بسم الله الرحمن الرحيم
مشروعية الاغتسال والتزين والتطيب لليلة القدر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين – نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
بفضل الله تعالى أتشرف بتقديم هذه المادة الموجزة التي جمعتها لإخواني وأخواتي في الله حول استحباب الاغتسال والتزين والتطيب في ليلة القدر.
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان رمضان قام ونام، فإذا دخل العشر شمر المئزر، واجتنب النساء، واغتسل بين الأذانين، وجعل العشاء سحورا".
أخرجه ابن أبي عاصم في كتابه "الصوم والاعتكاف" (رقم: 117).
وقال الحافظ الضياء المقدسي في "السنن والأحكام" (3/528): "هو من رواية مسلم بن خالد، وقد تكلم فيه بعضهم، ووثقه يحيى بن معين".
ووثقه أيضا الإمام الدارقطني كما في "الإكمال" (11/171)، و"التهذيب" (4/68).
وقال الحافظ ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص 333): "أخرجه ابن أبي عاصم، وإسناده مقارب"، يعني: أنه قابل للتحسين وصالح أن يكون متابعا لغيره وعاضدا له.
وقال ابن رجب أيضا في "لطائف المعارف" (ص 336) عن قول عائشة: "واغتسل بين الأذانين": "والمراد: أذان المغرب والعشاء".
عن حذيفة - رضي الله عنه -، قال: "صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، فقام يغتسل فسترته، ففضلت فضلة في الإناء، فقال: "إن شئت فأرقه، وإن شئت فصب عليك".
قلت: "يا رسول الله، هذه الفضلة أحب إلي مما أصب عليه"، واغتسلت به وسترني، فقلت: "لا تسترني".
فقال: "بلى، لأسترنك كما سترتني".
أخرجه الفضل بن دكين في "الصلاة" (رقم: 101)، وابن سعد في "الطبقات" (4/251).
ولكن في إسناده جابر الجعفي، وقد اختلف الناس فيه:
قال شعبة: "جابر الجعفي صدوق في الحديث". رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/136).
وقال سفيان الثوري: "ما رأيت أورع من جابر الجعفي في الحديث". رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/77).
وقال وكيع بن الجراح: "مهما شككتم في شيء، فلا تشكوا في جابر أبي محمد الجعفي، فإنه ثقة". رواه الدولابي في "الكنى والأسماء" (3/948).
ومع هذا ضعفه أكثر الحفاظ، بل كذبه بعضهم لأنه كان من غلاة الشيعة ويؤمن بالرجعة.
وقال الدارقطني في "سننه" (2/216): "حدثنا محمد بن يحيى بن مرداس، نا أبو داود، سمعت أحمد بن حنبل يقول: "لم يتكلم في جابر في حديثه، إنما تكلم فيه لرأيه"، قال أبو داود: "وجابر عندي ليس بالقوي في حديثه ورأيه".
وقال ابن عدي في "الكامل" (2/119): "له حديث صالح، وشعبة أقل رواية عنه من الثوري، وقد احتمله الناس، وعامة ما قذفوه به أنه كان يؤمن بالرجعة، وهو مع هذا إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق".
وقال الحافظ البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (1/380) بعدما أورد حديث حذيفة: "جابر هو الجعفي: ضعيف، لكن لم ينفرد به".
وعن حذيفة - رضي الله عنه - أيضا أنه قال: "قام النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة من رمضان في حجرة من جريد النخل، ثم صب عليه دلوا من ماء".
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5/159)، وابن أبي عاصم في "الصوم" (رقم: 116).
وصححه الشيخ الألباني في "صلاة التراويح" (ص 14).
وبوب الإمام ابن أبي عاصم في "الصوم والاعتكاف" (ص 86) على حديثين عن حذيفة: "يغتسل كل ليلة لقيامه".
وقال الإمام ابن يونس التميمي المالكي في "الجامع لمسائل المدونة" (3/1225): "والذي كثرت فيه الأخبار أنها (أي: ليلة القدر) من رمضان في العشر الأواخر، وقد جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوقظ أهله فيهن، وروى أنه كان يغتسل في كل ليلة منهن، ويحييهن".
وقال ابن جرير كما في "لطائف المعارف" (ص 336): "كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر".
وعن ثابت البناني: "أن تميما الداري - رضي الله عنه - كانت له حلة قد ابتاعها بألف درهم، كان يلبسها في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر".
أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (6/256) وأبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (1800).
وهذا الأثر صحيح، ورواه ابن سعد عن عفان بن مسلم قال: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت.
وعفان: ثقة ثبت.
أما حماد بن سلمة: ثقة له بعض أوهام، لكن هو من أثبت الناس في ثابت البناني كما قال ابن معين، وأحمد وغيرهما. "الكامل" (3/41)، "التهذيب" (1/481).
وعلى أقل الأحوال إسناده حسن كما قال محققوا كتاب "الترغيب والترهيب للأصبهاني" (3/190).
قال زر بن حبيش: "ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، فمن أدركها فليغتسل".
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (7701)، ابن أبي شيبة في "المصنف" (9791).
إسناده جيد كما قال صاحب كتاب "فضل الرحيم الودود تخريج سنن أبي داود" (16/179).
عن حماد بن سلمة، قال: "كان ثابت البناني، وحميد الطويل - رحمهما الله - يتطيبان ويغتسلان لأربع وعشرين وثلاث وعشرين من شهر رمضان، ويحبان أن يطيب المسجد بنضوح".
أخرجه ابن أبي الدنيا في "فضائل رمضان" (27)، وصحح إسناده محققه.
النضوح: هو ماء الورد.
عن العوام بن حوشب عن إبراهيم النخعي، أنه: "كان يختم القرآن في شهر رمضان في كل ثلاث، فإذا دخلت العشر ختم في ليلتين، واغتسل كل ليلة".
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (7705). ورجاله ثقات.
عن معمر قال: "فكان أيوب (السختياني) يغتسل في ليلة ثلاث وعشرين، ويمس طيبا".
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (7688).
وقال محقق "شرح العمدة" (3/550): "وسنده صحيح".
وقال إبراهيم بن عبد الله الحازمي في كتابه "سطوع البدر بفضائل ليلة القدر" (ص 138) بعد أن ساق بعض الأحاديث والآثار المذكورة: "وهذه الأحاديث وتعددها مما يدل أن للغسل في ليلة القدر أصل ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيده فعل الصحابة والتابعين الذين تقدم ذكرهم".
وإن سلمنا بعدم ثبوت شيء في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت ذلك عن السلف، ولم يُنقل عن أحد منهم إنكاره.
أود أن أختم هذه المقالة بما قاله الحافظ ابن رجب في كتابه القيم "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" (ص 336):
"قال ابن جرير: "كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر".
وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة.
ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر.
فأمر زر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان.
وروي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين من رمضان، اغتسل وتطيب ولبس حلة إزارا ورداء، فإذا أصبح، طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل.
وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين، ويستجمر، ويقول: "ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة، والتي تليها ليلتنا"، يعني: البصريين.
وقال حماد بن سلمة: "كان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيبان ويطيبون المسجد بالنضوح والدخنة في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر".
وقال ثابت البناني: "كان لتميم الداري - رضي الله عنه - حلة اشتراها بألف درهم، كان يلبسها في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر".
فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن، كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد".
وقد نقل هذا الكلام عن الإمام ابن رجب عدد من العلماء وأقروه، منهم الشيخ ابن قاسم النجدي في "وظائف رمضان" (ص 59)، والشيخ عبد العزيز بن باز في "شرح وظائف رمضان" (ص 177)، والشيخ محمد السبيل في "مجالس رمضان" (ص 54).
وفي الختام أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، موافقة لسنة نبيه محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.