نسمات من ورد

د. محمد محمود النجار


أرواح في سلام:
بعض النفوس البشرية حين تصادفني أخالها مصنوعة من ورد، والحياة مليئة بالمنغصات، والتعامل مع الناس كفيل بأن يوصلني في كثير من الأحيان إلى حافة الحمق، وربما إلى مشارف الهلاك مشاعرَ وسلوكًا، فلكأنهم قد ولدوا في الأدغال، أو كانت بعض جيناتهم الوراثية ملوثة بماء ثعلب أو ذئب أو جعران، أو كل ذلك، وفي خضمِّ هذا الجو الفاسد المليء بترقب الضرر والحذر من كل اتجاه، يفاجئني القدر بأناس كأنهم قد خلقوا من ورد، خلقوا من سلام، حملوا الهمَّ مثلنا، ومرضوا ومات لهم أحباب، ولكنك حين تتحدث إليهم أو تتعامل معهم، تجد الرضا قد غمرهم بالحمد على كل حال، والشكر على النعمة مهما قلَّتْ، ومهما ندرت، ومهما كان في تحصيلها من عناء؛ وجوههم لا تفارقها ابتسامة راقية، هادئة، دائمة، مهما كدَّسَ جباههم من كلح الكدح وحفرَ وَجناتِهم من أخاديد الفقد، يتعاملون مع كل شيء ومع كل أحد بسلام، لا يحملون تطلُّعًا لشيء من البريق ولا لشيء من المتاع، راضون بما هم فيه، مسالمون للطالح والصالح من الخلق، في سلوكهم عطف عجيب على خلق الله، لو عُرضت على أحدهم كنوز الدنيا، لرفضها، وآثر الموت، خوفًا على قلبه من التحول، والافتتان، لا يحقدون، لا يحسدون، لا يصخبون، يصيبهم الحزن، لكن ليس السخط، ولا الغضب، فمع الحزن، والتعب، لا تفارق قلوبهم محامد ترى لأثرها بهاءً غامضًا في وجوههم، وشموخًا مخلوطًا بعفة وتواضع في حركات أجسادهم، حين يقبلون عليك، ومن العجيب أن هؤلاء الصافية نفوسهم من الكدر، العالية هممهم في الخير، ليسوا في طبقة من طبقات البشر دون أخرى، بل إنني أجد منهم في الأثرياء كما في الفقراء ومن دون ذلك، فليس للعطاء ولا للسلب ولا للمنع ولا للمنح مدخل في تشكيل هؤلاء، ليسوا كثيرين أعترف، لكنهم موجودون، يعيشون بيننا في سلام ويموتون في سلام.

الشبه بين الإنسان والكائنات:
في القرآن والسنة تشبيه للإنسان المؤمن وغير المؤمن بالكائنات، فقد وقع تشبيه الكافرين بالأنعام، وتشبيه المؤمن بالنحلة، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]، وفي مسند الإمام أحمد بإسناد صححه الشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يبغض الفحش والتفحش، والذي نفس محمد بيده، لا تقوم الساعة حتى يُخوَّن الأمين، ويُؤتمن الخائن، حتى يظهر الفحش والتفحش، وقطيعة الأرحام، وسوء الجوار، والذي نفس محمد بيده، إن مثل المؤمن لكمثل القطعة من الذهب، نَفخ عليها صاحبها فلم تَغَيَّر، ولم تنقص، والذي نفس محمد بيده، إن مثل المؤمن لكمثل النحلة، أكلت طيبًا، ووضعت طيبًا، ووقعت فلم تُكْسَر ولم تَفْسُد».

وكذلك جاء تشبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمن بالنخلة في الحديث المشهور المتفق عليه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، حدثوني: ما هي؟»، قال: فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبدالله: فوقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا: ما هي يا رسول الله؟ قال: «هي النخلة».

وفي البخاري أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا سكنت اعتدلت وكذلك المؤمن يُكفأ بالبلاء، ومثل الكافر كمثل الأرزة، صماء معتدلة، حتى يقصمها الله إذا شاء».

ليس من كل وجه:
إن تشبيه الإنسان بشيء من الكائنات الأخرى لا يعني التطابق بينهما من كل وجه، كما هو معروف في علم البلاغة، إنما يكون بين المشبه والمشبه به وجه واحد أو بعض أوجه من الشبه، فالمؤمن مثل خامة الزرع؛ أي: مثل الزرعة حديثة الإنبات، فانظر كيف هي طرية، ضعيفة الرسوخ في الأرض، ثم إنها تأتيها الريح فتميلها يمينًا ويسارًا، فإذا سكنت الريح اعتدلت، وهكذا المؤمن في الحياة معرض للابتلاء، على عكس الكافر والفاجر فإنه قد يظهر بعضهم وكأنه راسخ في الأرض لا يعتريه ابتلاء كمثل شجرة الأرز، ثابتة لا تؤثر فيها الرياح، فكذلك بعضهم، يُجتز اجتزازًا على حين غفلة، فيأخذه الله بغتة أخذة واحدة، ويجازيه على جميع ما كان.

وتشبيه المؤمن بالنخلة من حيث كثرة عطائه ونفعه لنفسه ولغيره، ورسوخ إيمانه. وكذلك تشبيهه بالنحلة من حيث إنه لا يتعمد الإيذاء، ولا يأكل إلا الطيب، ولا ينتج إلا الطيب، ولا يخالط إلا من كان على شاكلته، وقد قال ابن الأثير رحمه أكثر من ذلك، قال: "وجه المشابهة بين المؤمن والنحلة حِذقُ النَّحل وفِطْنَتُه، وَقِلَّةُ أذاهُ، ومنفعتُه، وقُنوعُه، وسَعْيُه في الليل، وتَنزُّهُه عن الأقْذار، وطِيب أكلِه، وَأَنَّهُ لا يأكلُ مِنْ كَسْب غَيْرِهِ، وطاعتُه لأَمِيرِهِ"؛ (النهاية في غريب الحديث والأثر 5/ 29).

خصال الورد:
لقد رأيت من بعض الناس في قلبه وعمله وأخلاقه من يشبه الورد، رأيتهم يتشابهون في خصال عدة، فالورد رقيق في بهاء، وشامخ في جمال، دائم العبير، له عود قوي به أشواك غالبًا، لكنها لا تبادر بالإيذاء، ولا تسعى ولا تهدف إليه، هي فقط للحماية، وللتسلق على الجدران حين تحتاج إلى ذلك، والأشواك في الورد إنما هي شيء مخلوق فيه، فهي من إبداع الخالق سبحانه؛ إذ قدر أن الرقة والجمال لا بد لهما من حامٍ، حتى لا تتجرأ عليهما الهوام والحيوانات التي لا تعرف عن الورد سوى أنه طعام لذيذ سائغ، وهكذا هي نسائم الوَرد البشرية، نفوس جبلت على الخير، قولًا وفكرًا ومشاعرَ وسلوكًا، فيها من القدرة على التصدي للشر؛ لكنها قد لا تحتاج إلى ذلك في العادة؛ لأن نقاء قلوبها ورقتها وعبير عطائها وزكائه قد أغناهم عن الدخول في صراع على شيء، أي شيء، لقد فرضوا بفيض طيبهم على غيرهم حالة من التجاوب لجمال ذواتهم، فصار الذي يتعامل معهم أو يكلمهم إذا لم يكن مثلهم، ولا يحاول، فإنه عادة ما ينأى بنفسه عن التعرض لهم؛ لأنهم بالنسبة له ناس من عالم آخر.