تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 21 إلى 38 من 38

الموضوع: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الهَدْي في القِرَانِ بينَ الحَجّ والعُمْرَة



    الحِكمةُ مِنَ التَّلبيةِ: التَّنبيهُ على إكْرامِ اللهِ تعالى لعِبادِه بأنَّ وُفودَهم على بَيتِه إنَّما كان باستِدعاءٍ مِنه وطلب
    القارِنُ هو مُتَمتِّعٌ مِنْ حيثُ اللُّغةُ ومِنْ حيثُ المعْنى لأنَّه حَظِيَ بإدْخالِ العُمرةِ في أعْمالِ الحجِّ حيثُ تَرفَّهَ باتِّحادِ المِيقاتِ والإحْرامِ والفِعلِ
    في الحديث اتِّباعُ الصّحابي عبدالله بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما سُنَّةَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم واقتِفاؤه أثَرَه في أفعالِه كافة
    عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عبداللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: خَرَجَ فِي الْفِتْنَةِ مُعْتَمِرًا، وقَالَ: إِنْ صُدِدْتُ عَنْ الْبَيْتِ، صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -، فَخَرَجَ فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وسَارَ حَتَّى إِذَا ظَهَرَ عَلَى الْبَيْدَاءِ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا جَاءَ الْبَيْتَ طَافَ بِهِ سَبْعًا، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، ورَأَى أَنَّهُ مُجْزِئٌ عَنْهُ، وَأَهْدَى.
    في هذا الحَديثِ يَروي نافعٌ، مَولى ابنِ عُمَرَ، أنَّ عبداللهِ بنَ عُمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- أرادَ الحَجَّ وذلك عامَ نُزولِ الحَجَّاجِ بابنِ الزُّبَيرِ في مكة، وكان ذلك عامَ اثنَيْنِ وسَبعينَ مِنَ الهِجرةِ، عِندَما نَزَلَ الحَجَّاجُ بنُ يوسُفَ الثَّقَفيُّ بأمْرٍ مِن عبدالملِكِ بنِ مَرْوانَ لمُحارَبةِ عبداللهِ بنِ الزُّبَيرِ، وعَزَمَ ابنُ عُمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- على الحَجِّ في ذلك العامِ، فخِيفَ عليه مِن أنْ يَصُدُّوه ويَمنَعوه عنِ البَيتِ، فتَلا قَولَه -تعالَى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21)، وأنَّه سيَفعَلُ كما فَعَلَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم .
    أوجَبَ حَجًّا وعُمرةً بظاهِرِ البَيْداءِ
    ثمّ أشهَدَهم أنَّه أوجَبَ عُمرةً في أوَّلِ الأمرِ، ثم أوجَبَ حَجًّا وعُمرةً بظاهِرِ «البَيْداءِ»، والبَيداءُ في اللُّغةِ: هي الصَّحراءُ التي لا شَيءَ فيها، والمَقصودُ بها هنا مَكانٌ فَوقَ عَلَمَيْ ذي الحُلَيفةِ إذا صُعِدَ مِنَ الوادي، وفي أوَّلِ البَيداءِ بِئرُ ماءٍ، ويَبعُدُ عن مَكَّةَ حَوالَيْ (420 كم)، وأهدَى هَديًا اشتَراه في الطَّريقِ مِن «قُدَيْدٍ»، وهو مَوضِعُ ماءٍ قَريبٍ مِنَ الجُحْفةِ، بَينَ مَكَّةَ والمَدينةِ، وهو مِنَ الحِلِّ وليس مِنَ الحَرمِ، وإنْ كان داخِلَ الميقاتِ، ويَبعُدُ عن مَكَّةَ المُكرَّمةِ (150 كم)، ويَقَعُ إلى الشَّمالِ الشَّرقيِّ منها. ولم يَنحَرْ، ولم يَحِلَّ مِن شَيءٍ حَرُمَ منه، ولم يَحلِقْ، ولم يُقَصِّرْ، إلى أنْ جاء يَومُ النَّحرِ، وهو يَومُ العاشرِ مِن ذي الحِجَّةِ، فنَحَرَ وحَلَقَ، ورَأى أنَّه قد قَضى طَوافَ الحَجِّ والعُمرةِ بطَوافِه الأوَّلِ، فالقارِنُ يَقتصِرُ على أفعالِ الحَجِّ، وتَندرِجُ أفعالُ العُمرةِ كُلُّها في أفعالِ الحَجِّ، ولا يَحِلُّ القارِنُ إلَّا يَومَ النَّحرِ بعد ذبح الهدي.
    فوائد الحديث
    الخُروجُ إلى النُّسُكِ في الطَّريقِ المَظنونِ خَوفُها، إذا غلبَ على ظنّه السَّلامةَ فيها.
    وفيه: اتِّباعُ الصّحابي ابنِ عُمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- سُنَّةَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، واقتِفاؤه أثَرَه في أفعالِه.
    باب: الهَدْيُ في المُتْعة
    عَنْ سَالِمِ بْنِ عبداللَّهِ: أَنَّ عبداللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، ومَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ ولْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ ولْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ»، وطَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ، ومَشَى أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ رَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ، فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا والْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ. وفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، مَنْ أَهْدَى وسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ النَّاسِ.
    هَدْيِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوداعِ
    يَحكي سالم عن أبيه عبداللهِ بنُ عُمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- جانباً مِنْ هَدْيِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوداعِ، وكانت في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهجرةِ، فبيَّنَ أنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - تَمتَّع في حَجَّةِ الوَداعِ بالعُمرةِ إلى الحَجِّ، ومَعلومٌ أنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - إنّما حجَّ قارنًا، بأنْ جَمَعَ بيْن الحجِّ والعُمرةِ بإحْرامٍ واحدٍ، وعليه فالتَّمتُّعُ المقصودُ هنا: مَحمولٌ على التَّمتُّعِ اللُّغويِّ، والمعْنى: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أحرَمَ أوَّلًا بالحجِّ مُفرِداً، ثمَّ أحْرَمَ بالعُمرةِ، فصار قارِنًا في آخِرِ أمْرِه، والقارِنُ هو مُتَمتِّعٌ مِنْ حيثُ اللُّغةُ، ومِنْ حيثُ المعْنى، لأنَّه حَظِيَ بإدْخالِ العُمرةِ في أعْمالِ الحجِّ؛ حيثُ تَرفَّهَ باتِّحادِ المِيقاتِ والإحْرامِ والفِعلِ.
    المُراد بالتَّمتُّعِ هنا القِرانُ
    وممَّا يدُلُّ على أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا، وأنَّ المُرادَ بالتَّمتُّعِ هنا القِرانُ: قولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ: «مَن كانَ مِنكُم أهْدَى، فإنَّه لا يَحِلُّ لِشَيءٍ حَرُمَ منه حتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ»، والنّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان ممَّن أهْدى إلى الحرَمِ. قولُ ابنِ عمَرَ: «وبَدَأَ رَسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فأهَلَّ بالعُمْرَةِ، ثُمَّ أهَلَّ بالحَجِّ» مَحمولٌ على التَّلبيةِ في أثناءِ الإحْرامِ، كما جاء في حَديثِ أنسٍ عندَ مُسلِمٍ: سَمِعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «لَبَّيك بعُمرةٍ وحَجٍّ»، وليس المرادُ أنَّه أحرَمَ في أوَّلِ أمْرِه بعُمرةٍ، ثمَّ أحْرَمَ بحَجٍّ.
    قولُه: «فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم »
    قولُه: «فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ»، أي: في آخِرِ الأمرِ، فكَثيرٌ منْهم أو أكثَرُهم أحْرَمُوا بالحجِّ أوَّلًا مُفرَداً، ثمَّ فَسَخوه إلى العُمرةِ آخِراً، فَصاروا مُتمتِّعين، وهمُ الذين لمْ يَسُوقوا معهم الهَدْيَ، فلمَّا دَخَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ قال للنَّاسِ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ،...» أي: مَنْ كان مِنْكم ساقَ الهَدْيَ معه، فإنَّه لا يَحِلُّ لِشَيءٍ حَرُمَ منه منَ مَحظوراتِ الإحْرامِ، فيَبْقى على إحْرامِه حتَّى يَقضيَ حَجَّه، وذلك لقولِه -تعالى-: {وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (البقرة: 196).
    قوله: «ومَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى...»
    أي: ومَن لم يكُن منكم قدْ ساق الهَدْيَ فَليَطُفْ بالبَيتِ طَوافَ العُمرةِ، وبالصَّفا والمروةِ، وليُقصِّرْ مِن شَعرِ رَأسِه، فيَصيرُ بذلك حَلالًا، فيَحِلُّ له فِعلُ كلِّ ما كان محظورًا عليه في الإحرامِ، مِن الطِّيبِ واللِّباسِ، والنِّساءِ والصَّيدِ، وغيرِ ذلك. قوله: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ..» وجَّهَ - صلى الله عليه وسلم - الصحابة للتَّقصيرِ دونَ الحلْقِ، مع أنَّ الحلْقَ أفضَلُ، وذلك لِيَبْقى له شَعرٌ يَحلِقُه في الحجِّ، وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: «ثمَّ ليُهِلَّ بالحجِّ» أي: يومَ التَّرويةِ، يومَ الثامنِ مِن ذي الحِجَّةِ، لا أنَّه يُهِلُّ عَقِبَ التَّحلُّلِ مِن العُمرةِ، ومَنْ لمْ يَجِدْ هَدْياً، أو لم يَجِدْ ثَمنَه، أو زادَ ثَمَنُه على ثَمَنِ المِثلِ، أو كان صاحبُه لا يُريدُ بَيعَه، فلْيَصُمْ ثَلاثةَ أيَّامٍ في الحَجِّ بعْدَ الإحرامِ به، وسَبْعةً إذا رَجَعَ إلى أهلِه بِبَلدِه أو بمَكانٍ تَوطَّنَ به.
    طواف النبي - صلى الله عليه وسلم - حَولَ الكَعبةِ
    قوله: «وطَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ..» يُخبِرُ ابنُ عمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طافَ حَولَ الكَعبةِ حِين قَدِمَ مَكَّةَ طَوافَ القُدومِ، واستَلَمَ الرُّكنَ أوَّلَ شَيءٍ، وهو الحجَرُ الأسودُ، والمرادُ باستلامِه: مَسْحُه وتَقبيلُه، أوَّلَ ما قَدِمَ قبْلَ أنْ يَبتدِئَ بشَيءٍ، وقوله: «ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ، ومَشَى أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ..» أي: رَمَلَ وأسرَعَ في ثَلاثةِ أطوافٍ، ومَشى أرْبَعةً، فيه: مشروعية الرمل في الأشواطِ الثلاثةِ الأولى في الطَّوافِ. ثمَّ صلَّى رَكعتَين حِين قَضى طَوافَه بالبَيتِ عِندَ مَقامِ إبراهيمَ، ثمَّ سلَّم منهما فانْصرَفَ، ثمَّ سَعى بيْن الصَّفا والمروةِ سَبْعةَ أشواطٍ، ويَبتدِئُ الشَّوطُ الأوَّلُ مِن الصَّفا ويَنْتهي بالمَروةِ، والشَّوطُ الثَّاني عكْسُ ذلك، مِن المَروةِ إلى الصَّفا، والشَّوطُ الثالثُ مِثلُ الأوَّلِ، وهكذا إلى أنْ يَتِمَّ السَّعيُ في الشَّوطِ السابعِ.
    قوله: «ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ»
    أي: ظَلَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُحرِمًا إلى أنْ أتمَّ حَجَّه، ونَحَرَ الهَدْيَ يومَ العيدِ، وطاف بالبيتِ طَوافَ الإفاضةِ، لأنَّه ساقَ الهَدْيَ معه، وإلَّا لَتحلَّلَ مِن العُمرةِ كما أمَرَ أصحابَه، وفَعَلَ مِثلَ ما فَعَلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كلُّ مَن ساقَ الهَدْيَ مِن النَّاسِ، فلم يَفسَخوا الحجَّ إلى العُمرةِ، فكان - صلى الله عليه وسلم - وبعضُ الناسِ قارنينَ، والفريقُ الآخرُ مُتمتِّعينَ.
    فوائد الحديث
    مَشروعيَّةُ الحجِّ قارِنًا أو مُتمتِّعًا.
    جواز إدْخالِ نِيَّةِ التَّمتُّعِ على مَن حَجَّ قارناً أو مُفرِدًا.
    طاعة الصّحابة للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على كلّ حال.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في إفْراد الحَجّ على العُمْرة



    المُحرِمَ قدْ يُخشَى أنْ يَمنعَه مانعٌ مِن إتمامِ الحجِّ، كالمرضِ أو العدو ونحوِه، فيُريدُ أنْ يتحلَّلَ مِنَ الحجِّ إذا حصَلَ له هذا المانعُ، دُونَ أنْ يَجِبَ عليه فِديةٌ أو قَضاءٌ
    النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم علَّمَ أمّته أُمُورَ الحجِّ والعُمرةِ وفَرائضَهما وسُننَهما وآدابَهما وقال في حَجَّةِ الوداعِ: «خُذوا عَنِّي مَناسِكَكم»
    ثبَتَ بروايةِ أربعةَ عَشَرَ من الصَّحابةِ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ مَن لم يَسُقِ الهدْيَ بفسْخِ الحجِّ وجعْلِه عُمرةً ومِن جُملتِهم عائشةُ رضي الله عنها
    عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ولَمْ يُهْدِ، فَلْيَحْلِلْ، وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وأَهْدَى، فلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ». قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: فَحِضْتُ فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَلَمْ أُهْلِلْ إِلَّا بِعُمْرَةٍ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِي وأَمْتَشِطَ، وأُهِلَّ بِحَجٍّ، وأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ. قَالَتْ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا قَضَيْتُ حَجَّتِي، بَعَثَ مَعِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مِنْ التَّنْعِيمِ، مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي أَدْرَكَنِي الْحَجُّ، وَلَمْ أَحْلِلْ مِنْهَا. رواه مسلم في الحج (2/870-871) باب: بيان وجوه الإحرام، ورواه البخاري في كتاب الحج (1560) باب: قول الله تعالى (الحج أشهر معلومات).
    تُخْبِرُ عائشةُ -رضي الله عنها- فتقول: «خرَجْنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حجَّةِ الوداعِ» وهي الحَجَّةُ التي حَجَّها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وسُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان كالمُوَدِّعِ لهم في خُطَبِ الحَجِّ، ولمْ يَلْبَثْ كَثيرًا بعدَها، وكانتْ في السَّنةِ العاشِرةِ من الهِجرةِ.
    قولها: «فمِنَّا مَن أهَلَّ بالحجِّ»
    أي: أحرَمَ ناويًا الحجَّ دونَ تحلُّلٍ بعُمرةٍ، «ومِنَّا مَن أهَلَّ بعُمرةٍ وأهْدى» أي: أحرَمَ ناويًا عُمرةً، وساقَ هَدْيَه ليذْبَحَه بعدَ إتمامِ عُمرتِه، ثمَّ يتحلَّلُ ويتمتَّعُ إلى الحجِّ، قالت عائشةُ -رضِيَ اللهُ عنها-: «فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَن أهَلَّ بعُمرةٍ ولم يُهْدِ، فليَحْلِلْ، ومَن أهَلَّ بعُمرةٍ فأهْدى، فلا يَحِلَّ» يعني: مَن أحرَمَ بالعُمرةِ ومعه الهدْيُ، فليُدْخِلِ الحجَّ في العُمرةِ، ليكونَ قارِنًا، «ومَن أهَلَّ بحَجَّةٍ، فلْيُتِمَّ حَجَّه». وقد ثبَتَ بروايةِ أربعةَ عَشَرَ من الصَّحابةِ: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ مَن لم يَسُقِ الهدْيَ بفسْخِ الحجِّ، وجعْلِه عُمرةً، ومِن جُملتِهم عائشةُ -رضي الله عنها-، فقد قالتْ في الحديثِ المُتَّفقِ عليه: «خرَجْنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا نَرى إلَّا الحجَّ، قالت: فلمَّا أنْ طاف بالبيتِ، وبين الصَّفا والمروةِ، قال: «مَن كان معه هَدْيٌ، فلْيُقِمْ على إحرامِه، ومَن لم يكنْ معه هَدْيٌ، فلْيَحْلِلْ».
    عُمرة عائشة -رضي الله عنها- كانت مِنَ التّنْعيم
    قالت عائشةُ -رضي الله عنها-: «وَلَمْ أُهْلِلْ إِلَّا بِعُمْرَةٍ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِي وأَمْتَشِطَ، وأُهِلَّ بِحَجٍّ، وأَتْرُكَ الْعُمْرَة»َ، فهذه الرواية صريحة في أن عائشة -رضي الله عنها- كانت قارنة، وأن طوافها وسعيها مرة واحدة، كفى عن الحج والعمرة معًا، وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لها: «يَسَعك طوافك لحجّك وعمرتك»، وكل ذلك صريح في أنّ عُمرتها مِنَ التّنْعيم، لمْ تكنْ لأنّها لمْ تعتمر مع حجها، وإنما كانت إرْضاءً لمشاعرها؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يرضي هواها، ويستجيب لمطالبها، لدلالها وصغارها وحبه لها ولأبيها. وجاء في رواية جابر - رضي الله عنه -: «وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً سهلاً- أي كريم الخلق حسن العشرة- إذا هَويت الشيءَ، تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن بن أبي بكر فأهلّت بعُمْرةٍ من التّنعيم».
    قوله: «هذه مكان عُمْرتك»
    أما قوله: «هذه مكان عُمْرتك» فمعناه كما قال النووي: «أنّها أرادت أنْ يكونَ لها عُمْرة منفردة عن الحج، كما حَصل لسائر أمهات المؤمنين، وغيرهن مِنَ الصّحابة، الذين فَسَخُوا الحج إلى العُمرة، وأتمّوا العُمرة، وتحلّلوا منها قبل يوم التروية، ثمّ أحرموا بالحجّ من مكة يوم التّروية، فحصل لهم عمرة منفردة، وحجّة منفردة، وأما عائشة فإنّما حصل لها عمرة مُنْدرجة في حجّةٍ بالقِران، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النفر: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» أي: وقد تما وحسبا لك جميعاً، فأبت، وأرادت عُمْرة منفردة، كما حصل لباقي الناس، فلما اعتمرت عمرة منفردة، قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هذه مكان عمرتك» أي: التي كنت تريدين حصولها منفردة، غير مندرجة، فمنعك الحيض من ذلك».
    فوائد الحديث
    بيانُ بعضِ الأمورِ في هَدْيِه في تِلك الحَجَّةِ.
    أنّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - علَّمَ أمّته أُمُورَ الحجِّ والعُمرةِ، وفَرائضَهما وسُننَهما وآدابَهما، وقال في حَجَّةِ الوداعِ: «خُذوا عَنِّي مَناسِكَكم».
    باب: الاشْتراط في الحجّ والعُمْرة
    عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَنَّ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي الله عنها- أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ، وإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، فَمَا تَأْمُرُنِي قَالَ: «أَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَاشْتَرِطِي: أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي». قَالَ: فَأَدْرَكَتْ، رواه مسلم في الحج (2/867) باب: جواز اشْتراط المحرم بعذر المرض ونحوه. تُخبِرُ عائِشةُ -رضي الله عنها- أنه لَمَّا دَخلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ضُبَاعةَ بنتِ الزُّبَيْرِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ بنتِ عَمِّ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - و-رضي الله عنها-، وسألَها - صلى الله عليه وسلم - عَن سببِ عدَمِ حَجِّها، فقال لها: «لعلَّكِ أردْتِ الحجَّ؟» يعني: أردتِ الخُروجَ للحَجِّ معنا، فإنَّا نحِبُّ أن تتوجَّهي معنا للحَجِّ، فذكَرَت لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّها تجِدُ نَفْسَها مَريضةً.
    «حُجِّي واشْتَرِطي»
    فقال لها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «حُجِّي واشْتَرِطي»، ثم بَيَّن لها - صلى الله عليه وسلم - ما تَقولُه في الاشتراطِ، فقال: «أَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَاشْتَرِطِي: أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي». وفي رواية: «قُولي: اللَّهمَّ مَحلِّي حيثُ حبستَنِي» ومعناه: أنِّي حيثُ عجزْتُ عَنِ الإتيانِ بِالمناسكِ، وانْحبسْتُ عنها بسَببِ قوَّةِ المرضِ تحلَّلتُ، ومَكانُ تحلُّلي عَنِ الإحْرامِ مكانُ حَبَستَنِي فيه عَنِ النُّسكِ بعلَّةِ المرضِ. والاشتراطُ في الحجِّ هو: أنْ يَنويَ المُحرِمُ الحجَّ، ويقولَ: اللَّهمَّ مَحلِّي حيثُ حَبْستَنِي، أي: إنِّي أكونُ حَلالًا حيثُ مَنعَني مانعٌ مِن إتمامِ الحجِّ والمناسكِ، وفائدتُه: أنَّ المُحرِمَ قدْ يُخشَى أنْ يَمنعَه مانعٌ مِن إتمامِ الحجِّ، كالمرضِ أو العدو ونحوِه، فيُريدُ أنْ يتحلَّلَ مِنَ الحجِّ إذا حصَلَ له هذا المانعُ، دُونَ أنْ يَجِبَ عليه فِديةٌ أو قَضاءٌ. وكانت ضُباعَةُ زَوجةَ المقدادِ بنِ الأسودِ رضِي اللهُ عنهما، وهو المِقدادُ بنُ عَمرِو بنِ ثَعلَبةَ بنِ مالكٍ الكِنديُّ، صاحِبُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحَدُ السَّابِقينَ الأوَّلين، ويقالُ له: المِقدادُ بنُ الأسوَدِ، لأنَّه رُبِّي في حَجرِ الأسوَدِ بنِ عَبدِ يَغُوثَ الزُّهريِّ، فتَبَنَّاه. وقد شَهِد بَدرًا والمشاهِدَ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان يومَ بَدرٍ فارساً، وعاش نحوًا من سبعين سنة، مات في سنةِ ثلاثٍ وثلاثين، وصلَّى عليه عُثمانُ بنُ عَفَّان، وقَبْرُه بالبقيعِ.
    فوائد الحديث
    أنَّ المُحْصَرَ يَحِلُّ حيثُ يُحبَسُ.
    وفيه: أنَّ النَّسبَ لا يُعتبَرُ في الكَفاءةِ، وإلَّا لَمَا جازَ لِلمقدادِ - رضي الله عنه - أنْ يَتزَّوجَ ضُباعةَ -رضي الله عنها-، لأنَّها فوقَه في النَّسبِ، فهي بِنتُ أشرافِ القَومِ، وهو كان حليفًا مُتبَنًّى.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي



