفَتِهِ أنَّهُ لا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها ومِن رَأْفَتِهِ ورَحْمَتِهِ أنَّ المُصِرَّ عَلى الكُفْرِ مِائَةَ سَنَةٍ إذا تابَ ولَوْ في لَحْظَةٍ أسْقَطَ كُلَّ ذَلِكَ العِقابِ. وأعْطاهُ الثَّوابَ الدّائِمَ، ومِن رَأْفَتِهِ أنَّ النَّفْسَ لَهُ والمالَ، ثُمَّ إنَّهُ يَشْتَرِي مُلْكَهُ بِمُلْكِهِ فَضْلًا مِنهُ ورَحْمَةً وإحْسانًا. تفسير الرازي — فخر الدين الرازي .ا: هـ.

    "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ"208.
    قال قتادة : قد علم اللهُ أنه سيزل زالون من الناس فتقدم في ذلك وأوعد فيه ليكون له به الحُجَّة عليهم. فبعد أن بيَّن سبحانه فيما سلف من الآيات أن الناس في الصلاح والفساد فريقان: فريق يسعى في الأرض بالفساد ويهلك الحرث والنسل، وفريق يبغي بعمله رضوان الله وطاعته - أرشدنا إلى أن شأن المؤمنين أن يأخذوا بجميع عُرى الإسلام وشرائعه ، والعمل بجميع أوامره ، وترك جميع زواجره ، محذِّرًا إيَّاهم مِن طاعة الشَّيطانِ، ومعلِّلًا ذلك بأنَّه عدوٌّ ظاهرٌ لهم؛ فلعداوتِه يُريد أنْ يقودَهم بطاعتِهم له إلى الهلاك.فقال سبحانه:
    وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ :إشعار بأن الشيطان كثيرًا ما يجر الإنسان إلى الشر خطوة فخطوة ودرجة فدرجة حتى يجعله يألفه ويقتحمه بدون تردد، وبذلك يكون ممن استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. والعاقل من الناس هو الذي يبتعد عن كل ما هو من نزغات الشيطان ووساوسه، فإن صغير الذنوب قد يوصل إلى كبيرها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. وقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ :جملة تعليلية، مؤكدة للنهي ومبينة لحكمته.

    " فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"209.
    تفريع على النهي، وترهيب من العقاب الذي سيصيب المتبعين للشيطان.
    فَإِن زَلَلْتُم: أي فإن حدتم عن صراط الله وهو المستقيم، وسرتم في طريق الشيطان ، بعد أن بيّن لكم عداوته، ونهاكم عن اتباع طرقه وخطواته، مِّن بَعْدِ مَاجَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ: البيناتجمع بَيِّنَة، وهي الأدلة والمعجزات، وقامت عليكم الحُجج ،ومجيئها: ظهورها. أي: على علم ويقين.

    فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ :أي فاعلموا أن الله عَزِيزٌ لا يقهر ولا يعجزه الانتقام ممن زل يأخذكم أخذ عزيز مقتدر، فهو عزيز لا يغلب على أمره، الحكيم, إذا عصاه العاصي, قهره بقوته, وعذبه بمقتضى حكمته فإن من حكمته, تعذيب العصاة والجناة. فهو حكيم لا يهمل شأن خلقه، ولحكمته قد وضع تلك السنن في الخليقة.
    فإن قيل: أفهذه الآية مشتملة على الوعد كما أنها مشتملة على الوعيد؟ قلنا: نعم من حيث أتبعه بقوله: حَكِيمٌ :حكيم فيما شرع لكم من دينه، وفطركم عليه، ويثيب المحسن منكم ، وحكيم فيما يفعل بكم من عقوبة على معاصيكم إياه بعد إقامة الحجة عليكم.
    والآية فيها إثبات اسم العزيز واسم الحكيم لله تعالى.
    العَزيز : مَأْخُوذٌ من العِزّ، وَهُوَ الشِّدَّة والقَهْر، وسُمِّي بِهِ الملك؛ لِغَلَبَتِه على أهلِ مَمْلَكَتِه "انتهى من "تاج العروس" 15/ 232 .
    والعزّة التي هي من صفات الله : لها ثلاثة معان:
    عزة الامتناع. بمعنى الامتناع على من يرومه من أعدائه، فلن يصل إليه كيدهم، ولن يبلغ أحد منهم ضره وأذاه.
    وعزة القهر والغلبة. وهي من: عز يعُز ، بضم العين في المضارع ، يقال: عزه إذا غلبه .فهو سبحانه القاهر لأعدائه الغالب لهم، ولكنهم لا يقهرونه ولا يغلبونه .وهذا المعنى هو أكثر معاني العزة استعمالا.

    وعزة القوة. بمعنى القوة والصلابة، من عز يعَز بفتحها، ومنه قولهم: أرض عَزَاز ، للصلبة الشديدة . وكلها لله تعالى على أتم وجه وأكمله.
    حَكِيمٌ : والحكمة: وضع الأشياء مواضعها ، وتنزيلها منازلها " انتهى . " تفسير السعدي" ص 945.
    قال الطبري "الحَكِيم
    الذِي لَا يَدْخُلُ تَدْبِيرَه خَلَلٌ وَلَا زَلَلٌ".

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة

    من آية 210 إلى آية 213
    "هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَة ُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ "210.
    بعد أن أمر الله المؤمنين بالدخول في السلّم كافة، ونهاهم عن الزلل عن طريقه المستقيم، عقب ذلك بتهديد الذين امتنعوا عن الدخول في الإسلام فقال سبحانه : هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ..... الآية.
    وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب، يقول تعالى: هل ينتظر التاركون الدخول في السلم ،الساعون في الفساد في الأرض, المتبعون لخطوات الشيطان, الذين زلُّوا من بعد ما جاءتهم البينات، النابذون لأمر الله إلا يوم الجزاء بالأعمال ، يوم إتيان الرَّبِّ عزَّ وجلَّ يوم القيامة . وإتيان الله- تعالى- إنما هو بالمعنى اللائق به- سبحانه- مع تنزيهه عن مشابهة الحوادث، وتفويض علم كيفيته إليه- تعالى- هذا اليوم الذي قد حشي من الأهوال والشدائد والفظائع, ما يقلقل قلوب الظالمين, ويحق به الجزاء السيئ على المفسدين.
    وذلك أن الله تعالى يطوي السماوات والأرض, وتنثر الكواكب, وتكور الشمس والقمر, فإذا جاء الله وكانت السماوات والأرض قد أظلمت، ليس هناك شمس ولا قمر ينير، ولا نجوم تضيء، كلها قد كسفت، وطمست، ولم يبق لها نور، وبقي الناس في ظلمة عظيمة ،. وتنزل الملائكة الكرام, فتحيط بالخلائق, وينزل الباري تبارك وتعالى" فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ " ليفصل بين عباده بالحق. ، فإذا جاء الله أشرقت الأرض بنور ربها، قال تعالى "وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ"سورة الزمر 70
    فتوضع الموازين, وتنشر الدواوين, وتبيض وجوه أهل السعادة وتسود وجوه أهل الشقاوة, ويتميز أهل الخير من أهل الشر، وكل يجازى بعمله، فهنالك يعض الظالم على يديه إذا علم حقيقة ما هو عليه.
    فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ : فالغَمامُ مَعروفٌ في كَلامِ العَرَبِ - وهو السحاب الرقيق الأبيض، وما أظلك من شعاع الشمس وغيره ،سمي بذلك لأنه يغم، أي يستر ، إلَّا أنَّا لا نَدري كيفَ الْغَمَامُ الذي يَأتي اللهُ جَلَّ وعزَّ يَومَ القيامةِ في ظُلَلٍ منه؟ فنَحنُ نُؤمِنُ به، ولا نُكيِّفُ صِفَتَه. وكَذلك سائِرُ صِفاتِ اللهِ جَلَّ وعَزَّ .
    أي ما ينتظر أولئك الذين أبوا الدخول في الإسلام من بعد ما جاءتهم البينات، إلا أن يأتيهم الله يوم القيامة في ظلل كائنة من الغمام الكثيف العظيم ليحاسبهم على أعمالهم .والاستفهام للإنكار والتوبيخ.
    وَالْمَلَائِكَة ُ : أي وإتيان الملائكة الذين لا يعلم كثرتهم إلا هو- سبحانه-، "وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا"الفجر: 22.
    وتنزل ملائكة كل سماء فيقفون صفا صفا... القصد أن الملائكة ـ على كثرتهم وقوتهم ـ ينزلون مذعنين لأمر ربهم لا يتكلم منهم أحد إلا بإذن من الله. اهـ.
    وَقُضِيَ الْأَمْرُ : أي أتم- سبحانه- أمر العباد وحسابهم فأثيب الطائع وعوقب العاصي، ولم تعد لدى العصاة فرصة للتوبة أو تدارك ما فاتهم.فيقضي الله تعالى بين عباده، ويجازي كل عامل بعمله.
    وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ : فجميع أمور الدنيا والآخرة تؤول إلى الله عزَّ وجلَّ وحده، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى.وحينئذ يكونُ الأمرُ قد انتهى.
    فالجملة الكريمة تذييل قصد به تأكيد قضاء أمره، ونفاذ حكمه، وتمام قدرته.
    "سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ"211.
    بيَّن- سبحانه- أن كفر الكافرين ليس سببه نقصان الدليل على صحة إيمان المؤمنين،وإنما سببه الجحود والحسد وإيثار الهوى على الهدى، بدليل أن بنى إسرائيل قد آتاهم الله آيات بينات تهدي إلى الإيمان ومع ذلك كفروا بها. استمع إلى القرآن وهو يصور موقفهم بعد تهديده للكافرين في الآية السابقة فيقول: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ.
    قال الفخر الرازي: اعلم أنه ليس المقصود: سل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها وذلك لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان عالما بتلك الأحوال بإعلام الله- تعالى- إياه، بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله- تعالى-.
    أي: سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها، لا جرم استوجبوا العقاب من الله- تعالى-، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه. والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم كأنه قيل " سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ" عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقد آتيناهم آيات كثيرة بينة ومع ذلك أعرض كثير منهم عنها.
    أي سل يا محمد يهود المدينة فالمراد بهذا السؤال تقريعهم على جحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا معرفة إجابتهم . " كَمْ آتَيْنَاهُم "أعطينا آباءهم وأسلافهم " مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ " دلالة واضحة على نبوة موسى عليه السلام مثل العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها .
    وقيل: معناها الدلالات التي آتاهم في التوراة والإنجيل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
    " وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ "
    نِعْمَةَ اللَّهِ: أي: آياتُهُ ودَلائِلُهُ، وهي مِن أجَلِّ أقْسامِ نِعَمِ اللَّهِ؛ لِأنَّها أسْبابُ الهُدى والنَّجاةِ مِنَ الضَّلالَ .
    ومن يبدل نعمة الله أي يغير آيات الله فإنها سبب الهدى الذي هو أجَلّ النعم، يجعلها سبب الضلالة وازدياد الرجس، أو بالتحريف والتأويل الزائغ. من بعد ما جاءته من بعد ما وصلت إليه وتمكن من معرفتها، وفيه تعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها ولذلك قيل تقديرها فبدلوها ومن يبدل ؛ فإن الله شديد العقاب فيعاقبه أشد عقوبة لأنه ارتكب أشد جريمة.
    ثم ذكر طبيعة الكافرين الجاحدين فقال:

