تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: إبراهيم عليه السلام

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي إبراهيم عليه السلام

    إبراهيم عليه السلام (1)
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



    نتحدَّث إليكم في هذا الفصل عن إمام الحُنفاء وأبي الأنبياء وخليل الرحمن، وأكثر الناس شبهًا بخَلْق محمد صلى الله عليه وسلم وخُلُقِهِ، وأحد السادة الكبار من أولي العزم من المرسلين، الأُمَّة، القانت، الحنيف، الأوَّاه، الحليم، إبراهيم عليه السلام، وأبوه آزر مِن ذرِّية سام بن نوح عليه السلام، وقد وُلد إبراهيم عليه السلام بأرض بابل المعروفة ببلاد الكلدانيين، وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنامَ والأوثان، ويسجدون للكواكب السبعة، ويقيمون الهياكلَ لها، فبعث الله إليهم إمامَ الحُنفاء إبراهيم عليه السلام، فدعاهم إلى وجوب إخلاص العبادة لله وحدَه، واتَّخذ في دعوته من سُبل الإرشاد ما تقوم به الحجَّة، وتنقطع به الشبهة، وقد ساق الله تبارك وتعالى صورًا من أساليب دعوة إبراهيم عليه السلام في محاورته لقومه، وإرشادهم إلى الله تبارك وتعالى، وفي ذلك يقول: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 74، 75]، أي: نبيِّن له وجهَ الاستدلال بآيات الله الكونية في السماوات والأرض على أنه لا إله إلا الله، ﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾، أي: أهذا يصلح لأن يكون ربًّا يُعبد، ﴿ فَلَمَّا أَفَلَ ﴾، أي: فلمَّا غاب هذا النجم الذي يعبده قومه، ﴿ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴾ [الأنعام: 76]، "وهذا أسلوب حكيم في زلزلة قواعد باطلهم"، ﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا ﴾، أي: طالعًا، ﴿ قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾، أي: أهذا يصلح لأن يكون ربًّا يُعبد؟"، ﴿ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴾ [الأنعام: 77]، "وقد أراد عليه السلام بهذا القول أن يَستدرج قومَه ويعرِّفهم جهلهم وخطأهم في تعظيم هذه الكواكب الآفلة وعبادتها، وأن ناصية الخلق بيد الله وحدَه، فمن لم يهدِه الله فلا هادي له"، ﴿ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ﴾ [الأنعام: 78، 79]؛ "أي: مائلًا إلى الدِّين القيِّم"، ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79]، "وحذف الاستفهام في مثل قوله: "هذا ربي" سائغ شائع في اللِّسان؛ وهو استفهام إنكار وتوبيخ لقومه عبَدة الكواكب، وقد جاء حذف حرف الاستفهام في مواضع من القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى: ﴿ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴾؟ [الأنبياء: 34]؛ أي: أفهم الخالدون؟

    ويشير القرآن العظيم إلى مَوقف قومه مِن هذه الحجَّة البالغة، وأنهم لما انقطعوا لجؤوا إلى تخويفه مِن بطش آلهتهم به، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 80 - 83].

    ويذكر الله عزَّ وجل صورةً أخرى مِن صور قيام إبراهيم عليه السلام ببيان أنَّ الله وحده هو المستحق للعبادة، وأنَّ غيره من معبوداتهم لا تسمع ولا تنفع، فيقول عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ [الشعراء: 69، 70]، "سألهم عن معبوداتهم ليبني على جوابهم أنَّ هذه الآلهة لا تستحق شيئًا مِن العبادة ليقطع شبهتهم"، ﴿ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [الشعراء: 71 - 86]؛ "وهذا كان بسبب مَوعدةٍ وعدها إبراهيمُ فَهِم منها إبراهيم عليه السلام أنَّ أباه مقارب للإيمان، فلمَّا تبيَّن له أنَّه عدوٌّ لله تبرَّأ منه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114].