  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: مَنْ أحْرَمَ وعليه جُبّةٌ وأثَر الخَلُوق



    القاضي إذا لمْ يتبيَّن له الحُكم فإنّه يُمْسك حتى يتبيَّن له كما أمْسَك النّبي صلى الله عليه وسلم عن الإجابة حتى نزول الوحي عليه
    السُّنةَ النّبويّة وَحيٌ مِنْ عند الله تعالى ينزلُ بها جبريل عليه السلام كما أنَّ القرآنَ وَحيٌ وقد تَرِدُ السّنّة بأحْكامٍ ليستْ في القرآنِ
    يَحرم على المُحْرم استعمالُ الطّيب ولبس المَخيط الذي على قَدْر البَدن أو جُزء منه
    عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ بِالْجِعْرَانَة ِ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَعَلَيْهَا خَلُوقٌ، أَوْ قَالَ: أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: كَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي؟ قَالَ: وأُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- الْوَحْيُ، فَسُتِرَ بِثَوْبٍ، وَكَانَ يَعْلَى يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي أَرَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، قَالَ فَقَالَ: أَيَسُرُّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ؟ قَالَ: فَرَفَعَ عُمَرُ طَرَفَ الثَّوْبِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ لَهُ غَطِيطٌ- قَال: وأَحْسَبُهُ قَالَ: كَغَطِيطِ الْبَكْرِ- قَالَ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ الْعُمْرَةِ؟ اغْسِلْ عَنْكَ أَثَرَ الصُّفْرَةِ، أَوْ قَالَ: أَثَرَ الْخَلُوقِ، واخْلَعْ عَنْكَ جُبَّتَكَ، واصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ؛ مَا أَنْتَ صَانِعٌ فِي حَجِّكَ». الحديث أخرجه مسلم في الحج (2/836) باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح وبيان تحريم الطيب. وأخرجه البخاري في (الحج) باب: غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب، حديث (1536) تعليقًا، ويَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ - رضي الله عنه - هو ابن أبي عبيدة التميمي، حليف قريش، صحابي مشهور.
    قوله: «وَهُوَ بِالْجِعْرَانَة ِ»
    قوله: «وَهُوَ بِالْجِعْرَانَة ِ» بكسر الجيم، قال النووي -رحمه الله-: «فيها لغتان مشهورتان: إحداهما إسْكان العين، وتخفيف الراء، والثانية كسر العين وتشديد الراء، والأولى أفصح، وبهما قال الشافعي وأكثر أهل اللغة. والجعرانة: موضع ماء بين الطائف ومكة المكرّمة، وهي إلى مكة أقرب، نزلها رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قسَم غنائم هوازن، مَرجعَه مِنْ غزاة حنين والطائف، وأحْرم منْها، وما زال الاسم معروفاً.
    قوله: «عَلَيْهِ جُبَّةٌ وَعَلَيْهَا خَلُوقٌ أَوْ قَالَ أَثَرُ صُفْرَةٍ»
    الجبّة: هي بضم الجيم وتشديد الباء مفتوحة، ثوب واسع الكمين، مفتوح من الأمام، يُلبس فوق الثياب. وأمّا الخَلُوق: بفتح الخاء، فهو نوعٌ مِنَ الطّيب يُركّب فيه زعفران، وقيل: أعظم أجزائه الزّعفران، والمراد بأثر الصُّفْرة: رائحة الزّعفران. وفي الرواية الأخرى: «متمضّخ بالخَلوق» أي: متلوِّث به، مُكثِر منه. فسَألَ الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما حُكْمُ رَجُلٍ أحرَمَ بِعُمرةٍ، وهو مُتلَطِّخٌ بالطِّيبِ في ثَوبِه وبَدَنِه؟ فسَكَت النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم- عن إجابتِه، ولمْ يُجِبْه فَوراً، فجاءَه الوَحيُ، وهنا أشارَ عُمَرُ - رضي الله عنه - بِيَدِه إلى يَعْلى - رضي الله عنه -؛ حتَّى يَرى كَيفيَّةَ نُزولِ الوَحيِ على رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-، فأدْخَلَ يَعْلَى - رضي الله عنه - رَأسَه داخِلَ الثَّوبِ، فإذا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- مُحمَرُّ الوجْهِ تَتردَّدُ أنفاسُه بِصَوتٍ مَسموعٍ.
    قوله: «فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ لَهُ غَطِيطٌ
    قوله: «فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ لَهُ غَطِيطٌ - قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ كَغَطِيطِ الْبَكْرِ» الغطيط: هو كصوت النائم الذي يُردِّده مع نفَسِه، و»الْبَكْرِ» بفتح الباء هو الفتي مِنَ الإبل، وفي الرواية الأخرى «محمّر الوَجه» والاحْمرار لشدّة الوحي وثقله؛ كما قال -تعالى-: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (المزمل: 5). قوله: «فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ» بضم السين وكسر الراء المشدّدة؛ أي: أُزِيلَ ما به، وكشِف عنه. وقوله: «اغْسِلْ عَنْكَ أَثَرَ الصُّفْرَةِ»، في الرواية الأخرى: «أما الطّيبُ الذي بك، فاغْسله ثلاث مرات» وهذا مِنَ المُبالغة في الإزالة، ويحتمل لأنّ الطيب كان كثيرًا، فيحتاج إلى تكرارٍ في إزالته، ويؤيده رواية «مُتمَضّخ» وهذه الرواية تدلّ على أنّ الطّيب الذي معه؛ كان بجسَده أيضاً؛ لأنه قال: «وأما الطّيبُ الذي ببدنه».
    قوله: «وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا أَنْتَ صَانِعٌ فِي حَجِّك»
    أي: مِنْ اجْتناب المَحْظُورات؛ لأنّ ظاهر الحديث يدلُّ على أنّه يَعرفُ أعمال الحَجّ ومَحظُوراته؛ لكنّه يسألُ عن العُمرة، فأرشده النّبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أنّ حُكمهما واحد مِنْ حيثُ المَحظورات، قال ابن العربي -رحمه الله-: « كأنّهم كانوا في الجاهلية يخلعون الثّياب، ويجتنبون الطّيب في الإحْرام إذا حجّوا، وكانوا يَتَساهلُون في ذلك في العُمْرة؛ فأخْبره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- أنَّ مَجْرَاهما واحد».
    من فوائد الحديث
    1- الحديث دليل على أنه يَحرم على المُحْرم استعمالُ الطّيب، ولبس المَخيط الذي على قَدْر البَدن أو جُزء منه. 2- وأنَّ مَحظُوراتِ الحَجِّ والعُمرةِ واحِدةٌ. 3- والنَّهيُ عن التَّطيُّبِ عِندَ الإحْرامِ هو بالنِّسبةِ إلى الثِّيابِ بكُلِّ ما يَبقى أثرُه لَوناً أو رائِحةً، أما التَّطيُّبُ في الجَسدِ، فلا مانع منه، فقد ثبَتَ في الصَّحيحَينِ: أنَّ عائشةَ -رَضيَ اللهُ عنها- طَيَّبَت رَسولَ اللهِ -[- عندَ إحرامِه، أيْ قَبلَه. 4- وفيه: المُبالَغةُ في الإنْقاءِ في غَسل الطِّيبِ للمُحرِمِ. 5- والحديث دليلٌ على أنّ مَنْ فَعلَ مَحظُوراً مِنْ مَحْظُورات الإحْرام، ناسياً أو جاهلًا، فإنه يجبُ عليه إزالتُه في الحال، ولا كفَّارة عليه. 6- وفيه: أنَّ السُّنةَ النّبويّة وَحيٌ مِنْ عند الله، كما أنَّ القرآنَ وَحيٌ، ينزلُ بها جبريل عليه كما ينزل بالقرآن، وقد تَرِدُ السّنّة بأحْكامٍ ليستْ في القرآنِ كما هو هنا. 7-الحديث فيه بيان شدّة ما يَجدُه النبي - صلى الله عليه وسلم- مِنَ الوحي عند نُزُوله. 8- فيه ما كان عليه الصَّحابةُ الكرامُ -رَضيَ اللهُ عنهم- يُحِبُّون أنْ يَعلَموا أحْوالَ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم. 9- وفيه دليل على أنّ القاضي والمُفْتي إذا لمْ يتبيَّن له الحُكم، فإنّه يُمْسك حتى يتبيَّن له، وهذا يُؤخذ منْ إمْسَاك النّبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإجابة حتى نزول الوحي عليه، وهكذا هو حال أهل العلم الرّبانيين، إذا لمْ يعلم أحدٌ منْهم الإجابة أمْسَك عن الجواب، أو قال: لا أعْلم، ولا يتكلّم بما لا يَعلم؛ حتى يراجع كُتُبه، أو يسألُ مَنْ هو أعلم منْه.
    {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيم}
    معنى الاسمين ودلالتهما في حق الله تعالى
    قال الإمام الشنقيطي -رحمه الله تعال في تفسير قوله تعالى-: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيم}: «الحكم في الاصطلاح: هو من يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها، فالله -جل وعلا- حكم لا يضع أمرا إلا في موضعه، ولا يوقعه إلا في موقعه، ولا يأمر إلا بما فيه الخير، ولا ينهى إلا عما فيه الشر، ولا يعذب إلا من يستحق العذاب وهو -جل وعلا- ذو الحكمة البالغة له الحجة والحكمة البالغة، وأصل الحكم في لغة العرب: معناه: المنع؛ نقول: حكمه، وأحكمه إذا منعه، هذا هو أصل الحكم، والعليم: صيغة مبالغة؛ لأن علم الله -جل وعلا- محيط بكل شيء، يعلم خطرات القلوب، وخائنات العيون، وما تخفي الصدور، حتى إن من إحاطة علمه -سبحانه- علمه بالعدم الذي سبق في علمه ألا يوجد، فهو عالم أن لو وجد كيف يكون، وأن اسم (الحكيم العليم) فيه أكبر مدعاة للعباد أن يطيعوه، ويتبعوا تشریعه؛ لأن حكمته -سبحانه- تقتضي ألا يأمرهم إلا بما فيه الخير، ولا ينهاهم إلا عما فيه الشر، ولا يضع أمرا إلا في موضعه، وبإحاطة علمه يعلمون أن ليس هنالك غلط في ذلك الفعل، أو أن ينكشف عن غير المراد، بل هو في غاية الإحاطة والإحكام، وإذا كان من يأمرك بحكم لا يخفى عليه شيء حكيم في غاية الإحكام لا يأمرك إلا بما فيه الخير، ولا ينهاك إلا عما فيه الشر، فإنه يحق عليك أن تطيع وتمتثل»، فاسم الحكيم يقتضي الإيمان بأن الله -عزوجل- حكيم في أحكامه وقضائه وقدره؛ فكما أنه حكيم في شرعه ودينه، فهو حكيم في قضائه وقدره. لذلك فإن مَن عرف اللهَ بعلمه وحكمته، أثمر ذلك في قلبه الرِّضا بحكم الله وقدَرِه في شرعه وكونه، فلا يعترض على أمره ونهيه ولا على قضائه وقدَرِه، وإنما يَرضى المؤمن العارِف بأسماء الله وصِفاته بحكم الله وقضائه؛ لأنَّه يعلم أنَّ تدبير الله له خيرٌ من تدبيره لنفسه، وأنَّه -تعالى- أعلم بمصلحته من نفسه، ولذا تراه يَرضى ويسلّم، بل إنَّه يرى أنَّ هذه الأحكام القدَريَّة الكونية أو الشرعية إنما هي رحمة وحكمة، وحينئذ لا تراه يعترض على شيء منها، بل لسان حاله: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي


  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ما يَجْتَنبُ المُحْرِمُ مِنَ الّلبَاس



    يحرم على المُحْرمين من الرجال لبس القُمُص والعمائم والبرانس والسراويل ونحوها
    من فوائد الحديث بيان يُسر الشريعةِ الإسلاميَّةِ ورفْعها للحَرجِ عنِ المُكلَّفينَ
    يحرم على النساء والرجال المحرمين لبس الثّياب التي مسّها الورس أو الزّعفران
    عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، ولَا الْعَمَائِمَ، ولَا السَّرَاوِيلَات ِ، ولَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ؛ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُم َا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، ولَا تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا؛ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ»، وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ: «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ، والْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ». يَعْنِي: المُحْرِمَ. في الباب حديثان، رواهما مسلم في أول كتاب الحج (2/834-835) باب: ما يباح للمُحرم بحجٍّ أو عُمرة، وما يُباح وبيان تحريم الطيب عليه.
    في الحديثِ الأول: يَذكُرُ عبداللهِ بنُ عمَرَ بنِ الخطَّابِ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ رجُلًا جاء إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسأَلُه عمَّا يَلبَسُ مِن الثِّيابِ في حالةِ الإحرامِ بالحجِّ أو العُمرةِ، فأجابَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذِكرِ ما يَحرُمُ لُبْسُه؛ وذلك لأنَّ المَمنوعَ مُنحصِرٌ، فأمْكَنَ التَّصريحُ به، وأمَّا المُباحُ فأكثَرُ مِن أنْ يَنحصِرَ، ولذا عَدَلَ عن ذِكرِه لذِكرِ المَحظورِ، وكأنَّه أراد أنْ يقولَ: اجتَنِبْ هذه الأشياءَ والْبَسْ ما سِواها.
    ما يلبس المُحْرم؟
    فالسؤال ورد بصيغة: ما يلبس المُحْرم؟ وورد جوابه من أفصح الخلق - صلى الله عليه وسلم -: لا يلبس القمص إلخ الحديث. قال الحافظ في الفتح: قال النووي: قال العلماء: هذا الجواب منْ بديع الكلام وجَزله، لأنّ ما لا يلبس مُنْحصر، فحصر التصريح به، وأمّا الملبُوس الجائز؛ فغير مُنْحصر، فقال: لا يلبس كذا، أي: ويلبس ما سواه. انتهى. ثم قال الحافظ: وقال البيضاوي: وفيه إشارة إلى أن حقّ السؤال أنْ يكون عمّا لا يلبس، لأنّه الحُكمُ العارض في الإحْرام المحتاج لبيانه؛ إذْ الجواز ثابتُ الأصل بالاستصحاب، فكان الأليق بالسؤال عمّا لا يلبس. وقال غيره: هذا يشبه أسْلوب الحَكيم، ويقربُ منه قوله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْ نِ وَالْأَقْرَبِين َ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} الآية، (البقرة: 215). فعَدلَ عن جِنس المُنْفق، وهو المَسؤول عنه إلى ذكر المنفق عليه؛ لأنّه أهم. انتهى.

