العَرْض
عـَرَض الأمر عليه : أظهره وأبداه له ، كما في القاموس المحيط .
وللعرض ومشتقاته معان كثيرة جداً ، لا نقصدها في حديثنا هذا ، ونحن إذ نتوقف عند المعنى الذي أردناه نرجو أن نثبت في أنفسنا بعض المعاني الإيمانية ، ونسأل الله أن يهدينا سواء السبيل .
- عرض الله تعالى الأمانة على السموات والأرض والجبال قبل أن يعرضها على آدم عليه السلام ، والأمانة المعروضة كما قال العلماء : العبادة والطاعة لله تعالى والقيام بالفروض وأداء الواجبات ، فإن التزمنـَها وأدّينها فقد نجحن ، وإن لم يفعلن ذلك فقد فشلن وعوقبن ، فأبين ذلك وعلِمْنَ أن حمل الأمانة ثقيل لا يستطعن أداءه ، ثم عُرضت الأمانة على آدم ، وقيل له : إن أحسنت أُثبت ، وإن أسأت عوقِبْت َ ، فرضي حملها ، ولم يلبث قليلاً حتى أخلّ بها . وظلم نفسه ، يقول تعالى في الآية 72 من سورة الأحزاب :
{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} ،
فظلم الإنسان نفسه حين حمّلها الأمانة ، ثم لم يَرْعها حق رعايتها ، ومن سأل الله المعونة أعانه ، ولكنّ الغالبية الغالبة والكثرة الكاثرة من البشر ضيّعوا هذه الأمانة.
- من العرض الدال على مكانة آدم عليه السلام عند ربه سبحانه أنه تعالى :
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)} (البقرة) ،
وذلك حين استنكروا أن يخلق الله في الأرض من يفسدها ويسفك الدماء . فسألهم الله تعالى أن يخبروه بأسماء المسمّيات التي علمها آدم ، فاعترفوا بعجزهم ، وهنا أظهر الله تعالى مكانة آدم إذ أمره أن يعلمهم بعض ما علمه الله عز وجل ، { قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ... (33)} (البقرة) ففعل ذلك .
- يقف الناس يوم العرض – وكلهم يرون ويسمعون ما يجري إلا ما شاء الله تعالى أن يستره – فيستر الله تعالى المؤمنين حين تُعرض عليهم أفعالهم ، ويفضح الكافرين والمنافقين فيحاسبهم على رؤوس الخلائق . يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير الآيتين الكريمتين من سورة هود :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّـهِ كَذِبًا أُولَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَـٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)}،
يُبَيِّن تَعَالَى حَال الْمُفترِينَ عَلَيْهِ وَفَضِيحَتهمْ فِي الدَّار الآخرة عَلَى رُءُوس الخلائق من الملائكة وَالرُّسُل والأنبياء وَسَائِر البشر والجانّ . ويقول صلى الله عليه وسلم فِي النَّجْوَى يَوْم الْقِيَامَة :
إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُدْنِي المؤمن فَيَضَع عَلَيْهِ كَنَفه وَيَسْتُرهُ مِنْ النَّاس ويقرره بذنوبه وَيَقُول لَهُ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بذنوبه وَرَأَى فِي نَفْسه أنه قَدْ هَلَكَ قَالَ فإني قَدْ سَتَرْتهَا عَلَيك فِي الدنيا وَإِنِّي أغفرها لَك اليَوم ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاته . وَأَمَّا الكفار والمنافقون فَيَقُول { ... الأشهاد هؤلاء الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبّهمْ ألا لَعْنَة اللَّه عَلَى الظالمين (18)} .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث قَتَادَة .
هكذا عَرْضُ عمل المؤمن عليه وهكذا حسابُ الكافر والمنافق يفضحهم الله أمام الخلائق جميعاً.
- وقد يكون عرض العذاب بعد الموت وقبل يوم القيامة ، أي في البرزخ كما في قصة فرعون وجنده في سورة غافر في قوله تعالى :
{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}،
فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ تـُعرض عَلَى النَّار صَبَاحًا وَمَسَاء إِلَى قِيَام السَّاعَة فَإِذَا كَانَ يَوْم القيامة اجتمعت أَرْوَاحهم وَأَجْسَادهم فِي النَّار . لأن عذاب الروح والجسد أشدّه أَلَمًا وَأَعظَمه نكالاً . وهذه الآية أَصل كَبِير فِي استدلال أَهل السـّنة عَلَى عذاب البرزخ فِي القبور .