    ثمَّ يستمرُّ إبراهيم في ضراعته إلى الله وبسط دعوته لقومه فيقول: ﴿ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 87 - 89]؛ وفي صورة مشرِقة مِن صور عرض دعوة إبراهيم عليه السلام وموقفه مِن قومه بعد أن استجابت له زوجته سارة ولوط عليه السلام يقول الله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَن َّ لَكَ ﴾ [الممتحنة: 4]؛ "أي: فلا تَستغفروا للمشركين ولو كانوا أُولي قربى"، ﴿ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الممتحنة: 4 - 6].

    ويصف اللهُ تبارك وتعالى موقفًا مشرقًا من مواقف إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر فيقول: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾؛ أي: "عظيم اللُّطف بي كثير الإحسان إليَّ"، ﴿ وَأَعْتَزِلُكُم ْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [مريم: 41 - 48].

    وفي موقف آخر مِن مواقف إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه يقول اللهُ عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ (أي: يطعن عليهم ويسبهم) يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 51 - 70].

    ويسوق الله عزَّ وجل قصَّةَ ملك الكلدانيين في استجوابه إبراهيمَ عن ربه، وقول إبراهيم: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾، فيتطاول هذا الملك ويقول: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾، فيفحمه إبراهيم بقوله: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾؛ فينقطع هذا الكافر، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].

    هذا، وقد ذكر بعضُ المفسرين أن إبراهيمَ - قد جرت هذه المناظرة بينه وبين الملك لَمَّا قدِم لطلب طعامٍ منه، وأنَّ الملكَ رفض إعطاءه الطعام، وأن إبراهيم قد اشتدَّ حزنه عندما اقترب مِن منزل أهله، وأنه كيف يدخل على سارة وإسحاق ولده دون طعام، فَعَمِدَ إلى كثيبٍ مِن التراب، فملأ جرابيه منه ليؤنسَ أهلَه، فلما نامَ انقلبَ التراب دقيقًا أبيض خالصًا، فلما فتحت سارةُ الجرابَ وجدت الدَّقيقَ فصنعت طعامًا منه، فلما استيقظَ إبراهيم وجدَ الطعامَ، فقال: مِن أين لك هذا؟ قالت: مِن جرابك... إلخ، فهذا كذبٌ ظاهرٌ، ولا أصل له بحمد الله، وإسحاق لم يولد إلا بالشَّام.





  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: إبراهيم عليه السلام

    إبراهيم عليه السلام (2)
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد

    تحدَّثتُ في الفصل السابق عن صور مشرِقة مِن دعوة إبراهيم عليه السلام، وذكرتُ في آخرها ما كان مِن المُناظرة بين الخليل عليه السلام وبين ملك الكلدانيين الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه، وكيف أقام إبراهيم عليه السلام الحُجة الدَّامغة، فبُهت الذي كفر، ولم يزل إبراهيم عليه السلام يوالي دعوة قومه إلى الله، ويحاولُ إخراجَهم من الظلمات إلى النور، وفي ذلك يقولُ الله عز وجل: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [العنكبوت: 16 - 26].

    وقد هاجر إبراهيمُ عليه السلام ومعه زوجتُه سارة ولوط إلى الشام، وفي ذلك يقولُ الله عز وجل: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 68 - 71].

    وقد أشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى تعاونِ الوزغ مع قوم إبراهيم في محاولة إحراقه، وأنَّ الوزغ كان ينفخ على إبراهيم؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث أم شريك رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وفي لفظ البخاري: ((كان يَنفخ على إبراهيم)).

    وقد ثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اختتن إبراهيم النبي عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم)).

