أرى الناس يُولُون الغني كرامةً ... و إنَّ لم يكن أهلا لرفعة مقدارِ
ويولون عن وجه الفقير وجوههم ... و إنَّ كان أهلا أن يُلاقى بإكبار
بنو الدهر جاءتهم أحاديث جمة ... فما صححوا إلا حديث ابن دينار!
ويذكر ابن خفاجة أنه توقف عن الشعر بعد أن وَخَطَه المشيب، وفي ذلك يقول: ولما انصدع ليل الشباب عن فجره، ورغب المشيب بنا عن هجره، نزلتُ عنه - أي الشعر - مَرْكبا، وتبدلتُ به مذهبا، فأضربت عنه برهة من الزمان الطويلة، اضطراب راغب عنه زاهد فيه، حتى كأني ما سامرته جليسا، يشافهني أنيسا، ولا سايرته أليفا، يفاوهني لطيفا.
ولعل ذلك التوقف لقرفه من الأوضاع المزرية لملوك الطوائف مع الإفرنج، ويوم سقطت بلنسية سنة 488 في يد لذريق قال ابن خفاجة متحسراً حزيناً:
عاثت بساحتك العدا يا دارُ ... ومحا محاسنَك البِلى والنارُ
فإذا تردد في جنابك ناظر ... طال اعتبار فيك واستعبار
أرض تقاذفت الخطوب بأهلها ... وتمخضت بخرابها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها ... "لا أنت أنت ولا الديار ديار"
ثم يعاوده شيطان الشعر مع دخول المرابطين إلى الأندلس، وبزوغ شمس انتصارات المسلمين على أيدي البربر، غرَّد طائر شعره الصداح بعد صمت في ليل طويل كئيب، وعادت قريحته تتدفق بقصائد مطولات.
لم يتزوج ابن خفاجة، ولكنه في سن الحادية والخمسين عبَّر عن ندمه على ذلك، وتحسر على تقدمه في السن وضعفه عن الزواج بجاريته الشقراء الصغيرة عفراء وهي في ريعان الشباب، فقال:
أرقتُ لذكرى منزل شَطَّ نازحٍ ... كلفتُ بأنفاس الشمال له شمّا
فقلتُ لبرق يصدعُ الليل لائحٍ ... ألا حيِّ عني ذلك الربع والرسما
وبلغ قَطينَ الدار أني أحبهم ... على النأي حباً - لو جزوني به - جمّا
وأقرىء عفيراء السلام وقل لها ... ألا هل أرى ذاك السُها قمراً تـمّا
ودون الصبا إحدى وخمسون حجة ... كأني وقد ولّت أُريت بها حلما
فيا ليتني كنت ابن عشر وأربع ... فلم أدعُها بنتا ولم تدعُني عمَّا
وبلده شُقْر بالأندلس ولعلها Sueca وتسمى بالجزيرة تجاوزاً لإحاطة الوادي بها، بليدة جنوبي بلنسية، وهي حسنة البقعة، كثيرة الأشجار والثمار والأنهار، وبها أناس وجُلَّة، وبها جامع ومساجد وفنادق وأسواق، تقع على نهر شقر Jucar، وقد أحاط بها الوادي، والمدخل إليها في الشتاء على المراكب، وفي الصيف على مخاضة، ومن شعر ابن خفاجة يتشوق إلى معاهده فيها، ويندب ماضي زمانه:
بين شُقرٍ وملتقى نهريها ... حيث ألقت بنا الأماني عصاها
عيشة أقبلت شهيٌّ جناها ... وارفٌ ظلها لذيذٌ كراها
لعبت بالعقول إلا قليلاً ... بين تأويبها وبين سراها
فانثنينا مع الغصون غصوناً ... مرحاً في بطاحها ورباها
ثم ولت كأنها لم تكن تلبث إلا عشيةً أو ضحاها
فاندب المرج فالكنيسة فالشط وقل آه يا معيد هواها
آه من غربةٍ ترقرق بثاً ... آه من رحلةٍ يطول نواها
آه من فرقةٍ لغير تلاقٍ ... آه من دارٍ لا يجيب صداها
فتعالي يا عين نبك عليها ... من حياة إن كان يغني بكاها
وشباب قد فات إلا تناسيه ونفسٍ لم يبق إلا شجاها
وكان ابن خفاجة بالمغرب الأقصى فتذكر الأندلس وجزيرة شقر فقال:
إن للجنّة بالأندلسِ ... مُجتلى مرأى ورَيّا نَفَسِ
فسَنَا صبحتها من شَنبٍ ... ودجى ظلمتها من لَعَس
فإذا ما هبّت الريح صَباً ... صُحتُ واشوقي إلى الأندلس
ولم يقتصر شعره على الوصف، بل كان لا بد لهذه النفس الرقيقة أن تتأثر بما يمر حولها من أحداث محزنة تخطف بها يد المنون أحبابها وأصحابها، فكان له مراث رقيقة في أصحابه وخلانه، وقال من أبيات يرثي فيها صديقاً له:
تيقَّنَ أن الله أكرمُ جيرةً ... فأزمعَ عن دار الحياة رحيلا
فإن أقفرت منه العيون فإنّه ... يعَوَّض منها في القلوب بديلا
ولم أر أُنساً قبله عاد وحشة ... وبَرْداً على الأكباد عاد غليلا
ومَنْ تَكُ أيام السرور قصيرة ... به كان ليل الحزن فيه طويلا
وعُمِّرَ ابن خفاجة طويلاً وسأله أحدهم مرة عن حاله وقد بلغ في عمره إحدى وثمانين سنة، فأنشده لنفسه:
أي عيش أو غذاء أو سَنَه ... لابن إحدى وثمانين سنه
قلَّص الشيب به ظِلَّ امرئ ... طالما جرَّ صِباهُ رَسَنَه
تارة تسطو به سيئة ... تُسخِنُ العينَ وأخرى حسنه
مدح ابن خفاجة الأندلس وجعلها جنة الله في أرضه فقال:
يا أهل أندلسٍ لله درُّكم ... ماءٌ وظلٌ وأنهارٌ وأشجارُ
ما جنّة الخلد إلا في دياركم ... ولو تخيّرتُ هذا كنت أختار
لا تحسبوا في غدٍ أن تدخلوا سقراً ... فليس تُدخَلُ بعد الجنّة النار
وقال ابن خفاجة فيما يكتب على القبر:
خليليَّ هل من وقفةٍ بتألُّمِ ... على جَدَثي أو نظرةٍ بترحُّمِ
خليليَّ هل بعد الرَدى من ثنيّةٍ ... وهل بعد بطن الأرض دارُ مخيّمِ
وإنّا حَيينا أو رَدينا لإخْوَةٌ ... فمَنْ مرَّ بي من مسلم فليسلّمِ
وماذا عليه أن يقولَ مُحيّياً ... ألا عِمْ صباحاً أو يقولَ ألا اسلمِ
وفاءً لأشلاءٍ كرُمْنَ على البِلَى ... فعاجَ عليها من رُفاتٍ وأعظُمِ
يردّد طوراً آهةَ الحُزن عندها ... ويذرفُ طوراً دمعةَ المترحّمِ