- والعرض في الآيات القرآنية الشريفة دنوّ من الشيء ، لا دخول فيه ، وهذا الدنوّ تعذيب للكافر قبل أن يُعذب ، وقد قيل : " التخويف من الضرب والعقاب والتلويح بهما أجدى -في التربية - من استعمالهما " . وقد خوّف الله الناس من عقابه في الدنيا ، فإذا جاء اليوم الآخر كان لا بد من العقاب جزاء وفاقاً لمن كفر . ومن هنا نفهم الآيات القرآنية التي وردت في عرض العذاب على الكافرين وتيئيسهم من النجاة بعد موتهم كافرين : فالمراد في قوله تعالى - والله أعلم - :
{ وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا (48)} (الكهف) ،
أَنَّ جَمِيع الخلائق يقومون بين يدي اللَّه صفاً واحدًا كَمَا قَالَ جل ثناؤه :
{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)} (النبأ) ،
وَيَحْتَمِل أنهم يَقومونَ صفوفًا كَمَا قَالَ سبحانه :
{ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} (الفجر) ، وقوله عز وجل :
{ ... لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... (48)} (الكهف) ،
هَذَا تقريع للمنكرين للمعاد وَتَوبِيخ لَهُم عَلَى رُءُوس الأشهاد . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا إياهم لعدم إعتقادهم أَنَّ هذا وَاقِع بهم ولا أَنَّ هذا كَائن :
{ وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (23)} (فصلت) .
وهل يستطيع أحد أن يكذب على الله أو يخفي عنه شيئاً وهو سبحانه يعلم السر وأخفى ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؟ لا ، لا، فالله تعالى هو العليم بكل شيء، الخبير بكل ما خلقه . اقرأ معي بتمعن قوله تعالى في سورة الحاقّة :
{ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18)} ،
فالخافية لا تخفى على الله ، أليس هو سبحانه الذي يقول في سورة الأنعام :
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59)} ؟
سبحانه من إله عظيم لا تخفى عليه خافية ، ولا يضيع منه شيء .
- وانظر معي إلى الموقف الرهيب في ظهور النار لهم قبل أن يدخلوها ، وهم خائفون أن يُلقـَوا فيها – وسيُلقـَون فيها – فترتعد فرائصهم ويخافون النظر إليها ، وهم يعلمون أنهم وقودها – والعياذ بالله أن نكون من أهلها – وينظرون إليها بطرف أعينهم يستفظعون المصير الذي لا بد أن يصيروا إليه ، في سورة الشورى { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ... (45)} ، { فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ (14)} (الليل)، ترسل لهيبها نحوهم ، وتُسمعهم زفيرها ، وتتراءى لهم متشفـّية متوعّدة ، وهم لا يجرؤون على النظر إليها ، ويخافون أن يُلقوا فيها بين لحظة وأخرى .. لحظات عصيبة تقطع الأنفاس وتحرق المشاعر . واقرأ في سورة الكهف { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)} فجاء المصدر المؤكد يبرز جهنم رأي العين كما قال ابن كثير : لِيَرَوا مَا فِيهَا مِن العَذَاب وَالنَّكَال قَبل دخولها ليكون ذلك أبلغَ فِي تعجِيل الهَمّ وَالحَزَن لَهم . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ :
يُؤْتَى بجَهَنَّمَ يَومَئذٍ لها سَبْعُونَ ألْفَ زِمامٍ، مع كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها ، ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ : { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنهمْ فِي غِطَاء عَنْ ذِكْرِي ...(101)} (الكهف) ، فتغافَلوا وَتعَامَوا وَتَصَامَمُوا عَنْ قَبُول الهدى واتباع الحق .
- وفي سورة الأحقاف الآيتان (20) و (34) تبدءان بداية واحدة بجملة واحدة : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ... } وكانت الثانية نتيجة وتتويجاً للأولى ففي الأولى يقول تعالى موبخاً الكافرين الذين رضوا بالحياة الدنيا على الآخرة ، واستكبروا على الإيمان وأهله ففجروا وفسقوا : { ... أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ م بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} ، فما عذاب الهون يا رب ؟ وإلى أين مصير هؤلاء المستكبرين الذي فضلوا الدنيا على الآخرة ؟ يأتي التوبيخ أولاً فقد كفروا بالحق الذي جاءهم به الأنبياء والدعاة . ويقرون بخطئهم ، ويندمون ، ولات ساعة مندم . ويقرون بالحقيقة التي كانت تنفعهم في الدنيا لو أقرّوها ، أما حين يعاينون الأمر ويرونه رأي العين وهم بين يدي الله تعالى فلا فائدة ، لقد أضاعوا الفرصة الذهبية التي لا يمكن أن تُعوّض . ثم يأتي العذاب الأليم جزاء وفاقاً بقوله سبحانه : { ... أَلَيْسَ هَـٰذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (34)} .