    "زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ "212.
    وبعد أن ذكر القرآن حال من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته، أتبعه بذكر الأسباب التي حملت أولئك الأشقياء على البقاء في كفرهم وجحودهم فقال- تعالى" زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا ... الآية.
    التزيين: جعل الشيء زينا أي، شديد الحسن. فحسنت الحياة الدنيا للكافرين وأشربت محبتها في قلوبهم فتهالكوا عليها، وتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار ،وأصبحت أكبر همهم، فهم يؤثرونها على كل شيء، وأعرضوا عن الدين حين ظنوا أن منافعها قد تفوتهم.
    وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا : أي أن الذين كفروا لا يكتفون بحبهم الشديد لزينة الحياة الدنيا وشهواتها وإنما هم بجانب ذلك يسخرون من المؤمنين لزهدهم في متع الحياة، لأن الكفار يعتقدون أن ما يمضي من حياتهم في غير متعة فهو ضياع منها، وأنهم لن يبعثوا ولن يحاسبوا على ما فعلوه في دنياهم، أما المؤمنون فهم يتطلعون إلى نعيم الآخرة الذي هو أسمى وأبقى من نعيم الدنيا.
    وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رد منه- سبحانه- على هؤلاء الكفار الذين يسخرون من المؤمنين، والذين يرون أنفسهم أنهم في زينتهم ولذاتهم أفضل من المؤمنين في نزاهتهم وصبرهم على بأساء الحياة وضرائها.والذين اتقوا الله- تعالى- وصانوا أنفسهم عن كل سوء فوق أولئك الكافرين مكانة ومكانًا يوم القيامة، لأن تقواهم قد رفعتهم إلى أعلى عليين، أما الذين كفروا فإن كفرهم قد هبط بهم إلى النار وبئس القرار. وقيدت الفوقية بيوم القيامة للتنصيص على دوامها، لأن ذلك اليوم هو مبدأ الحياة الأبدية، ولإدخال السرور والتسلية على قلوب المؤمنين حتى لا يتسرب اليأس إلى قلوبهم بسبب إيذاء الكافرين لهم في الدنيا.
    وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ : تذييل قصد به تشريف المؤمنين، وبيان عظم ثوابهم. أي: والله يرزق من يشاء بلا حصر وعد لما يعطيه. فهو- سبحانه- الذي يعطي ويمنع، وليس عطاؤه في الدنيا دليل رضاه عنِ المعطَى فقد يعطي الكافر وهو غير راضٍ عنه، فالرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر. أما عطاؤه في الآخرة فهو دليل رضاه عمن أعطاه.فالشأن كل الشأن, والتفضيل الحقيقي, في الدار الباقية, فلهذا قال تعالى" وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " فيكون المتقون في أعلى الدرجات, متمتعين بأنواع النعيم والسرور, والبهجة والحبور. والكفار تحتهم في أسفل الدركات, معذبين بأنواع العذاب والإهانة, والشقاء السرمدي, الذي لا منتهى له، ففي هذه الآية تسلية للمؤمنين, ونعي على الكافرين.


    "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ " 213.
    قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى في الآية المتقدِّمة أنَّ سببَ إصرارِ هؤلاء الكفَّارِ على كُفرهم هو حبُّ الدُّنيا- بيَّن في هذه الآية أنَّ هذا المعنى غيرُ مختصٍّ بزمنِ نزول الآية، بل كان حاصلًا في الأزمنة المتقادمة؛ لأنَّ النَّاس كانوا أمَّةً واحدةً أي: إنَّ النَّاس كانوا مجتمعين منذ عهدِ آدمَ عليه السَّلام على دِينٍ واحد، هو دينُ الإسلام، وظلُّوا على ذلك مدَّةَ عشرةِ قرونٍ، فاختلَفوا في دِينهم حتى عبَدوا الأصنام، فبعَث الله النَّبيِّين ينهَوْن عن ذلك الكفرِ، مُبشِّرين مَن أطاعهم بالجنَّةِ، ومُنذِرين مَن عصاهم بالنَّارِ، وكان أوَّلهم نوحٌ عليه السَّلام.
    وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ :أي: إنَّ اللهَ تعالى أنزَل مع النَّبيِّين عليهم السَّلام كُتبًا مِن عنده، مشتملةً على الأخبارِ الصادقة، والأوامرِ العادلة؛ أنزَلها لتفصِلَ بين النَّاس في كلِّ ما اختلَفوا فيه، فيتبيَّن لهم الحقُّ مِن الضَّلال، والصَّواب مِن الخطأ، وتُقامُ بذلك حُجَّةُ اللهِ تعالى على عبادِه. وذكر- سبحانه- الكتاب بصيغة المفرد للإشارة إلى أن كتب النبيين وإن تعددت إلا أنها في جوهرها كتاب واحد لاشتمالها على شرع واحد في أصله، وإذا كان هناك خلاف بينها ففي تفاصيل الأحكام وفروعها لا في جوهرها وأصولها.
    وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ:
    لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى إنزالَه الكتبَ على النَّبيِّين عليهم السَّلام، وكان هذا يقتضي اتِّفاقَ الَّذين اختلَفوا في دِينهم عليها، أخبَر تعالى أنَّهم خالَفوا مرادَ الله تعالى منها، أي: إنهم اختلَفوا في تلك الكتب المنزلة، وكان ينبغي أنْ يكونوا أَوْلى النَّاسِ بالاجتماع عليها، والتَّحاكُم إليها، وذلك مِن بعدِ ما علِموا بالأدلَّةِ القاطعات، والحُجَج الباهرات: أنَّ ما فيها هو الحقُّ، وإنَّما حمَلهم على ذلك تعدِّي بعضِهم على بعضٍ بالباطل، ووقوع النِّزاعاتِ والخصومات فيما بينهم.
    فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ: أي: فهدى اللهُ الذين آمنوا وصدَّقوا رسلَهُ إلى الحقِّ الذي اختلف فيه أهل الضلالة، وذلك الهدى بفضل توفيقه لهم وتيسيره لأمرهم. وأسند الهداية إليه- سبحانه- لأنه هو خالقها، ولأن قلوب العباد بيديه فهو يقلبها كيف يشاء، وهذا لا ينافي أن للعبد اختيارًا وكسبًا ،فهو إذا سار في طريق الحق رزقه الله النور المشرق الذي يهديه، وإن سار في طريق الضلالة واستحب العمى على الهدى سلب الله عنه توفيقه بسبب إيثاره الضلالة على الهداية.
    وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ:تذييل قُصِدَ به بيان كمال سلطانِه، وتمام قدرتِهِ.أي: والله وحده هو الهادي من يشاء من عباده إلى طريق الحق الذي لا يضل سالكه، فليس لأحد سلطان بجوار سلطانه، ولو أراد أن يكون الناس جميعًا مهديين لكانوا، ولكن حكمته اقتضت أن يختبرهم ليتميز الخبيث من الطيب، فيجازي كلَّ فريقٍ بما يستحقه.