    وقد نزل إبراهيم عليه السلام بالشَّام - وهي بلاد الكنعانيين - ومعه زوجته سارة ولوط، فأرسل الله عز وجل لوطًا إلى أهل سدوم وعمورة ونواحيها من دائرة الأردن، وسار إبراهيم وسارة إلى مصر، فأُخبر ملكُ مصر بَجمال زوجة إبراهيم، وأُغري بها فنجَّاها الله منه، وأَخْدَمَها هاجرَ، فوهبتها لإبراهيم، فرزقه الله منها إسماعيلَ عليه السلام، ورجع إبراهيم بأهله إلى الأرض المقدَّسة بفلسطين، وصار بين سارة وهاجر بعض الشيء لما قضاه الله عز وجل أن يعمِّرَ ولدُها إسماعيل مع أبيه البيتَ الحرام بمكة، فهربتْ هاجرُ من سارة، وأمر الله عزَّ وجل إبراهيم أن يحمل هاجرَ وإسماعيل لمكة.

    واتَّخذتْ هاجرُ منطقًا تشدُّ به وسطها وترسلُ طرفه كذيل خلفها يُعفي آثارها على سارة؛ فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أوَّل ما اتَّخذ النِّساء المنطق مِن قِبل أم إسماعيل، اتَّخذتْ منطقًا لتعفي أثرَها على سارة، ثمَّ جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذٍ أحَدٌ، وليس بها ماءٌ، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمرٌ وسقاءٌ فيه ماء، ثم قَفَى إبراهيم منطلِقًا، فتبعته أمُّ إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يُضيِّعنا، ثم رجعت.

    فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثَّنيَّة - حيث لا يرونه - استقبل بوجهه البيتَ ثمَّ دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾، حتى بلغ ﴿ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37]، وجعلَتْ أمُّ إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب مِن ذلك الماء؛ حتى إذا نفد ما في السِّقاء عطشت وعطشَ ابنُها، وجعلت تَنظر إليه يتلوَّى أو قال: يتلبَّط، فانطلقتْ، كراهيةَ أن تَنظر إليه، فوجدت الصَّفا أقربَ جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثمَّ استقبلت الوادي تنظر، هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعيَ الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثمَّ أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، ففعلت ذلك سبعَ مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فذلك سَعي النَّاس بينهما))، فلما أشرفَتْ على المروة سمعَتْ صوتًا فقالت: صه! تريد نفسَها، ثم تسمَّعتْ فسمعت أيضًا، فقالت: "قد أسمعت إن كان عندك غِواثٌ"، فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف مِن الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يرحم الله أمَّ إسماعيل لو تركت زمزم))، أو قال: ((لو لم تغرف مِن زمزم لكانت زمزم عينًا معينًا))، قال: فشربَتْ وأرضعت ولدَها، فقال لها الملك: "لا تخافوا الضيعة؛ فإن هاهنا بيتًا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإنَّ الله لا يضيع أهله"، وكان البيت مرتفعًا مِن الأرض كالرابية، تأتيه السيولُ فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرَّت بهم رفقةٌ من جُرْهُم، أو أهل بيت مِن جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا: "إن هذا الطائر ليدور على ماء، لَعَهْدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جَرِيًّا أو جريَّين - "أي: رسولًا أو رسولين" - فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا، وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزلَ عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حقَّ لكم في الماء، قالوا: نعم.

    قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحبُّ الأنس))، فنزلوا فأرسلوا إلى أهلهم، فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات وشبَّ الغلام وتعلَّم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شبَّ، فلمَّا أدرك زوَّجوه امرأةً منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوَّج إسماعيل يُطالِع تركتَه، فلم يجد إسماعيلَ، فسأل امرأتَه عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، وفي رواية: يصيدُ لنا، ثمَّ سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بِشَرٍّ، نحن في ضِيقٍ وشدَّةٍ، وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجُك اقرئي عليه السلام وقولي له يغيِّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنَّه آنس شيئًا، فقال: هل جاءكم مِن أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا، فأخبرته أنَّا في جهدٍ وشدَّةٍ، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيِّرْ عتبةَ بابِك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الْحَقِي بأهلك، فطلَّقها وتزوَّج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثمَّ أتاهم بعدُ فلم يجده، فدخل على امرأته فسأل عنه قالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخيرٍ وسعةٍ، وأثنَتْ على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهمَّ بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولم يكن لهم يومئذ حَبٌّ، ولو كان لهم دعا لهم فيه))، قال: فهما لا يَخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السَّلام، ومريه يُثبت عتبةَ بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسَن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تُثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.