    المحظورات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم
    فذَكَرَ - صلى الله عليه وسلم - المَحظُوراتِ فقال: «لا تَلْبَسُوا القمصَ» وهو الثَّوبُ المُفصَّلُ على الجسمِ ذُو الأكمامِ، ويُلبَسُ مِنْ أعْلى، فيَدخُلُ في الذِّراعينِ ويُغطِّي الجسَدَ والعَورةَ. «ولَا السَّرَاوِيلَات ِ» جمْعُ سِروالٍ، وهو لِباسٌ يُغطِّي ما بيْن السُّرَّةِ والرُّكبتينِ غالبًا، ويُحيطُ بكلٍّ مِن الرِّجلينِ على حِدَةٍ، ويُلبَسُ مِن الأسفلِ، فيَدخُلُ مِن القدَمَينِ ويُغطِّي العورةَ وأعْلاها قَليلًا. «ولَا العَمَائِمَ» جمْعُ عِمامةٍ، وهي ما يُلَفُّ على الرَّأسِ. «ولَا البَرَانِسَ» جمْعُ بُرْنُسٍ، وهو الثَّوبُ الشاملُ للرَّأسِ والبدَنِ، فهو كلُّ ثَوبٍ رَأْسُه منه مُلتصِقٌ به. قوله: «إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ؛ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُم َا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ» أي: ولا يَلبَسُ المُحرِمُ أيضاً الخُفَّين، وهو ما يُلبَسُ على القدَمِ ساتراً لها، ويُصنَعُ مِن الجِلدِ، بخِلافِ النَّعلِ، فهو غيرُ ساترٍ للقَدَمِ، فلا يُغطِّي ظَهْرَ القدَمِ تَماماً، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إلَّا أنْ يَكونَ أحَدٌ ليسَتْ له نَعْلانِ، فلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، ولْيَقْطَعْ أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَينِ» فإذا أراد لُبْسَ الخُفَّينِ -لفَقْدِه النَّعلينِ- فلْيَقطَعِ الخُفَّينِ حتى يَكونَا أنْزَلَ مِن الكَعْبَين؛ ليَقرَبا بذلك مِن مُشابَهةِ النَّعلينِ، والكَعْبانِ هما العَظْمانِ الناتئانِ عندَ مَفصِلِ الساقِ والقدَمِ، وهذه الأمورُ المذكورةُ مَحظورةٌ بالنِّسبةِ للرِّجالِ دُونَ النِّساءِ.
    ما تشترك فيه المرأة مع الرجال
    قال الحافظ في الفتح: أجْمعوا على أنّ المُراد به هنا الرجل، ولا يلتحق به المرأة في ذلك، قال ابن المنذر: أجْمعوا على أنّ للمَرأة لبس جميع ما ذُكر، وإنّما تشترك مع الرجال في مَنْع الثوب الذي مسّه الزّعْفران أو الورس اهـ، ثم قال الحافظ: وقال عياض: أجمعَ المسلمون على ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم، وأنه نبّه بالقميص والسّراويل على كلّ مُحيط، وبالعَمائم والبَرانس على كلّ ما يُغطّى الرأس به مَخيطًا أو غيره، وبالخفاف على كل ما يستر الرجل انتهى. هذا: ولو حَمَلَ شيئًا على رأسه لحاجته؛ لا لتغطيته فإنّه لا يضر، وكذلك لو انغمس في الماء، أو وضع يده على رأسه، فإنه لا يسمى لابسًا في شيء من ذلك وليس للمرأة ثياب مُعينة للإحْرام، بل تلبسُ ما شاءت مِنَ الّلباس، ما دام لا يصف ولا يشف، غير أنّه لا يجوز لها أنْ تنتقب، ولا أنْ تلبس القفازين. ثمَّ قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولَا تَلْبَسُوا شيئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ ولَا الوَرْسُ» والزَّعفرانُ: نَباتٌ طَيِّبُ الرائحةِ يُستعمَلُ طِيبًا في الزَّمنِ السابقِ، ويُصبَغُ به. والورْسُ: نَباتٌ أصفَرُ طَيِّبُ الرائحةِ يَحتوي على مادَّةٍ يُصبَغُ بها الثِّيابُ. وهذا النَّهيُ شاملٌ للرِّجالِ والنِّساءِ.
    النهي عن لبس النقاب والقفازين
    ثمَّ قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ، ولَا تَلْبَسِ القُفَّازَيْنِ» والنِّقَابُ: هو الخِمارُ الَّذي يُسْدَلُ على الوَجْهِ أو تَحتَ مَحاجِرِ العَينِ، فتَسْتُرَ به المرأةُ وَجْهَها، وتَفتَحَ لِعَيْنَيها بقَدْرِ ما تَنظُرُ منه. والقُفَّازُ: هو شَيءٌ تَلبَسُه النِّساءُ في أيديهِنَّ يُغطِّي الأصابعَ والكَفَّ والسَّاعدَ والمرادُ نَهْيُها عَن لُبْسِ النِّقابِ والقُفَّازِ، وأمَّا غيرُ النِّقابِ والقُفَّازِ مِمَّا يَسْتُرُ الوَجهَ واليدَينِ، مِن الخِمارِ ونَحوِه، فلِلمرأةِ أنْ تَستُرَ وجْهَها ويدَيْها به عِندَ حَضرةِ الرِّجالِ الأجانبِ أو مُحاذاتِهم؛ فقدْ رَوى الحاكمُ في مُستدرَكِه عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ -رَضيَ اللهُ عنها-: أنَّها كانتْ تُغطِّي وجْهَها في الإحرامِ، وقد جاء النَّصُّ بالنَّهيِ عن النِّقابِ والقُفَّازِ خاصَّةً، وليس عن تَغطيةِ الوجْهِ واليدَينِ.
    فوائد الحديث
    بيَّنَ اللهُ -عزَّوجلَّ- في كتابه، ورَسولُه - صلى الله عليه وسلم - في حديثه، ما يَحِلُّ للمُحرِمِ فِعلُه، وما يَحرُمُ عليه، ونَقَلَ ذلك الصَّحابةُ الكرامُ -رَضيَ اللهُ عنهم أجمعينَ- ذلك للأمة.
    تحريم لبس القُمُص والعمائم والبرانس والسراويل ونحوها للمُحْرم من الرجال.
    تحريم لبس الأحْذية التي تُغطّي موضع الوضوء مِن الرِّجل، على المحرم من الرجال.
    تحريم لبس الثّياب التي مسّها الورس أو الزّعفران على المُحْرم من الرجال أو النساء.
    تحريم التطيّب لمَنْ كان مُحْرماً.
    إجابةُ السَّائِلِ بأكثرَ مِن سُؤالِه؛ إتمامًا للفائِدةِ.
    الحديث الثاني
    عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ: «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ، والْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ». يَعْنِي: المُحْرِمَ، في هذا الحَديثِ يُخبِرُ عبداللهِ بنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّه سَمِعَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - يَخطُبُ وذلك في عَرَفاتٍ في حَجَّةِ الوداعِ في العامِ العاشرِ مِن الهِجرةِ، يقول: «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ» والإزارُ هو قِطعةُ القُماشِ تُشَدُ على الوَسطِ، يُستَرُ بها ما بيْن السُّرَّةِ والرُّكبةِ، والسَّراويلُ: هي لِباسٌ مَخيطٌ يُغطِّي ما بيْن السُّرَّةِ والرُّكبتينِ غالبا. قوله: «والْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ» وفي اللفظ الأخر: «مَن لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ» والنَّعْلُ: هي التي تُلبَسُ في الرِّجلِ عندَ المَشْيِ، وكلُّ ما وُقِيَت به القَدَمُ مِن الأرضِ، والغالِبُ فيهِ أنَّه لا يَستُرُ القَدَمَ، والخُفُّ: هو ما يُلبَسُ في الرِّجلِ مِن جِلدٍ رَقيقٍ، ويكونُ ساتِراً للكَعْبينِ فأكثَرَ، ويَلبَسُه المُحرِمُ بعْدَ أنْ يَقْطَعَ أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ -وهما العَظْمانِ الناتئانِ عندَ مَفصِلِ الساقِ والقدَمِ- كما جاء في رِوايةِ ابنِ عمَرَ في الصَّحيحَينِ، فأباحَ - صلى الله عليه وسلم - لُبْسَ السَّراويلِ لمَن لمْ يَجِدْ إزارًا يَلبَسُه. أمَّا إنْ وَجَدَ الإزارَ أو النَّعلَ، فليس له لُبْسُهما.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في الصَّيدِ للمُحْرم



    هناك أحكامٌ وآدابٌ يَجِبُ على المُحرِمِ الالتزامُ بها حتَّى تَتِمَّ عِبادتُه على الوجْهِ الأكمَلِ وَفْقَ مُرادِ اللهِ عزَّوجلَّ

    في جواز قبول الهدية يُسْتحبّ لمن امتنع مِنَ قبول هديةٍ ونحوها لعُذر أن يعتذر بذلك إلى المُهْدي تطييبًا لقلبه
    عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِمَاراً وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَال: فَلَمَّا أَنْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا فِي وَجْهِي؛ قَالَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» وعَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَدِمَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَذْكِرُهُ: كَيْفَ أَخْبَرْتَنِي عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ، أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ حَرَامٌ؟ قَالَ قَالَ: أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ، فَقَالَ: «إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ، إِنَّا حُرُمٌ»، الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/850) باب: تحْريم الصّيد للمُحْرم.
    الصَّعب بن جثَّامة هو ابن قيس بن ربيعة اللّيثي، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان جثامة حليف قريش، تزوج أخت أبي سفيان بن حرب، واسمها فاختة، وقيل: زينب. فولدت له الصعب، وكان الصعب ينزلُ الأبواء وودّان مِنَ الحِجاز. قوله: «أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِمَاراً وَحْشِيًّا»، وفي رواية: «منْ لحم حمار وحش»، وفي رواية «عَجْز حِمار وحشٍ يَقْطر دما»، وفي رواية: «شِقّ حمار وحش»، وفي رواية: «عُضْواً مِنْ لَحْم صيد» هذه روايات مسلم، وترجم له البخاري: باب إذا أهْدِي للمُحرم حِماراً وحشيا حيّاً لمْ يقبل، ثم رواه بإسناده، وقال في روايته: «حماراً وَحْشيَّاً»، وحُكي هذا التأويل أيضًا عن مالك وغيره، قال النّووي: وهو تأويلٌ باطل، وهذه الطُّرق التي ذكرها مسلم؛ صَريحة في أنه مذبوح، وأنّه إنّما أهدى بعضَ لَحْم صَيدٍ لا كله.
    تَحريم الاصْطياد على المُحْرم
    واتفقَ العُلماء على تَحريم الاصْطياد على المُحْرم، وقال الشافعي وآخرون: يَحْرُمُ عليك تملّك الصّيد بالبيع والهِبة ونحوهما، وفي مُلكه إيّاه بالإرث خلاف، وأما لحم الصيد: فإنْ صَاده أو صِيدَ له فهو حرام، سواء صيد له بإذنه أم بغير إذنه، فإنْ صَاده حلالٌ لنفسِه ولمْ يَقصد المُحرم، ثمّ أهدى منْ لَحمه للمُحْرم أو باعه لمْ يحرم عليه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وداود. (شرح النووي). قوله: «وهو: بالأبْواء أو بودّان» وهما مكانان بين مكة والمدينة، جَنوبَ غرْبِ المدينةِ، ويَبعُدانِ عنها نحْوُ (250 كيلومِترٍ تَقريبًا). قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا لمْ نرُدّه عليك إلا أنا حُرُم» أي: مُحْرمون، قال القاضي عياض: رواية المحدثين في هذا الحديث «لمْ نرُدّه» بفتح الدال. قال: وأنكره مُحققُو شيوخنا مِنْ أهل العربية، وقالوا: هذا غلط من الرواة، وصوابه: ضم الدال، قال: ووجدته بخط بعض الأشياخ بضم الدال، وهو الصّواب عندهم على مذهب سيبويه. قال أبو حنيفة: لا يَحْرُم عليه ما صِيدَ له؛ بغير إعانةٍ منه، وقالت طائفة: لا يحلّ له لَحمُ الصيد أصْلاً، سواءً صَاده، أو صَاده غيرُه له، أو لمْ يَقْصده، فيَحرُم مُطْلقًا، حكاه القاضي عياض عن عليّ وابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم-؛ لقوله تعالى: {وحُرّمَ عليكم صيد البَرّ ما دُمْتم حُرُما} (المائدة: ٦٩). قالوا: المُراد بالصيد: المَصِيد، ولظاهر حديث الصّعْب بن جثامة، فإنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - ردّه، وعلّل ردّه أنّه مُحْرم، ولمْ يقل: لأنّك صِدّته لنا. وكذا حديث زيد بن أرقم: «إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ، إِنَّا حُرُمٌ».
    احتجاج الشافعي وموافقوه
    واحتج الشافعي وموافقوه: بحديث أبي قتادة المذكور في صحيح مسلم بعد هذا، فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الصيد الذي صاده أبو قتادة - وهو حلال - قال للمُحْرمين: «هو حَلالٌ فكلوا». وفي الرّواية الأخرى قال: «فهل معكم منه شيء؟ قالوا: معنا رجله، فأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكلها». وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي: عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صيدُ البَرّ لكم حَلال، ما لمْ تَصِيدُوه، أو يُصَادُ لكم». قلت: وسنده حسن. قال أصْحابنا: يجبُ الجَمع بين هذه الأحاديث، وحديث جابر هذا صريحٌ في الفرق، وهو ظاهرٌ في الدّلالة للشافعي وموافقيه، وردٌ لما قاله أهل المذهبين الآخرين، ويُحمل حديث أبي قتادة على أنه لمْ يَقْصدهم باصْطياده، وحديث الصّعب أنّه قَصَدهم باصْطياده، وتُحْمل الآية الكريمة على الاصْطياد، وعلى لحمِ ما صِيدَ للمُحْرم؛ للأحاديث المَذْكورة المُبيّنة للمراد مِنَ الآية. وأما قولهم في حديث الصّعب: أنه - صلى الله عليه وسلم - عَلّلَ بأنه مُحْرم؛ فلا يمنع كونه صِيدَ له؛ لأنّه إنّما يَحْرُم الصيد على الإنسان؛ إذا صِيدَ له، بشَرط أنه مُحْرم، فبيّن الشّرط الذي يَحْرم به.
    قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنا لمْ نَردّه عليك إلا أنّا حُرُم»
    فيه: جواز قبول الهدية للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف الصّدقة. وفيه: أنه يُسْتحبّ لمن امتنع مِنَ قبول هديةٍ ونحوها لعُذر؛ أن يعتذر بذلك إلى المُهْدي، تطييبًا لقلبه. وقد علَّل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - له ذلك بقولِه: «أنَّا حُرُمٌ» وهو مِن جميلِ خُلُقِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّه لَمَّا رأى تَغيُّرَ وجْهِ الصَّعبِ بنِ جَثَّامةَ وحُزنَه مِن ردِّ هَديَّتِه، بيَّن له أنَّه لم يَرُدَّها لشَيءٍ؛ إلَّا لأنَّه مُحرِمٌ لا يَأكُلُ الصَّيدَ المذبوحَ مِن أجْلِه. ولا يُعارِضُ امتِناعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن قَبولِ الحِمارِ الوَحشيِّ مِن الصَّعبِ بنِ جَثَّامةَ؛ قَبولَه للأكْلِ مِن الحِمارِ الوحشيِّ الَّذي اصطادَه أبو قَتادةَ - رضي الله عنه -؛ لأنَّ الفرْقَ بيْن الحالتينِ أنَّ أبا قتادةَ - رضي الله عنه - لمْ يَصطَدِ الحِمارَ مِن أجْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بلِ اصطادَهُ مِن أجْلِ نفْسِه، ثمَّ أكَل معه أصحابُه وأكَلَ منه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، بخِلافِ الصَّعبِ بنِ جثَّامةَ الَّذي اصطادَ الحِمارَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فلذلك رفَضَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبولَه أو الأكْلَ منه؛ لأنَّ المُحرِمَ لا يَصطادُ حالَ إحرامِه، ولا يَأكُلُ مِن صَيدٍ اصطادَه مُحرِمٌ أو حَلالٌ له.
    فوائد الحديث
    هناك أحكامٌ وآدابٌ يَجِبُ على المُحرِمِ الالتزامُ بها؛ حتَّى تَتِمَّ عِبادتُه على الوجْهِ الأكمَلِ، وَفْقَ مُرادِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ومِن هذه الأحكامِ: تَحريمُ صَيدِ البرِّ حالَ الإحْرامِ؛ قال -تعالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (المائدة: 95). استحباب تَوضيحُ عُذرِ مَن امتنَع مِن قَبولِ هَديَّةٍ ونحوِها للمُهدِي؛ تطْييبًا لقلبِه. وفيه: حُسْنُ خُلقِه - صلى الله عليه وسلم - وطِيبِ مُعامَلتِه لأصْحابِه. وفيه: مَشروعيَّةُ أكْلِ لُحومِ الحُمُرِ الوَحشيَّةِ، وأنّ المُحرّم هو الحمار الأهلي. وفيه: بَيانُ ما يَجوزُ أكْلُه للمُحرِمِ مِن الصَّيدِ، وهو الذي صادَه الحلالُ، دونَ أنْ يُساعِدَه المُحرِمُ عليه بشَيءٍ.
    حقيقة المنهج السلفي
    المتأمل في تاريخ الدعوة الإسلامية يرى أن منهج الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين قام على تعظيم نصوص الوحيين القرآن والسنة، وكمال التسليم لهما، أما المخالفون لمنهجهم وطريقهم من أهل البدع والأهواء، فقد زلَّت أقدامهم، وضلت عقولهم في ذلك، فحرَّفوا، وغيَّروا، وبدَّلوا، وأوَّلوا، ووقعوا في الفتنة والزَّيغ والضلال، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وإن الحق والهدى والنجاة في متابعة ما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا على الهدى المستقيم؛ ولهذا جعلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الميزان الحق حين وقوع الفتن والافتراق في أُمته؛ وهذا المنهج ليس منهجًا قاصرًا عن مواكبة أحداث الحياة والعصر، وليس منهجًا ناقصًا يعتريه الخلل والخطأ، إنما هو منهج حياة شامل وكامل صلح به المسلمون الأوائل، ومكنوا به، وشموليته تعني دخول جميع مجالات الحياة البشرية في منهجه، من حياة الإنسان الخاصة، وإلى حياة الأمم والعالم، فمن شموليته دخول العقيدة والعبادة والأخلاق في منهجه، ودخول شؤون المعاملات والتجارات والاقتصاد والسياسة، ومجالات العلم والبحث والفكر والتربية، وشؤون الحكم والسلطان، والحرب والسلم وأحكام الأسرة المسلمة، وغير ذلك مما يتعلق بجميع شؤون الإنسان في الحياة كما قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (المائدة:3)، وقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام:162).

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ما يقتل المُحْرِم مِنَ الدّواب



    شَرَعَ الإسلامُ ما يَحفَظُ على المَرءِ حَياتَه وأمْوالَه من التَّلَفِ ومن ذلك أنَّه أجاز قتْلَ بعضِ الحَيواناتِ والطُّيورِ لِما تُسبِّبُه من أذًى وضَرَرٍ على النَّاسِ
    في الحديث دلالة على كمال التشريع الإسلامي حيث طلب القضاء على ذوي الفَساد والإفساد
    عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الحِلِّ وَالْحَرَمِ: الحَيَّةُ، وَالغُرَابُ الْأَبْقَعُ، والْفَأْرَةُ، والْكَلْبُ الْعَقُورُ، والْحُدَيَّا»، وعَنْ ابن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما-: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَمْسٌ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، والْغُرَابُ، والْحِدَأَةُ، والْكَلْبُ الْعَقُورُ». وقَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ: «فِي الْحُرُمِ والْإِحْرَامِ»، الحديث رواه مسلم في الحج (2/856) باب: ما يندي للمُحرم وغيره قتله من الدواب في الحلّ والحرم.
    في هذا الحَديثِ يقولُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «خَمسٌ فَواسِقُ» وسُمِّيَتْ فَواسِقَ لخُبْثِهِنَّ، وقيل: لخُروجِهِنَّ من الحُرمةِ في الحِلِّ والحَرَمِ، بمعنى: لا حُرْمةَ لها بحالٍ. وقيل: أرادَ بتَفْسيقِها تَحريمَ أَكْلِها، أو هي فَواسِقُ لخُروجِها على النَّاسِ، واعتِراضِها بالمَضَارِّ عليهم، وقيلَ: إنَّ تَسْميتَها فَواسِقَ، لخُروجِها عمَّا عليه سائرُ الحَيَوانِ، بما فيها مِن الضَّررِ الذي لا يُمكِنُ الاحترازُ منه.
    تسمية صحيحة جارية
    قال الحافظ: قال النووي وغيره: تسمية هذه الخمس فواسق، تسمية صحيحة جارية على وفق اللغة، فإنّ أصْل الفسق لغة: الخُرُوج، ومنه، فسقت الرطبة: إذا خرَجت عن قشرها، وقوله -تعالى-: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف: 50)، أي: خَرج، وسُمِّي الرجل فاسقًا لخُرُوجه عن طاعة ربّه، فهو خُروج مخْصُوص.
    قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»
    أي: يُقتَلْنَ أينَما وُجدن، حتى وإنْ كنَّ في الحَرَمِ، لأنَّ الأصْلَ هو النَّهيُ عن قَتلِ حَيَواناتِ الحَرَمِ أو صَيدِهِنَّ. والحَرَمُ: حَرَمُ مكة، وسُمِيَ بذلك لاحترامه وتعظيمه، وهو ما كان داخل الأميال التي تبعد عن الكعبة بنسب مختلفة: أطولها: 14 ميلاً من جهة بطن عرنة، وأقصرها: 3 أميال منْ جهة التّنعيم، والحِل: ما كان خارج حُدود الحَرم. قال الحافظ: «وعرف بذلك أنْ لا إثم في قتلها على المُحْرم، ولا في الحرم، ويؤخذ من جواز ذلك للحلال وفي الحل من باب الأولى، وقد وقع ذكر الحل صريحًا عند مسلم: من طريق معمر عن الزهري عن عروة بلفظ: «يقتلن في الحل والحرم»، ويعرف حكم الحلال بكونه لمْ يقم به مانع، فهو بالجواز أولى».
    قوله: «الحَيَّةُ»
    وهي الثُّعبانُ، «والفَأرةُ» وذلك لخُروجِها من جُحْرِها على النَّاسِ، وإفْسادِها لمَعايَشِهم، وأمْوالِهم، وزُروعِهم، وغيرِ ذلك.
    «والغُرابُ الأبقَعُ»
    وهو الذي فيه سَوادٌ وبَياضٌ؛ وذلك لأنَّ هذا الغُرابَ يتَّعدّى على النَّاسِ ويُؤذيهم، ويسرق طعامهم، أمَّا الغُرابُ الأسوَدُ فلا يُهاجِمُ فلا يَقتُلُ، قال الحافظ: «قال ابن قدامة: يلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء وتَحريم الأكل، وقد اتفق العلماء على إخْراج الغراب الصّغير الذي يأكل الحَبّ، ويقال له: غراب الزّرع، ويقال له: الزّاغ، وأفتوا بجواز أكله، فبقي ما عداه من الغربان مُلْتحقٌ بالأبقع».
    قوله: «والكَلبُ العَقورُ»
    أي: المُتّصف بالعَقر، وهو الذي يجرح بنابه أو ظفره، وهو الذي يَهجُمُ على النَّاسِ، وعلى الحَيَواناتِ ويعقرها، أي: يقتلها. «والحِدَأةُ» وهو طائر من الجوارح، يعيش على أكل الجيف وصغار الطيور، ويَخطَفُ صِغارَ الحيوانات وما يُشبِهُها، «والكلب العقور» قال مالك في الموطأ: كل ما عَقَر الناس، وعدا عليهم وأخافهم، مثل: الأسد والنمر والفهد والذئب، هو العقور. قال الحافظ: «وهو قول الجمهور، وقال بعض العلماء: أنواع الأذى مختلفة، وكأنه نبَّه بالعَقرب على ما يُشاركها في الأذى باللّسع، ونحوه من ذوات السموم، كالحيّة والزّنْبور، وبالفأرة على ما يشاركها في الأذى بالنقب والقَرض، كابن عرس، وبالغراب والحدأة، على ما يشاركها في الأذى بالاختطاف كالصقر، وبالكلب العقور على ما يشاركه في الأذَى بالعدوان والعقر كالأسد والفهد». «فتح الباري» (4/ 40).
    التَّنبيه على ما يضُرُّ بالأموالِ
    وقيلَ: قد ذكَرَ الحِدَأةَ والغُرابَ للتَّنبيهِ على ما يضُرُّ بالأموالِ مُجاهَرةً، وعلى ما أذاهُ بالاختِطافِ كالصَّقْرِ والبازِ، وذكَرَ الفأْرةَ للتَّنبيهِ على ما يضُرُّ بالأموالِ اختِفاءً، ونبَّهَ بالكَلبِ العَقورِ على كُلِّ عَادٍ بالعَقرِ والافتِراسِ بطَبْعِه، كالأسَدِ والفَهْدِ والنَّمِرِ، ونَبَّهَ بالحَيَّةِ والعَقْرَبِ على ما يُشارِكُهما في الأَذى باللَّسْعِ، وأيضاً: «الوزغ»: فعن عائشة -رضي الله عنها-: أنّ رسُول الله - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»- قال: «الوَزَع فُويْسق»، ولمْ أسْمَعه أمَر بقتله، رواه البخاري. قال الحافظ: «وقضية تَسْميته إيّاه فويسقًا، أنْ يكونَ قتله مباحًا، وكونها لمْ تَسمعه لا يدلّ على منع ذلك، فقد سَمَعه غيرها، انتهى، ونقل ابن عبدالبر: الاتفاق على جواز قتله في الحِلّ والحَرم، وروى ابن أبي شيبة: أنّ عطاء سئل عن قتل الوزغ في الحَرم، فقال: إذا آذاك فلا بأس بقتله، والله أعلم». (4/40). وقال في الاختيارات: «والقَمل والبعوض والقَرَد إن قرصه قتَله عقاباً، وإلا فلا يقتله، ولا يجوز قتل النّحل وهو يأخذ عسله، وإنْ لم يندفع ضرره إلا بقتله جاز». «الاختيارات الفقهية» (1/466).
    من فوائد الحديث
    شَرَعَ الإسلامُ ما يَحفَظُ على المَرءِ حَياتَه وأمْوالَه من التَّلَفِ، ومن ذلك أنَّه أجاز قتْلَ بعضِ الحَيواناتِ والطُّيورِ، لِما تُسبِّبُه من أذًى وضَرَرٍ على النَّاسِ.
    وفيه: مُحاربة الإسْلام للأذى والعدوان، حتّى في البهائم.
    كمال التشريع الإسلامي؛ حيث طلب القضاء على ذوي الفَساد والإفساد.
    ومنها: مشروعية قتل هذه الدَّوَابّ الخمسِ في الحِلِّ والحرم، للمُحل والمُحرم.
    جواز قتل كل ما شابهها في طَبْعها من الأذية والضّرر، وقيل: بجواز قتلها ولو كانت صغيرة، اعتباراً بمآلها.
    السنة وحي كالقرآن
    إن من أصول الدين طاعةَ رسول رب العالمين، والأخذَ بسُنَّتِهِ، وترك ما نهى عنه، وتصديق خبره، والإيمان بما جاء به، وألَّا نعبد الله إلا بما شرعه رسول الله - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»-، وهذا هو معنى شهادة أن محمدًا رسول الله، كما أن معنى شهادة لا إله إلا الله هو الإخلاص لله -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59)، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (النساء: 80). فاتباع السنة وطاعة الرسول - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»- هي الهداية والنجاة والسعادة، وهي الصراط المستقيم. قال الإمام مالك -رحمه الله-: «السُّنَّة سفينة نوح، من ركِبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرِق». {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24).
    التحذير الشديد والوعيد
    وقد جاء التحذير الشديد والوعيد الأكيد على ترك السنن، ومخالفة هَدْيِ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ قال الله -تعالى-: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63)، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153)، وقد قال رسول الله -[-: «من أطاعني، فقد أطاع الله، ومن عصاني، فقد عصى الله».
    السُّنَّة المأثورة الصحيحة
    ثم اعلم أن السُّنَّة المأثورة الصحيحة عن النبي - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»- هي وحي، كما أن القرآن وحي: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 4)؛ أي: القرآن، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44)، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44): أي: بالسُّنَّة، فالسُّنَّة تُبيِّن القرآن وتوضِّحه، وتُفصِّل أحكامه؛ وقد قال النبي - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»-: «ألَا إني أُوتيت الكتاب ومثله معه -أي السنة- ألَا يُوشِك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه»(2).
    السنة لا تعارض بشيء
    وهذه السُّنَّة المطهَّرة لا تُعارَض بشيء، لا تُعارَض بالآراء، ولا بأقوال الرجال، ولا تُعارَض بالأهواء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الحجرات:1)، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: «من ردَّ حديث النبي - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»-، فهو على شفا هَلَكَة».

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الحِجَامةُ للمُحْرِم




    الحِجامةُ وَسيلةٌ مِن الوَسائلِ الطِّبِّيةِ الَّتي تُستعمَلُ في استخراجِ الدَّمِ الفاسدِ مِن الجسمِ للتَّداوي وتعدّ الحجامة من الطب النبويّ
    في الحديث جواز الحجامة للمحرم ولا فدية عليه وأنّ خُروج الدم من المحرم لا يضر إحرامه ولا شيء عليه
    يشرع العِلاجِ للمُحرِمِ مِن كلِّ ما يعرَض له مِن عِلَّةٍ في جَسَدِه بما يُرْجى دفْعُ مَكروهِها عنه مِن الأدويةِ المُباحةِ
    عَنْ ابْنِ بُحَيْنَةَ -رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وهُوَ مُحْرِمٌ وَسَطَ رَأْسِهِ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/863) باب: جواز الحجامة للمُحرم، ورواه أيضا عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، ورواه البخاري بلفظ: «احْتَجَمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - وهو مُحْرِمٌ بلَحْيِ جَمَلٍ، في وسَطِ رَأْسِهِ».في هذا الحديثِ يُخبِرُ الصحابي عبداللهِ ابنُ بُحَينةَ - رضي الله عنه - وهو ابن مالك وبحينة هي أمّه. أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - قد احتَجَم وهو مُحْرم، أي: وهو مُتلبِّسٌ بالإحرامِ للحجِّ أو العُمرةِ، وكانت الحِجامةُ في وسَطِ رَأسِه -صلى الله عليه وسلم .
    وَسيلةٌ مِن الوَسائلِ الطِّبِّيةِ
    والحِجامةُ وَسيلةٌ مِن الوَسائلِ الطِّبِّيةِ الَّتي تُستعمَلُ في استخراجِ الدَّمِ الفاسدِ مِن الجسمِ للتَّداوي، وتعدّ الحجامة من الطب النبويّ، وتُستخدم لعلاج العديد من الأمراض والمشكلات الصحيّة، وذلك من خلال جذب كميّة من الدم باستخدام كاسات الهواء من المكان المصاب إلى الجلد، ثمّ يتم إخراج هذا الدم الفاسد إلى خارج الجسم، وبالتالي ينقطع عن الدورة الدمويّة فيخفّف بذلك من الألم والالتهاب الحاصل في المكان.
    الحِجَامة وسط الرّأس
    والحِجَامة وسط الرّأس: تعالج الصداع الكُلي في الرأس، وتتخلص من الشقيقة، وتقلل من الحساسيّة والتهابات الجيوب الأنفيّة، وتعالج أمراض العيون والتهاباتها، والتهابات الأذن الوسطى والداخليّة، وتحمي من اضطرابات المتعلقة بجهاز الدوران، وتنشط الذاكرة وتزيد من التركيز والنشاط، وتخلّص من الأمراض العقليّة والعصبيّة، وتعطي الهدوء والراحة للأعصاب، وتعالج مشكلات الأسنان، وتتخلص من التهابات العصب، وتحمي من ارتفاعات ضغط الدم، والشلل النصفي، والنزيف المهبلي، وتخلص من الضغوطات النفسيّة والتعب، والأرق، والإجهاد، وتحسن تدفق الدم عبر الدماغ، ومن ثم تزيد من التركيز والنشاط، وقد بيّن كثيرٌ من العلماء فضل الحِجامة وأماكنها، كالإمام ابن القيم في (زاد المعاد)، ولنا كتاب في الحجامة مطبوع.
    قولُه: «بلَحْيِ جَمَلٍ»
    هو مكانٌ على طَريقِ مكَّةَ، يَبعُدُ عن المدينةِ قُرابةَ سَبعةِ أميالٍ، أي: (12 كم) تقريبًا، وروى البخاري: عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: «أنَّ النّبيَّ -صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وهو مُحْرِمٌ، واحْتَجَمَ وهو صَائِمٌ»، فيُخبِرُ عبداللهِ بنُ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم - احتجَمَ وهو مُحْرِمٌ، واحتجَمَ أيضًا وهو صائمٌ. وظاهِرُ الحديثِ: أنَّه -صلى الله عليه وسلم - وقَعَ منه الأمرانِ المذكورانِ مُفترِقَينِ، وفي رِوايةِ البخاريِّ: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - احتَجَمَ وهو مُحرِمٌ في رَأسِه مِن شَقيقةٍ كانتْ به. والشقيقة نَوعٌ مِن صُداعٍ يَعرِضُ في مُقدَّمِ الرأسِ وإلى أحدِ جانبَيهِ، وكان احتجامُه -صلى الله عليه وسلم - وهو مُحرِمٌ. وورد الحثّ على الحجامة في أيام من الشهر أحاديث، منها: ما أخرجه أبو داود: من حديث أبي هريرة رفعه: «مَنْ احْتَجم لسَبْع عشرة، وتِسْع عشرة، وإحْدَى وعشرين، كان شفاءً مِنْ كلّ داء».
    فوائد الحديث
    جواز الحجامة للمحرم ولا فدية عليه، وأنّ خُروج الدم من المحرم لا يضر إحرامه ولا شيء عليه، ومثله جواز إجْراء الجراحة للمُحرّم ولا شيء عليه، ومَشروعيَّةُ العِلاجِ للمُحرِمِ مِن كلِّ ما يعرَض له مِن عِلَّةٍ في جَسَدِه، بما يُرْجى دفْعُ مَكروهِها عنه مِن الأدويةِ المُباحةِ.
    وكذا جواز قلع الضرس ونحوه للمحرم، ولا شيء عليه.
    وفيه: جواز التدواي للمحرم بما لا طيب فيه، ولا شيء عليه.
    أنّ اللهُ -عزَّ وجلَّ- قد بيَّنَ وكذا رَسولُه - صلى الله عليه وسلم - ما يَحِلُّ للمُحرِمِ فِعلُه، وما يَحرُمُ عليه، ونَقَلَ ذلك الصَّحابةُ الكرامُ -رضي الله عنهم- أجمعينَ.
    باب: مُدَاواةُ المُحْرِم عَيْنيه
    عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَلَلٍ، اشْتَكَى عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَيْنَيْهِ، فَلَمَّا كُنَّا بِالرَّوْحَاءِ اشْتَدَّ وَجَعُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ يَسْأَلُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنْ اضْمِدْهُمَا بِالصَّبِرِ، فَإِنَّ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الرَّجُلِ إِذَا اشْتَكَى عَيْنَيْهِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ؛ ضَمَّدَهُمَا بِالصَّبِرِ. الحديث أخرجه مسلم في الحج (2/863) باب: جواز مُداوة المُحرّم عينيه.
    في هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابِعيُّ نُبَيْهُ بنُ وَهْبٍ أنَّهم خَرَجوا مُحْرِمينَ بالحجِّ ومَعَهم أَبانُ بنُ عُثمانَ بنِ عفَّانَ - رضي الله عنه -، وكان أميرًا على الحجَّاجِ، فلمَّا وَصَلوا إلى مِنطقةِ مَللٍ، وهي إلى الغربِ مباشرةً من حَوضِ وادي العَقيقِ غربَ المدينةِ، وتَبعُدُ عنها قُرابةَ 50 كم في هذه المِنطَقةِ بدأَ عُمرُ بنُ عُبيدِ اللهِ في الشِّكايةِ مِن وَجعِ عَينَيْه. ثُمَّ لَمَّا وَصَلوا إلى مِنطَقةِ الرَّوْحاءِ، زادَ وجَعُ عَينَيْه ممَّا يَقتَضي المُداواةَ، والرَّوحاءُ: موضِعٌ بينَ الحرَمَينِ، على بُعدِ 80 كيلومتراً منَ المدينةِ، فأرسَلَ إلى أبانَ بنِ عُثمانَ يَسألُه عن حُكمِ التَّداوي في العَينِ للمُحرِمِ، فأرسَلَ إليه أَبانُ بنُ عُثمانَ بالإِجابةِ، وهي: أنَّ أباه عُثمانَ بنَ عفَّانَ - رضي الله عنه - رَوى عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ المُحرِمَ إذا اشْتَكى عَينَيْه ضَمَّدَهما، أي: شَدَّهما بالعِصابةِ معَ تَقْطيرِ الصَّبِرِ في العَينَينِ، والصَّبِرُ: عُصارةٌ جامدةٌ لشَجرٍ مُرٍّ، والمَقصودُ أنْ يَخلِطَ الصَّبِرَ بالماءِ، فيَقطُرَه في عَينَيْه، أو يَكتحِلَ بهِ، أو يَضعَه عَلى عَينيْه، والصَّبِرُ ليس بطِيبٍ، فلا يُمنَعُ منه المُحرِمُ.
    فوائد الحديث
    في الحديث جواز تَضميدُ العَينِ وغَيرِها بالصَّبِرِ ونحوِه للمُحْرِمِ، وقد اتفق العلماء على جواز تضميد العين وغيرها بالصّبر ونحوه ممّا ليس بطيب، ولا فدية في ذلك، فإنّ احتاج إلى ما فيه طيب جاز له فعله وعليه الفدية، واتفق العلماء على أنّ للمُحرم أنْ يكتحل بكحلٍ لا طيب فيه، إذا احتاج إليه ولا فدية عليه فيه، وأما الاكتحال للزّينة فمكروه عند الشافعي وآخرين، ومنعه جماعة منهم أحمد وإسحاق، وفي مذهب مالك قولان كالمذهبين، وفي إيجاب الفدية عندهم بذلك خلاف.
    الحَجُّ رُكنٌ مِن أَركانِ الإِسْلامِ، وهوَ عِبادةٌ لِمَنِ استَطاعَ إليها سَبيلًا، وقد حُظِرَ على المحرِمِ بعضُ المباحاتِ الَّتي كانتْ حَلالًا له قبلَ الإحْرامِ، وفي الحجِّ مَشقَّةٌ تَقتَضي التَّيسيرَ، ومِنَ التَّيسيرِ أنْ يُباحَ له المُداواةُ بالمُباحاتِ.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: غَسْلُ المُحْرم رأسَه