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة

    من آية 214 إلى آية 218
    "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ "214.
    هذا خطاب للذين هداهم الله إلى السلم والخروج من ظلمة الخلاف إلى نور الوفاق باتباعهم هدى الكتاب زمن التنزيل، وهم أهل الصدر الأول من المسلمين، وفيه العبرة لمن يأتي بعدهم ويظنون أن في انتسابهم إلى الإسلام الكفاية في دخول الجنة، جهلًا منهم بسنة الله في أهل الهدى منذ أن خلقهم أن يتحملوا الشدائد والإيذاء في طريق الحقّ وهداية الخلق.
    ولَمَّا: تدل على النفي مع توقع حصول المنفي بها.
    فقد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب ودعوا إلى الحق فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا، أفتصبرون مثلهم على المكاره وتثبتون على الشدائد كما ثبتوا، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتنالوا رضوان الله من غير أن تفتنوا في سبيل الحق، فتصبروا على ألم الفتنة، وتؤذوا في الله، فتصبروا على الإيذاء كما هي سنة الله في أنصار الحق وأهل الهداية في كل زمان؟
    مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ : الشدة تصيب الإنسان في غير نفسه وبدنه، كأخذ المال، والإخراج من الديار، وتهديد الأمن، ومقاومة الدعوة،. وَالضَّرَّاءُ : أي: ما يصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزال: الاضطراب في الأمر يتكرر حتى يكاد يزل صاحبه. وَزُلْزِلُوا : بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل, والنفي, وأخذ الأموال
    فإنَّ مَن مَضى مِن مُؤمِني الأممِ السابقة قد أصابهم الفقرُ وشدَّةُ الحاجة، وأصابتهم الأمراضُ والأوجاعُ، وخُوِّفُوا ورُعِبُوا مِن قِبَل أعدائِهم بأنواع المخاوفِ، فأُصيبوا في أموالهم بالبأساءِ، وفي أبدانهم بالضَّرَّاء، وفي قلوبهم بالخوفِ، حتى وصَلَتْ بهم الحال إلى أنْ يتساءَلَ رسلُ اللهِ ومَن آمَن معهم: متى يأتي نصرُ الله تعالى؟ ليخرُجوا ممَّا هم فيه مِن ضيقٍ وكربٍ وشدَّة. مع يقينهم بنصر الله وتأييده، ولكن لشدة الأمر وضيقه تساءلوا.
    والمراد بالرسول- كما يقول الآلوسى- الجنس لا واحد بعينه.
    " شَكَوْنَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا له: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قالَ: كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمْرَ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ."الراوي : خباب بن الأرت - صحيح البخاري.
    لَمَّا كان الفرج عند الشدَّة، وكلَّما ضاق الأمر اتَّسع، قال تعالى: أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ :فهكذا كلُّ مَن قام بالحقِّ، فإنَّه يُمتَحن ، فكلما اشتدت عليه وصعبت، إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنة في حقه منحة, والمشقات راحات, وأعقبه ذلك, الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء.
    ثم أرشد الله- تعالى- المؤمنين بعد ذلك إلى أن مما يعينهم على دفع الأذى وعلى دحر أعدائهم أن يبذلوا أموالهم في طاعة الله، وأن يعدوا أنفسهم للقتال في سبيله فقال- تعالى-:
    "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْ نِ وَالْأَقْرَبِين َ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ" 215.
    وجه اتصال هذه الآية بما قبلها: أن الآية الأولى فيها دعاء إلى الصبر على الجهاد في سبيل الله، وفي هذه بيان لوجه النفقة في سبيل الله، وكل ذلك دعاء إلى فعل البر.
    فبعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن حب الناس لزينة الحياة الدنيا هو الذي أغراهم بالشقاق والخلاف، وأن أهل الحق هم الذين يتحملون البأساء والضرّاء في أموالهم وأنفسهم ابتغاء مرضاة الله، ناسب أن يذكر هنا ما يُرغب الإنسان في الإنفاق في ذلك السبيل، ومن المعلوم أن بذل المال كبذل النفس، كلاهما من آيات الإيمان، فالسامع لما تقدم تتوجه نفسه إلى البذل فيسأل عن طريقه.
    يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ :أي: يسألك أصحابُك يا محمَّد، عمَّا يُنفَق جنسًا ومقدارًا وكيفيَّةً، قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ :فأجابهم الله تعالى عن ذلك بأنَّ ما تنفقونه من الأموال لا يُشترط فيه شيء معيَّن، ولا مقدار محدَّد، بل يشمل أيَّ مال، وسواء كان قليلًا أم كثيرًا، فَلِلْوَالِدَيْ نِ وَالْأَقْرَبِين َ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ :وأنَّ أولى وأحقَّ مَن تُنفق عليه الأموال هم أقرب النَّاس رحمًا وهم الوالدان، ثم بقيَّة الأقارب، الأقرب فالأقرب، ثم تصرف إلى أشدِّ النَّاس حاجةً من بعدهم، وهم الصِّغار الذين فقدوا آباءهم قبل بلوغهم ولا كاسب لهم، ثم للمساكين الذين لا يجدون ما يكفيهم ويُغنِيهم، وكذا للمسافرِ المجتاز الذي يحتاج نفقةً تُوصِله لموطنِه.
    وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ:ولما خصص الله تعالى هؤلاء الأصناف, لشدة الحاجة, عمم تعالى فقال" وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ" من صدقة على هؤلاء وغيرهم, بل ومن جميع أنواع الطاعات والقربات, لأنها تدخل في اسم الخير، "فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ" فيجازيكم عليه, ويحفظه لكم, كل على حسب نيته وإخلاصه, وكثرة نفقته وقلتها, وشدة الحاجة إليها، وعظم وقعها ونفعها.
    " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"216.
    ربط الآية بما قبلها أن القتال من البأساء التي في قوله "وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُوَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا"البقرة : 214 .
    هذه الآية، فيها فرض القتال في سبيل الله،بعد ما كان المؤمنون مأمورين بتركه، لضعفهم, وعدم احتمالهم لذلك، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, وكثر المسلمون, وقووا؛ أمَرَهم اللهُ تعالى بقتال الأعداء من الكفَّار والمشركين، مع أنَّه مكروهٌ لهم ؛ لِمَا فيه من شدَّة ومشقَّة بالغة، ولِمَا يحدُث فيه من التعرُّض للقتل والإصابة بالجراح ووقوع المخاوف.
    وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌوَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ : أي: إنَّه مع وقوعِ هذه الكراهيةِ في النفوسِ للقتال، إلَّا أنَّ الحقيقة بخلاف ذلك؛ إذ فيه من الخير والمنافع ما هو أكثرُ وأعظمُ ممَّا يقع فيه من أضرار، ومن ذلك ما يَحصُل بسببِه من النَّصرِ على الأعداء، والتمكُّن من البلدان والأموال، وما تقع فيه من الشَّهادة لمن مات منهم محتسبًا، وحصول الحسنات العظيمة لهم، وغير ذلك، فأمَّا ترك القتال الذي هو محبوبٌ للنفوس ففيه من الشرور ما يَزيدُ على مصلحة قعودِهم، ومنها تسلُّط الأعداء، وفوات الأجور العظيمة، وهكذا الأمرُ في جميع أفعال الخير وإنْ كرِهتها النفوس، وأفعال الشرِّ، وإن أحبَّتها النُّفوس.
    يُخبِرُ سالِمٌ مَوْلَى عُمَرَ بنِ عُبَيدِ اللهِ -وكان كاتِبًا له- أنَّه قَرَأ كِتابًا كَتَبَه عَبدُ اللهِ بنُ أبي أوْفَى رَضيَ اللهُ عنهما إلى عُمَرَ بنِ عُبَيدِ اللهِ الذي كان أميرًا لِلحَربِ على الخَوارِجِ والحَرُوريَّةِ في عَهدِ الخَليفةِ علِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه "كَتَبَ إلَيْهِ عبدُ اللَّهِ بنُ أبِي أوْفَى حِينَ خَرَجَ إلى الحَرُورِيَّةِ، فَقَرَأْتُهُ، فَإِذَا فِيهِ: إنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بَعْضِ أيَّامِهِ الَّتي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ، انْتَظَرَ حتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ في النَّاسِ فَقَالَ: أيُّها النَّاسُ، لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، واعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، ومُجْرِيَ السَّحَابِ، وهَازِمَ الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وانْصُرْنَا عليهم."الراوي : عبدالله بن أبي أوفى- صحيح البخاري.
