الشيخ محمد بن صالح العثيمين / صحيح مسلم
كتاب النكاح والرضاع والطلاق واللعان والعتق-11b
فوائد حديث : ( ... غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ) . حفظ
الشيخ : في هذا الحديث فوائد منها: أن الإحداد على الميت في ثلاثة أيام فأقل لا بأس به سواء كان زوج أو غير زوج، لكن الزوج يمتد الإحداد إلى كم؟ إلى انتهاء العدة إلى أربعة أشهر وعشر أو إلى إنتهاء الحمل، لكن كيف الإحداد على غير الزوج؟ مثل أن يغلق الإنسان دكانه أو أن يكون عند الإنسان موعد للخروج للنزهة فيدع النزهة، أو يكون له مجالس معتادة كالذين يعتادون المقاهي مثلا ويتأخر، المهم له أن يعطي نفسه الحرية في فسخ الحزن حتى لا يكتمه في نفسه فيتأثر به أكثر فرخص له الشارع، لكن في مدة ثلاثة أيام ولا تزد، وهل هذا أمر مطلوب؟ الجواب لا، هو غير مطلوب لكنه مأذون فيه، فإذا عجز الإنسان عن الصبر ورأى أن ينفس عن نفسه بهذا الإحداد فلا بأس، ولكن لو صبر وخرج مع الناس وكأن شيئا لم يكن، كان هذا هو الأفضل، وهذا هو الأولى بالمؤمن أن يصبر على قضاء الله وقدره.
ومن فوائد هذا الحديث أنه يجب على المرأة ترك الإكتحال إذا كانت محادّة، ولو كان ذلك للعلاج وسبق بيانه، أنّ ارتكاب المحرم مفسدة معلومة وبُرؤ العين بالكحل غير معلومة غير محققة.
ومن فوائده صحة ما قال أهل العلم رحمهم الله أنه لا يحل التداوي بالمحرم، فالمحرم لا يحل التداوي به أبداً لأنه لو كان فيه خير ما حُرم فهو شر، فكل شيء محرم فإنه لا يجوز التداوي به، وقد اشتهر عند العامة القول بأن " دواء الشهاقة لبن النهاقة " أيش المعنى هذا؟ الشهاقة يعني الكحة التي يشهق منها الإنسان إذا ثارت عليه فدوائها لبن النهاقة، ما هي النهاقة؟ الأتان الحمارة، هذا عند العامة، يدّعون أن الرجل إذا أصيب بالكحة فليشرب لبن الحمارة ويبرأ، وهذا كذب، ولا يحل لبن الحمير للتداوي، شُرب الخمر، لو قال طبيب من الأطباء لمريض اشرب الخمر وتبرأ، فهل يجوز شُربه؟
الطالب : ما يجوز.
الشيخ : طيب، لو أن الإنسان عطش عطشاً شديدا وليس عنده إلا كأس الخمر، أيشربه؟ لا يشربه، ليش؟ قال العلماء أنه لا يزيده إلا عطشا لا ينتفع به، ولهذا يجوز أن يشربه في الحال التي ينتفع بها فيما لو غص بلقمة وليس عنده إلا كأس خمر فله أن يشرب منه جرعة يدفع به اللقمة، لأن هذا ضرورة نعلم أنها تزول بتناول الخمر، فإن قال قائل: ما تقولون في بعض الحبوب أو الأشربة التي يُجعل فيها شيء من الخمر يعني من الكحول؟ قلنا هذه يُنظر إن كانت تسكر فحرام لأنها خمر، وإن كانت لا تُسكر ولو أكثر الإنسان منها لا تسكر فإنها حلال، فمثلا إذا كانت خمسة في المئة فالظاهر أنه لا يُسكر ولو أكثر منها لا يحصل به السكر فنقول هذه حلال لأنهم يجعلون الكحول في بعض الأدوية من أجل أنه يحفظها، يعني لمصلحة الدواء، فإن قال إنسان كيف تقولون بجواز أكل أو شرب ما اختلط به الخمر إذا كان يسيرا وقد جاء في الحديث ( ما أسكر كثيره فقليله حرام )؟ قلنا نعم ما أسكر كثيره فقليله حرام، معنى الحديث أن هذا الشراب لو أكثرت منه لحصل السكر إذا شربت قليلا لا يسكر فهو حرام، هذا معنى الحديث، وليس معنى الحديث ما كان فيه قليل من مسكر فهو حرام، ليس هذا معنى الحديث، بل معناه أن الشراب إذا كان الإكثار منه مسكرا والإقلال منه لا يُسكر صار الإقلال حراماً، وهو ظاهر على القواعد، لأنه لو جوزنا اليسير مما يُسكر كثيره لأدى ذلك للتمادي في الشرب حتى يصل إلى حال السكر طيب.
ومن فوائد هذا الحديث أنه لا ينبغي للإنسان إذا علم الحكم أن ينهزم أمام التكرار أو أمام الكلام فيه، متى علمت أو غلب على ظنك أن هذا حكم الله ورسوله فلو كرر الإنسان عليك ألف مرة لا تطعه، ولو تكلم الناس فيما أفتيت به لا ترجع ما دمت تعلم أن هذا هو الحق، وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم كُرر عليه هذا الأمر كحل هذه المرأة المريضة في عينها فأبى عليه الصلاة والسلام، وهكذا ينبغي للإنسان إذا علم أن الحق في شيء فلا يتراجع، لكن لو بُيّن له خطأه وجب عليه أن يرجع ولا يمنعه ما قضى به بالأمس أن يقضي بالحق في اليوم.
ومن فوائد هذا الحديث أنه ينبغي تطبيق الحكم بالفعل لأن ذلك أقنع للنفوس، وجهه أن أم سلمة مسحت عارضيها بالطيب وهي لا تريد أن تتطيب ولكن تريد أن تُبيّن الحكم الشرعي في أن المرأة لا تحد على ميت فوق ثلاث، فبيان الأحكام الشرعية بالفعل أوقع في النفوس، ولهذا كان العلماء أهل القدوة إذا أرادوا أن يقتنع الناس بفتواهم فعلوها هم أولا حتى يقتدي الناس بهم، ذكروا أن شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله لما نزل التتار في دمشق في رمضان أفتى الجند أن يُفطروا ولكن غيره منع من فطرهم، قالوا إن هؤلاء ليسوا مسافرين ولا مرضى فلا يباح لهم الفطر لأنهم في البلد ولكنه رحمه الله قال إنه يجوز لهم الفطر واستدل بحديث واضح عند التأمل وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى فتح مكة في رمضان أمرهم في أثناء أن يُفطروا ولما قربوا من مكة قال لهم ( إنّكم لاقوا العدو غدا فأفطروا فالفطر أقوى لكم ) فهنا علل الفطر ليس بالسفر بل قال أقوى لكم، فدل هذا على أن المجاهد إذا كان أقوى له أن يفطر فإنه يفطر ولو في بلده، ثم صار رحمه الله يحوم بين صفوف المقاتلين وفي يده خبزة يأكلها أمامهم لأجل أن يقتنعوا وأن يعلموا أن الرجل إنما أفتى بما يرى أنه الحق، وهذه من سبل الدعوة إلى الله عز وجل، كذلك أيضا لو أن الناس اختلفوا في أكل شيء واحد يقول حلال وواحد يقول حرام وكان العالم القدوة يرى أنه حلال لعدم الدليل على التحريم فتناول منه من أجل أن يقتنع الناس لكان هذا خيرا وهو من الدعوة إلى الله عز وجل.
ومن فوائد هذا الحديث بيان عظم حق الزوج على زوجته وذلك أنه يجب عليها الإحداد لموته. ولكن لماذا كان أربعة أشهر وعشرا؟ قال بعض العلماء أنه احتياط للحمل لأن الحمل بعد أربعة أشهر وعشر تُنفخ فيه الروح، ولكن هذا ليس بصحيح لأن الحمل يُعلم بما دون ذلك، يعلم بأقل من هذا، والذي يظهر لي والله أعلم أنهم كانوا في الجاهلية تعتد النساء بحول كامل جعل النبي عليه الصلاة والسلام العدة في ثلث الحول وهو أربعة أشهر، وثلث الشهر وهو عشر أيام هذا ما يظهر لي والله أعلم، وقد يقُال أن هذا من الأمور التعبدية وليس لنا نتكلم فيه بل نقول سمعنا وأطعنا. نعم.