    ثمَّ لبث عنهم ما شاء الله، ثمَّ جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلًا له تحت دوحة قريبًا مِن زمزم، فلمَّا رآه قام إليه فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، قال: يا إسماعيل، إنَّ الله أمرني بأمرٍ، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإنَّ الله أمرني أن أبني بيتًا هاهنا، وأشار إلى أَكَمَةٍ مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفع القواعد مِن البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر ووضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127].

    وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: إبراهيم عليه السلام

    إبراهيم عليه السلام (3)
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد


    أشرْتُ في الفصل السابق إلى مجيء إبراهيم عليه السلام بابنه إسماعيل وهاجر إلى مكَّة، وذكرتُ ما أورده البخاريُّ في صحيحه عن هذه القصَّة، وعن نشأة إسماعيل عليه السلام، وما كان مِن شأنه مع قبيلة جرهم، وتعلُّمه اللسانَ العربيَّ ومساعدة أبيه إبراهيم عليه السلام في بِناء البيت الحرام، وقد ذكر اللهُ تبارك وتعالى قصَّةَ بناء الكعبة في كتابه الكريم؛ حيث يقول: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 26 - 29].

    وقال عز وجل: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 124 - 129].

    كما أشار الله عز وجل إلى ما كان من إبراهيم في وضعه هاجرَ وإسماعيلَ عند مكان البيت حيث يقول: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37]، وقد استجاب الله تعالى دعوةَ إبراهيم؛ فجعل هذا البيت آمنًا، يُجبى إليه ثمرات كلِّ شيء، كما قال عز وجل: ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 57]، وكما قال عز وجل: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 67].

    كما استجاب الله تبارك وتعالى إلى دعاء خليلِه إبراهيم، فأرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل أهل البيت الحرام، يتلو عليهم آياتِ اللهِ ويعلِّمهم الكتاب والحكمة ويزكِّيهم؛ ولذلك جاء في الحديث الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام))، كما جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله، من حديث أبي أُمامة رضي الله عنه والعرباض بن سارية رضي الله عنه، واللفظ لأبي أُمامة رضي الله عنه.

    كما ذكر الله تبارك وتعالى قصة هجرة إبراهيم عليه السلام وبشارته بإسماعيل وقصة رؤياه بذبحه فقال: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 83 - 89]، وكأنه عليه السلام أراد أن يفرِّقهم ليبتعدوا عنه؛ حتى يتفرغ لتحطيم أصنامهم بإيهامهم أنه مريض حتى لا يلامسوه وبخاصة بعد نظرته في النجوم، ونظرته عليه السلام في النجوم لم يقصد بها أن يتعرَّف من النجوم عن حالته، كما أن قوله: ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ لم يرد بها أنه مريض بمرض مَعْدٍ، وإنما أراد في نفسه أنه ضعيفٌ، وكل ابن آدم ضعيف مهما كانت صحَّته، وقد خُلق الإنسان ضعيفًا، فهذا من المعاريض، وفي المعاريض مندوحةٌ عن الكذب، حاشاه عليه السلام أن يكذب، على أنه قد يطلق على المعاريض أنها كذب باعتبار حقيقة المراد، لكنه ليس الكذب المذموم؛ بل هو كإطلاق الحسد على الغبطة، في مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالًا فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)).

    وقد فسَّر عامَّةُ العلماء الحسدَ في هذا الحديث، بأنه الغِبطة؛ إذ الحسد المذموم هو تمنِّي زوال النعمة عن الغير، ولا شك عند أهل العلم أن قول إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ وكذلك قوله: ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾ [الأنبياء: 63] وكذلك لما سأله ملكُ مصرَ عن سارة فقال: "إنها أختي"، لا شك عند العلماء أن ذلك ليس من باب الكذب المذموم، وإنما هو من باب التورية والمعاريض.

    ثمَّ قال تعالى: ﴿ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴾ [الصافات: 90، 91]؛ "لأن الكفار قد جعلوا عند أصنامهم طعامًا" ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الصافات: 92 - 99]؛ "أي: إني مهاجر إلى الله عز وجل من دار الكفر إلى الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، وأمَلِي في الله عز وجل أن يرشدني إلى سبيل الخير وما فيه صلاح ديني ودنياي".

    ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا ﴾ [الصافات: 100 - 103]؛ أي انْقادَا لأمر الله، ﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾ [الصافات: 103 - 113].

    ولا شك في أن سياقَ هذه الآيات الكريمة يدل على أنَّ الذَّبيح هو إسماعيل لا إسحاق عليه السلام؛ لأنه ذكر البشارة بإسحاق بعد البشارة بإسماعيل الذي وصفه بأنه غلام حليم، وقد وصف إسحاق عند البشارة به بأنه غلام عليم، ومن الأدلَّة أيضًا على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أنه عند البشارة بإسحاق قال: ﴿ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 71]، وهو يُفيد أن إسحاق سيعيش ويولد له في حياة أبيه، فكيف يؤمر بذبحه وهو غلام لم يُولد له بعد، مع يقينه بأنه لن يموت حتى يولد له يعقوب، وقد حدَّث ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم فقال: "إن الذي أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى؛ وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال تعالى: ﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 112]، ويقول الله تعالى: ﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 71]، يقول بابن وابن ابن، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد بما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل"، قال ابن إسحاق: سمعته يقول ذلك كثيرًا، وقال ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه وهو خليفة إذ كان معه بالشام، فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديًّا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم، فسأله عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه عن ذلك، قال محمد بن كعب: وأنا عند عمر بن عبدالعزيز، فقال له عمر: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل واللهِ يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم ذلك، ولكنهم يحسدونكم معشرَ العرب على أن يكون أباكم، الذي كان مِن أمر الله فيه، والفضل الذي ذكر الله تعالى منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق؛ لأنَّ إسحاق أبوهم؛ اهـ.

    كما ذكر ابن كثير رحمه الله، وليس هذا أول جحد من اليهود؛ فقد جحدوا أن يكون إبراهيم بنى الكعبة، ولعلم الله تعالى بما يكون من اليهود أبقى في البيت الحرام مقام إبراهيم ليكون شاهدًا عليهم إلى يوم القيامة يتوارث العلمَ به جيل بعد جيل، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [آل عمران: 96، 97].

    وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: إبراهيم عليه السلام

    إبراهيم عليه السلام (4)
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد


    أشرتُ في الفصل السابق إلى أن الله تعالى أبقى مقام إبراهيم في البيت الحرام؛ ليكون شاهدًا على بناء إبراهيم لهذا البيت، لما يعلم من أن اليهود سيجحدون أن يكون إبراهيم هو الذي بنى الكعبة المشرَّفة بمكة المكرمة، وجعل في ذلك آيات بيِّنات حيث يقول: ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [آل عمران: 97]، وكما قال عز وجل: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125]، وأشرتُ إلى أن العرب لم يزالوا يتوارثون معرفة مقام إبراهيم جيلًا بعد جيل إلى أن بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول أبو طالب في لاميته المشهورة:


    وموطئُ إبراهيمَ في الصَّخرِ رطبة
    على قدميه حافيًا غيرَ ناعلِ



    ويؤثر أنَّ عبدالمطلب جدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوضع له فراش في ظلِّ الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالًا له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو دون الخامسة من عمره صلى الله عليه وسلم فيأخذه عبدالمطلب ويُجلسه على فِراشه، فجاء جماعة من بني مدلج يطوفون حول الكعبة، فلما رأوا قدمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمعنوا النظرَ فيها ثم أمعنوا النظر في مقام إبراهيم، ثمَّ قالوا لعبدالمطلب: لِمن هذا الغلام يا شيخ؟ قال: هذا محمد ولدي، قالوا: ما رأينا قدمًا شبيهةً بالتي في الصخر من قدم ولدك هذا.

    وقد ثبت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف إبراهيمَ الخليل عليه السلام بأنه أشبه الناس بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يتحدَّث عن ليلة أُسري به: ((رأيتُ موسى وإذا هو رجل ضرب - أي خفيف اللحم - رَجِلٌ - أي دهين الشعر - كأنه من رجال أزد شَنُوءَة، ورأيتُ عيسى فإذا هو ربعة أحمر، كأنما خرج من ديماس - يعني الحمام - وأنا أشبه ولد إبراهيم به))، وكما جمع الله عز وجل بين محمد صلى الله عليه وسلم وأبيه إبراهيم في الشبه، جمعَ بينهما كذلك في صفة الخلَّة، فلم يتَّخذ الله خليلًا غير محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وجمع كذلك بينهما في الصلاة عليهما فنقول في التشهد: "اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وباركْ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيدٌ".

    وقد حرَص اليهود على قطع كل صِلة للعرب بإسماعيل وإبراهيم، وحذفوا من التوراة كلَّ ما يتَّصل بإسماعيلَ بعد أن أخذه أبوه وتركه وأمه في برية فاران، وقطعوا كلَّ أخباره بعد ذلك، وقد جهلوا أو تجاهلوا أن برية فاران هي أرض مكة.

    وقد استقرَّ إبراهيم عليه السلام بالأرض المباركة بفلسطين، إلا أنه كان يتردَّد إلى مكة ليتعاهد تركته فيها ويطوف بالبيت العتيق، وقد دعا لمكة قبل بناء البيت فقال: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ﴾ [البقرة: 126]، وفي زورة من زوراته لمكة بعد بناء البيت وميلاد إسحاق قال: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ﴾ [إبراهيم: 35].

    وقد كان لوط عليه السلام لقي مِن قومه عنتًا ومشقَّةً وكذبوه وكذبوا المرسلين، وكانوا يأتون الذُّكرانَ من العالَمين، فلما أراد الله عز وجل إهلاكَ قوم لوطٍ أرسل بعضَ الملائكة لإهلاكهم، وأمرهم أن يمروا بإبراهيم قبلَ تدمير قُرى قوم لوط ليبشِّروه بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، وقد ساق الله عز وجل قصَّةَ البشارة بإسحاق في مواضع من كتابه الكريم حيث يقول: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾ [هود: 69 - 73].

    وقال تعالى: ﴿ وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُون ِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 51 - 56]، وقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ﴾ [مريم: 49، 50]، وقال تعالى: ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 26، 27]، وقال تعالى: ﴿ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ [الذاريات: 24 - 30].

    وقد نصَّ القرآن الكريم على أن يعقوب ولد إسحق حيث يقول الله عز وجل: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133]، وإبراهيم جد، وإسماعيل عم، وإسحق والد، والكل يطلق عليه اسم الأب، وقد وصف الله تبارك وتعالى إبراهيم بصفات فقال: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ﴾ [النحل: 120]، وقال: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114]، وقال: ﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]، وأما ما ساقه الله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام في قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260]، فهو صريح في أن إبراهيم كان عند سؤاله موقنًا بالبعث وبقدرة الله على إحياء الموتى، لكنه أحب أن يضيف إلى علمِ اليقين عينَ اليقين، وليكون أحدَ الأدلة المادية المحسوسة على قدرة الله على إحياء الموتى، وقد أورد الله تعالى في سورة البقرة مجموعةً من الأمثلة على ذلك؛ فذكر قصة قتيلِ بني إسرائيل، وضربه ببعض البقرة المذبوحة، فقال: ﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 73]، وقال: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 55، 56]، وقال: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 243]، وقال: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 259]، ثم ساق بعد هذه القصة مباشرة قول إبراهيم: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ﴾ [البقرة: 260].