    والحَرُوريَّةُ همْ فِئةٌ مِنَ الخَوارِجِ، وسُمُّوا بالحَرُوريَّةِ؛ نِسبةً إلى حَروراءَ، وهي مَوضِعٌ قَريبٌ مِنَ الكُوفةِ، وهي البَلَدُ الذي اجتَمَعَ الخَوارِجُ فيه أوَّلَ أمْرِهم.
    لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا :وهذا النَّهيُ لِأنَّ المَرءَ لا يَعلَمُ ما يَنتَهي إليه أمْرُه، ولا كيف يَنجُو منه، ولِأنَّ الناسَ مُختَلِفونَ في الصَّبْرِ على البَلاءِ، ولِأنَّ العافيةَ والسَّلامةَ لا يَعدِلُها شَيءٌ. وأيضًا نَهَى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن تَمَنِّي لِقاءِ العَدُوِّ؛ لِمَا فيه مِن صُورةِ الإعجابِ بالنَّفْسِ، والاتِّكالِ عليها، والوُثوقِ بأسبابِ القُوَّةِ، ولِأنَّه يَتضَمَّنُ قِلَّةَ الاهتِمامِ بالعَدُوِّ واحتِقارَه، وهذا يُخالِفُ الاحتياطَ والحَزمَ.
    " وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ" والعافيةُ مِنَ الألفاظِ العامَّةِ المُتناوِلةِ لِدَفْعِ جَميعِ المَكروهاتِ في البَدَنِ والمالِ والأهلِ والدُّنيا والآخِرةِ، وخُصَّتْ بالدُّعاءِ في هذا المَقامِ؛ لِأنَّ الحَربَ مَجالُ الإصاباتِ والابتِلاءِ، ثمَّ قال لهم"فإذا لَقيتُموهم فاصْبِروا" أي اصبروا على مقاتلتهم ولا تجزعوا ، واستعينوا بالله عز وجل، وقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا.
    " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواوَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"الأنفال:45.
    وأما أحوال الدنيا, فليس الأمر مطردًا, ولكن الغالب على العبد المؤمن, أنه إذا أحب أمرًا من الأمور, فقيض الله له من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له, فالأوفق له في ذلك, أن يشكر الله, ويجعل الخير في الواقع, لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه, وأقدر على مصلحة عبده منه, وأعلم بمصلحته منه كما قال تعالى" وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " فعلى المسلم الرضا بأقدار الله, سواء سرته أو ساءته لأن الخير كل الخير ما يقدره الله. ولو لم يقيد الأمر بالقتال, لشمل الأشهر الحرم وغيرها,لذا قيد في الآية التالية.
    "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"217.
    بعد أن حرض الله- تعالى- المؤمنين على بذل أموالهم وأنفسهم في سبيله عقب ذلك ببيان حكم القتال في الأشهر الحرم .
    وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقًا؛ ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم، بل أكبر مزاياها, تحريم القتال فيها, وهذا إنما هو في قتال الابتداء، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم, كما يجوز في البلد الحرام.
    أي: يسألك المؤمنون يا محمَّد، عن القِتال في شهرٍ حرام، والمراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم جميعها، فأل في الشهر للجنس. وقيل للعهد - والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحِجَّة، ومحرَّم، ورجب- ، وقيل: السؤال وقع من المشركين للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ تعييرًا وتشنيعًا على المؤمنين الذين قتَلوا أحد المشركين في شهرٍ حرام، فأمره الله تعالى أن يُجِيب عن ذلك بأنَّ القتال فيه عظيم؛ لعَظمة تلك الأشهر وحُرمتها. ولكنْ ما يقومون به مِن مَنْع النَّاس من سُلوكِ طريق الحقِّ، أو من الاستمرار عليه لمن آمَن، وكفرهم بالله تعالى، ومنعِهم النَّاس عن الوصول إلى البيت الحرام لحجٍّ أو عمرة، وإخراج أهله المؤمنين منه، وهم عُمَّارُه والأحقُّ به من المشركين- أعظمُ إثمًا وجرمًا عند الله تعالى؛ فكلُّ واحدٍ منها فِتنة، والفِتنة أعظمُ وأشدُّ من القتل الذي وقع من المسلمين في شهرٍ حرام.
    فالجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين. وتبكيت وتوبيخ إن كان من المشركين، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيه فيثيروا الشبهات حول الإسلام والمسلمين، فلما أجابهم بأن القتال فيه كبير وأن ما فعلوه من جرائم في حق المسلمين أكبر وأعظم كبتوا وألقموا حجرا.
    وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا: أي: ولا يزال المشركون يقاتلونكم أيها المؤمنون ويضمرون لكم السوء ويداومون على إيذائكم لكي يرجعوكم عن دين الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك وقدروا عليه. والتعبير بقوله " وَلَا يَزَالُونَ" المفيد للدوام والاستمرار للإشعار بأن عداوة المشركين للمسلمين لا تنقطع، وأنهم لن يكفوا عن الإعداد لقتالهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فعلى المؤمنين ألا يغفلوا عن الدفاع عن أنفسهم. وقوله: إِنِ اسْتَطاعُوا يدل- كما يقول الزمخشري- على استبعاد استطاعتهم رد المسلمين عن دينهم، وذلك كقول الرجل لعدوه: إن ظفرت بي فلا تبق على. وهو واثق من أنه لن يظفر به. ويشهد لذلك التعبير بإن المفيدة للشك.
    وفائدة التقييد بالشرط " إِنِ" التنبيه على سخافة عقول المشركين، وكون دوام عداوتهم للمؤمنين لن تؤدي إلى النتيجة التي يتمنونها وهي رد المسلمين عن دينهم، لأن لهذا الدين ربًا يحميه، وأتباعه يفضلون الموت على الرجوع عنه.ثم بيَّنَ- سبحانه- سوء عاقبة من يرتد عن الإسلام فقال: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ:ويرتدد يفتعل من الرد وهو الرجوع عن دينه إلى الكفر. وحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي: بطلت وفسدت وأصله من الحبط، بفتح الباء- وهو أن تأكل الدابة أكلا كثيرا تنتفخ معه بطونها فلا تنتفع بما أكلت ويفسد حالها وربما تموت من ذلك. شبه- سبحانه- حال من يعمل الأعمال الصالحة ثم يفسدها بارتداده فتكون وبالًا عليه، كحال الدابة التي أكلت حتى أصابها الحبط ففسد حالها.
    والمعنى: ومن يرتدد منكم عن دين الإسلام، فيمت وهو كافر دون أن يعود إلى الإيمان، فأولئك الذين ارتدوا وماتوا على الكفر بطلت جميع أعمالهم الصالحة، وصارت غير نافعة لهم لا في الدنيا بسبب انسلاخهم عن جماعة المسلمين، ولا في الآخرة بسبب ردتهم وموتهم على الكفر، وأولئك الذين هذا شأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون خلودًا أبديًا كسائر الكفرة، ولا يغني عنهم إيمانُهم السابق على الردة شيئًا.
    "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"218.
    وبعد أن بين- سبحانه- عاقبة من يرتد عن دينه أتبع ذلك ببيان عاقبة المؤمنين الصادقين. فأعقَب اللهُ عزَّ وجلَّ الإنذارَ بالبشارة، ونزَّه المؤمنين من احتمال ارتدادِهم؛ فإنَّ المهاجرين لم يرتدَّ منهم أحدٌ .تفسير ابن عاشور.
    إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا : أي إنَّ الذين صدَّقوا وأقرُّوا بالحقِّ منقادينَ إليه، وَالَّذِينَ هَاجَرُوا :والذين انتقَلوا من موضعٍ إلى آخَرَ فرارًا من مخالطة المشركين ومساكنتِهم، وربَّما فارَقوا بذلك عشائرهم وأوطانهم؛ حفاظًا على دِينهم، وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ: والذين بذلوا جهدَهم في مقاتلة الأعداء نصرًا لدين الله تعالى، وإعلاءً لكلمته. وجيء بهذه الأوصاف الثلاثة مترتبة على حسب الواقع إذ الإيمان يكون أولًا ثم المهاجرة من أرض الظالمين إذا لم يستطع دفع ظلمهم، ثم الجهاد من أجل إعلاء كلمة الحق.الوسيط.
    أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ : فهؤلاء- ذَوُو الطبقة العالية الرفيعة- لائقون وجديرون حقًّا بأن يطمعوا في نَيل رحمة الله تعالى لهم، وأنْ يُدخِلَهم دار كرامته، وسيَحظَون بما أمَّلوا وطمِعوا فيه؛ ذلك أنَّ الله تعالى غفورٌ رحيم؛ فبمغفرته ستَر ذنوبهم وتجاوز عنها، وأذهب آثارها وعقوباتها في الدنيا والآخرة، وبرحمته وفَّقهم لتلك الأعمال الجليلة، ويمنحهم في الدَّارين الخيراتِ والمراتبَ النَّبيلة. يُنظر:تفسير ابن جرير:3/666-667، تفسير السعدي:ص: 98، تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة:3/62-65.

