قراءة للحرب على النقاب في أوربا

حسن عبدالحي


هل تُصَدَّق أوربا - وبالأخصِّ الدُّوَل المانعة أو في طريقها إلى منْع النِّقاب - فيما تدَّعِي من أنَّ منع النِّقاب ليس له أبعادٌ عنصريَّة دينيَّة أو سياسيَّة؟

لقد بدَأ الأمر - لو يذكر القارئ - بدعواتٍ للحدِّ من التواجد الإسلامي في أوربا، وما يُسمَّى بـ"أسلمة أوربا"، وقد تبنَّى تلك التحذيراتِ من أسلمة أوربا، والدعوات للحدِّ من الوجود الإسلامي في أوربا - جماعاتٌ معروفةٌ بعدائها المكين للإسلام والمسلمين، وعامَّتُها جماعاتٌ تبشيريَّة تتغَلغَلُ فيها العنصريَّة النصرانيَّة.

ثم تَبِعَ تلك العداءاتِ الصريحةَ لجماعات التبشير والأيادي الصِّهيَوْنيَّة الخفيَّة من وَرائِها، المواقفُ الرسميَّة لحكومات الدُّوَل الأوربيَّة، فظهرت مَشارِيع قوانين لمنْع النِّقاب في المؤسَّسات الحكوميَّة، أو الأماكن العامَّة، كما ظهَرت استِفتاءات شعبيَّة، تبع ذلك المنع المُطلَق بعد التَّصدِيق على قبول تلك القَوانِين المجرِّمة للنِّقاب في بعض البِلاد الأوربيَّة.

ولم تشأ تلك الحكومات استِعداء الشُّعوب العربيَّة والمسلمة بموقفها من النِّقاب وحظْره، وفقًا لمصالحها، لا إبقاءً للصداقة المشتركة وكسب الخواطر، ثم راحَتْ تزخرف تلك الحكومات الحاظرة للنِّقاب الدَّعواتِ الأولى للجماعات التبشيريَّة والصِّهيَوْنيَّ ة، وادَّعتْ أنَّ النِّقاب يتصادُم مع قَوانِين الحريَّة والمُساواة!

نعم، تخلَّل الكلامَ عن حريَّة المرأة ومُساواتها بالرجل غير المنتقب! كلامٌ يشمُّ منه رائحة الكراهية والعنصريَّة البَغِيضة التي يُتَّهم بها المسلمون! وذلك مِصداقًا لقول الله - تعالى - في المنافق والكاذب المدَّعِي ما لا يعتقد: ﴿ وَلَتَعْرِفَنَّ هُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾ [محمد: 30]، فصرَّح الرئيس الفرنسي ساركوزي - وهو أحد المتزعِّمين الحرب بشراسة ضدَّ النقاب في أوربا - فقال: إنَّ النقاب غير مرغوبٍ به في فرنسا!

هكذا أطلَقَها بلا أسبابٍ أو مُبرِّرات؛ ما يدلُّ دلالةً واضحة أنَّ تلك الأسباب التي تدَّعيها أوربا في حظْر النِّقاب ليست إلاَّ غِلافًا لعنصريَّتها وكراهيَّتها للآخَر.

الغرب لا يقبل إهانة المرأة!
فإذا كان النِّقاب يُنافِي كرامةَ المرأة، فماذا عن امتِهان المرأة الأوربيَّة للدَّعارة؟ لماذا لم تُجرِّم أوربا بيع المرأة جسدَها لِمَنْ يدفع لها المقابل؟

فأي إهانة للمرأة يتكلَّم عنها الغرب وهم يُبِيحون لها التكسُّب بجسدها، فإذا أرادَتْ أنْ تستره، مُنِعَتْ؛ لأنها تُهِين نفسها؟!

والمتتبِّع لحال المرأة الغربيَّة المُعاصِرة يَلحَظ كمًّا من الامتِهانات في حقِّها ليس له مَثِيلٌ، فهي تُعرَض بجانب السِّلَع للبيع، أو لتَروِيج السِّلَع، هذا إضافةً لما تتعرَّض له من تحرُّشات من بِدايات حَياتها نتاج اختلاطها بالرجال وتعرِّيها.

حرية الغرب:
وفي نفس السِّياق نتساءَل عن الحريَّة التي يتغنَّى به الغرب ليل نهار، وكيف تُمنَع المرأة من النِّقاب وهو اختيارها، وفي منعها تَعدٍّ على حريَّتها؟

فإذا أرادَت المرأة الغربيَّة فعل أيِّ شيءٍ، فلها فعلُه؛ لأنَّها حُرَّة، وإذا أرادَت المرأة المُسلِمة ارتِداء النِّقاب في أوربا، مُنِعت منه؛ لأنها ليست حرَّة!

تلك المعايير المزدوجة التي تتحرَّك بها أوربا ليس لها أيُّ تفسير أو مبرِّر عقلي، فالمرأة المنتَقِبة لم تتعدَّ على حريَّة أحدٍ، حتى تُمنَع من حريَّتها، وقانون الحريَّة في أوربا والغرب: إنَّك حرٌّ ما لم تُؤذِ غيرَك، فهل يتأذَّى الغربيُّون من النِّقاب؟ ربما نعم؛ لأنهم اعتادُوا حياة العري!