- أما قوله تعالى في سورة ( ص) : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)} ، في معرض قصة سيدنا سليمان فقد أفسدت الروايات الإسرائيلية معناها الجهادي الرائع ، وأساءوا إلى سليمان كما أساءوا إلى أبيه داوود عليهما السلام – وهما عند اليهود ملِكان وليسا نبيين – فتفسير القصة كما يلي :
إنه مجاهد في سبيل الله تعالى يحب كل ما يعينه على القتال في سبيله وإعلاء رايته . ومن ذلك أنه يحب الخيول الأصيلة – سلاح الفرسان ، وهي القوة الضاربة في قتال العدو ، فأمر أن تعرض عليه الخيول ليستمتع بها ويطمئن إليها ، فعرضت أمامه وهو يتابعها شغوفاً بها حتى غابت عنه { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)} فلم يبرد شوقه لها ، فأمر أن يعيدوها إليه ، ثم نزل إلى ساحة العرض يتلمّس الخيول ويمسح أعناقها وسوقها ، ويتحبب إليها ، والمقصود بقوله تعالى : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي .. (32)} أن حبه للخيل صادر عن أمر الله تعالى . وهذا هو المعنى الحقيقي لهذه الآية .أما الرواية الإسرائيلية فتدليس واستخفاف بعقول الناس لأسباب عدة هي :
أ - إن التأويل عادة يتبع الكلام الذي بين أيدينا ، فما التي توارت بالحجاب ؟ إنها الخيول التي غابت عن ناظريه إذ مرت أمامه وهو يستعرضها حتى غابت عن عينيه ، لا الشمس التي تعسفتها التأويلات الإسرائيلية ، إذ قالوا : أنه انشغل بالخيول حتى غابت الشمس ففاتته صلاة العصر .
ب – إن سليمان عليه السلام شعر أنه لم يفِ الخيول حقها بالاستعراض السريع ، فأمر أن يردوها إليه ليلمسها بيديه ويكرمها بالتربيت على أعناقها وسوقها ، لأنه لو جاز أن يكون الضمير في { تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } عائداً على الشمس لوجب أن يكون الضمير في { رُدُّوهَا عَلَيَّ ...(33)} عائداً على الشمس نفسها ، أما القفز هنا وهناك للوصول إلى الشمس فلا يليق بنص رزين ، ناهيك عن كتاب الله الكريم .
ج – وهل تتصور عاقلاً كان يَعُد ماله ، فانشغل به حتى ضيع صلاته ، فأحرق المال يعاقب بذلك نفسه؟! فإذا كان ما يفعله سفهاً وطيشاً فالنبي سليمان منزه عن قطع أعناق الخيول وسـُوقها لأنها – على زعم الإسرائيليات – شغلته عن الصلاة !! ما ذنب الخيول المسكينة لتذبح وتقتل ، والخطأ ليس خطأَها ؟!
- روت السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في بعض صلاته : اللهم حاسبني حسابا يسيرا ،
قلت : يا نبي الله ! ما الحساب اليسير ؟
قال : أن ينظر في كتابه ، فيتجاوز عنه ؛ إنه من نوقش الحساب يومئذ يا عائشة هلك .
اللهم ؛ إن تَعرض علينا أعمالنا فارفق بنا وتجاوز عن سيئاتنا ، وارحمنا يوم العرض عليك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الكرماء .
:::::::::::
الوفاة*
التفت إليّ أحد المصلين بعد انتهائنا من أداء صلاة الفجر – وكان رجلاً من عوام الناس – يقول متلهفاً : فاجأني جاري النصراني أمس بسؤال لا أعرف جوابه ، حين قال : كيف تقولون – معشر المسلمين – إن عيسى حيّ في السماء عند ربه ، والقرآن يعلن أنه ميت ؟ وقرأ علي قوله تعالى في سورة آل عمران :
{ إِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)} ، وما دمنا أتباعه – كما يقول النصراني - فنحن ظاهرون فوقكم إلى يوم القيامة ، وأنتم الكافرون . إن الآية في قرآنكم تقول هذا .
ونظر صاحبي إليّ متحسراً متألماً قائلاً : لم أستطع الرد ، فأنا لا أعرف إلا أساسيات الدين ، وإيماني بالله راسخ ، لكنني أجهل كثيراً من الأحكام والمعاني الإسلامية .
قلت يا أخي ؛ أحسنت صنعاً حين سألتني فلم تترك للشيطان مسرباً يصل منه إليك ،
فأولا : لا يكون الرسوخ في الشيء إلا بالعلم به علماً تاماً يمنع الشك أن يأتيه . ويطرد الشيطان وأعوانه أن ينفذ إليك بأسئلة ومعانٍ تثير الشكوك والشبهات ،
وثانياً : فنحن أتباع عيسى الحقيقيون ، فهو عليه السلام يعلن بملء فيه أنه عبد لله ، وبشر رسول وكما قال سبحانه :
{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) ...} ،
وهم يؤلهونه ويفترون عليه وعلى أمه حين يجعلونه إلهاً وابن إله ، ويجعلون أمه مريم زوجة الإله – سبحان الله أن يكون له وزجة أو ولد ـ قال عز وجل : { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)} (الجن) ،
وثالثاً : فعودتنا إلى ديننا والتزامنا به يجعلنا سادة البشر ، وما استعلاء النصارى وغيرهم إلا ببعدنا عن هدي الإسلام وشرعته .