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة

    من آية 219 إلى آية 220 .

    "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ "219.
    وبعد هذا الحديث الجامع عن البذل والتضحية، ساق القرآن في آيتين ثلاثة أسئلة وأجاب عنها بما يشفي الصدور، ويصلح النفوس.
    أي: يسألك المؤمنون يا محمَّد، عن حُكم الخمر- وهي: كلُّ شرابٍ مسكِر يُغطِّي عقل صاحبه- وعن حُكم الْمَيْسِرِ وهوالقِمار. وقد كانا مستعملين في الجاهلية وأول الإسلام, فكأنه وقع فيهما إشكال، فلهذا سألوا عن حكمهما، فأمر الله تعالى نبيه, أن يبين لهم منافعهما ومضارهما, ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما, وتحتيم تركهما.
    عن عمرَ بنِ الخطَّابِ أنَّهُ قالَ " اللَّهمَّ بيِّن لَنا في الخَمرِ بيانَ شفاءٍ ، فنزلتِ الَّتي في البقرةِ "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ" الآيةَ، فدُعِيَ عمرُ فقرئت علَيهِ قالَ: اللَّهمَّ بيِّن لَنا في الخمرِ بيانَ شفاءٍ، فنزلتِ الَّتي في النِّساءِ"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى" ، فدُعِيَ عمرُ فقُرِئَت علَيهِ، ثمَّ قالَ: اللَّهمَّ بيِّنَ لَنا في الخمرِ بيانَ شفاءٍ، فنزلتِ الَّتي في المائدةِ" إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ" إلى قولِهِ " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" فدُعِيَ عمرُ فقُرِئَت علَيهِ فقالَ: انتَهَينا انتَهَينا "الراوي : عمر بن الخطاب - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم : 3049 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
    كان عُمرُ رضِيَ اللهُ عنه يَميلُ إلى أنْ يأتيَ من عِند اللهِ عزَّ وجلَّ ما يُحرِّمُها؛ فنَزلتِ الآيةُ الَّتي في البقرةِ"يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا"البقرة: 219، أي: إنَّ الخمرَ فيها أضرارٌ ومنافِعُ، وكانت منافِعُها في التِّجارةِ وأمورِ البيعِ والشِّراءِ، فَلَمْ يكُنْ في تِلك الآيةِ نَهْيٌ عنها، بل إظهارُ ما بها من مَضارَّ؛ ليتفكَّرَ النَّاسُ فيها، فَدُعِيَ عمرُ فقُرِئَتْ عليه، أي: عُرِضَتْ عليه تلك الآيةُ فَلَمْ تَشْفِهِ؛ فقال: اللَّهمَّ بَيِّنْ لنا في الخَمرِ بيانًا شِفاءً، أي: أَنزِلْ ما يَفْصِلُ فيها ويُوضِّح أكثرَ من تلك الآيةِ، "فنزلَتِ الآيةُ التي في النِّساءِ"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى"النساء: 43، أي: كان النَّهْيُ في الصَّلاةِ فقط، والنَّهيُ المُتعلِّقُ بها في الصَّلاةِ هو السُّكْرُ لا الشُّرْبُ، "فكان مُنادي رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أي: مُؤذِّنُهُ، "إذا أُقيمَتِ الصَّلاةُ يُنادي: ألا لا يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرانُ، فَدُعِيَ عمرُ فقُرِئَتْ عليه"، أي: عُرِضَتْ عليه تِلك الآيةُ فَلَمْ تَشفِهِ، "فقال: اللَّهمَّ بَيِّنْ لنا في الخمرِ بيانًا شِفاءً"، أي: بَيِّنْ لنا فيها ما هو أَكْثَرُ من ذلك، "فنزلَتْ هذه الآيةُ"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" المائدة: 90، 91، أي: يَنهى اللهُ عزَّ وجلَّ صراحةً في تلك الآيةِ عن شُرْبِ الخمرِ، ويأمُر باجتنابِها؛ "فقال عُمَرُ: انتهيْنا"، أي: كانتْ تلك الآيةُ بمَنزلةِ الفَصْلِ الَّذي كان يُريدُهُ عمرُ بنُ الخطَّابِ في الخمرِ.
    وفي الحديثِ: مَنْقَبَةٌ لِعمرَ بنِ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه.الدرر.
    وَالْمَيْسِرِ : وأمَّا مفسدة القِمار فبإيقاع العداوة والبغضاء، والصَّدِّ عن ذِكر الله وعن الصَّلاة، وهذه مفاسدُ عظيمةٌ لا نسبةَ إلى المنافع المذكورة إليها.
    وهذه الآية من أدلة القاعدة الفقهية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.إذا تعارضت مفسدة ومصلحة ، وتساويا ، فإن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة .
    وذلك لأن وجود المفسدة يؤثر تأثيرًا سلبيًّا على تحصيل المنفعة ، لذا قالوا " التخلية قبل التحلية " ، أي إزالة العقبات من طريق جلب المصلحة أو المنفعة .
    ودفع المفسدة مُقدم على جلب المنفعة لحكمة أخرى حاصلها : أن المفسدة إذا لم تُدفع في أول أمرها ربما تتفاقم وتنتشر وتجر إلى مفاسد أخرى ، وتحُول بين جلب المنافع الدنيوية والأخروية .القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه / ص : 107 / بتصرف .
    فإذا تساوت المصلحة والمفسدة ، ولم ترجح إحداهما ، فدرء المفاسدمقدم على جلب المصالح لأن عناية الشارع بترك المنهيات آكد من عنايته بفعل المأمورات .
    * فعن أبي هريرة ، قال خطب رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ الناس فقال " ، فإذا أمرتكم بالشيء فخذوا به ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"سنن النسائي تحقيق الشيخ الألباني / 24 -كتاب : مناسك الحج / 1ـ باب : وجوب الحج / حديث رقم : 2619 / ص : 409 / صحيح.
    فالمأمورات قال فيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم " فخذوا به ما استطعتم " ، فعلقها على الاستطاعة ، وذلك باستفراغ الجهد .
    أما المنهيات فقال فيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم " فاجتنبوه " . أي ابتعدوا عن المنهيات تمامًا .
    منظومة القواعد الفقهية ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
    مثال ذلك : يمنع الشخص من الترف في ملكه إذا كان تصرفه يضر بجاره ضررًا فاحشًا ؛ لأن درء المفاسد عن جاره ـ مقدم ـ وأولى من جلب المنافع لنفسه .

    الدرة المرضية شرح منظومة القواعد الفقهية ... / جمعة صالح محمد / ص : 47
    *أنه إذا تعارضت مفسدة ومصلحة ، وكانت المفسدة أعظم من المصلحة ، وجب تقديم دفع المفسدة ، وإن استلزم ذلك تفويت المصلحة ، لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات ، كما سبق توضيحه عاليه .
    ومن شواهد هذه القاعدة :
    قوله تعالى "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافعُ لِلناسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبرُ من نَّفْعِهِما " .سورة البقرة / آية : 219 .
    فحرم الله الخمر والميسر ، لأن مفسدتهما أعظم من مصلحتهما .
    قال الحافظ ابن كثير :
    " أما إِثمهما فهو في الدين ، وأما المنافع فدنيوية من حيث إن فيها نفع البدن وتهضيم الطعام ، وإخراج الفضلات ، ولذة الشدة التي فيها ، وكذا بيعها والانتفاع بثمنها ، وما كان يقمِّشة بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله ، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين ، ولهذا قال تعالى : "وَإِثْمُهُمَا أَكْبرُ من نَّفْعِهِمَا" .القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب : إعلام الموقعين لابن القيم / ص : 339 / بتصرف .
    *أما إذا دار الفعل بين مصلحة ومفسدة ، وكانت المصلحة أرجح من المفسدة ، حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة . وهذا مُفاد القاعدة التالية:

    تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة
    ومن دلائل هذه القاعدة :
    ـ قول الله عز وجل " وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" .سورة البقرة / آية : 179 .
    * قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ :
    " ... فلولا القصاص لفسد العالَم ، وأهلك الناس بعضهم بعضًا استبداءً واتيفاءً ، فكان القصاص دفعًا لمفسدة التَّجَرِّي على الدماء بالجناية أو بالاستيفاء ، وقد قالت العرب في جاهليتها :
    " القتال أنفع للقتل" ، وبسفك الدماء تُحقن الدماء" . ا . هـ . 2 / 91 .

    القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب : إعلام الموقعين لابن القيم / ص : 343 .
    وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في تفسير هذه الآية :
    " وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ" . أي : تنحقن بذلك الدماء ، وتنقمع به الأشقياء ، لأن من عَرف أنه مقتول إذا قَتل ، لا يكاد يصدر منه القتل ، وإذا رؤي القاتل مقتولاً انذعر بذلك غيره وانزجر ، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل ، لم يحصل انكفاف الشر ، الذي يحصل بالقتل ، وهكذا سائر الحدود الشرعية ، فيها من النكاية والانزجار ، ما يدل على حكمة الحكيم الغفار ، ونكَّر سبحانه ـ أي جعلها نكرة ـ " الحياة " لإفادة التعظيم والتكثير .
    ولما كان هذا الحكم ، لا يعرف حقيقته إلا أهل العقول الكاملة ، والألباب الثقيلة ، خصهم بالخطاب دون غيرهم ، وهذا يدل على أن الله تعالى يحب من عباده أن يعملوا أفكارهم وعقولهم ، في تدبر ما في أحكامه ، من الحِكَم ، والمصالح الدالة على كماله ، وكمال حكمته وحمده ، وعدله ورحمته الواسعة ، وأن من كان بهذه المثابة ، فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب ، وناداهم رب الأرباب ، وكفى بذلك فضلًا وشرفًا لقوم يعقلون..ا . هـ .

    وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ :ومناسبة هذا السؤال لما قبله أنهم بعد أن نُهُوا عن إنفاق أموالهم في الوجوه المحرمة كتعاطى الخمر والميسر، سألوا عن وجوه الإنفاق الحلال، وعن مقدار ما ينفقون فأجيبوا بهذا الجواب الحكيم.
    قُلِ الْعَفْوَ : وأصل العفو في اللغة الزيادة. يقال : عفا الشيء إذا كثر قال- تعالى" ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا"الأعراف : 95. أي: كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم ،زادوا على ما كانوا عليه من العدد.
    والمراد به هنا: ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة، إذ هذا القدر الذي يتيسر إخراجه ويسهل بذله، ولا يتضرر صاحبه بتركه.
    والمعنى، ويسألونك ما الذي يتصدقون به من أموالهم في وجوه البر، فقل لهم تصدقوا بما زاد عن حاجتكم، وسهل عليكم إخراجه، ولا يشق عليكم بذله.الوسيط.
    "أعتق رجلٌ من بنى عذرةَ عبدًا له عن دبْرٍ فبلغ ذلك رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: ألك مالٌ غيرُه ؟ قال : لا، فقال رسولُ اللهِ : من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيمُ بنُ عبد اللهِ العدوي بثمانمائةِ درهمٍ، فجاء بها رسولُ اللهِ فدفعها إليه ثم قال : ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها فإن فضلَ شيءٌ فلأهلكَ، فإن فضل من أهلك شيءٌ، فلذي قرابتِك فإن فضَل من ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا، وهكذا، يقول : بين يدَيك، وعن يمينِك، وعن شمالكَ"الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح النسائي - الصفحة أو الرقم : 4666 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
    عبدًا له عن دبْرٍ :أي: قرَّرَ هذا الرَّجلُ أنَّه بعْدَ أنْ يَموتَ يُصْبِحُ مَملوكُه حُرًّا، ولَمْ يَكُنْ له مالٌ غَيْرُ هذا العَبدِ، وهذا كنايةٌ عن احتياجِه للمالِ، فبلَغَ ذلك رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يوافِقْه على فِعْلِه ذلك، ثم سأل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه" من يشتريه مني؟" فأراد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيْعَه للرَّجلِ؛ لكَونِه فَقيرًا مُحتاجًا للمالِ؛ فبَيْعُه والانتفاعُ بِمالِه أوْلى مِن عِتْقِه، فاشتراهُ نُعيمُ بنُ عبدِ اللهِ بن النحامِ العَدويُّ بثَمانِمِائةِ دِرْهمٍ، فجاء بها لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأعطاها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للرَّجلِ. ثم قال : ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها فإن فضلَ شيءٌ فلأهلكَ، فإن فضل من أهلك شيءٌ، فلذي قرابتِك فإن فضَل من ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا، وهكذا، يقول : بين يدَيك، وعن يمينِك، وعن شمالكَ"الدرر.
    والمراد به هنا: ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة، إذ هذا القدر الذي يتيسر إخراجه ويسهل بذله، ولا يتضرر صاحبه بتركه.
    كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : أي: كما فصَّل الله تعالى هذه الأحكامَ كحُكم الخمر وغيره، وأوضحها غايةَ الإيضاح، فكذلك يُوضِّح الله جلَّ وعلا لنا بمِثل ذلك البيان سائر آياته وأحكامه الشرعيَّة؛ كي نتفكَّر من خلالها فيما شرَعه الله تعالى من أحكام تتعلَّق بشؤون الدارينِ، ولأجْل أن يقودَنا ما جاء فيها من وعدٍ ووعيد وثوابٍ وعقاب، إلى التفكُّر في الدنيا وسرعة انقضائها، وفي إقبال الآخِرة وبقائها، فنزهَد في الأولى، ونُعمِّر الثانية؛ عملًا بطاعة الله تعالى، وتركًا لشهوات يسيرة فانية.الدرر السنية موسوعة التفسير.
    "فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "220.
    وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى : لَمَّا ذكَر سبحانه وتعالى السؤالَ عن الخمر والميسر، وكان في تَرْكهما إصلاحُ أحوالهم وأنفسهم، أمَر بالنَّظر في حال اليتامى؛ إصلاحًا لغيرهم ممَّن هو عاجزٌ أن يصلح نفْسَه، فيكون قد جمَعوا بين النَّفع لأنفسهم ولغيرهم.
    عنِ ابنِ عبَّاسٍ لَمَّا نزَلَتْ هذه الآيةُ"وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"الأنعام: 152، و"إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا"النساء: 10، قال: اجتَنَب النَّاسُ مالَ اليتيمِ وطعامَه، فشَقَّ ذلك على المُسلِمينَ، فشكَوْا ذلكَ إلى النَّبيِّ، فأنزَل اللهُ"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ"البقرة: 220، إلى قوله"لَأَعْنَتَكُمْ"البقرة: 220.الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح النسائي-الصفحة أو الرقم : 3671 - خلاصة حكم المحدث : حسن.
    أي: يسألُك المؤمنون يا محمَّد، عمَّا اشتدَّ عليهم فعله مع اليتامى؛ إذ كانوا يعزلون لهم طعامَهم؛ خوفًا من تناوله معهم، فإذا فضَل منه شيءٌ حبسوه لهم حتى يأكلوه أو يتغيَّر، فأخبَر الله تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُجيبهم بأنَّ المقصودَ إنَّما هو إصلاحُ أموال اليتامى، بحفظها، واستثمارها، والاتِّجار فيها لهم، فإنْ لم تأخذوا أجرًا على قيامكم بذلك فذلك خيرٌ لكم وأعظمُ أجرًا، وإن أصبتم من أموالهم شيئًا في مقابل قيامكم بشؤونهم، كأنْ خالطتموهم في طعامٍ أو غيره من الأموال فجائز- على وجهٍ لا يضرُّ باليتامى-؛ لأنَّهم إخوانكم في الدِّين، ومن شأن الأخ مخالطة أخيه.
    وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ : أي: إنَّ الله تعالى وإنْ أذِن للمؤمنين في مخالطة اليتامى على ما سبق ذِكرُه، إلَّا أنَّه خوَّفهم وحذَّرهم من أن تُسوِّل لهم أنفسُهم شيئًا من الخداع لأكل أموال اليتامى بالباطل، فالمعوَّل في ذلك على النيَّة، فمَن خلط مال اليتيم بماله يريد مصلحته، فالله يعلم نيَّته وسيُثِيبه على ذلك، وإنْ حصَل أنْ دخل عليه شيءٌ من ماله من غير قصْدٍ، ولا طمعٍ، فلا حرج عليه؛ لأنَّ الله تعالى يعلم نيَّته، وأمَّا مَن قصد بتلك المخالطة التوصُّل بها إلى أكلِ ماله خديعةً، فالله عزَّ وجلَّ يعلم نيَّته، وسيعاقبه على ذلك.
    وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: أي: إنَّ هذا الحُكم إنَّما شُرِع رخصةً من الله تعالى وتوسعةً على عباده؛ وإلَّا فإنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يشُقَّ عليهم بنَهيِهم عن خلط أموالهم بأموال اليتامى؛ وأمْرِهم بتقدير طعامهم تقديرًا دقيقًا، بحيث لا يَزيد عن حاجتهم، ولا ينقص عنها، فيقعوا بذلك في ضيقٍ وحرج؛ ويعاقبهم ربُّهم إنْ تركوا أمره، أو ارتكبوا نهيه؛ ذلك بأنَّ الله تعالى لا يعجزه شيء، وهو قاهرٌ لكلِّ شيء، وَفْق ما تقتضيه حِكمته؛ إذ يضَعُ كلَّ شيءٍ في موضعه اللائق به، فيعاقب مَن يستحقُّ ذلك لعناده، ويشرِّع ما فيه الخير والرحمة لعباده. الدرر السنية موسوعة التفسير.