العنصريَّة الغربيَّة:
في حين يُتَّهم المسلمون بالعنصريَّة والعصبيَّة ورفْض الآخَر، يَتغافَل الغرب - والتغريبيُّون - عنصريَّته ضدَّ الإسلام والمسلمين، وليس أدلَّ على عنصريَّة الغرب من منْع النِّقاب، وما سيتبَعُه من منْع مظاهر وشعائر إسلاميَّة أخرى.

فهل يَعِي التغريبيُّون الدَّرس ويَقِفُون على عنصريَّة الغرب الذي يدعونَنا لأخْذ مَناهِجنا عنه؟ هل يَعِي التغريبيُّون الدرس الأوربي في احتِرام الآخَر وقبوله كما هو؟

إنَّ العنصريَّة التي لا يفتأ الغرب والتغريبيُّون يتَّهِمون بها المسلمين، تتجلَّى اليوم في أوربا في أعظم صُوَرِها وهي تمنَع النِّقاب وترفُض.

تلك البداية:
وإذا كان الغرب يسعى اليومَ لمنْع النِّقاب، فليست تلك النِّهايةَ، بل بداية التضييق على المسلمين في أوربا، وسيتبع منْعَ النِّقاب منْعُ الحِجاب، ومنْع إقامة سائر الشَّعائِر الإسلاميَّة التي يتخوَّف الغرب هداية شعوبه بسببها.

ونحن الآن لا يُمكِننا قراءةُ الأحداث القادِمة بشكلٍ أوسع، وهل سيترتَّب على الموقف الأوربي من النِّقاب أزمات حقيقيَّة للمسلمين المقيمين هنالك؟ لكن ما نتيقَّنه أنَّ ما يحدُث ليس النهاية؛ لأنَّ الحرب على النِّقاب وإنْ كانت مُتَوافِقة مع الميول الغربيَّة المتشرِّبة لحبِّ العري والتكشُّف ورفْض التستُّر والعفَّة، لكنَّها لم تَقُمْ على هذا السَّبب فحسب.

إنَّ إعلان المُسلِمين بهويَّتهم المسلمة ومَظاهرها في البلاد الغربيَّة، وما يتبع ذلك من الدَّعوة إلى دِينِهم بحالهم وسمتهم - هو السبب الرئيس وراء تلك الحرب على النِّقاب وما سيتبعه من سائر المظاهر والشعائر الإسلاميَّة.

جذور الأزمة:
ونرجع ثانيةً للبدء التاريخي لإثارة أزمة منْع النِّقاب في أوربا: لقد هانَ شأن منْع النِّقاب في الغرب لما هانَ أوَّلاً شأنه في البلاد المسلمة، وبالأخصِّ لدى حكومات الشعوب المسلمة، فلقد كان واضحًا لتلك الحكومات الغربيَّة المانعة للنِّقاب أنَّ حكومات المسلمين ذاتها غير راغبة فيه، بل تسعى تدريجيًّا لحظره هي الأخرى.

ومن هنا أيقن الغرب الذي تربطه بالمسلمين علاقة المصالح المشتركة وحدها - أنَّ حظْر النقاب لن يُسبِّب له أزمة اقتصاديَّة أو سياسيَّة مع الحكومات شبه الموالية.

وعلى جانب المؤسَّسات الإسلاميَّة الكبرى كذلك لم يجد الغرب بعد حظْر النقاب ردَّ فعلٍ على المستوى المُقلِق له، بل - للأسَف - صمتَتْ بعض المؤسَّسات صمتًا مهينًا، ورأت أخرى أنَّ الدعوة إلى حظْر النِّقاب من الخِلاف الفرعي كالاختلاف في وجوبه أو استحبابه! وكأنَّ المستحبَّ يجوز منعه، بل وتجريم صاحبه، لا سيَّما لو كان مَظهَرًا إسلاميًّا أقرب ما يكون للشعيرة؛ وعليه: لم تنظر تلك المؤسَّسات إلى دَوافِع حظْر النقاب، وضاقَتْ نظرتها له باعتِباره مستحبًّا عند طوائف من أهل العلم.

ثم كان موقف الأزهر المُخذِل؛ عندما قام الرئيس الفرنسي ساركوزي باستِشارة شيخ الأزهر الراحل في شأن حظْر النِّقاب، فأجابه بأنَّه شأن فرنسي داخلي!

الأمر الذي جعل هذا الرئيس بعد ذلك يتبجَّح زيادةً في حظْره للنِّقاب ويقول: إنَّ النِّقاب غير مرغوب به في البلاد المسلمة، فكيف نُلام على حظره في فرنسا؟

ولم يزل أمرُ حظْر النِّقاب في أوربا وفي بعض البلاد المسلمة يَتفاقَم، ولم يزلْ كذلك موقف المؤسَّسات الإسلاميَّة سلبيًّا.

وإذا كانت تلك جُذور الأزمَة، فإن الأزمة باقية، والغرب لن يتوانى في مُحارَبة المظاهر والشعائر الإسلاميَّة ما لم يجد صدى على مستوى كبير، وهو العمل الحكومي أو المؤسَّساتي الكبير.

أمَّا الأعمال الفرديَّة المتصدية لحملات الغرب وأتباعه، فإنها وإنْ تركت أثرًا إيجابيًّا، ولكنَّه سيظلُّ أثَرًا ضعيفًا، لا تُعقَد عليه آمالٌ كبيرة في تغيير واقع ممانع ضخم.

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحْبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.