ورابعاً : فالوفاة لا تعني الموت إلا بقرينة تؤكده .
المعنى اللغوي لكلمة توفـّاه الله :
استوفى مدته التي كتبها له ، عدد أيامه وشهوره وأعوامه في الدنيا . وفي القرآن آيات تدل على أن الوفاة غيرُ الموت إلا بقرينة – كما ذكرنا قبل قليل – وسنأتي ببراهين كثيرة وأدلة توضح المعنى وتوثـّقه .
ـ ففي قوله جل ثناؤه في سورة الأنعام : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60)} فالنوم كل ليلة غيبة مؤقتة تستريح الروح فيها لتعاود النفس نشاطها في النهار ، يقبض فيها الروح ثم يبعثها إلى اكتمال الأجل . إن الوفاة هنا - إذاً- غيبة للروح مؤقتة تعود حين يستيقظ المرء .
ـ وفي قوله تقدست أسماؤه في سورة الزمر :
{ اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} ففي الحالتين – الموت والنوم - قبض للروح ووفاة ( استيفاء ) وللموت أجل معدود . يقول ابن منظور في معجمه لسان العرب : " وأما توفي النائم فهو استيفاء وقت عقله وتمييزه إلى أنْ نام .
وعلى هذا نفهم الآية التي لوى النصراني معناها ، وفسرها كما يريد ، نفهمها بلغة العرب التي نزل القرآن بها أنه قبْضٌ دون موت . ولا بد من ملاحظة قوله تعالى : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقد أنقذه الله تعالى حين رفعه إلى السماء إذ دخل اليهود عليه يريدون قتله ، فنجّاه الله منهم . إن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يمت وهو في السماء ، دليل ذلك أسماءُ الفاعلين : ( رَافِعُكَ ، مُطَهِّرُكَ ، جَاعِلُ ) المضافة إلى الضمير الكاف للدلالة على الاستمرارية حين ينزل إلى الأرض ويقاتل المشركين ويكسر الصليب ويقتل الخنزير كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة :
ليهبطن الله عيسى بن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا ، يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال ، حتى لا يجد من يأخذه ، وليسلكن الروحاء حاجا أو معتمرا ، أو ليثنـّيـَنّ بهما جميعا " ويحكم بالإسلام ويحج بيت الله الحرام ويعتمر.
وتكون الوفاة موتاً بقرائن دالة عليه ، في القرآن الكريم أمثلة كثيرة نذكر بعضها :
1 - قوله سبحانه في سورة النساء :
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ... (97)} ؟... والقرينة هنا حديث الملائكة مع الكفار الذين ظلموا أنفسهم وماتوا وهم كافرون ، فلا تكلم الملائكة البشر ولا سيما الكفار إلا بعد الموت ....
2 - قوله عز وجلّ في سورة الأنعام :
{ ... حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)}
فالقرينة هنا الموت نفسه ، والملائكة التي تقبض الأرواح .
3 - قوله جل ثناؤه في سورة يوسف :
{ ... تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}
فالقرينة في هذه الآية الرغبة في الموت على الإسلام وأن يلحق يوسف عليه السلام يالأنبياء قبله على ملتهم ودينهم .
4 - قوله تقدست أسماؤه في سورة الحج :
{ ... وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ... (5)}
فالدليل على أن الوفاة هنا موت أن البعض تطول أعمارهم حتى يصيبهم الخرف .
5 - وقوله تعالى في الآيات 27- 32 من سورة النحل ففيها تصوير بديع مخيف في استقبال زبانية العذاب للمشركين الذين ظلموا أنفسهم في جهنم مع التوبيخ والسخرية ، وتصوير بديع مفرح لاستقبال الملائكة مَن آمن استقبالاً طيباً فيدخلونهم الجنة معززين مكرمين :
{ .. إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ ۚ بَلَىٰ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِي نَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَـٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللَّـهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} .
نسأل الله أن يكتبنا في عباده الطيبين الذين يكرمهم في الفردوس وجنات النعيم .
6 - وقوله سبحانه في سورة البقرة في عدة الأرامل ، ولا تكون المرأة إرملة إلا حين يموت زوجها وتجب عليها العدة :
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ... (234)} .
وتُذكر كلمة الموت حين لا تكون قرينة دالة عليه ، والدليل على ذلك :
1 - قوله عز وجلّ في سورة سبأ حول حادثة موت سيدنا سليمان عليه السلام :
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ... (14)}
ولم يقل : فلما قضينا عليه الوفاة .. ما دلهم على وفاته ،
2 - وقوله جل ثناؤه في سورة الزمر :
{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30)}
حين أخبرنا أنه لا بد من الموت ، وأن كل نفس ستذوقه , ولم يقل إنك متوفّى وإنهم متوفـَّون .
3 - في أواخر سورة المائدة تصوير لحوار جرى بين صاحب العزة سبحانه وبين عيسى عليه السلام يسمعه الخلائق كلها تثبيتاً لوحدانية الله وتبرئة لعيسى عليه السلام من دعوى الألوهية له ولأمه ، قال تقدست أسماؤه :
{ وَإِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّـهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} .
وذكرت كلمة { تَوَفَّيْتَنِي } لأن الحديث عن الزمن الذي كان فيه عيسى في السماء قبل أن ينزل على الأرض ، وبمعنى آخر لم يكن قد مات بل كان حياً في السماء ، وما يموت إلا بعد نزوله إلى الرض ، ومحاربته الدجال ، وقتله في باب لد ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( ... أنه إذا خرج مسيح الضلالة الأعور الكذاب نزل عيسى بن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين ، واضعا يديه على منكبي ملكين ، فإذا رآه الدجال انماع كما ينماع الملح في الماء ، فيدركه فيقتله بالحربة عند باب لد الشرقي على بضع عشرة خطوات منه )
من موقع الدرر السنية ( الحديث صحيح )
والأمثلة كثيرة يمكن الرجوع إليها والاستيثاق منها ... والله أعلم .
::::::::
{ الْبَلَاء }
قال تعالى في سورة الصافات : { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} .
قال ابن منظور في لسان العرب : بلوت الرجل بَلْواً وبلاء ، وابتليته : اختبرته . وكذلك قال الفيروزآبادي في قاموسه المحيط .
نجد هذا المعنى في قوله تعالى في سورة القلم :
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَ ا مُصْبِحِينَ (17)} ،
فاختبرهم الله تعالى بعد موت أبيهم الصالح . ونراه في قوله سبحانه في سورة محمد (صلى الله عليه وسلم) :
{ وَلَنَبْلُوَنَّ كُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} .
وقد تأتي هذه الكلمة في القرآن الكريم تتضمن معاني أخرى بالإضافة إلى المعنى الأصيل فيها (الاختبار) فيها تفصيل وتنويع وتوضيح . من ذلك :
- أن الابتلاء يكون بالخير والشر كما في قوله عز وجلّ في سورة الأنبياء :
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)}
قال ابن كثير في تفسيره : نختبركم بِالْمَصَائِبِ تَارَة وَبِالنِّعَمِ أُخْرَى فَنَنْظُر مَنْ يَشْكُر وَمَنْ يَكْفُر وَمَنْ يَصْبِر وَمَنْ يقنط كَمَا قَالَ اِبْن عَبَّاس : نبلوكم بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاء وَالصِّحَّة وَالسَّقَم وَالْغِنَى والفقر والحلال وَالْحَرَام وَالطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة وَالْهُدَى والضلال فإذا رجعتم إلينا – يوم القيامة - جازيناكم بأعمالكم .
وكذلك في قوله جل ثناؤه في سورة الأعراف :
{ وَقَطَّعْنَاهُم ْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}
والرجوع هنا التوبةُ والإقلاعُ عن الذنب والاستغفار .
- ومن فضل الله تعالى علينا أنه حين يختبرنا يحملنا ما نطيقه . يدل على ذلك قوله في سورة البقرة :
{ وَلَنَبْلُوَنَّ كُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}
والابتلاء القليل ينبه برفق ولا يصيب صاحبه بالفزع ، فإن كان الابتلاء شديداً كما في قوله سبحانه في سورة النحل :
{ وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّـهِ فَأَذَاقَهَا اللَّـهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)}
فإنه يفزع القلب ويضيّع العقل وهو علامة الهلاك والدمار .وليس للإنسان طاقة بذلك ، أذاق الله الكفار من أهل مكة لباس الجوع حين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم واِسْتَعْصَوْا عليه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَوْا إلا خلافه فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُف ، فَأَصَابَتْهُمْ سَنَة أَذْهَبَتْ كُلّ شَيْء لَهُمْ ، فَأَكَلُوا وَبَر الْبَعِير يُخْلَط بِدَمِهِ إِذَا نَحَرُوهُ وخافوا لأنهم بُدِّلُوا بِأَمْنِهِمْ خَوْفًا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه حِين قاتلهم ونصره الله عليهم .
- ويكون الابتلاء بمعنى العلم والمعرفة كما في قوله عز وجلّ في سورة الطارق :
{ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} ،
تُبلى يَوْم الْقِيَامَة فيظْهَر ما كان الإنسان يخفيه من سر ويبقى السِّرّ علانية والمكنون مشهوراً ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
يُرْفَع لكل غَادِر لِوَاء عند اِسْته يُقَال : هذه غَدْرَة فلان ابن فلان .
ومثلها قوله تقدست أسماؤه في سورة يونس :
{ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ۚ وَرُدُّوا إِلَى اللَّـهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۖ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)}
فتعلم ما سلف من عملها ، ألا يقول جل ثناؤه في سورة القيامة :
{ يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} ، فالصحف تنشر كما بقوله تعالى في سورة التكوير :
{ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)} ، كما يقول سبحانه في سورة الإسراء :
{ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} ...
وفي قوله عز وجلّ في سورة آل عمران :
{ ... وَلِيَبْتَلِيَ اللَّـهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}
إظهار المخبوء إلى العلن وكشفه للجميع في ذلك اليوم العصيب .
نسأل الله العافية وحسن الختام .
- وقد يكون في الابتلاء- وقد : هذه للتحقيق- إظهار فضل الله تعالى على المسلمين ، يقول عز من قائل في سورة الأنفال :
{ ... فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} ، وقد قال تقدست أسماؤه في سورة آل عمران :
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)}،
فكان نصره إياهم فضلاً عميماً ، فالله هو الْمَحْمُود عَلَى جَمِيع مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ خَيْر في معركة بدر
ولم يكن ذلك النصر بحول المسلمين وقوتهم ، فقد كانوا قليلين ضعافاً ، وَإِنَّمَا النَّصْر مِنْ عِنْده تَعَالَى ،
روى ابن عباس أن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع يَدَيْهِ يَوْم بَدْر فَقَالَ : يَا رَبّ إن تهلك هَذِهِ الْعِصَابَة فَلَنْ تُعْبَد فِي الأرض أَبَدًا فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل خُذْ قَبْضَة مِنْ التُّرَاب فَارْمِ بِهَا فِي وُجُوههمْ فَأَخَذَ قَبْضَة مِنْ التُّرَاب فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوههمْ فَمَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَحَد إلا أَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمَنْخِرَيْهِ وَفَمَه تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَة فَوَلَّوْا مدبرين ، ثُمَّ رَدَفَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ يقتلونهم ويأسرونهم ، فعرّف الله تعالى الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَته عَلَيْهِمْ مِنْ إِظْهَارهمْ عَلَى عَدُوّهُمْ مَعَ كَثرَة عَدُوّهُمْ وَقِلَّة عَدَدهمْ لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ حَقَّهُ وَيَشْكُرُوا بِذَلِكَ نِعْمَته
- ويأتي مع البلاء إسعاد المسلمين ورفع درجاتهم ، فيكون فيه الخير الكثير مما يحفزهم إلى الاجتهاد في البلاء والصبر والتحمل ، يقول الله تعالى في سورة محمد (صلى الله عليه وسلم) :
{ ... وَلَوْ يَشَاءُ اللَّـهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ...(4)} ،
ففي قتال العدو محامد كثيرة منها الشعور بالعزة والنصر وشفاء قلوب المؤمنين وراحة النفس، قال سبحانه :
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّـهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14)} ،
وهذه سعادة ما بعدها سعادة نرجو الله أن يحققها فينا فنرى في عدونا ما تقر به العيون . هذا في الدنيا أما الشهيد فله في الآخرة ست خصال : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دفقة من دمه، ويُرى مقعده من الجنة ، ويُحَلّى حلة الإيمان ، ويُزَوّج من الحور العِين ، وَيُجَار مِنْ عَذَاب القبر ، وَيَأْمَن مِن الْفَزَع الأكبر، وَيُوضَع عَلَى رَأْسه تَاج الْوَقَار مرصع بالدر والياقوت ، الياقوتة خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زَوْجَة مِن الحُور الْعِين ، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ وَابْن مَاجَهْ .
::::::::
{ سَلَكَ } ومشتقاتها
يقول ابن منظور – رحمه الله - في معجمه لسان العرب : سلكت الشيء في الشيء ، فانسلك أي أدخلته فيه فدخل ، وسلَكتُه وأسلكته بمعنى واحد – يقصد أنهما متعديان لمفعول – ويقول قاصداً السرعة والدقة في إيجاد المدخل : السّلْك : إدخال شيء تسلكه فيه كما تطعن الطاعن فتسلك الرمح فيه إذا طعنتَه تلقاء وجهه على سجيحته ( سجيته السهلة ) . ولا يكون الطعن إلا سريعاً ينفذ إلى الداخل بقوة ودقة . وعلى هذا فرجل مُسـَلّك : نحيف . والنحافة تسهل عملية السلْك .
وجاء الفعل { سَلَكَ } بمشتقاته إحدى عشرة مرة تحمل هذه المعاني المتشابهة :
- ففي قوله تعالى في سورة المدثـّر : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر (42)} ، تسأل الملائكة المشركين سبب دخولهم النار ، : وَقِيلَ : إِنَّ المؤمنين يَسْأَلُونَ الملائكة عَن أَقْرِبَائِهِم , فَتَسْأَل الملائكةُ الْمُشْرِكِينَ فيقولون لهم : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر } فأدخلكم فيها ؟ وهذا المعنى واضح في الآيات السابقة لهذه الآية حيث يسأل المؤمنون – وهم في الجنة يتنعمون – الكفارَ في النار :
{ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)} ،فيجيبونهم بأمرين اثنين كانوا يجتنبونهما :
{ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} ففي أولهما استنكفوا عن عبادة الله تعالى ، وفي ثانيهما لم يكونوا يحسنون إلى عباده . ويجيبونهم بأمرين اثنين آخرين كانوا يخوضون فيهما : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)} . أما خوضهم فكان في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اتهموه بالسحر والكهانة والكذب والشعر .وكانوا تبعاً لعتاة المكذبين الضالين . أما المصيبة الأخيرة قاصمة الظهر فكانت في كفرهم بالله وإنكارهم اليوم الآخر .
وأما قوله سبحانه في سورة الشعراء :
{ كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)} ،
فقد أدخل الله عز وجلّ الشرك في قلوبهم لأنهم طلبوه كما في قوله عز وجلّ في سورة مريم :
{ قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ مَدًّا ... (75)} [مريم] وقوله جل ثناؤه في سورة الإسراء :
{ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18)} ،
فهم – المشركين – لا يؤمنون حتى يقعوا في الواقعة التي لا خلاص منها . ونجد المعنى نفسه في قوله تقدست أسماؤه في سورة الحجر :
{ كَذَٰلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)} ،
فيكذبون بالقرآن العظيم والرسول الكريم ، فيعاقبهم الله تعالى بإدخال الكفر في قلوبهم ليكونوا من أهل النار ، والعياذ بالله أن نكون من أهلها .
ونجد في سورة الجن المعنى نفسه إذ يقول الله تعالى :
{ ... وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} ،
والعذاب الصعد : المشقة التي لا راحة فيها . بل تزداد وتيرته وتتصاعد .
قال القرطبي " يُكَلَّف الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة أَنْ يَصْعَد جبلاً فِي النَّار مِنْ صَخْرَة مَلْسَاء , يُجذب مَن أَمَامه بسلاسل , وَيضرِب مَنْ خَلفه بِمَقَامِع حَتَّى يبلُغ أعلاها , ولا يبلغ فِي أَربعِينَ سَنَة . فَإِذَا بَلَغَ أعلاها أُحدِرَ إِلَى أَسْفَلهَا , ثم يُكَلَّف أَيْضًا صُعُودهَا , فَذَلِكَ دَأْبه أَبَدًا , وَهُوَ قَوْله عز من قائل : { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} [الْمُدَّثِّر].
أما قوله سبحانه في سورة الحاقة يصف عذاب المشركين الكافرين :
{ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)} .
فمخيف ٌوالله ومخـْزٍ إذ تـُدخَل السلسلة مِنْ فِيهِ وَتـُخرَج مِنْ دُبُره , فَيُنَادِي أَصْحَابه هَلْ تعرفونني ؟ فيقولون : لا , وَلَكِنْ قد نرى مَا بِك مِنْ الخِزْي فَمَنْ أَنْتَ ؟ فَيُنَادِي أَصْحَابَهُ أَنَا فلان بن فلان , لِكُلِّ إِنْسَان منكم مثل هَذا . ولعل هذا التفسير أَصَحّ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الآية , يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله عز وجلّ :
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ... (71)} [الإسراء] .
وأود أن أؤكد أن " السلك " في هذه الايات إدخال الشيء في شيء بعد إيجاد مسلك له لم يكن موجوداً من قبل وبهذا يكون الألم الشديد نسأل الله العافية .
- أما قوله تعالى في سورة الجن :
{ إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} ،
فالمعنى كما قالت العلماء : رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : لَمَّا تَمَدَّحَ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِ الْغَيْب واستأثر من البشر من يرضاهم رسله ، وخاب من أشرك به , كَانَ فِيهِ دلِيل عَلَى أَنَّهُ لا يَعلَم الْغَيب أَحدٌ سِوَاهُ , ثمَّ استثنى مَن ارتضاه من الرسل , فَأودعهم مَا شَاءَ مِنْ غَيبه بِطَرِيقِ الْوَحي إِلَيهِم , وَجَعَلَهُ مُعْجِزَة لَهم ودلالة صَادِقَة عَلَى نُبُوَّتهمْ . أما المنجّمون أمثالهم مِمَّنْ يَضْرِب بِالْحَصَى وَيَنْظُر فِي الْكُتُب وَيَزْجُر بِالطَّيْرِ مِمَّن اِرْتَضَاهُ مِنْ رَسُول فَيُطْلِعهُ عَلَى مَا يَشَاء مِنْ غَيْبه , بَلْ هُوَ كَافِر بِاَللَّهِ مُفترٍ عليه بحَدْسِهِ وَتَخمِينه وَكَذِبه . ثم سلك الله ملائكة يَحْفَظُونَهُ عَنْ أَن يقرب مِنهُ شَيْطَان ; فَيَحْفَظ الوَحي مِنْ اِسْتِرَاق الشَّياطِين والإلقاء إِلَى الْكَهَنَة . قَالَ الضَّحَّاك : مَا بَعَثَ اللَّه نَبِيًّا إلاّ وَمَعَهُ ملائكة يَحْرُسُونَهُ مِنْ الشياطين عَنْ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِصُورَةِ الْمَلَك , فَإِذَا جَاءَهُ شَيْطَان فِي صُورَة الْمَلَك قَالُوا : هَذَا شَيْطَان فَاحْذرْهُ . وَإِنْ جَاءَهُ الْمَلَك قَالُوا : هَذَا رَسُول رَبّك. وَقَالَ اِبن عَبَّاس: { رَصَدًا } هم حَفَظَة يَحْفَظُونَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمَامه وَوَرَائِهِ مِنْ الْجنّ والشياطين . قَالَ قَتَادَة وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب : هُمْ أَرْبَعَة مِنْ الملائكة حَفَظَة .
ونلحظ بالسلك هنا الإحاطة والحراسة والصون .
- ونرى في قوله عز وجلّ في سورة طه :
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا ... (53)} ،
فجعل الله تعالى الأرض قراراً تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا وَتَقُومُونَ وَتَنَامُونَ عَلَيْهَا وتسافرون على ظهرها وَسَلَكَ لكم فِيهَا سُبُلا أَيْ و طُرُقًا تَمْشُونَ فِي مَنَاكِبهَا كَمَا قَالَ تقدست أسماؤه :
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)} [الأنبياء] ،
ونلحظ " بالسلك " التنظيم والترتيب ودقة الصنع . يقول القرطبي " هي الطُرُق . نَظِيره قوله جلّ وعلا :
{ وَاَللَّه جَعَلَ لَكُمْ الأرض بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا (20)} [نوح]
، والفج : المسلك بين جبلين .
- وقوله تعالى في سورة القصص :
{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ... (32)} ،
نرى السهولة واليسر في الإدخال والإخراج ، قال القرطبي " إِذَا أَدخَلْت يَدك فِي جَيب دِرْعك ، ثمَّ أَخرَجتهَا فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر فِي لَمَعَان البرق مِن غير بَرَص " وقال الحسن البصري " لما خرجت يده كأنها المصباح أيقن مُوسَى أَنـّه لَقِيَ رَبّه. "
- كما نجد رحمة الله في الاحتفاظ بالماء العذب النازل من السماء في تجاويف الأرض . يقول الله سبحانه :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ .. (21)} [الزمر] ، فالماء من السماء ابتداءً كما في قوله عز وجلّ :
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا ... (9)} [ق] ،
فَإِذَا أَنْزَلَ الْمَاء مِنْ السَّمَاء كَمَنَ فِي الأرض ثمَّ يَصْرِفهُ تَعَالَى فِي أجزائها كَمَا يَشَاء ، وَيُنْبِعهُ عُيُونًا مَا بَيْن صِغَار وَكِبَار بِحَسَبِ الْحَاجَة إِلَيْهَا . فهذا الإدخال سهل ميسر يُحفظ بأمر الله في الخزانات الأرضية التي جُهزت للاحتفاظ بالماء في بحار عذبة في تجاويف الأرض .
- أَذِنَ الله تعالى للنحل بقوله : { ... فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ... (69)} [النحل] إِذْنًا قَدَريًّا تَسْخِيريًا أَنْ تأكل من كل الثمَرَات وَأَنْ تسلك الطُّرُق الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه تَعَالَى مُذَلَّلَة لَهَا ومُسَهَّلَة عليها حيث شاءت مِنْ هَذَا الْجَوّ الْعَظِيم وَالْبَرَارِيّ الشاسعة وَالأودية وَالْجبال الشاهقة ثمَّ تَعُود كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا إِلَى بَيْتهَا لا تَحيد عنه يَمْنَة ولا يَسرة بَل إِلَى بَيْتهَا وَمَا لَهَا فِيهِ مِنْ صغار وَعَسَل فَتَبْنِي الشَّمْع وتصنع الْعَسَل مِنْ فِيهَا وَتَبِيض الْفِرَاخ ، ثُمَّ تُصبِح إِلَى مَرَاعِيهَا . وَقَالَ قَتَادَة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا } أَيْ مُطِيعَة فجعلاه حالاً مِن السَّالكة.
ونحن ندعو الله تعالى أن يَسلكنا في عباده الصالحين ، دون حساب ولا عقاب ، وأن يسلكنا الجنة فيجعلها مأوانا ، إنه على مايشاء قدير ، وبالإجابة جدير.