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    626

    Post رد: تفسير سورة البقرة

    من آية 221إلى آية 225.
    "وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" 221.
    قال ابن كثير:هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا من المشركات من عبدة الأوثان، ما دمن على شركهن، ثم إن كان عمومها مرادًا وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية فقد خُص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله"وَالْمُحْصَنَات ُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ"المائدة:5.
    فالمشركة فيها تفصيل:
    *المشركة إن كانت وثنية، مثل مجوسية، مثل شيوعية، مثل وثنية تعبد القبور، هذه الزواج منها باطل، المسلم ما يحل له يتزوج المشركة.
    يقول سبحانه في المشركات" لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ " الممتحنة:10.
    يروي عبد الله بن عمرو بن العاص"أنَّ مِرثدَ بنَ أبي مِرثدٍ الغنَويَّ كانَ يحملُ الأسارى بمَكَّةَ ، وَكانَ بمَكَّةَ بغيٌّ يقالُ لَها : عَناقُ وَكانت صديقتَهُ ، قالَ : جِئتُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقُلتُ : يا رسولَ اللَّهِ ، أنكِحُ عَناقَ ؟ قالَ فسَكَتَ عنِّي ، فنزلت "والزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ"النور:3. فدعاني فقرأَها عليَّ وقالَ : لا تنكِحْها"الراوي : عبد الله بن عمرو بن العاص - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود-الصفحة أو الرقم: 2051 - خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح.
    وفي الحَديثِ: النَّهيُ عن زَواجِ البَغايا.
    *أما إن كانت المشركةيهودية أو نصرانية أي من أهل الكتاب ، فهذه نكاحها جائز شرعًا صحيح إذا كانت محصنة معروفة بعدم الزنا. والتزوج من الكتابية تَرْكُهُ أولى بكلِّ حالٍ؛ لأنها قد تجره إلى دينِهَا، وقد تجر أولادَهُ إلى دينها وأخلاقِها، وقد تربيهم على الشر والكفر، فينبغي له أن لا يتزوجها وفي المسلمات غُنية وكفاية بحمد الله.ابن باز باختصار.
    يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ: لَأَنْ يتزوَّج المؤمن بأمَة مملوكة لكنَّها مؤمنة، خيرٌ له من أن يتزوَّج امرأة حرَّة مشركة، وإن بلَغ الإعجاب بها مبلغًا؛ لشدَّة حُسنِها، أو عِظَم حسَبِها، أو شَرَفِ نَسبِها، أو كثرةِ مالها.
    وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ: أي: حرَّم الله تعالى على المؤمنين أن يُزوِّجوا نساءَهم المؤمنات لرجالٍ مشركين، إلَّا إذا آمنوا ووحَّدوا الله تعالى بدخولهم في الإسلام، ولَأَنْ تزوجوهنَّ بعبدٍ مملوكٍ لكنه مؤمنٌ بالله تعالى، خيرٌ من أن تزوجوهنَّ برجلٍ حرٍّ مشرك، ولو بلغ إعجابكم به ما بلغ لحُسنه، أو حسبه، أو نسبه، أو ماله .
    وأخذ منه أن الكافر إذا أسلمت زوجته يفسخ النكاح بينهما ثم إذا أسلم هو يحق للمسلمة الرجوع إليه . فهذه الآية صريحة في أن زواج المسلمة بالكافر لا يجوز، وكلمة كافر تشمل أهل الكتاب. قال الفخر الرازي: لا خلاف هاهنا في أن المراد به- أي بلفظ المشركين- الكل، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر ألبتة على اختلاف أنواع الكفرة.
    أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ :أي إن هؤلاء المشركين والمشركات من دأبهم أن يدعوا إلى كل ما يكون سببا في دخول النار من الأقوال والأفعال - وصلة الزوجية من أقوى العوامل في تأثير هذه الدعوة في النفوس، إذ من شأنها أن يتسامح معها في أمور كثيرة، فربما سري شيء من عقائد الشرك للمؤمن أو المؤمنة بضروب من الشبه والتضليل.
    وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ معطوف على " وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ". أي أنه- سبحانه- يدعو الناس إلى ما يوصلهم إلى جنته ومغفرته ويبين لهم آياته وأوامره ونواهيه في شئون الزواج وفي غير ذلك من الأحكام لكي يتعظوا ويعتبروا ويتذكروا ما أمرهم الله به فيعملوه، وما نهاهم عنه فيتركوه.
    وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد رسمت للناس أقوم السبل، لكي يعيشوا في ظل أسرة فاضلة، تظلها السعادة، ويسودها الأمان والاطمئنان ويتعاون أفرادها على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.
    "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ "222.
    بعد أن أمر الله- المسلّم بأن يجعل التدين وحسن الخلق محط اختياره في الزواج، اتبع ذلك بإرشاده إلى بعض الآداب التي يجب عليه أن يسلكها مع زوجه حتى تكون علاقتهما قائمة على ما يقتضيه الطبع السليم والخلق القويم وحتى تكون في أعلى درجات التطهر والتنزه والعفاف.
    "أنَّ اليَهُودَ كَانُوا إذَا حَاضَتِ المَرْأَةُ فيهم لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، ولَمْ يُجَامِعُوهُنَّ في البُيُوتِ، فَسَأَلَ أصْحَابُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هو أذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في المَحِيضِ"البقرة: 222، إلى آخِرِ الآيَةِ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: اصْنَعُوا كُلَّ شيءٍ إلَّا النِّكَاحَ فَبَلَغَ ذلكَ اليَهُودَ، فَقالوا: ما يُرِيدُ هذا الرَّجُلُ أنْ يَدَعَ مِن أمْرِنَا شيئًا إلَّا خَالَفَنَا فِيهِ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ، وعَبَّادُ بنُ بشْرٍ فَقالَا يا رَسولَ اللهِ، إنَّ اليَهُودَ تَقُولُ: كَذَا وكَذَا، فلا نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وجْهُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ حتَّى ظَنَنَّا أنْ قدْ وجَدَ عليهمَا، فَخَرَجَا فَاسْتَقْبَلَهُ ما هَدِيَّةٌ مِن لَبَنٍ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأرْسَلَ في آثَارِهِما فَسَقَاهُمَا، فَعَرَفَا أنْ لَمْ يَجِدْ عليهمَا."الراوي : أنس بن مالك- صحيح مسلم .
    في هذا الحديثِ يَروي أنسُ بنُ مالِك رَضيَ اللهُ عنه أنَّ اليَهُودَ -وكانوا يَسكُنون المَدينةَ قبلَ قُدومِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- كانوا إذا حاضَتِ المرأةُ لم يأكُلوا معها ولم يُخالِطوها ولم يُساكِنُوها في بيتٍ واحدٍ، مُعتقِدينَ بنَجاستِها وهي على تلك الحالِ.فلما سأل الصحابة عن ذلك أنزلت هذه الآية.....
    ومَعناها: يَسألُك أصحابُك منَ المُسلِمينَ -أيُّها النَّبيُّ- عن حُكمِ الحَيضِ، فقُل مُجيبًا إيَّاهم: الحَيضُ أذًى للرَّجلِ والمرأةِ، فاجتَنِبُوا في وقتِ الحيضِ جِماعَ الزَّوجاتِ وغيرَهنَّ ممَّن يَصِحُّ لكُم جِماعُهنَّ ممَّا ملَكَت أيمانُكم، ولا تَقرَبُوهنَّ بالوَطءِ إلَّا بعدَ أن يَنقطِعَ الدَّمُ عنهنَّ، ويَتطهَّرنَ منه بالغُسلِ الكامِلِ لجَميعِ البَدنِ، فإذا انقطعَ دمُ الحَيضِ وتَطهَّرَت منه الزَّوجاتُ؛ فجَامِعُوهنَّ على الوَجهِ الَّذي أباحَه الشَّرعُ لكُم؛ وهو أن تَكُونَ النِّساءُ طاهِراتٍ، وأن يَكُونَ الوَطءُ في الفَرجِ في القُبُلِ وليسَ في الدُّبُرِ؛ فإنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابينَ المُكثِرينَ منَ التَّوبةِ منَ المَعاصي، فكُلَّما عصَوا تابوا.
    فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ:اصْنَعُوا كُلَّ شيءٍ إلَّا النِّكَاحَ:
    أيِ: افعَلوا كلَّ شَيءٍ منَ المُباشَرةِ والاستمتاعِ ونحوِه دونَ الجِماعِ، فضلًا عن أن يُساكِنوهُنَّ ويُؤاكِلوهُنَّ.
    فلمَّا عَلِمَ ذلك اليَهُودُ قالوا"ما يُرِيدُ هذا الرَّجلُ" يَقصِدون النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" أنْ يَدَعَ من أمْرِنا شيئًا إلَّا خالَفَنا فيه!" أي: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتعمَّدُ مُخالفَتَهم في كلِّ أمرٍ يَفعَلونَه.
    فجاءَ الصَّحابيَّانِ أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ وعَبَّادُ بنُ بِشرٍ رَضيَ اللهُ عنهما إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالا"إنَّ اليَهُودَ تقولُ كذا وكذا" من كلامِهمُ البَذيءِ في حقِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
    "أفلا نُجامِعُهُنَّ؟" أي: أتَأمُرُنا بمُخالَفةِ اليَهودِ فيهنَّ المُخالَفةَ التَّامَّةَ، فنُجامِعُهنَّ في حالةِ الحَيضِ، وإنَّما حمَلَهما على ما قالا؛ شِدَّةُ بُغضِهما لليَهودِ، فأرادا إدخالَ الغَيظِ عليهم بذلك، فَتَغَيَّرَ وجْهُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ حتَّى ظَنَّ المَوجودون عنده أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غَضِبَ منهما، وتَغيُّرُ وَجه رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من قولِ أُسَيدِ بنِ حُضَيرٍ وعَبَّادِ بنِ بِشرٍ، إنَّما كان ليُبيِّنَ أنَّ الحاملَ على مَشروعيَّةِ الأحكامِ إنَّما هو أمرُ اللهِ ونَهيُه، لا مُخالَفةُ أحدٍ ولا مُوافقتُه كما ظنَّا.
    ثُمَّ لَمَّا خرَجَا من عندِه وترَكاه على تلك الحالِ، خافَ عليهما أن يَحزَنَا، وأن يَتكدَّرَ حالُهما، فاستَدرَك ذلك، وأزال عنهما ما أصابهما، بأن أرسَل إليهما فسَقَاهما لَبَنًا قد جاءَه هديَّةً، فَعَرَفَا أنَّه لم يَغضَبْ عليهما.
    وفي الحديثِ: رِفقُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأصحابِه وحِلمُه معهم، وأنَّه لا يَغضَبُ إلَّا للهِ.
    وفيه: بيانُ أنَّ الشَّرعَ كلَّه وَحيٌ وأمرٌ منَ اللهِ تَعالَى.الدرر السنية.
    وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ:
    فاجتَنِبُوا في وقتِ الحيضِ جِماعَ الزَّوجاتِ وغيرَهنَّ ممَّن يَصِحُّ لكُم جِماعُهنَّ ممَّا ملَكَت أيمانُكم، ولا تَقرَبُوهنَّ بالوَطءِ إلَّا بعدَ أن يَنقطِعَ الدَّمُ عنهنَّ، ويَتطهَّرنَ منه بالغُسلِ الكامِلِ لجَميعِ البَدنِ، فإذا انقطعَ دمُ الحَيضِ وتَطهَّرَت منه الزَّوجاتُ؛ فجَامِعُوهنَّ على الوَجهِ الَّذي أباحَه الشَّرعُ لكُم؛ وهو أن تَكُونَ النِّساءُ طاهِراتٍ، وأن يَكُونَ الوَطءُ في الفَرجِ في القُبُلِ وليسَ في الدُّبُرِ.
    إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ: قال الآلوسى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ مما عسى يبدر منهم من ارتكاب بعض الذنوب كالإتيان في الحيض المستدعي لعقاب الله- تعالى. وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ : أي: المتنزهين عن الآثام وهذا يشمل التطهر الحسي من الأنجاس والأحداث. ويشمل التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة, والصفات القبيحة, والأفعال الخسيسة.
    "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ "223.
    إنَّ مِن عظَمةِ هذا الدِّين ومَحاسِنِه أنَّه ما ترَكَ لنا شيئًا إلَّا وبيَّنه لنا، حتَّى ما يَتعلَّقُ بالمعاشَرةِ الزَّوجيةِ، كما قال تعالَى"وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ"النحل: 89، وهذا ممَّا يدُلُّ على شُموليَّةِ هذا الدِّينِ.
    سَمِعْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عنْه قَالَ: كَانَتِ اليَهُودُ تَقُولُ: إذَا جَامعهَا مِن ورَائِهَا جَاءَ الوَلَدُ أحْوَلَ، فَنَزَلَتْ"نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ"البقرة: 223."الراوي : محمد بن المنكدر - صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم : 4528.
    في هذا الحديثِ يُخبرُ جابرُ بنُ عبد اللهِ رضيَ الله عنهما أنَّ اليهودَ كانت تَقولُ: إذا جامعَ الرَّجُلُ امرأتَه مِن ورائِها في مَوضِعِ الحَرثِ -القُبُل، جاء الولدُ أحوَلَ، فأنزَلَ اللهُ تعالَى قَولَه"نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ"البقرة: 223؛ تكذيبًا لهم، فأباح للرِّجالِ أن يَتمَتَّعوا بنِسائِهم كيف شاؤوا، أي: فأْتوهنَّ كما تَأتون أرضَكم التي تُريدون أنْ تَحرُثوها مِن أيِّ جِهةٍ شِئتُم، لا يُحظَرُ عليكم جِهةٌ دونَ جِهةٍ، والمعنى: جامِعوهنَّ مِن أيِّ شِقٍّ أردتُم بعْدَ أنْ يكونَ المأتيُّ واحدًا، وهو مَوضِعُ الحَرثِ، وهذا من الكنايات اللَّطيفةِ والتَّعريضات المُستحسَنة، وقيَّد بالحرثِ لِيُشيرَ إلى عدَم تجاوُزِ مَوضِعِ البَذرِ ألبتَّةَ، فلا يجامِعُها في دُبُرِها.
    وفي الحَديثِ: عِنايةُ الإسلامِ بالأُمورِ الدَّقيقةِ التي يَحتاجُ إليها كلُّ فرْدٍ.
    وفيه: التَّحذيرُ مِن مُجاوَزةِ الجِماعِ في القُبلِ.الدرر السنية.
    وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ:
    أي: عليكم أيها المؤمنون أن تقدموا في حاضركم لمستقبلكم من الأعمال الصالحة ما ينفعكم في دنياكم وآخرتكم من التقرب إلى الله بفعل الخيرات, ومن ذلك أن يباشر الرجل امرأته, ويجامعها على وجه القربة والاحتساب بالقيود الشرعية , وعلى رجاء تحصيل الذرية الذين ينفع الله بهم. " وَاتَّقُوا اللَّهَ" واجعلوا بينكم وبين غضب الله تعالى وعذابه حاجزًا يَقِيكم ذلك بتجنُّب الشرور والسيِّئات، وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ : وكونوا على يقين تامٍّ من أنكم ستلاقون الله تعالى يوم القيامة، وأنه مُجازٍ كلًّا منكم بعمله، إنْ خيرًا فخير وإنْ شرًّا فشر، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ: وبشِّر المؤمنين يا محمَّد بما يسرُّهم فالمؤمنون الذين يحبُّون لقاء الله تعالى، ويُعِدُّون للأمر عُدَّتَه، سيهنَؤون بلقائه سبحانه، وما يُقدِّموا لأنفسهم من خيرٍ سيجدونه عند الله عزَّ وجلَّ، ويُكرِمهم بدخول جنَّته. كما قال تعالى"وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا "المزمل: 20
    "وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُم ْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِوَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"224.
    عُرْضَةً بمعنى النصبة التي تتعرض للسهام: لا تجعلوا- أيها المؤمنون- اسم الله- تعالى- هدفًا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به في كل حق وباطل.
    فبعد أن أمرنا سبحانه في الآية السابقة بتقواه وحذرنا من معصيته ومخالفة أمره - ذكر هنا أن مما يتّقى ويحذر منه أن يجعل اسم الله عند الحلف به مانعًا من البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس. أي ولا تجعلوا الحلف بالله مانعًا لما حلفتم على تركه من عمل البر، فتتركوه تعظيمًا لاسمه، فالله لا يرضى أن يكون اسمه حجابًا دون الخير، فكثيرًا ما يسرع الإنسان إلى الحلف بألا يفعل كذا ويكون خيرًا، أو أن يفعل كذا ويكون شرًا، فنهانا الله عن ذلك وأمرنا بتحري وجوه الخير، فإذا حلفنا على تركها فلنفعلها ولنكفر عن اليمين.
    "أَعْتَمَ رَجُلٌ عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ إلى أَهْلِهِ فَوَجَدَ الصِّبْيَةَ قدْ نَامُوا، فأتَاهُ أَهْلُهُ بطَعَامِهِ، فَحَلَفَ لا يَأْكُلُ مِن أَجْلِ صِبْيَتِهِ، ثُمَّ بَدَا له فأكَلَ، فأتَى رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذلكَ له، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ"مَن حَلَفَ علَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها، فَلْيَأْتِهَا، وَلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ".الراوي : أبو هريرة - المحدث : مسلم - صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم : 1650.
    يعني: مَن حَلفَ يمينًا جزْمًا، ثُمَّ ظَهَر له أمرٌ فِعْلُه أفضلُ مِن إبرارِ يَمينِه وظَنَّ الخيْرَ في غيرِ ما حَلَف به، فَلَيَفعَلْ ذلكَ الأمرَ، ويُكفِّرْ بعْدَ فِعلِه.
    وقدْ ذُكِرتْ كفَّارةُ اليَمينِ على التَّرتيبِ في قولِ اللهِ تَعالَى"لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُإِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍفَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ"المائدة: 89، فمَن لم يَستطعِ الإطعامَ أو الكسوةَ أو العِتقَ؛ فلْيَصُمْ ثَلاثةَ أيَّامٍ.الدرر السنية.
    ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة, أنه " إذا تزاحمت المصالح, قدم أهمها " فهنا تتميم اليمين مصلحة, وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء, مصلحة أكبر من ذلك, فقدمت لذلك.
    وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ :أي والله سميع لما تلفظون به، عليم بنواياكم، ومنه سماعه لأقوال الحالفين, وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر، وفي ضمن ذلك التحذير من مجازاته, وأن أعمالكم ونياتكم, قد استقر علمها عنده فعليكم أن تراقبوه في السر والعلن، وتراقبوا حدود شرائعه لتكونوا من المفلحين.
    "لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ"225.
    استئناف بياني، لأن الآية السابقة لما أفادت النهي عنِ التسرعِ في الحلفِ، أو عن اتخاذ الأيمان حاجزًا عن عمل الخير، كانت نفوس السامعين مشوقة إلى حكم اليمين التي تجري على الألسنة بدون قصد.
    لَّا يُؤَاخِذُكُمُ :والمؤاخذة: مفاعلة من الأخذ بمعنى المحاسبة أو المعاقبة أو الإلزام بالوفاء بها. بِاللَّغْوِ :واللغو من الكلام: الساقط الذي لا يعتد به ولا يصدر عن فكر وروية.
    والمعنى: لا يعاقبكم الله- تعالى- ولا يلزمكم بكفارة ما صدر عنكم من الأيمان اللاغية فضلًا منه- سبحانه- وكرمًا.
    واليمين اللغو هي التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة من غير قصد.
    ثم بين- سبحانه- اليمين التي هي موضع المحاسبة والمعاقبة فقال:وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ: أي يعاقبكم في الآخرة بما قصدته قلوبكم وتعمدتم فيه الكذب في اليمين، بأن يحلف أحدُكم على شيء كذب ليعتقد السامع صدقه، وتلك هي اليمين الغموس- أي التي تغمس صاحبها في النار- ويدخل فيها الأيمان التي يحلفها شهود الزور والكاذبون عند التقاضي ومن يشابههم في تعمد الكذب.
    ويرى جمهور العلماء أن هذه اليمين لا كفارة فيها وإنما كفارتها التوبة الصادقة ورد الحقوق إلى أصحابها إن ترتب على اليمين الكاذبة ضياع حق أو حكم بباطل.ويرى الإمام الشافعي أنه يجب فيها فوق ذلك الكفارة.
    وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ: تذييل لتأكيد معنى عدم المؤاخذة في اللغو. أي والله غفور حيث لم يؤاخذكم باللغو ،حليم حيث لم يعاجل المخطئين بالعقوبة.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •