الإسلام يراعي حقوق الخدم والعمال
الشيخ ندا أبو أحمد
أعزَّ الإسلام الخدم والعمال ورعاهم وكرَّمهم، واعترف بحقوقهم لأول مرة في التاريخ، قاصدًا بذلك إقامة العدالة الاجتماعية، وتوفير الحياة الكريمة لهم، بعد أن كان العمل في بعض الشرائع القديمة معناه الرق والتبعية، وفي البعض الآخر معناه المذلة والهوان، وقد كانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم خير شاهد على ذلك، فقد دعا صلى الله عليه وسلم أصحاب الأعمال إلى معاملة خدمهم معاملة إنسانية كريمة، وإلى الشفقة عليهم، والبرِّ بهم وعدم تكليفهم ما لا يطيقون من الأعمال، فقال صلى الله عليه وسلم: ".. إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ[1]، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ، فمَن كانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مما يَأْكُلُ، ولْيُلْبِسْهُ مما يَلْبَسُ، ولَا تُكَلفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ"؛ (رواه البخاري ومسلم).
فجاء تصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ"، ليرتفع بدرجة العامل الخادم إلى درجة الأخ! وهذا ما لم يسبق أبدًا في حضارة من الحضارات.
وألزم الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك صاحب العمل أن يُوَفِّيَ للعامل والخادم أجره المكافئ لجهده دون ظلم أو مماطلة، فقال صلى الله عليه وسلم: "أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ"؛ (رواه ابن ماجه من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما – وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 2987).
وحذَّر الإسلام من ظلم العمال: فقال الرسول صلى الله عليه وسلم عن رب العزة في الحديث القدسي: "ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ. ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولَمْ يُعْطِ أجْرَهُ"؛ (رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
ليعلم كل من ظلم عاملًا أو خادمًا أن الله رقيب عليه وخصم له يوم القيامة، كما يجب على صاحب العمل عدم إرهاق العامل إرهاقًا يضرُّ بصحته، ويجعله عاجزًا عن العمل، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: "مَا خَفَّفْتَ عَنْ خَادِمِكَ مِنْ عَمَلِهِ كَانَ لَكَ أَجْرًا فِي مَوَازِينِكَ"؛ (رواه ابن حبان وأبو يعلي من حديث عمرو بن حريث).
ومن الحقوق التي تعتبر علامة مضيئة في الشريعة الإسلامية حق الخادم في التواضع معه، وفي ذلك يُرَغِّبُ الرسول صلى الله عليه وسلم أمته قائلًا: "مَا اسْتَكْبّرَ مَنْ أَكَلَ مَعَهُ خَاَدِمُهُ، وَرَكِبَ الحِمَارَ بِالأَسْوَاقِ، وَاِعْتَقَلَ الشَّاةَ فَحَلَبَهَا"؛ (رواه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي في الشعب) (صحيح الجامع: 5527).
ولأن حياته صلى الله عليه وسلم كانت تطبيقًا لكل أقواله، فإن السيدة عائشة - رضي الله عنها - تروي فتقول: "مَا ضَرَبَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شيئًا قَطُّ بيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا.. "؛(رواه مسلم).
كما نجده صلى الله عليه وسلم يقول لأبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عندما ضرب غلامًا له، فيقول: "اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، لَلهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عليه"، قال: فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، هو حرٌّ لوجه الله، فقال: "أَمَاَ لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النارُ"، أَوْ "لَمَسَّتْكَ النارُ"؛(رواه مسلم).
فالضرب أو الصفع أو اللطم أو الركل، هو إهانة للخادم يأباها الله ورسوله، ولهذا فإن أفضل عقاب للسيد القاسي القلب هو أن يُحرم فورًا من ملكيته، وهذه هي عظمة الإسلام وعظمة الحضارة الإسلامية، وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد شهادة حق وصدق، فيقول: "كَانَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فأرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلتُ: وَاللَّهِ لا أَذْهَبُ، وفي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِما أَمَرَنِي به نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجْتُ حتَّىَ أَمُرَّ علَىَ صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ في السُّوقِ، فَإِذَا رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ قَبَضَ بقَفَايَ مِن وَرَائِي، قالَ: فَنَظَرْتُ إلَيْهِ وَهو يَضْحَكُ، فَقالَ: "يا أُنَيْسُ، أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟" قالَ قُلتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يا رَسولَ اللَّهِ قَالَ أَنَسٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ مَا عَلِمْتُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُ هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا"؛ (رواه مسلم).
• بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يهتم برعاية خدمه إلى الدرجة التي يحرص فيها على أن يزوجهم، فعن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا رَبِيعَةُ، أَلا تَتَزَوَّجُ؟"، قال: فقلت: لا والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يُقيم المرأة، وما أحبُّ أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، وقال: ثم راجعت نفسي، فقلت: والله يا رسول أنت أعلم بما يُصلحني في الدنيا والآخرة، قال: وأنا أقول في نفسي: لئن قال لي الثالثة لأقولنَّ: نعم، قال: فقال لي الثالثة: "يَا رَبِيعَةُ، أَلا تَتَزَوَّجُ؟"، قال: فقلت: بلي يا رسول الله، مرني بما شئت، أو بما أحببت، قال: "اِنْطَلِقْ إلِى آلِ فُلاَنِ"، إلى حي من الأنصار ..."؛ الحديث (رواه الإمام أحمد والحاكم).
وتتجلى عظمة الحضارة الإسلامية في معاملة الخدم والعمال، حين نرى امتداد رحمته صلى الله عليه وسلم بخدمه لتشمل غير المؤمنين به أصلًا، وذلك كما فعل مع الغلام اليهودي الذي كان يعمل عنده خادمًا، فقد مرض الغلام مرضًا شديدًا، فظل النبي صلى الله عليه وسلم يزوره ويتعهَّده، حتى إذا شارف على الموت عاده وجلس عند رأسه، ثم دعاه إلى الإسلام، فنظر الغلام إلى أبيه متسائلًا، فقال له أبوه: أطِعْ أبا القاسم، فأسلم، ثم فاضت روحه، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحَمدُ لِلَّهِ الذِي أَنقَذَهُ مِنَ النَّارِ"؛(رواه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه).
وهذه بعدُ بعضُ حقوق الخدم والعمال التي أصَّلها الإسلام الحنيف، والتي طبقها رسول الإسلام الكريم بالقول والعمل، في زمن لم يكن يُعرَف غيرُ الظلم والقهر والاستبداد، لتُعبِّر بصدقٍ عما وصلت إليه حضارة الإسلام والمسلمين من سمو وعظمة وإنسانية.
----------------------------------------
[1] خَوَلُكُمْ: أي خدمكم، انظر ابن حجر العسقلاني كتاب فتح الباري 1 /115.