    وأمَّا ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نحن أحقُّ بالشكِّ من إبراهيم؛ إذ قال: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]، ويرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثتُ في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي)) - فإن المقصود من هذا هو الثناء على هؤلاء الأنبياء الثلاثة وبيان علوِّ منازلهم، وأن إبراهيم لو كان شاكًّا لكنتُ أولى بالشك منه، وما دام لم يخطر على بالِ أحدٍ أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم يشكُّ في قدرة الله على إحياء الموتى فكذلك إبراهيم عليه السلام؛ فهو من الأساليب البلاغية المعروفة بتأكيد المدح بما يشبه الذم.

    والركن الشديد الذي آوى إليه لوط هو الله تبارك وتعالى، وقوله في الآية: ﴿ أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ [هود: 80]، ﴿ أَوْ ﴾ فيها بمعنى بل، أي: بل آوي إلى الله عز وجل، ثمَّ الثناء على يوسف باعتصامه عن السوء مع ما لقي من الأذى والسجن، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولو لبثتُ في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي))؛ أي لسارعت إلى ما دعاني إليه رسولُ الملك وخرجت من السجن، وقد أراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ينبِّه إلى المرتبة العُليا التي حازها يوسف الصديق عليه السلام.

    وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: إبراهيم عليه السلام

    إبراهيم عليه السلام (5)
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



    أشرتُ في مقالات سابقة إلى ما قصَّه الله تبارك وتعالى عن إبراهيم عليه السلام من قوله: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ﴾؛ الآية [البقرة: 260]، وبيَّنتُ المراد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن أحقُّ بالشكِّ من إبراهيم))، وأوضحت أنَّ ما كان من إبراهيم عليه السلام ليس شكًّا، وأنَّ مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الثناء على إبراهيم وبيان علوِّ منزلته، وأن هذا جاء على طريقة الأسلوب البلاغي المعروف بتأكيد المدح بما يشبه الذم على حد قول الشاعر:
    ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم
    بهنَّ فلولٌ من قراعِ الكتائبِ

    وقد أمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يتأسَّى بإبراهيم عليه السلام وفي ذلك: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 161 - 163].

    وردَّ على اليهود والنصارى دعوى حبهم لإبراهيم، وأنه على ملتهم فقال: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 67، 68]، وقال: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 65]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 130 - 132].

    وقد وصف الله تعالى إبراهيمَ بأنه وفَّى؛ أي: أتمَّ كلَّ ما أمره الله عز وجل به، وفي ذلك يقول: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37]، ويقول: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124]، وكما قال عز وجل: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120 - 123].

    ولقد كان المشركون يدَّعون أنهم على ملَّة إبراهيم، وقد صوَّروا إبراهيم وإسماعيل وعلَّقوا صورتيهما بالكعبة وبأيديهما الأزلام يَستقسمان بها، فأقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما لم يستقسما بالأزلام قطُّ، وأمر بالصور فمُحيت.

    فقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصورَ في البيتِ لم يدخلْ حتى أمر بها فمُحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال: ((قاتلهم اللهُ، والله إن استقسما بالأزلام قط))، وفي بعض ألفاظ البخاري لهذا الحديث قال: ((قاتلهم اللهُ، لقد علموا أن شيخنا لم يستقسم بها قط)).

    ولم يتَّخذ الله تعالى مِن خلقه غيرَ خليلين إبراهيمَ ومحمدٍ صلى الله عليهما وسلم؛ فقد ثبت في الصحيحين من حديث جندب البجلي وعبدالله بن عمرو وابن مسعود رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أيها الناس، إن الله اتَّخذني خليلًا)).

    كما أخرج البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في آخر خطبة خطبها: ((أيها الناس، لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله)).

    كما روى البخاري في صحيحه من حديث عمرو بن ميمون قال: إن معاذًا رضي الله عنه لما قدم اليمن صلَّى بهم الصبح فقرأ: ﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]، فقال رجلٌ من القوم: لقد قرَّت عين أم إبراهيم.

    وقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله، من أكرم الناس؟ قال: ((أكرمهم أتقاهم))، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله))، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فعن معادنِ العربِ تسألونني؟))، قالوا: نعم، قال: ((فخيارهم في الجاهليَّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)).

    وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم خليل الرحمن أول من يُكسى يوم القيامة؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُحشر الناس عُراةً غُرلًا، فأول من يُكسى إبراهيم عليه السلام))، ثم قرأ: ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ﴾ [الأنبياء: 104]، وقد جعل الله تعالى من مكافأة إبراهيم عليه السلام على بنائه الكعبة المشرفة بأن جعلَه يسندُ ظهره إلى البيت المعمور في السماء السابعة؛ كما جاء في صحيح البخاري في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسراء حيث قال: ((فأتينا السماء السابعة، قيل: من هذا؟ قيل: جبريل، قيل: ومن معك؟ قيل: محمد، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به ونِعم المجيء جاء، فأتيت على إبراهيم فسلَّمتُ عليه فقال: مرحبًا بك من ابن ونبي))، وفي لفظ: ((مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، وإذا هو - أي إبراهيم - مسندٌ ظهرَه إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه)).

    ومع هذه الكرامة وعلوِّ المنزلة لخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، فإنه لم ينفع أباه لما مات على الشِّرك؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزَر قَترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصِني؟! فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب، إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنَّةَ على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار)).

    وهذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا فاطمة بنت محمد، اسأليني من مالي ما شئت فلن أغني عنك من الله شيئًا، ويا عباس عم النبي، اشترِ نفسَك لا أُغني عنك من الله شيئًا))، وكما قال عز وجل: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ ﴾ [القصص: 56]، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب: ((لأستغفرن لك ما لم أُنه عن ذلك))، فأنزل الله عز وجل: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 113، 114].

    وقد آثرت أن الله تبارك وتعالى جمعَ بين إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم في صفاتهما الخِلقية والخُلقية؛ فكان محمدٌ صلى الله عليه وسلم أشبهَ الناس بأبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وقد روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ قالها إبراهيم حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قيل له: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 173، 174]، كما روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعوِّذ الحسن والحسين ويقول: ((إن أباكما كان يعوِّذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلماتِ الله التامةِ من كلِّ شيطان وهامَّةٍ، ومن كلِّ عينٍ لامة)).

    وقد حصر الله النبوَّةَ والكتاب بعد إبراهيم عليه السلام في ذريته حيث يقول: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ [الحديد: 26]، وكما قال عز وجل: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ [العنكبوت: 27].

    فكلُّ كتاب أنزله الله تعالى بعد إبراهيم عليه السلام على نبي من الأنبياء ففي ذريته؛ فقد ولد لإسحاق يعقوب وهو إسرائيل، وإليه ينتسب سائرُ أسباطهم، وكانت فيهم النبوَّة حتى ختموا بعيسى ابن مريم، وهو من بني إسرائيل لنسب أمِّه فيهم.

    أما الفرعُ الثاني من ذريَّة إبراهيم فهو إسماعيل عليه السلام، ومن ذريته خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وهو الجوهرة الباهرة والدرَّة الزاهرة، وهو صاحب المقام المحمود والحوض المورود الذي يغبطه الأولون والآخرون يوم القيامة.

    وقد ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سأقوم مقامًا يرغب إليَّ الخلقُ كلُّهم حتى إبراهيم)).

    وإلى مقال قادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    الدولة
    المملكة العربية السعودية
    المشاركات
    2,057

    افتراضي رد: إبراهيم عليه السلام

    بارك الله فيك ...

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •