أ - نَماذِجُ مِن غَضَبِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للهِ (الغَضَبُ المَحمودُ).

النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما كان يغضَبُ لنَفسِه، وما كان ينتَصِرُ لها، بَل كان غَضَبُه للهِ، وحينَما تُنتَهكُ حُرُماتُه.
قال أحمد شوقي، وهو يذكُرُ بَعضَ أخلاقِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
وإذا غضِبتَ فإنَّما هي غَضبةٌ
في الحَقِّ لا ضِغنٌ ولا بغضاءُ
وإذا رَضيتَ فذاك في مَرضاتِه
ورِضا الكثيرِ تحلُّمٌ ورياءُ
وإليكم نَماذِجَ مِن غَضَبِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للهِ، وعِندَما تُنتَهكُ حُرُماتُه.
- عن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها قالت: ((دَخَل عليَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي البَيتِ قِرامٌ فيه صُوَرٌ، فتَلوَّنَ وجهُه، ثُمَّ تَناوَل السِّترَ فهَتَكه، وقالت: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مِن أشَدِّ النَّاسِ عَذابًا يومَ القيامةِ الذين يُصَوِّرونَ هذه الصُّورَ)) .
- عن أبي مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أتى رجلٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنِّي لَأَتَأَخَّرُ عن صَلَاةِ الغَدَاةِ مِن أجْلِ فُلَانٍ؛ ممَّا يُطِيلُ بنَا فِيهَا، قالَ: فما رَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَطُّ أشَدَّ غَضَبًا في مَوعِظةٍ منه يَومَئِذٍ! ثُمَّ قالَ: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ مِنكم مُنَفِّرينَ، فأيُّكم ما صَلَّى بالنَّاسِ فلْيُوجِزْ؛ فإنَّ فيهم الكَبيرَ والضَّعيفَ وذا الحاجةِ)) .
- وعن عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه قال: ((بَينا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي رَأى في قِبلةِ المَسجِدِ نُخامةً فحَكَّها بيدِه، فتَغَيَّظَ ثُمَّ قال: إنَّ أحَدَكم إذا كان في الصَّلاةِ فإنَّ اللهَ حِيالَ وجهِه، فلا يتَنَخَّمَنَّ حيالَ وَجهِه في الصَّلاةِ)) .
- وعن زَيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ أنَّ رَجُلًا سَأل رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن اللُّقَطةِ، فقال: ((عَرِّفْها سَنةً، ثُمَّ اعرِفْ وِكاءَها وعِفاصَها ، ثمَّ استنفِقْ بها ، فإن جاءَ رَبُّها فأدِّها إليه. قال: يا رَسولَ اللهِ، فضالَّةُ الغَنَمِ ؟ قال: خُذْها؛ فإنَّما هي لك، أو لأخيك، أو للذِّئبِ. قال: يا رَسولَ اللهِ، فضالَّةُ الإبِلِ؟ قال: فغَضِبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى احمَرَّت وجنَتاه ، أو احمرَّ وجهُه! ثُمَّ قال: ما لك ولها، مَعَها حِذاؤُها ، وسِقاؤها ، حتَّى يلقاها رَبُّها)) .
- وعن زَيدِ بنِ ثابتٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: ((احتَجَر رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُجَيرةً مُخَصَّفةً ، أو حَصيرًا، فخَرَجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي فيها، فتَتَبَّعَ إليه رِجالٌ، وجاؤوا يُصَلُّونَ بصَلاتِه، ثُمَّ جاؤوا ليلةً فحَضَروا وأبطَأ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنهم، فلم يخرُجْ إليهم، فرَفعوا أصواتَهم، وحَصَبوا البابَ ، فخَرَجَ إليهم مُغضَبًا، فقال لهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما زال بكم صَنيعُكم حتَّى ظَنَنتُ أنَّه سَيُكتَبُ عليكم، فعليكم بالصَّلاةِ في بُيوتِكم؛ فإنَّ خَيرَ صَلاةِ المَرءِ في بَيتِه إلَّا الصَّلاةَ المَكتوبةَ)) .
- وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه قال: ((بينَما يَهوديٌّ يَعرِضُ سِلعَتَه أُعطِيَ بها شَيئًا كَرِهَه، فقال: لا والذي اصطَفى موسى على البَشَرِ، فسَمِعَه رَجُلٌ من الأنصارِ، فقامَ فلَطمَ وَجْهَه، وقال: تَقولُ: والذي اصطَفى موسى على البَشَرِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بينَ أظهُرِنا، فذَهَبَ إليه، فقال: أبا القاسِمِ، إنَّ لي ذِمَّةً وعَهدًا، فما بالُ فُلانٍ لَطمَ وَجهي؟ فقال: لمَ لَطَمْتَ وَجْهَه؟ فذَكرَه، فغَضِبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَتَّى رُئِيَ في وَجهِه، ثُمَّ قال: لا تُفَضِّلوا بينَ أنبياءِ اللهِ؛ فإنَّه يُنفَخُ في الصُّورِ، فيَصعَقُ مَن في السَّمَواتِ ومَن في الأرضِ إلَّا من شاءَ اللهُ، ثُمَّ يُنفَخُ فيه أُخرى، فأكونُ أوَّلَ من بُعِثَ، فإذا موسى آخِذٌ بالعَرْشِ، فلا أدري أحُوسِبَ بصَعقَتِه يَومَ الطُّورِ أم بُعِثَ قَبْلِي؟ ولا أقولُ: إنَّ أحَدًا أفضَلُ مِن يونُسَ بنِ مَتَّى عليه السَّلامُ)) .
- وعن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها أنَّها قالت: ((رَخَّصُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أمرٍ، فتَنَزَّهَ عنه ناسٌ مِن النَّاسِ! فبَلغَ ذلك النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فغَضِبَ حتَّى بان الغَضَبُ في وجهِه، ثُمَّ قال: ما بالُ أقوامٍ يرغَبونَ عَمَّا رُخِّصَ لي فيه؟! فواللهِ لأنا أعلمُهم باللهِ وأشَدُّهم له خَشيةً)) .
- وعن أبي قَتادةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه قال: ((رَجُلٌ أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: كيف تَصومُ؟ فغَضِبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا رَأى عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه غَضَبَه، قال: رَضينا باللهِ رَبًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمُحَمَّدٍ نَبيًّا، نَعوذُ باللهِ مِن غَضَبِ اللهِ وغَضَبِ رَسولِه! فجَعل عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه يُرَدِّدُ هذا الكلامَ حتَّى سَكنَ غَضَبُه)) .
- وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أشَدَّ حَياءً مِن العَذراءِ في خِدرِها، فإذا رَأى شَيئًا يكرَهُه عَرَفْناه في وَجهِه)) .
- وعن عَبدِ اللهِ قال: ((قَسَمُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَسمًا، فقال رَجُلٌ: إنَّها لقِسمةٌ ما أُريدَ بها وجهُ اللهِ! قال: فأتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسارَرتُه، فغَضِبَ مِن ذلك غَضَبًا شَديدًا، واحمَرَّ وجهُه حتَّى تَمَنَّيتُ أنِّي لم أذكُرْه له. قال: ثُمَّ قال: قد أوذِيَ موسى بأكثَرَ مِن هذا فصَبَر!)) .

ب- نَماذِجُ مِن أحوالِ الصَّحابةِ عِندَ الغَضَبِ.

عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه:
أنَّ ابنَ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (قَدِمَ عُيَينةُ بنُ حِصنِ بنِ حُذَيفةَ فَنَزَلَ علَى ابنِ أخِيهِ الحُرِّ بنِ قَيسٍ، وكانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدنِيهِم عُمَرُ، وكانَ القُرَّاءُ أصحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ ومُشَاوَرَتِه، كُهُولًا كانوا أو شُبَّانًا، فقال عُيَينةُ لابنِ أخيه: يا ابنَ أخِي، هل لكَ وجهٌ عِندَ هذا الأمِيرِ؟ فاستَأذِنْ لي عليه، قال: سَأَستَأذِنُ لك عليه، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فاستَأذَنَ الحُرُّ لعُيَينةَ، فأذِنَ له عُمَرُ، فلمَّا دخَلَ عليه قال: هيْ يا ابنَ الخَطَّابِ! فواللَّهِ ما تُعطِينَا الجَزلَ ولا تَحكُمُ بينَنا بالعَدلِ، فغَضِبَ عُمَرُ حتَّى هَمَّ أن يُوقِعَ به، فقالَ له الحُرُّ: يا أمِيرَ المُؤمِنينَ، إنَّ اللهَ تعالى قال لنَبِيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] ، وإنَّ هذا مِنَ الجَاهِلينَ، واللهِ ما جاوَزَها عُمَرُ حينَ تَلَاها عليه، وكان وقَّافًا عِندَ كِتَابِ اللَّهِ) .
مُعاويةُ رَضيَ اللهُ عنه:
(خَطَبُ مُعاويةُ يومًا، فقال له رَجُلٌ: كذَبتَ! فنَزَل مُغضَبًا فدَخَل مَنزِلَه، ثُمَّ خَرَجَ عليهم تَقطُرُ لحيتُه ماءً، فصَعِدَ المِنبَرَ، فقال: أيُّها النَّاسُ، إنَّ الغَضَبَ مِن الشَّيطانِ، وإنَّ الشَّيطانَ مِن النَّارِ، فإذا غَضِبَ أحَدُكم فليُطفِئْه بالماءِ، ثُمَّ أخَذَ في المَوضِعِ الذي بَلغَه مِن خُطبَتِه) .
عَبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنه:
سَبَّ رَجُلٌ ابنَ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، فلمَّا فرَغَ قال: يا عِكرِمةُ، هَل للرَّجُلِ حاجةٌ فنَقضيَها؟ فنَكَّسَ الرَّجُلُ رَأسَه واستَحى .
أبو الدَّرداءِ رَضيَ اللهُ عنه:
أسمَعُ رَجُلٌ أبا الدَّرداءِ رَضيَ اللهُ عنه كلامًا، فقال: يا هذا، لا تُغرِقَنَّ في سَبِّنا، ودَعْ للصُّلحِ مَوضِعًا؛ فإنَّا لا نُكافِئُ من عَصى اللهَ فينا بأكثَرَ مِن أن نُطيعَ اللهَ فيه !
أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه:
قال أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه لغُلامِه: (لمَ أرسَلتَ الشَّاةَ على عَلَفِ الفَرَسِ؟ قال: أرَدتُ أن أَغيظَك، قال: لأجمَعَنَّ مَعَ الغَيظِ أجرًا، أنتَ حُرٌّ لوَجهِ اللهِ تعالى!) .

ج- نَماذِجُ مِن حالِ السَّلَفِ عِندَ الغَضَبِ.


عليُّ بنُ الحُسَينِ:
عن عبدِ الرَّزَّاقِ يقولُ: جعَلَت جاريةٌ لعليِّ بنِ الحُسَينِ تسكُبُ عليه الماءَ يتهَيَّأُ للصَّلاةِ فسقَطَ الإبريقُ من يدِ الجاريةِ على وَجهِه فشَجَّه، فرفع عليُّ بنُ الحُسَينِ رأسَه إليها، فقالت الجاريةُ: إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ يقولُ: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ، فقال لها: قد كظَمْتُ غيظي. قالت: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، قال: قد عفا اللهُ عنكِ. قالت: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134] ، قال: فاذهَبي فأنتِ حُرَّةٌ .
عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ:
(غَضِبٌ يومًا عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ فقال له ابنُه عَبدُ المَلكِ رَحِمَهما اللهُ: أنتَ يا أميرَ المُؤمِنينَ مَعَ ما أعطاك اللهُ وفضَّلك به تَغضَبُ هذا الغَضَبَ؟! فقال له: أوَ ما تَغضَبُ يا عَبدَ المَلكِ؟! فقال عَبدُ المَلكِ: وما يُغني عنِّي سَعةُ جَوفي إذا لم أَردُدْ فيه؟!) .
(وأسمَعه رَجُلٌ كلامًا، فقال له: أرَدتَ أن يستَفِزَّني الشَّيطانُ بعِزِّ السُّلطانِ، فأنالَ مِنك اليومَ ما ينالُه مِنِّي غَدًا؟! ثُمَّ عَفا عنه) .
ودَخَل عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ المَسجِدَ ليلةً في الظُّلمةِ، فمَرَّ برَجُلٍ نائِمٍ، فعَثَرَ به، فرَفعَ رَأسَه وقال: أمجنونٌ أنتَ؟ فقال عُمَرُ: لا. فهمَّ به الحَرَسُ، فقال عُمَرُ: مَهْ ! إنما سألني أمجنونٌ؟ فقلتُ: لا !
المَهديُّ:
(قيل: غَضِبَ المَهديُّ على رَجُلٍ، فدَعا بالسِّياطِ، فلمَّا رَأى شَبيبٌ شِدَّةَ غَضَبِه، وإطراقَ النَّاسِ، فلم يتَكلَّموا بشَيءٍ، قال: يا أميرَ المُؤمِنينَ، لا تَغضَبَنَّ للهِ بأشَدَّ مِمَّا غَضِبَ لنَفسِه! فقال: خَلُّوا سَبيلَه) .
عَبدُ اللهِ بنُ عَونٍ:
(رُوِيَ عن القَعنَبيِّ قال: كان ابنُ عَونٍ لا يغضَبُ، فإذا أغضَبَه رَجُلٌ قال: بارَك اللهُ فيك) !
(وكان لابنِ عَونٍ ناقةٌ يغزو عليها، ويحُجُّ عليها، وكان بها مُعجَبًا، فأمَر غُلامًا له يستقي عليها، فجاء بها وقد ضرَبَها على وَجهِها، فسالت عينُها على خَدِّها! فقُلْنا: إن كان من ابنِ عونٍ شيءٌ فاليومَ! قال: فلم يلبَثْ أنْ نَزَل إلينا، فلمَّا نَظَر إلى النَّاقةِ قال: سُبحانَ اللَّهِ! أفلا غَيْرَ الوَجهِ بارَك اللَّهُ فيك؟! اخرُجْ عنِّي، اشهَدوا أنَّه حُرٌّ) .
الفُضَيلُ بنُ بَزوانَ:
- عن أبي رَزينٍ قال: (جاءَ رَجُلٌ إلى الفُضَيلِ بنِ بَزوانَ، فقال: إنَّ فُلانًا يقَعُ فيك. فقال: لأغيظَنَّ مَن أمَرَه، يغفِرُ اللَّهُ لي وله. قيلَ: مَن أمَرَه؟ قال: الشَّيطانُ) .

الدرر السنية