    الحديثُ واضح الدّلالة على جواز اغْتسال المُحرم وغَسله رأسه وإمْرار يده على شَعره ودَلْكه باليد منْ غير أنْ يتعمّد أنْ ينتف شعرًا
    الصّحابة كانوا يناظرون بعضهم بعضًا في الأحْكام وأنهم رضي الله عنهم يَختلِفونَ أحْيانًا في بَعضِ المَسائلِ لكنَّهمْ كانوا يَتعامَلونَ بآدابِ الخِلافِ التي علَّمَهم إيَّاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم
    عَنْ عبداللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ: عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ، فَقَالَ عبداللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، وقَالَ المِسْوَرُ: لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ يَسْتَتِرُ بِثَوْبٍ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عبداللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عبداللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْأَلُكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ - رضي الله عنه - يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ: اصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/864) باب: جواز غَسل المُحْرم بدنه ورَأسه. وأخرجه البخاري في جزاء الصيد (1840) باب: الاغتسال للمحرم، وعبدالله بن حُنين الهاشمي مولاهم، تابعي ثقة، قال الحافظ ابن حجر: المشهور أنّ حنينًا كان مولى للعباس، وهبه له النبي - صلى الله عليه وسلم - فأولاده موال له.
    يحكي عبداللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ مناظرة علمية جرت بين اثنين منْ صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد اخْتلفا بالأبْواء، أي: وهما في المكان المعروف بالأبواء، وهي مَنطقةٌ بيْن مكَّةَ والمدينةِ، تَقَعُ جَنوبَ غرْبِ المدينةِ، وتَبعُدُ عنها نحْوَ (250 كم) تَقريبًا، وبها قبْرُ أمِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أي: وهما نازلان فيه للاسْتراحة، حول حُكم اغْتسال المُحْرم، وغَسل رأسه، ودلك أصُول شَعْره، فعبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- يقول: هذا جائز، ولعلّه كان على علمٍ بذلك عن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عن طريق أبي أيوب الأنصاري، وكان يقول في مجالسه: أميِطوا عنكم الأذى، فإنّ الله لا يصنع بأذاكم شيئا. والمسْور بن مخرمة - رضي الله عنه - يقول: هذا غير جائز، فقد حرم على المحرم قلع شعره، والغُسْل ودَلْك الرأس، يُعرّض شعره للسقوط، فيقع في المُحرّم، وكأنه يقول ذلك اجتهادًا ورأيًا، وكانا في فَوجٍ من أفواج حجّ بيت الله، وهم مُحْرمُون، ويتوقف على الفتوى اغتسال كثير من الحجاج، فأرسل ابن عباس مولاه عبدالله بن حنين إلى أبي أيوب يسأله: هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل وهو مُحْرم؟ فلما وصلَ ابنُ حنين إلى أبي أيوب وجده على رأس بئر يغتسل، قال: «يغتسل بين القرنين» أي: بين قرني البئر، تثنية قَرْن، وهما الخَشبتان، أي العَمُودان اللذان يُنْصبان على رأس البئر، وتمدّ بينهما خشبة يعلق عليها البكرة، التي يجرّ عليها الحبل المُسْتقي به. أي: قد وقفَ بين قائمي البئر، وسَتَر نفسه عن الناس بثوب، فسلّم عليه، وقال له: أَنَا عبداللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عبداللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْأَلُكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْسِلُ رَأْسَهُ وهُوَ مُحْرِمٌ؟
    السؤال عن أصل الخلاف
    وكان الأصلُ أنْ يَسأل عن أصْل الخِلاف: وهو هل يغسلُ المُحْرمُ رأسه أو لا يَغْسل؟ لكنّه لما جاء فوجده يغتسل، أخذ الجواب، وأحبّ أنْ لا يرجع إلا بفائدة، فتصرّف في السّؤال بفِطْنته، فسأله عن كيفية الغسل، وخصّ الرأس بالسّؤال؛ لأنّها موضع الإشْكال في هذه المَسألة، لأنّها محلّ الشعر الذي يخشى سُقُوطه في أثناء الغُسل، بخلاف بقية البدن غالباً. فقال له: أسألك كيفَ كان رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَغسلُ رأسه؟ قال: «فوضَعَ أبو أيوب يدَه على الثّوب فطَأطأه» أي: أمْسكَ بالثوب المُسْتتر به، وأزاله مِنْ أعلاه حتّى يكشف عن رأسه ووجْهه، وقال لمَنْ يَصبّ عليه: اصبُبْ على رأسي، وأخَذَ يدلك شَعره بيديه، ومُساعده يصبّ عليه. وفي رواية: «جمع ثيابه إلى صَدره حتى نظرت إليه». وفي رواية: «حتى رأيتُ رأسَه ووجهه». ثم قال: «هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل وهو مُحْرم»، ورجع ابن حنين إلى مَن أرسله بالسؤال، فتقبل المِسْور الخبر راضياً مُسلّماً، وقال لابن عباس: «لا أماريك أبدًا» أي لا أجادلك، وأصل المراء استخراج ما عند الإنسان يقال: أمرى فلان فلانًا إذا استخرج ما عنده، وأطلق ذلك في المجادلة لأن كلاً مِنَ المُتجادلين يستخرج ما عند الآخر من الحُجّة. أي: لك الفضل ولك السبق في العلم، ومخالفك لا يغلبك، وأعاهدك ألا أجادلك بعد اليوم أبداً. رضي الله عن الصحابة أجمعين.
    فوائد الحديث
    الحديثُ واضح الدّلالة على جواز اغْتسال المُحرم، وغَسله رأسه، وإمْرار يده على شَعره، ودَلْكه باليد، منْ غير أنْ يتعمّد أنْ ينتف شعرًا، واستدل به القرطبي على وجُوب الدّلك في الغسل.
    قال: لأنّ الغُسل لو كان يتم دونه، لكان المُحْرم أحَقّ بأنْ يجوز له تركه، قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى ما فيه. اهـ (الفتح 4/57)، أي غاية ما فيه: أنّ أبا أيوب دلك، وأنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلك، وقد يكون من باب الاستحباب، فمن أين يُؤخذ الوجوب؟ قال النووي: واتفق العُلماء على جواز غَسل المُحْرم رأسه وجَسَده مِنَ الجنابة، بل هو واجبٌ عليه، وأمّا غسله تبرّداً، فمذهبنا ومذهب الجُمهور: جَوازه بلا كراهة. ويجوز عندنا: غسلُ رأسه بالسّدر والخطمي؛ بحيثُ لا ينتف شعراً، ولا فدية عليه ما لم ينتف شعراً، وقال أبو حنيفة ومالك: هو حرامٌ موجب للفدية. واستُدلّ به على أنّ تخليل اللّحية في الوضوء، باقٍ على اسْتحبابه، خلافًا لمن قال: يكره، كالمتولي من الشافعية، خشية انتتاف الشعر؛ لأنّ في الحديث: «ثم حَرّك رأسَه بيديه» ولا فَرْقَ بين شَعر الرأس وشَعر اللحية، إلا أنْ يقال: إنّ شَعر الرأس أصْلب، قال الحافظ: والتحقيق أنه خلاف الأولى، في حق بعض دون بعض.
    وفيه: مناظرة الصّحابة بعضهم بعضًا في الأحْكام، وأنهم -رضي الله عنهم- يَختلِفونَ أحْيانًا في بَعضِ المَسائلِ، لكنَّهمْ كانوا يَتعامَلونَ بآدابِ الخِلافِ التي علَّمَهم إيَّاها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم .
    ورجُوعهم إلى النُّصوص عند الاخْتلاف، وترك الاجْتهاد والقِياس عند وجُود النص.
    وقبولهم خبر الواحد، ولو كان تابعيًا، وأنّ قَبوله كان مَعلومًا مشْهورًا عند الصّحابة.
    وأنّ قولَ بعضهم ليس بحجّة على بعض، إلَّا بدَليلٍ يَجِبُ التَّسليمُ له، مِن كِتابٍ أو سُنَّةٍ، قال ابنُ عبدالبر: لو كان معنى الاقتداء في قوله - صلى الله عليه وسلم - «أصْحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهْتَديتم» يُراد به الفَتوى، لمّا احتاج ابن عباس إلى إقامة البيّنة على دعواه، بل كان يقول للمسور: أنا نجمٌ وأنت نجم، فبأيّنا اقتدَى مَن بَعدنا كفاه، ولكن معناه- كما قال المزني وغيره منْ أهل النظر- أنه في النّقل؛ لأنّ جميعهم عُدَول. انتهى. (الفتح 4/57) وقلت: والحديث فيه ضعف.
    وفيه الاعْتراف للفاضِل بفَضله.
    وإنْصاف الصّحابة بعضهم بعضاً.
    واسْتتار المُغتسل عند الغُسل.

    وجواز الاسْتعانة بالغير في الطّهارة.
    وجواز الكلام والسّلام حالة الطّهارة.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي


  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في الفِدْية على المُحْرم



    يسَّرَ الشَّرعُ الحنيفُ على النَّاسِ فيما يشُقُّ عليهم منْ الأحكامِ وبَيَّن لهم البدائِلَ الشَّرعيَّةَ لِمن لم يستَطِعْ فِعلَ ما أمَرَ اللهُ به
    المُحرِم إذا مات فإنَّه يَبقى في حَقِّه حُكمُ الإحْرامِ فلا يُحَنَّطُ بطيب ولا يُغَطَّى رَأْسُه ولا يُكَفَّنُ في ثَلاثةِ أثْوابٍ كغَيرِه
    عَنْ عبداللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ: قَعَدْتُ إِلَى كَعْبٍ - رضي الله عنه - وَهُوَ فِي المَسْجِدِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196). فَقَالَ كَعْبٌ -]-: نَزَلَتْ فِيَّ، كَانَ بِي أَذًى مِنْ رَأْسِي، فَحُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - والْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: «مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ مَا أَرَى، أَتَجِدُ شَاةً؟» فَقُلْتُ: لَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196). قَالَ: صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، نِصْفَ صَاعٍ طَعَاماً، لِكُلِّ مِسْكِينٍ. قَالَ: فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً. الحديث رواه مسلم في الحج (2/861) باب: جواز حلق الرأس للمُحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه، وبيان قدرها، ورواه البخاري في الحج (1814) باب: قول الله -تعالى-: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196). وفي التفسير (4517) فهو متفق عليه.
    في هذا الحَديثِ يروي التابعيُّ الثقة عبداللهِ بنُ مَعقِلٍ وهو ابن مقرن، أبو الوليد المزني الكوفي. لأبيه صحبة. وقد حدث عن أبيه، وعن عليّ، وابن مسعود، وكعب بن عجرة، وجماعة، وكَعْبِ بنِ عُجْرةَ هو الأنصاري السّالمي المدني، من أهل بيعة الرّضوان، له عدة أحاديث.
    معْنى قولِه -تعالى-:
    {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
    يقول عبداللهِ بنُ مَعقِلٍ أنَّه قَعَدَ إلى الصَّحابيِّ كعْبِ بنِ عُجْرةَ - رضي الله عنه - في مَسجدِ الكوفةِ، فسَألَه عن معْنى قولِه -تعالى-: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196)، فأجابه كَعْبُ بنُ عُجْرةَ - رضي الله عنه - بما وقَعَ له، فقالَ: حُمِلْتُ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والقَمْلُ يَتناثَرُ على وَجْهي»، وفي راوية لمسلم أنه كان بالحديبية، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رآه كذلك: «مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ مَا أَرَى» أي: ما كنتُ أظنّ أنّ المَشقَّةَ والتَّعبَ «قد بَلَغَ بك هذا» الَّذي رأيْتُ. أي: آذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يحلق رأسه، ليتخلّص مِنْ أذى القمل، ثمَّ سأله النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَجِدُ شَاةً؟» والشّاة هي الواحِدةُ مِنَ الضَّأنِ، وتُذبَحُ فِديةً نظيرَ ارتكابِ أمْرٍ مِنْ محظوراتِ الإحرامِ، وهو هنا: حَلْقُ الشَّعرِ لأجْلِ إزالةِ القَملِ عنه، فقال كعبٌ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: لا أجِدُها، أي: لا أملِكُها، ولا أملِكُ ثمنَها. فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «صُمْ ثَلاثةَ أيَّامٍ» أي: نظيرَ ما ستفعَلُه منْ حَلقِ شَعرِ رأسِك، وهذا بيانٌ لِقولِه -تعالى-: {ففدية مِنْ صِيَامٍ} أو أطْعِم ستَّةَ مَساكينَ، بياناً لِقولِه -تعالى-: {أَوْ صَدَقَةٍ} لكُلِّ مِسكينٍ نِصفُ صاعٍ مِن طَعامٍ. كما في رواية: «أو تصدّق بفَرَقٍ بين ستة مساكين» والفَرَق: ثلاثة آصُع، قال: «واحلِقْ رأسَك».
    مذهب الأئمّة الأربعة
    وورد عن ابن عباس في قوله: {ففدية منْ صِيامٍ أو صَدقةٍ أو نُسُك} قال: إذا كان «أو» فأيّه أخذتَ، أجْزأ عنك، قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد، وعكرمة، وعطاء، وطاووس، والحسن، وحميد الأعرج، وإبراهيم النخعي، والضحاك، نحو ذلك، قال ابن كثير: «وهو مذهب الأئمّة الأربعة وعامة العلماء، أنه يخير في هذا المقام، إنْ شاء صام، وإنْ شاء تصدّق بفَرَق، وهو ثلاثةُ آصُع، لكلّ مسكينٍ نصفُ صاع، وهو مُدّان، وإنْ شاء ذبح شاة، وتصدّق بها على الفقراء، أيُّ ذلك فعل، أجْزأه. ولمّا كان لفظ القُرآن في بيان الرُّخْصة جاء بالأسْهل فالأسهل: {ففديةٌ منْ صِيامٍ أو صَدقةٍ أو نُسُك}، ولمّا أمَر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كعب بن عجرة بذلك، أرْشده إلى الأفْضل، فالأفضل، فقال: انْسُك شاة، أو أطعم ستة مساكين، أو صم ثلاثة أيام؛ فكلٌّ حسن في مقامه. ولله الحمد والمنة. انتهى قَوله: «فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً» أخبَرَ كعبُ بنُ عُجرةَ - رضي الله عنه - مَنْ سأله أنَّ الآيةَ وإنْ كانت نزلت فيه خاصَّةً، فهي للمُسلمينَ عامَّةً، فالعَمَلُ بمقتضاها لكُلِّ النَّاسِ إلى يومِ القيامةِ، وهي قاعدة مهمة، نصّ الأصوليون والفقهاء عليها، وهي أن: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، وهذه القاعدة متفق عليها عند جماهير أهل العلم ولم يخالف فيها إلا القليل.
    فوائد الحديث
    1- يسَّرَ الشَّرعُ الحنيفُ على النَّاسِ فيما يشُقُّ عليهم منْ الأحكامِ، وبَيَّن لهم البدائِلَ الشَّرعيَّةَ لِمن لم يستَطِعْ فِعلَ ما أمَرَ اللهُ به. 2- مَشروعيَّةُ حَلقِ المُحرِمِ شَعْرَ رَأسِه لِأَذى القَملِ ونحوه مِن الأمراض. 3- وفيه: بيانُ حِرصِ التابعينَ على معرفةِ الأحكامِ، وبيانُ الصَّحابة لهم. 4- وفيه: جُلوسِ الصحابة -رضي الله عنهم- للناس للتدريس ولمُذاكَرةِ العِلمِ، وحرص التابعين على الأخذ عنهم.
    باب: في المُحْرم يموت ما يفعل
    عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: خَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَعِيرِهِ، فَوُقِصَ فَمَاتَ، فَقَالَ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا». الحديث رواه مسلم في الحج (2/865) باب: ما يُفعل بالمُحرم إذا مات. ورواه البخاري في الجنائز (1265، 1266، 1267). فهو متفق عليه. في هذا الحَديثِ يَروي عبدالله بنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ رَجُلًا كان يَقِفُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على جبلِ عرَفاتٍ في حجَّةِ الوَداعِ، وكان راكبًا دابَّتَه، فسقَطَ عنها، «فَوَقَصَ» وفي لفظ: «فَوَقَصَتْه» أي: كَسَرَتْ عُنُقَه، وفي لفظ: «فأَقْصَعَتْه» أي: فمات موتًا سريعًا، فأَمَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَغسِلوه بِماءٍ وسِدْرٍ، والمقصود بالسدر هو ورقُ شجرِ النَّبْقِ، وأوراقه تقوم مقام الصابون برائحة طيبة، ويوضع في ماء الغسل، ولكنْ لا يُستخدَمُ كطِيبٍ، وأن يُكَفِّنوه في ثَوبَينِ.
    ولا يُحَنِّط من الحنوط
    وهو كل ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم من مسك وذريرة وصندل وعنبر وكافور وغير ذلك. بوضعِ الطِّيبِ الَّذي يُخلطُ ويوضَعُ للمَيتِ، لأنَّه قد مات متلبِّسًا بالحجِّ، والحاجُّ لا يَتطيَّبُ، ولا يُخَمِّروا رَأْسَه، فلا يُغَطُّوه، لِأَنَّه مُحرِمٌ، وعلَّل ذلك بأنَّه يُبعَثُ يَومَ القيامةِ يُلَبِّي، وهي الحال التي مات عليها. قال النووي: في هذه الروايات دلالة بينة لمذهب الشافعي وأحمد وإسحق وموافقيهم، في أن المحرم إذا مات لا يجوز أن يلبس المخيط، ولا تخمر رأسه، ولا يمس طيباً وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وغيرهم: يفعل به ما يفعل بالحي وهذا الحديث راد عليهم. اهـ
    فوائد الحديث
    1- أنَّ المُحرِمَ إذا مات فإنَّه يَبقى في حَقِّه حُكمُ الإحْرامِ، فلا يُحَنَّطُ بطيب، ولا يُغَطَّى رَأْسُه، ولا يُكَفَّنُ في ثَلاثةِ أثْوابٍ كغَيرِه. 2- وفيه: الكَفَنُ في ثَوبَيْنِ لِلمُحْرِمِ، بدون إضافة. 3- وفيه: مَشروعيَّةُ تَكْفينِ المُحرِمِ في ثيابِ إحْرامِه، وأنّ التكفين في الثياب الملبوسة جائز، قال النووي: وهو مُجمعٌ عليه، وجواز الكفن في ثوبين، وأما الثلاثة أثواب الواردة في حديث عائشة فهي للاستحباب، وهو قول الجمهور، وأما الواحد الساتر لجميع البدن فلا بدّ منه بالاتفاق. 4- وأن التكفين واجب، وهو إجماع في حق المسلم، وكذلك غسله والصلاة عليه ودفنه. 5- وفيه: مَشروعيَّةُ استِعْمالِ السِّدْرِ في غُسْلِ المَيِّتِ. 6- قال ابن بطال: فيه أن من شرع في عمل طاعة، ثم حال بينه وبين إتمامه الموت، رُجيَ له أن يكتبه الله له في الآخرة من أهل ذلك العمل. 7- يومُ القِيامةِ يومُ الجَزاءِ على الأعْمالِ في هذه الدُّنيا، والجزاءُ يكونُ مِن جِنسِ العَملِ، فيَبعثُ اللهُ كلَّ إنسانٍ على ما ماتَ عليه مِن اعتقادٍ وعملٍ فيُجازِيه عليه. 8- قال النووي: وفيه دليل على استحباب دوام التلبية في الإحرام.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: المَبيتُ بِذِي طَوى والاغْتِسال قبلَ دُخُول مكة



    كان للنبيُّ صلى الله عليه وسلم عاداتٌ وسُننٌ في سَفَرِه منها أنّه يَنتظِرُ في أوَّلِ السَّفرِ في مَكانٍ قَريبٍ مِن المدينةِ ليَتجمَّعَ المسافِرون معه
    عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إِلَّا بَاتَ بِذِي طَوًى حَتَّى يُصْبِحَ، ويَغْتَسِلَ ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ نَهَاراً، ويَذْكُرُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ فَعَلَهُ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/919) باب: اسْتحباب المَبيت بذي طوى، عند إرادة دخول مكة، والاغتسال لدخولها، ودخولها نهارا. ورواه البخاري في الحج (3/1574) باب: دخول مكة نهاراً أو ليلا. يَروي نافع مولى ابن عمر: أنّ ابنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- كانَ لا يقدم مكة، إلا بَاتَ بِذِي طَوًى حَتَّى يُصْبِحَ» أي: يَنزِل بذي طُوًى، يقال بفتح الطاء وضمها وكسرها، والفتح أفصح وأشهر، ويصرف ولا يصرف. وهو اسمُ بِئرٍ أو مَوضِعٍ بِقُربِ مَكَّةَ، ينزل بها ويبيت حتَّى يُصبِحَ، فيُصلِّي الصُّبحَ حينَ يَقدَمُ مِن المدينةِ إلى مَكَّةَ، ويصلي بمَكانُ صَلاة النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو على أَكَمَةٍ غَليظةٍ، وهي مَوضِعٌ عَظيمٌ واسعٌ مُرتَفِعٌ على ما حَولَه أو تَلٌّ مِن حَجَرٍ.
    الأماكنَ التي صلَّى فيها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم
    ولم تكُنْ صَلاةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المَسجِد الَّذي بُنِيَ هُناكَ بعْدَ ذلك، ولكِن أسفَلَ مِن ذلِك المسجدِ، حَسبَما أشار ابنُ عمَرَ -رضي الله عنهما-، وقدْ روَى البُخاريُّ: عن عبداللهِ بنِ عمَرَ -رضي الله عنهما- تِسعةَ أحاديثَ تُحدِّدُ الأماكنَ التي صلَّى فيها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- في أسفارِه في الطَّريقِ بيْن المدينةِ ومَكَّةَ، منها هذا الحديثُ، وهذه المساجدَ لا يُعرَفُ اليومَ منها غيرُ مَسجدِ ذي الحُليفةِ، والمساجِدِ التي بالرَّوحاءِ. وقد ورَدَ عن عمَرَ بنِ الخطَّابِ - رضي الله عنه - أنَّه كان يَنْهى الناسَ عن قصْدِ التَّبرُّكِ بالمواضعِ والأماكنِ التي كان رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- يُصلِّي فيها، خَشيةً عليهم أنْ يَجعَلوا لها فَضْلًا في ذاتِها، وهذا النَّهيُ منه منِ بابِ سَدِّ الذَّرائعِ، أمَّا الأماكنُ التي نُصَّ على فضْلِ الصَّلاةِ فيها، كالحَرَمينِ، والأقْصى وقُباءٍ ونحْوِها، وكذلك قصْدُ المساجدِ عامَّةً بالصَّلاةِ، حتَّى التي وَرَدَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- صلَّى فيها، فلا تَدخُلُ تحْتَ هذا النَّهيِ.
    فوائد الحديث
    1- فيه استحباب الاغتسال لدخول مكة، وأنه يكون بذي طوى لمن كانت في طريقه، ويكون بقدر بعدها لمن لم تكن في طريقه. قال النووي: قال أصحابنا: وهذا الغسل سُنة، فإن عجز عنه تيمم. 2- قال: ومنْها: المَبيت بذي طَوى، وهو مُستحب لمن هو على طريقه، وهو موضعٌ معروف بقرب مكة. 3- ومنها: استحباب دخول مكة نهاراً، وهذا هو الصحيح الذي عليه الأكثرون من أصحابنا وغيرهم، أنّ دخولها نهاراً أفضل من الليل، وقال بعض أصحابنا وجماعة من السلف: الليل والنهار في ذلك سواء، ولا فضيلة لأحدهما على الآخر، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم- دخلها مُحرماً بعمرة الجعرانة ليلاً، ومن قال بالأول حمله على بيان الجواز، والله أعلم. انتهى 4- وفيه: ما كان عليه أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم- مِنْ تتبَّع هَدْيَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم- في كلِّ أحوالِه، وقد كان عبداللهِ بنُ عمَرَ من أشدِّهم اجتهاداً في تَحرِّي الأماكنِ التي صلَّى فيها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- في أسفارِه، فيُصلِّي فيها تَبرُّكًا وحُبًّا له - صلى الله عليه وسلم .
    باب: دُخُول مَكة والمدينة مِنْ طَرِيق والخُرُوج مِنْ طَرِيق
    عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ، وإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا، ويَخْرُجُ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى. الحديث رواه مسلم في الحج (2/918) باب: استحباب دُخُول مكّة مِنَ الثنيّة العليا، والخُروج منها من الثنيّة السّفلى، ودُخول بلده من طريق غير التي خرج منها. ورواه البخاري الحج (3/1575) باب: منْ أينَ يدخل مكة؟ في هذا الحديثِ يَرْوي عبداللهِ بنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- كانَ يَخرُجُ مِن المدينةِ إلى العُمرةِ أو الحَجِّ، مِن طَريقِ الشَّجرةِ الَّتي عِندَ مَسجدِ ذي الحُلَيْفةِ، ويَدخُلُ مِن طَريقِ المُعَرَّسِ، وهو بَطْحاءُ ذي الحُلَيْفةِ، وسُمِّيَ المُعَرَّسَ، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- كانَ إذا رَجَعَ إلى المدينةِ نَزَلَ فيه آخِرَ اللَّيلِ، فسُمِّيَ مُعَرَّساً مِن التَّعريسِ، وهُو النُّزولُ آخِرَ اللَّيلِ، وكان - صلى الله عليه وسلم- يَنزِلُ فيه ويُصلِّي فيه، ويَبيتُ فيه، ويقَعُ أسْفَل مِن مَسجِدِ ذي الحُلَيفةِ. وذو الحُليفةِ: قَريةٌ بيْنها وبيْن المدينةِ سِتَّةُ أميالٍ أو سبعَةٌ (10 كم)، وهي مِيقاتُ أهلِ المدينةِ ومَن مرَّ بها. ثمَّ يُخبِرُ عبداللهِ بنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا خَرجَ مُسافرًا إلى مَكَّةَ -لحَجٍّ أو عُمرةٍ- يُصلِّي في مَسجِد الشَّجرةِ بذي الحُلَيْفةِ، وإذا رَجَعَ مِن سَفرِه نَزَلَ آخِرَ اللَّيلِ في وَسطِ وادي ذي الحُلَيْفةِ، وصلَّى فيه، وباتَ فيه إلى الصَّباحِ، ثمَّ يَتوجَّهُ إلى المدينةِ، لئلَّا يَفجَأَ الناسُ أهالِيَهم لَيلًا. وقدْ روى البُخاريُّ ومسلم عن عبداللهِ بنِ عمَرَ -رضي الله عنهما- أحاديثَ عدَّةَ تُحدِّدُ الأماكنَ التي صلَّى فيها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- في أسفارِه، وهذه الأماكنَ والمساجدَ لا يُعرَفُ اليومَ منها غيرَ مَسجِدِ ذي الحُلَيفةِ، والمساجِدِ التي بالرَّوحاءِ.
    فوائد الحديث
    كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- له عاداتٌ وسُننٌ في سَفَرِه، فكان منها: أنّه يَنتظِرُ في أوَّلِ السَّفرِ في مَكانٍ قَريبٍ مِن المدينةِ، ليَتجمَّعَ المسافِرون معه، وكذلك عندَ الرُّجوعِ، يَنتظِرُ في مكانٍ قَريبٍ مِن المدينةِ، ولا يَدخُلُها إلَّا في الصَّباحِ، وكان يُصلِّي في كلِّ مكانٍ يَنزِلُ فيه.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في النُّزُول بمَكّة للحَج


    - ضَرَبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفْسِه المثلَ الأكمَلَ في كلِّ العِباداتِ والتعامُلاتِ ومِن ذلك: أحكامُ التَّوارُثِ بيْن المسلِمِ والكافرِ وبيانُ عدَمِ التَّوارُثِ بيْنهما
    عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟» وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ شَيْئًا، لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/984) باب: النّزولُ بمكة للحَاج، وتوريث دورهما، ورواه البخاري في الحج (1588) باب: توريث دور مكة وبيعها وشرائها، وأنّ الناس في المسجد الحرام سواء خاصة؛ لقوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج:25)، البادي: الطّاري، مَعكوفاً: محبوسًا، فالحديث متفق عليه.
    يَرْوي أسامةُ بنُ زيدٍ - رضي الله عنه - في هذا الحَديثِ فيقول: أنَّه سَأَلَ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-، وذلك عندَ فتْحِ مكَّةَ كما في الرواية الأخرى لمسلم، وهي في السَّنةِ الثامنةِ مِن الهِجرةِ، فقال له: أينَ سَيَنزِلُ ويُقيمُ غدا؟ هل في دُورِه التي تَرَكَها قبْلَ الهِجرةِ في مكَّةَ؟ فقال له: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ له - صلى الله عليه وسلم-: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟» والرَّباع بفتح الراء، جمع ربع: وهو المَنْزل المُشْتمل على أبيات، وقيل: هو الدار. أي: بَيِّن له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- أنَّه لا مَكانَ له في دُورِ أبي طالِبٍ، ولا غَيرِه مِن قَومِه في مَكَّةَ؛ وذلك لأنَّ المُؤمِنَ لا يَرِثُ الكافر.
    لا يرث المُؤمن الكافر
    وكان عقيلُ قد ورث أبا طالب، هو وطالب، ولمْ يَرثه جعفر ولا عليّ - رضي الله عنه - شيئًا؛ لأنّهما كانا مُسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين، ولا يرث المُؤمن الكافر، وقد فسَّر الرَّاوي -ولعلَّه أسامةُ رضي الله عنه - أنَّه لَمَّا مات أبو طالِبٍ عمُّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَرِثَه ابناهُ الكافرانِ: عَقيلٌ وطالبٌ، وحازا كلَّ مُمتلكاتِه المُشتملةِ على عِدَّةِ بُيوتٍ، ولم يَرِثْه جَعْفَرٌ وعَلِيٌّ المؤمنانِ، ولو كانا وارثَين؛ لنَزَلَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في دُورِهما، وكانت كأنَّها مِلكُه؛ لِعلمِه بإيثارِهِما إيَّاه على أنفُسِهما. وفي رواية البخاري: فكان عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - يقولُ: لا يَرِثُ المُؤمِنُ الكافِرَ. والمرادُ أنَّه كان يقولُ ذلك؛ بِناءً على ما أقَرَّه - صلى الله عليه وسلم- مِن عدَمِ وِراثةِ علِيٍّ وجَعفرٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- مِن أبي طالبٍ.
    ولاية الميراث
    وقالَ ابنُ شِهَابٍ الزُّهريُّ كما في رواية البخاري: إنهم كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَولَ اللهِ -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (الأنفال: 72)، فيُفسِّرون الوِلايةَ في هذه الآيةِ: بوِلايةِ المِيراثِ، وتَتمَّتُها: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُم ْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}(الأنفال : 72-73). والمعنى: إنَّ الذين آمَنوا باللهِ ولم يُهاجِروا مِن بَلَدِ الكفْرِ إلى بَلَدِ الإسلامِ، ليس عليكمْ -أيُّها المؤمِنون- أنْ تَنصُروهم وتَحمُوهم حتَّى يُهاجِروا في سَبيلِ اللهِ، وإنْ ظَلَمَهم الكفَّارُ، فطَلَبوا منْكم النَّصرَ؛ فانْصُروهم على عَدُوِّهم، إلَّا إذا كان بيْنكم وبيْن عَدُوِّهم عَهْدٌ لم يَنقُضوه، واللهُ بما تَعمَلون بَصيرٌ، لا يَخْفَى عليه شَيءٌ مِن أعمالِكم، وسيُجازيكم عليها. والذين كَفَروا باللهِ يَجمَعُهم الكفْرُ، فيُناصِرُ بَعضُهم بَعضًا، فلا يُواليهم مُؤمنٌ، إنْ لم تُوالُوا المؤمنين وتُعادُوا الكافرينَ تَحدُثْ فِتنةٌ للمُؤمنينَ؛ حيث لم يَجِدوا مَن يُناصِرُهم مِن إخوانِهم في الدِّينِ، ويَحدُثْ فَسادٌ في الأرضِ عَظيمٌ بالصَّدِّ عن سَبيلِ اللهِ.
    ترك النبي - صلى الله عليه وسلم- لتصرفات الجاهلية
    قال الحافظُ ابن حجر: وأخرج هذا الحديث الفاكهي من طريق محمد بن أبي حفصة، وقال في آخره: ويقال إنّ الدار التي أشار إليها؛ كانت دار هاشم بن عبد مناف، ثم صارت لعبدالمطلب ابنه، فقسمها بين ولده حين عمر، فمِن ثَمَّ صار للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم- حقّ أبيه عبد الله، وفيها وُلد النّبي - صلى الله عليه وسلم . ثم قال: محصل هذا أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر؛ اسْتولى عقيل وطالب على الدار كلّها، باعتبار ما ورثاه منْ أبيهما، لكونهما كانا لمْ يُسلما، وباعتبار ترك النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لحقّه منها بالهِجْرة، وفقد طالب ببدر، فباع عقيل الدار كلّها. وقال الداودي وغيره: كان مَنْ هاجر مِنَ المؤمنين؛ باع قريبه الكافر داره، وأمْضى النبيّ - صلى الله عليه وسلم- تصرُّفات الجاهلية؛ تأليفًا لقُلوب مَنْ أسلم منهم». الفتح (3/452).
    المقصود بالمسجد في الآية
    وقوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25)، قال القاضي إسماعيل: ظاهر القرآن يدلّ على أنّ المراد به: المسجد الذي يكون فيه النُّسُك والصّلاة، لا سائر دُور مكة، وقال ابن خزيمة: لو كان المراد بقوله -تعالى-: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (الحج: 25)، جميع الحَرَم، وأنّ اسم المَسْجد الحرام واقعٌ على جميع الحَرم؟ لما جاز حفرُ بئرٍ ولا قبر، ولا التّغوّط ولا البول، ولا إلقاء الجِيَف والنتن، قال: ولا نعلم عالِماً منع من ذلك، ولا كرِه لحائضٍ ولا لِجُنب دُخُول الحرم، ولا الجِماع فيه، ولو كان كذلك، لجازَ الاعتكاف في دُور مكة وحَوانيتها، ولا يقول بذلك أحد، والله أعلم؛ انتهى. «الفتح» (3/451)، واحتج الشافعي بحديث أسامة هذا؛ على جواز بيع دُور مكة وتِجارتها؛ قال الحافظ: وبالجواز قال الجمهور. الفتح (3/ 450).
    من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم
    قول عمر - رضي الله عنه -: «لا يرث المؤمن الكافر»، هو من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم-، رواه البخاري في كتاب الفرائض بلفظ: «لا يَرثُ المُسْلمُ الكافر، ولا الكافرُ المسلم». وللنسائي: «لا يَتَوارَثُ أهلُ مِلتين»، وحملها الجمهور على أن المراد بإحدى الملتين الإسلام، وبالأخرى الكفر. قال الحافظ: «وهو أَولى مِنْ حملها على ظاهر عمومها، حتى يمتنع على اليهودي مثلًا أنْ يَرثَ مِنَ النصراني، والأصح عند الشافعية أنّ الكافرَ يرث الكافر، وهو قول الحنفية والأكثر». الفتح (12/51). وقال البخاري: باب لا يرثُ المُسلمُ الكافر، ولا الكافرُ المُسلم، وإذا أسلمَ قبل أنْ يُقْسم الميراث؛ فلا ميراثَ له. البخاري (8/194). قال الحافظ: أشار إلى أنّ عُمُومه يتناول هذه الصورة، فمن قيَّد عدم التوارث بالقسمة احتاج إلى دليل؛ قال ابن المنيِّر: صورة المسالة إذا مات مسلم وله ولدان مثلًا مسلم وكافر، فأسلم الكافر قبل قسمة المال، قال ابن المنذر: ذهبَ الجُمْهور إلى الأخذ بما دلّ عليه عُمُوم حديث أسامة. انتهى. والحديث دليل على انقطاع التوارث بين المُسْلم والكافر، قال الموفق ابن قدامة: مَنْ لمْ يرث لمعنى فيه، كالمُخَالف في الدّين، والرّقيق، والقَاتل، فهذا لا يَحْجبُ غيره، في قول عامّة أهلِ العلم. ولا يَرثُ المُسْلم الكافر، ولا الكافر المسلم، لا بالنّسَب، ولا بالولاء، في قول جمهور العلماء، وهو رواية عن أحمد. «المغني» (14/94).
    فوائد الحديث
    1- ضَرَبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- بنفْسِه المثلَ الأكمَلَ في كلِّ العِباداتِ والتعامُلاتِ، ومِن ذلك: أحكامُ التَّوارُثِ بيْن المسلِمِ والكافرِ، وبيانُ عدَمِ التَّوارُثِ بيْنهما. 2- وفيه: مَشروعيَّةُ تَوريثِ دُورِ مكَّةَ ومَنازلِها، وكذا بيعها وشِراؤها.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الرَّمَلُ في الطّوافِ والسّعْي



    الحَجُّ هو الرُّكن الخَامس مِنْ أرْكان الإسلام وهو عِبادةٌ تَوقيفيَّةٌ عَلَّمَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصْحابَه بالفِعلِ وبالقَولِ
    الرّمل لا يكونُ إلا في الثلاثة أشواط الأول مِنَ الطواف والرَّمَل اصْطِلاحًا هو الإسْراعُ في المَشيِ مع تقارُبِ الخُطَى للرجال دون النساء
    عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا طَافَ فِي الْحَجِّ والْعُمْرَةِ، أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ، فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يَمْشِي أَرْبَعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا والْمَرْوَةِ، وعَنْ جَابِرِ بْنِ عبداللَّهِ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَمَلَ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ، ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَرَأَيْتَ هَذَا الرَّمَلَ بِالْبَيْتِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، ومَشْيَ أَرْبَعَةِ أَطْوَافٍ، أَسُنَّةٌ هُوَ؟ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُنَّةٌ؟ قَالَ فَقَالَ: صَدَقُوا، وكَذَبُوا؟ قَالَ قُلْتُ: مَا قَوْلُكَ صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ مَكَّةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مُحَمَّداً وأَصْحَابَهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنْ الْهُزَالِ، وكَانُوا يَحْسُدُونَهُ، قَالَ: فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثًا، ويَمْشُوا أَرْبَعًا، قَالَ قُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رَاكِبًا، أَسُنَّةٌ هُوَ؟ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُنَّةٌ؟ قَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا، قَالَ قُلْتُ: ومَا قَوْلُكَ صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَثُرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، هَذَا مُحَمَّدٌ، حَتَّى خَرَجَ الْعَوَاتِقُ مِنْ الْبُيُوتِ، قَال: وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا كَثُرَ عَلَيْهِ رَكِبَ، والْمَشْيُ وَالسَّعْيُ أَفْضَلُ.
    الحديث الأول: رواه مسلم في الحج (2/930) باب: اسْتِحباب الرَّمَل في الطَّواف والعُمرة، وفي الطّواف الأول مِنَ الحجّ، ورواه البخاري في الحج (1603، 1604)، في هذا الحَديثِ: يَروي عبداللهِ بنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - كان إذا طافَ طَوافَ القُدومِ أوِ العُمرةِ، أسرَعَ في الأشواطِ الثَّلاثةِ الأُولى، وهو ما يُسمَّى الرَّمَلَ، ويَمشي في الأربعةِ الباقيةِ، وفي لفظ البخاري: «أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذَا طَافَ بالبَيْتِ الطَّوَافَ الأوَّلَ، يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، ويَمْشِي أَرْبَعَةً...».
    قوله: «ثلاثة وأرْبعة»
    وأما قوله: «ثلاثة وأرْبعة» فمُجمع عليه، وهو أنّ الرّمل لا يكونُ إلا في الثلاثة الأول مِنَ السبع، والرَّمَل اصْطِلاحًا: هو الإسْراعُ في المَشيِ، مع تقارُبِ الخُطَى، وهو دُون الوثوبِ والعَدْوِ، ويُسَمَّى أيضاً: الخَبَب. وقوله: «ثمّ يُصلّي سَجْدتين» فالمُرادُ ركعتي الطّواف، وهما سُنّة على المَشْهور مِنَ مذاهب العلماء، وسمّاهما سَجدتين مَجازاً. وقوله: «ثمَّ يَطوفُ بين الصّفَا والمَرْوة» ففيه: دليلٌ على وجوب الترتيب بين الطواف والسعي، وأنّه يُشْترط تَقدّم الطّواف على السّعي، فلو قدم السعي، لمْ يصح السّعي، قال النووي: وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور.
    الحديث الثاني
    رواه مسلم في الباب نفسه، وفيه أيضاً: مَشروعيَّةُ الرَّمَلِ في الأشْواطِ الثلاثةِ في الطَّوافِ حَولَ الكعبةِ، من الحَجر الأسود حتى ينتهي إليه.
    الحديث الثالث
    هذا الحديث رواه مسلم في الباب نفسه، ورواه البخاري في الحج (1602) باب: كيفَ كانَ بدء الرَّمَل؟ وقوله: «قلتُ لابن عباس: أرأيت هذا الرّملَ بالبيت، ثلاثةَ أطْواف، ومَشْي أربعة أطواف، أسُنّة هو؟ فإنّ قومَكَ يَزْعمُون أنّه سُنّة. فقال: صَدَقوا وكذبوا...»، يعني: أنّهم صَدَقوا في أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَله، وكذَبُوا في قولهم: إنّه سُنّةٌ مَقصُودة مُتأكّدة؛ لأنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - لمْ يَجْعله سُنّةً مطلوبة دائماً على تكرّر السّنين، وإنّما أمَرَ به تلك السَّنَة، لإظْهار القُوّة عند الكفّار، وقد زَالَ هذا المعنى.
    أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالرمل
    وهو قَوله في الرواية الأخرى: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ مَكَّةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا وأَصْحَابَهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنْ الْهُزَالِ، وكَانُوا يَحْسُدُونَهُ، قَالَ: فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثًا، ويَمْشُوا أَرْبَعًا..». والهزال أي: الضّعف والوَهَن، وفي رواية لمسلم: «قد وهَنتْهم الحُمّى، ولقوا منْها شِدّة»، هذا معنى كلام ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهذا الذي قاله مِنْ كون الرّمل ليس سُنّةً مَقْصودة؟ هو مذهبه، وخالفه جميعُ العُلَماء مِنَ الصّحابة والتابعين وأتباعهم، ومَنْ بَعدهم، فقالوا: هو سُنّة في الطّوافاتِ الثلاثِ مِنَ السّبع، فإنْ تَرَكه فقد تَركَ سُنّة، وفاتته فضيلة، ويَصحّ طَوافه، ولا دَمَ عليه. وقال الحسن البَصري والثوري وعبدالملك بن الماجشون المالكي: إذا تَركَ الرّمل، لَزِمه دَمٌ؟ وكان مالك يقولُ به، ثمّ رَجع عنه. ودليل الجُمهور: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رَمَلَ في حَجّة الوَداع في الطَّوافات الثلاث الأول، ومَشَى في الأرْبع، ثمّ قال - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك: «لتأخُذُوا منَاسِكَكُم عنّي». والله أعلم. (انظر النووي).
    فائدة: هلْ على النِّساءِ رَمَلٌ؟
    ليسَ على النِّساءِ رمَلٌ في الطَّوافِ، وقد نقلَ الإجْماعَ على ذلك: ابنُ المنذر في «الإجماع» (ص: 55)، الطحاوي، وابن عبدالبر في «التمهيد» (2/78)، وابن بطال، وابن رشد، وغيرهم. قوله: «قلتُ له: أخْبرني عن الطّواف بين الصّفا والمَرْوة رَاكباً، أسُنّةٌ هو؟ فإنّ قومك يَزعُمُون أنّه سُنّة؟ قال: صَدقوا وكذبُوا... إلى آخره، يعني: أنّهم صَدَقوا في أنّه - صلى الله عليه وسلم - طَافَ راكباً، وكذَبُوا في أنّ الرُّكوبَ أفْضَل، بل المَشْي أفضَل، وإنّما رَكِبَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - للعُذْر الذي ذَكرَه، وهو أنّ الناس ازْدَحمُوا عليه - صلى الله عليه وسلم -، ممّا دعاه للرُّكوب على الناقة، وهذا الذي قاله ابنُ عباس هنا مُجْمعٌ عليه، فقد أجْمع العلماء على أنّ الرُّكوبَ في السّعي بين الصّفا والمَرْوة جائز، وأنّ المَشْي أفْضل منْه، إلا لعُذر. قوله: «حتّى خَرَج العَواتقُ مِنَ البيوت» والعَواتقُ: جمع عاتق، وهي البِكرُ البَالغة، أو المُقاربة للبُلُوغ، وقيل: التي تَتَزوج. سُمّيت بذلك، لأنّها عَتَقت منْ استْخدام أبويها، وابْتذالها في الخُرُوج والتّصرّف، الذي تَفعله الطفلة الصّغيرة.
    فوائد الحديث
    أنّ الرَّمَلُ يكونُ في الأشواطِ الثَّلاثةِ الأُولى في العُمْرة، وفي طَوافِ القُدومِ في الحَج.
    وفيها: أنّ السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ، يكون بعدَ الطّواف بالبَيت، ولا يصحّ قبله.
    وفيها: جَوازُ إطْلاقِ لَفظِ «الطَّوافِ» على السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ.
    وأنّ الحَجُّ وهو الرُّكن الخَامس مِنْ أرْكان الإسلام، عِبادةٌ تَوقيفيَّةٌ، عَلَّمَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصْحابَه بالفِعلِ وبالقَولِ، وقد نَقَلوا لنا صِفةَ هذه العِبادةِ كما رَأوْها وسَمِعوها، وكما أدَّوْها معه - صلى الله عليه وسلم -، ورَضيَ اللهُ عنْهم.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: تَقبيلُ الحَجَر الأسْود في الطّواف



    الحديث يدلّ على كراهة تَقبيل ما لمْ يرد الشّرع بتقبيله أمّا تقبيلُ يد الأبوين احْتراماً لهما وبرّاً بهما فهو مُسْتحب وكذا مَنْ في حُكْمهما مِنَ العُلماء والصّالحين
    في الحديث قاعدةٌ عظيمةٌ في اتِّباعِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يَفعَلُه ولو لم تُعلَمِ الحِكْمةُ فيه وأنَّ الشَّرعِ فيه ما هو تَعبُّدٌ مَحضٌ وما هو مَعقولُ المَعنى
    عَنْ عبداللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: رَأَيْتُ الْأَصْلَعَ- يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- يُقَبِّلُ الْحَجَرَ، ويَقُولُ: «واللَّهِ، إِنِّي لَأُقَبِّلُكَ، وإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وأَنَّكَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ولَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَكَ؛ مَا قَبَّلْتُكَ». الحديث رواه مسلم في الحج (2/925) باب: اسْتحباب تقبيل الحجر الأسود في الطّواف، وعبدالله بن سَرْجس هو المُزني، الصّحابي المُعمّر نزيل البَصرة، مِنْ حلفاء بني مخزوم.
    يقول: «رَأَيْتُ الْأَصْلَعَ -يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ-» الأصْلع، يعني عمر - رضي الله عنه -، وفي رواية: الأصيلع، فيه: أنّه لا بأسَ بِذكرِ الإنْسان بلقبه، أو وصفه الذي لا يَكرهه، «يُقَبِّلُ الحَجَرَ» فعُمَرَ بنَ الخطَّابِ - رضي الله عنه - كانَ يُقَبِّلُ الحَجَرَ الأسوَدَ، وهو الموجودُ في البَيتِ الحَرامِ، ومَكانُه في الرُّكنِ الجَنوبيِّ الشَّرقيِّ لِلكعبةِ المُشرَّفةِ مِنَ الخارِجِ، وهو في غِطاءٍ مِنَ الفِضَّةِ في أيَّامِنا هذه.
    وإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَر
    قوله: «واللَّهِ، إِنِّي لَأُقَبِّلُكَ، وإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وأَنَّكَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ» فأوْضَحَ عُمرُ - رضي الله عنه - أنَّ سَببَ تَقبيلِه لهذا الحجرِ، هو رُؤيَتُه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُه، ولَولا ذلك؛ ما قَبَّلَه عُمَرُ - رضي الله عنه -؛ لِعِلْمِه أنَّه حَجَرٌ لا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ بذاتِه، وإنَّما النَّفعُ بالثَّوابِ الذي يَحصُلُ باتّباع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، والاستِنانِ بتَقبيلِه له، وعن سُوَيدِ بنِ غَفَلةَ، قال: رأيتُ عُمَرَ قبَّل الحَجَرَ والتَزَمَه، وقال: «رأيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بك حفِيّاً». رواه مسلم.
    لماذا قال عمر - رضي الله عنه - ذلك؟
    وقيل: إنَّما قال عُمَرُ ذلك؛ لأنَّ النَّاسَ كانوا حَديثي عَهدٍ بعِبادةِ الأصنامِ، فخَشيَ أنْ يَظُنَّ الجُهَّالُ أنَّ استِلامَ الحَجَرِ، هو مِثلُ ما كانتِ العَربُ تَفعَلُه في الجاهليَّةِ، فأرادَ أنْ يُعلِّمَهم أنَّ استِلامَ الحَجَرِ لا يُقصَدُ به إلَّا تَعظيمُ اللهِ -تعالى-، والوُقوفُ عِندَ أمرِ نَبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ ذلك مِنْ شَعائرِ الحَجِّ. ولأنَّ اللهَ -تعالى- فضَّلَ بعضَ الأحْجارِ على بعضٍ، وبعضَ البِقاعِ على بعضٍ، وبعضَ اللَّيالي والأيامِ على بعضٍ، وإنَّما شُرِعَ تَقبيلُ الحَجَرِ إكرامًا وإعظامًا لحَقِّه، ولِيُعلَمَ بالمُشاهَدةِ مَن يُطيعُ في الأمرِ والنَّهيِ، وذلك شَبيهٌ بقصَّةِ إبليسَ حيثُ أُمِرَ بالسُّجودِ لآدمَ عليه السَّلامُ. وكُلُّ ما قالَه عُمَرُ هنا إنَّما هو لِبَيانِ أنَّ أمرَ الدِّينِ مَبنيٌّ على التَّصديقِ والاتِّباعِ، وليس كَلامُه اعتِراضاً على أفْعالِ المَناسِكِ؛ ولذلك استدرَكَ على نَفْسِه، فقال: شَيءٌ فَعَلَه رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلا نُحِبُّ أنْ نَترُكَه، بل علينا أنْ نَتَّبِعَه.
    فوائد الحديث
    1- الحَجَرُ الأسوَدُ حَجَرٌ كرِيمٌ، أنزَلَه اللهُ -سُبحانَه وتعالَى- مِنَ الجنَّةِ، فقد روى البيهقي في السنن، والطبراني في الكبير واللفظ له: عن ابن عباس - رضي الله عنه -ما، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الحَجَرُ الأسْود مِنْ حَجارة الجنّة، وما في الأرْض مِنَ الجنّة غيره، وكان أبيض كالمَهَا، ولولا ما مسّه مِنْ رِجْس الجاهلية، ما مسَّه ذُو عَاهة إلا برئ». 2- كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُه؛ واتِّباعاً لهَدْيِه نُقبِّلُه ونَستلِمُه، ونُشيرُ إليه، وإنْ كان حَجَرًا لا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ. 3- فإنْ لمْ يُمكنه أنْ يَسْتلمه أو يُقبّله مِنَ الزّحام، أشار إليه بيده، فعن أبي الطُّفَيلِ - رضي الله عنه - قال: «رأيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَطُوف بالبيتِ، ويستلِمُ الرُّكْنَ بمِحْجَنٍ معه، ويقبِّلُ المِحْجَنَ». رواه مسلم، وفيه دليل: على اسْتحباب استلام الحَجَر الأسود في الطّواف، وأنّه إذا عَجَز عن اسْتلامه بيده، بأنْ كان راكباً أو غيره، اسْتلمه بعَصَا ونحوها، ثمّ قَبّلَ ما استلم به. 4- وكما أنّ فيه مَشروعيَّةُ تَقبيلِ الحَجَرِ الأسوَدِ، ففيه الإشارةُ إلى النَّهيِ عن تَقبيلِ ما لمْ يَرِدِ الشَّرعُ بتَقبيلِه مِنَ الأحجارِ وغيرِها، فعن عبداللهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عنهما- أنَّه قال: «لمْ أرَ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ مِنَ البيت، إلَّا الرُّكْنينِ اليَمَانِيَّينِ ». متفق عليه، فلا يُشرع تَقبيل شيءٍ مِنَ البَيتِ الحَرام، ولا غيره في المَسْجد كالمقام ونحوه؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمْ يفعله، ولا أصْحابه.
    قاعدةٌ عظيمةٌ في الاتِّباعِ
    5- وفيه قاعدةٌ عظيمةٌ في اتِّباعِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يَفعَلُه، ولو لم تُعلَمِ الحِكْمةُ فيه، وأنَّ الشَّرعِ فيه ما هو تَعبُّدٌ مَحضٌ، وما هو مَعقولُ المَعنى، قال الخطابي: فيه تَسْليمُ الحكمة، وتَرْك طلب العِلل، وحُسن الاتباع فيما لمْ يُكشف لنا عنه منَ المعنى، وأمور الشّريعة على ضربين: ما كُشِفَ عن عِلّته، وما لمْ يكشف، وهذا ليسَ فيه إلا التّسليم. انتهى. فكثيرٌ مِنْ مناسك الحج تعبّدي، لا يَخضع للتّحكيم العَقْلي، ولا تُدْرك عِلّته، وقد شاء الله -تعالى- أنْ يكون الشّرعُ الإسْلامي في أغلب أحْكامه مُعلّلاً، يَحْكم العقل بفائدته والدوافع إليه، وشاء الله بحكمته أنْ يختبرَ المُسْلم في بعضها؛ بطلبِ الطّاعة فيما لا يُدرك حِكمته؛ ليظهر مَدَى الاسْتجابة للأوامر والنّواهي، باعتبارها صادرة من الله -تعالى- فحَسب، بل قد يرفضُ العَقلُ الفعلَ المَطلوب، ولا يقبله ولا يَسْتسيغه، لكنّه إذا تحقق أنّه مَطلب المشرع؛ لزِمَ التّسْليم والاسْتجابة، وهذا هو قمة العبادة والخضوع، والطاعة المشرع، وكانت خطيئة إبليس، أنه سقط في هذا الامتحان؛ إذْ أُمِر بالسجود لآدم -عليه السلام- فاعتَرضَ بعقله على أمْرِ الله -عز وجل. 6- وفيه: بَيانٌ لِتَسليمِ الصَّحابةِ واتباعهم، وقوةِ إيمانِهم. 7- وفيه: أنّ بَيانُ السُّنَنِ يكونُ بالقَولِ، ويكون بالفِعلِ. 8- وفيه: أنَّ على الإمامِ إذا خَشِيَ فَسادَ اعتِقادِ أحدٍ، بسَببِ فِعلٍ ما، أنْ يُبادِرَ إلى بَيانِ الأمْرِ وتَوضيحِه.
    الاقتداء برسُول الله - صلى الله عليه وسلم
    9- وفيه: أنّ المُسلمين يَقْتدُون برسُول الله - صلى الله عليه وسلم - في مَسْحهم بأيديهم الرّكنَ اليماني مِنَ الكعبة في الطّواف، وتقبيلهم الحَجَر الأسود ومَسْحه، أو استلامه ولو بِعَصا، هم يُؤمنُون بأنّ هذه الجَمَادات مَخلوقة كبقيّة المَخلوقات، وهُم حين يُعظّمُونها، إنّما يُعظّمُون أمَرَ الله، فالتّعظيم إذاً لله -تعالى- وأمْره، وصَدق الله العظيم؛ إذْ يقول: {ومنْ يُعظّم شَعائرَ الله فإنّها مِنْ تقوى القلوب} (الحج:32)، فلا يُعظمُونها لتقرّبهم إلى الله زُلْفى كما كان المُشْركون يَعبُدُون الأصْنام، فالأحْجار لا تقرّبُ إلى الله زُلفى في عقيدة المُسلمين، وإنّما اتّباع الأوامر أيّاً كانت، هي التي تُقرّبُ إلى الله زُلفى.
    فضل الحجر الأسود
    10- وممّا جاء في فضل الحجر الأسود: حديثُ عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الحَجَرِ: «واللهِ ليبعثنَّه اللهُ يومَ القيامةِ، له عَينانِ يُبْصرُ بهما، ولِسانٌ يَنْطقُ به، يشهدُ علَى مَنْ استلمَه بحقٍّ». أخرجه الترمذي (961) واللفظ له، وابن ماجة (2944)، وأحمد (2215) وصححه الألباني. فقوله: «يَشهَدُ على مَن استلَمه بحقٍّ»، أي: مَنْ أشار إليه أو قبَّله بحَقٍّ، والحقُّ ما كان يفعَلُه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالإخْلاصِ، والتَّعبُّدِ للهِ -عز وجل-، ولا يكونُ استِلامُه بقصْدِ الرِّياءِ، أو بتَعظيمٍ وتقديسٍ للحجَرِ نفْسِه. 11- استدلّ بعضُهم بهذه الأحاديث، على مَشْروعيّة تقبيل الأمَاكن الشريفة وتقبيل المُصْحف وكتُب الحديث وغيرها، بقَصْد التّعْظيم والتّبرّك، وكذلك تقبيل أيدي الصّالحين، ويرون أنّ ذلك حَسَنٌ مَحْمود؛ باعتبار القَصْد والنيّة. والتحقيق: منع تقبيل ما لمْ يَرد الشّرْع بتقبيله مِنَ الأحْجار والأماكن وغيرها، بقصد التّبرّك، والاقتصار في ذلك على ما ورد الشّرع به، ليكون الدافع هو الاسْتجابة لأمر الشرع فحسب، بل الحديث يدلّ: على كراهة تَقبيل ما لمْ يرد الشّرع بتقبيله، أمّا تقبيلُ يد الأبوين احْتراماً لهما، وبرّاً بهما؛ فهو مُسْتحب، وكذا مَنْ في حُكْمهما، مِنَ العُلماء والصّالحين.
    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي


  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: اسْتِلامُ الرُّكنَينِ اليَمَانِيين في الطَّوَاف



    تَقبيل الحَجَرِ الأسوَدِ مِنَ السُّنَنِ المُستحبّة لمَن قَدِرَ عليه فإنْ لم يَقدِرْ فلا يُؤذِ النَّاسَ
    الإيمانُ مَبنيٌّ على التَّسليمِ للهِ تعالى ولِرَسولِه صلى الله عليه وسلم في كُلِّ الأوامِرِ والنَّواهي سَواءٌ ظهَرَ لِلمُؤمِنِ العِلَّةُ أم لم تَظهَرْ
    أجْمعت الأمّةُ على اسْتحباب اسْتلام الرُّكنين اليمانيين واتّفق الجماهير على أنّه لا يُمْسح الرُّكنين الآخرين واسْتحبّه بعضُ السّلف
    عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: مَا تَرَكْتُ اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ: الْيَمَانِيَ وَالْحَجَرَ، مُذْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُهُمَا ، فِي شِدَّةٍ ولَا رَخَاءٍ، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْن ِ. في الباب حديثان، رواهما مسلم في الحج، في (2/924-925) باب: اسْتحبابُ اسْتلام الرُّكنين اليَمَانيين في الطّواف، دُون الرُّكنين الأخرين، وقد رواهما البخاري في الحَج (1608، 1609) باب: مَنْ لمْ يَسْتلم إلا الرُّكنين اليمانيين.
    في الحديثِ الأول: يَروي نافعٌ مَولى ابنِ عُمَرَ، أنَّ عبداللهِ بنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أخبَرَ عن نَفْسِه: أنَّه ما تَرَكَ استِلامَ الرُّكنَيْنِ اليَمانِيَيْنِ -وهما الحَجَرُ الأسوَدُ، والرُّكنُ اليَمانِيُ، اللَّذانِ في جِهَةِ اليَمنِ- والاسْتلام: هو المَسح باليد، يقال: استلمتُ الحَجَر إذا لَمَسته، فالاستِلامُ هو المَسحُ باليَدِ عليهما، ويُزادُ مع الحَجَرِ الأسوَدِ التَّقبيلُ.
    الحجر الأسود
    والحَجَر الأسْود هو في الزَّاوية القَريبة مِنْ باب الكعبة، والحَجَر ليس أسْود اللون، بل أحْمر إلى السّواد، لكنّه بالنسبة لبقية حِجارة الكعبة أسود، وعُرِف بهذا الاسم منْ بناء الكعبة، وهو مَوضُوعٌ على ارتفاع ذِراعين وثُلثي ذراعٍ مِنَ الأرض، والرُّكن الذي قَبله منْ جِهة الشّرق، هو الرُّكنُ اليَماني، ومِنَ المعلوم أنّ الطائف يجعل الحَجَر على يَساره ويَطوف.
    استلام النبي - صلى الله عليه وسلم - للحجر الأسود
    قوله: «مُذْ رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُهُمَا » مُذْ، أي: مُنذ رأيته يَستلمهما، وفي رواية: «يفعله» أي: يفعل الاسْتلام، وقوله: «في شدّةٍ ولا رَخَاء» أي: سواءً كان في زِحامٍ أو فُسْحة، في ضِيقٍ، ولا سَعةٍ، بل في كُلِّ الأحوالِ، مُنذُ رُؤيتِه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَستلِمُهما. وقد قال اللهُ -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21).
    اسْتلام الرُّكنين اليمانيين
    قال النووي: وقد أجْمعت الأمّةُ على اسْتحباب اسْتلام الرُّكنين اليمانيين، واتّفق الجماهير على أنّه لا يُمْسح الرُّكنين الآخرين، واسْتحبّه بعضُ السّلف، وممّن كان يقول باسْتلامهما: الحَسَن والحُسين ابنا عليّ، وابن الزبير، وجابر بن عبدالله، وأنس بن مالك، وعروة بن الزبير، وأبو الشعثاء جابر بن زيد -رضي الله عنهم-، قال القاضي أبو الطيّب: أجْمعت أئمّة الأمْصَار والفقهاء: على أنّهما لا يُسْتلمان، قال: وإنّما كان فيه خلافٌ لبعض الصّحابة والتابعين، وانْقَرضَ الخِلاف، وأجمعوا على أنّهما لا يُسْتلمان، والله أعلم. (شرح النووي). وكان النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَستلِمُ ويَمسَحُ بيَدِه مِنَ الكَعبةِ، غيرَ الرُّكنَيْنِ اليَمانِيَّيْنِ : رُكنِ الحَجَرِ الأسوَدِ، والرَّكنِ اليَمانِيِّ، وذلك لأنَّهما على القَواعِدِ الإبراهيميَّةِ، ففي الرُّكنِ الأسوَدِ فَضيلتانِ: كَونُ الحَجَرِ فيه، وكَونُه على القَواعِدِ، وفي الثَّاني الثَّانيةُ فقطْ، ومِن ثَمَّ خُصَّ الأوَّلُ بمَزيدِ تَقبيلِه دُونَ الثَّاني.
    تَقبيل الحَجَرِ الأسوَدِ
    وليُعلَمْ أنَّ تَقبيلَ الحَجَرِ الأسوَدِ مِنَ السُّنَنِ المُستحبّة لمَن قَدِرَ عليه، فإنْ لم يَقدِرْ فلا يُؤذِ النَّاسَ، بل عليه أنْ يَضَعَ يَدَه عليه مُستَلِماً، ثمّ يَرفَعَها ويُقَبِّلَها، فإنْ لم يَقدِرْ قام بحِذائِه وأشارَ نَحوَه وكَبَّرَ، ولا يُقبّل يده، وكان عبداللهِ بنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَمشي بَينَهما ولا يَرمُلُ، لِيَكونَ ذلك أيسَرَ وأرفَقَ لاستِلامِه، لِيَقْوَى عليه عِندَ الازدِحامِ، وهذا يَدُلُّ على أنَّه كان يَرمُلُ في الباقي مِنَ البَيتِ. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كما سبق قد أمَرَ أصحابَه في عُمرةِ القَضاءِ أنْ يَمشُوا ولا يَرمُلوا بَينَ الرُّكنَينِ، حتى لا يَتعَبوا، ثمَّ يُسرِعوا في بَقيَّةِ الطَّوافِ حَولَ البَيتِ، في الأشْواطِ الثَّلاثةِ الأُولى، ثم إنَّه - صلى الله عليه وسلم - رَمَلَ في طَوافِه أوَّلَ قُدومِه في حَجَّةِ الوَداعِ مِنَ الحَجَرِ إلى الحَجَرِ ثلاثًا، ومَشَى أربَعًا، فاستقَرَّتْ سُنَّةُ الرَّمَلِ على ذلك مِنَ الحَجَرِ إلى الحَجَرِ، لأنَّه المُتأخِّرُ مِن فِعلِه - صلى الله عليه وسلم .
    فوائد الحديث
    فَضيلةُ الصحابي ابنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، لِشِدَّةِ حِرصِه على تَتبُّعِ آثارِ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والعَملِ بها.
    وفيه: أنّ الإيمانُ مَبنيٌّ على التَّسليمِ للهِ -تعالى- ولِرَسولِه - صلى الله عليه وسلم - في كُلِّ الأوامِرِ والنَّواهي، سَواءٌ ظهَرَ لِلمُؤمِنِ العِلَّةُ، أم لم تَظهَرْ.
    وأنّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ مَناسِكَ الحَجِّ والعُمرةِ وأعمالَهما، بالقَولِ والفِعلِ، وبَيَّنَ ما يَجوزُ، وما لا يَجوزُ فيهما.
    الحديث الثاني
    وهو حديثُ ابن عباس -رضي الله عنهما- فيقُولُ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ ، وهو تأكيدٌ لما سَبق، مِنْ أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لمْ يكنْ يَسْتلم مِنَ الأرْكان الأرْبَعة للكعبة، إلا الحَجَر الأسْود، والرُّكن اليَمَاني. - ولرُكن الحَجَر فَضِيلتان: الفضيلة الأولي: كونه على قواعد إبْراهيم -عليه الصّلاة والسّلام.
    الفضيلة الثانية: وكون الحَجَر الأسود فيه.
    - والرُّكن اليَماني له فضيلةٌ واحدة، وهو كونه على قواعد إبْراهيم. وليس للشّامي والعِراقي شَيء مِنْ هذا، فإنّ تأسِيسهما خارجٌ عن أسْاس إبْراهيم -عليه الصّلاة والسّلام-؛ حيثُ أخرج الحَجَر مِنَ الكعبة منْ جِهتهما؛ ولهذا فإنّه يُشْرع اسْتلام الحَجَر الأسْود وتَقْبيله، ويُشْرع اسْتلام الرّكن اليماني بلا تَقبيل، ولا يُشرع في حقّ الرُّكنين الباقيين اسْتلامٌ ولا تَقبيل، والشّرعُ مَبْناه على الاتّباع، لا على الإحْدَاث والابتداع، ولله -تعالى- في شَرعه حِكَمٌ وأسْرار، وقد روى البخاري: في الحج (1608) باب: مَنْ لمْ يَسْتلم إلا الرُّكنين اليمانيين.
    ومَنْ يَتّقي شَيئاً مِنَ البَيت؟
    عن أبي الشّعْثاء أنّه قال: ومَنْ يَتّقي شَيئاً مِنَ البَيت؟ وكان معاويةُ يَسْتلم الأرْكان، فقال له ابنُ عباس -رضي الله عنهما-: إنّه لا يُسْتلمُ هَذَان الرُّكْنان، فقال: ليسَ شَيءٌ مِنَ البيتِ مَهْجُوراً، وكان ابنُ الزبير -رضي الله عنهما- يَسْتلمهنّ كلّهن، ورواه الإمام أحمد: عن ابنِ عباس: أنَّهُ طافَ مع مُعاويةَ بالبَيتِ، فجعَلَ مُعاويةُ يَستَلِمُ الأركانَ كُلَّها؛ فقال له ابنُ عبَّاسٍ: لِمَ تَستَلِمُ هذَينِ الرُّكنَينِ، ولم يَكُنْ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَستَلِمُهما؟ فقال مُعاويةُ: ليس شَيءٌ مِنَ البَيتِ مَهجوراً. فقال ابنُ عبَّاسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21)؛ فقال مُعاويةُ: صَدَقتَ. قال الحافظ: ويُؤخذ منه: حِفظُ المَرَاتب، وإعْطاء كلّ ذِي حَقٍّ حقّه، وتَنزيل كلّ أحَدٍ مَنزلته. وأجابَ الشّافعي عن قول مَنْ قال: ليسَ شَيءٌ مِنَ البَيتِ مَهْجُوراً، بأنّا لمْ نَدَع اسْتلامهما هَجْراً للبيت، وكيف يَهْجُره وهو يطُوف به؟ ولكنّا نَتّبعُ السُّنّة فِعلاً أو تَرْكاً، ولو كان تركُ استلامهما هَجْراً، لكان تَركُ اسْتلام ما بين الأرْكان هَجْراً لها، ولا قائلَ به. (الفتح).

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الطَّوافُ على الرّاحلة



    في الحديث جواز الطَّواف راكبًا على الرَّاحلةِ ويُلحَقُ بها ما في مَعْناها كالكَراسيِّ المُتحرِّكةِ ونَحوِها ولا سيما إذا كانتْ هناك مَصلَحةٌ مِنَ الرُّكوبِ
    اسْتلامُ الحَجَرِ الأسْودِ سُنّة نبويّة ومَن عجَزَ عنِ اسْتلامِه بيَدِه استَلَمَه بعَصاً ونحوِها بشرط ألا يؤذي بها الناس
    الإسلامُ دِينُ السَّماحةِ والتَّيسيرِ ومِن ذلك تَيسيرُه على المَرضى وأصحابِ الأعذارِ في أعمالِ الحَجِّ والعُمرةِ
    عنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْبَيْتِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، يَسْتَلِمُ الحَجَرَ بِمِحْجَنِهِ، لِأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ، ولِيُشْرِفَ وَلِيَسْأَلُوهُ ، فَإِنَّ النَّاسَ غَشُوهُ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/927) باب: جواز الطواف على بعيرٍ وغيره، واسْتلام الحجر بمِحجن ونحوه للراكب. يُخبِرُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ -رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طافَ بالبَيتِ الحَرامِ في حَجَّةِ الوَداعِ، وهي الحَجَّةُ الَّتي حَجَّها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانت في السَّنةِ العاشرةِ مِنَ الهِجرةِ، سُمِّيَت بذلك؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان كالمُوَدِّعِ لهم، ولمْ يَلبَثْ كثيراً بعدَها حتَّى توفَّاه اللهُ -عزَّ وجَلَّ.
    قوله: «عَلى راحلَتِه»
    قوله: «عَلى راحلَتِه»، تُطلَقُ على كلِّ دابَّةٍ أُعِدَّت للرُّكوبِ، وكان - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحَجَّةِ راكبًا على ناقةٍ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يَلمَسُ الحَجرَ الأسْودَ بِمِحجَنِه، وهوَ العَصا المُعوَجَّةُ الطَّرفِ. وفي صَحيحِ مُسلمٍ: عن أبي الطُّفَيلِ - رضي الله عنه - قال: «ويُقبِّلُ المِحْجَنَ»؛ لأنَّ مِنْ سُننِ الطَّوافِ تَقبيلَ الحَجرِ الأسْوَدِ، فلمَّا عجَزَ عنِ اسْتلامِه بيَدِه، اسْتَلَمَه بعصًا، وقبَّلَ ما استَلَمَ. ثُمَّ بيَّنَ جابرٌ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنّما رَكِبَ ناقتَه ليَسهُلَ على النَّاسِ رُؤيتُه، وليَكونَ في مَكانٍ مُرتفعٍ حتَّى يُميِّزَه النَّاسُ، وليَتمَكَّنوا مِن سُؤالِه عمَّا أَشْكلَ عَليهم مِن مَناسكِ الحجِّ، وفعَلَ ذلك لأنَّ النَّاسَ «غَشُوه» أي: ازدَحَموا عليه، فخَشيَ عليهم من هذا التَّزاحُمِ، وكذلك حتَّى لا يَضطَرَّ أنْ يَصرِفَ النَّاسَ عنه، فكان رُكوبُه أيسَرَ له ولهم، وأكثَرَ فائدةً للاقْتِداءِ به، وليَرَوْه ويَسْألوه عمَّا بَدا لهم.
    فوائد الحديث
    جواز الطَّوافُ راكبًا على الرَّاحلةِ، ويُلحَقُ بها ما في مَعْناها كالكَراسيِّ المُتحرِّكةِ ونَحوِها، خُصوصاً إذا كانتْ هناك مَصلَحةٌ مِنَ الرُّكوبِ، كإفْتاءِ النَّاسِ وتَعْليمِهم، وكذا جواز الطّواف راكباً مع العُذر كما سيأتي؛ والمشي أفضل، وإنّما ركبَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - للمَصلحة، وهي أنّ الناس قد غَشوه وتكاثروا عليه، فأراد أنْ يُفيدهم ويَسْتفيدوا منه؛ بأنْ يكون في مكانٍ مُرتفع فيسألونه، وأيضًا: قد تكاثر عليه الناس؛ منْهم مَنْ يريد النّظر إلى صفة طوافه، ومنهم مَنْ يُريد النظر إلى شَخْصه الكريم؛ فازْدحموا عليه، ومنْ كمال رأفته بأمّته، ومساواته بينهم: أنْ ركبَ على بعير، يطوف عليه؛ ليتَسَاوى الناس في رؤيته والنّظر إليه.
    وفيه: أنّ اسْتلام الحَجَرِ الأسْودِ سُنّة نبويّة، وأنَّ مَن عجَزَ عنِ اسْتلامِه بيَدِه -لرُكوبٍ أو زِحامٍ أو غيرِه- استَلَمَه بعَصاً ونحوِها، بشرط ألا يؤذي به الناس.
    وفيه أنّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ مَناسِكَ الحَجِّ والعُمرةِ وأعْمالَهما، بالقَولِ والفِعلِ، وبيَّنَ ما يَجوزُ وما لا يَجوزُ فيهما.
    وأنّ السُّنّة أنْ يستلم الحجرَ ويُقبل يده، وإذا لم يستطع أن يستلمه بيده استلمه بشيء، وقبّل ذلك الشّيء.
    وفيه: إظْهار العالم أفْعاله مع أقواله؛ لتَحصل به القدوة الكاملة والتعليم النافع.
    وفيه: كمال خُلُق النبي وشفقته على أمّته - صلى الله عليه وسلم -، ومُراعاته لهم.
    جواز إدْخال الحيوان الطّاهر إلى المسجد، إذا لم يترتب على إدخاله أذية للآخرين.
    وقد استدلّ بالحديث أيضًا: على طَهارة بول ما يُؤكل لحمه، منْ حيثُ إنّه لا يُؤمن بولُ البعير في أثناء الطّواف في المَسْجد، ولو كان نَجسًا؛ لم يُعرّض النبي - صلى الله عليه وسلم - المَسْجد للنّجاسة.
    باب: الطّواف راكبًا لعُذر
    عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِّي أَشْتَكِي، فَقَالَ: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وأَنْتِ رَاكِبَةٌ» قَالَتْ: فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، وَهُوَ يَقْرَأُ: بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ. الحديث رواه مسلم في الحج في الموضع السابق، ورواه البخاري في الحج (1633) باب: المريض يطوف راكباً.
    في هذا الحَديثِ تَروي أُمُّ سَلَمةَ -رضي الله عنها- أنَّها شَكَتْ إلى رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّها مريضة، وأنّ مرَضها يَمنَعُها مِنَ المَشيِ في الطَّوافِ، فرَخَّصَ لها بالطَّوافِ مِن وَراءِ النَّاسِ، وهي راكبةٌ على بَعيرِها، فطافَتْ كذلك. قولها: «فَطُفْتُ ورَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ» أي: كان رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي إلى الكَعبةِ مُتَّصِلًا بجِدارِها، مِن أجْلِ أنَّ المَقامَ كان حِينَئذٍ مُلصَقًا بالبيتِ قَبلَ أنْ يَنقُلَه عُمَرُ مِن ذلك المكانِ، والبَيتُ كُلُّه قِبلةٌ. وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي صَلاةَ الصُّبحِ، وكان يَقرَأُ بِسورةِ: (وَالطُّورِ* وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ).
    فوائد الحديث
    التَّيسيرُ على الحُجّاج، وجواز الطّواف حال الركوب، وطَوافُ المَريضِ راكبًا إنْ لمْ يَستطِعِ المَشيَ من التخفيف، فالإسلامُ دِينُ السَّماحةِ والتَّيسيرِ، ومِن ذلك: تَيسيرُه على المَرضى، وأصحابِ الأعذارِ، في أعمالِ الحَجِّ والعُمرةِ.
    وفيه: أنَّ النِّساءَ يَطُفنَ وَراءَ الرِّجالِ، ولا يَختلِطنَ بهم؛ لأنَّ ذلك أستَرُ لهنَّ، ولأنّ الطواف بالبيتِ كالصّلاة، ومِنَ السُّنّة في صلاة الجماعة: أنْ يتأخّرن عن صُفوف الرجال، فكذا في الطّواف.
    وفيه: أنَّ مَن يَطوفُ وَقتَ صَلاةِ الجَماعةِ لِعُذرٍ، فلا يطوف بين المُصلين وبين البيت؛ لئلا يَشْغل الإمام والناس، فيُؤذيهم، بل يَطوفُ مِن وَراءِ النَّاسِ، والراكب عليه أيضاً: أنْ يَجْتنبَ ممّرَ الناس ما اسْتطاع، فلا يُخالط المُشاة؛ لئلا يؤذيهم.
    وفيه: اسْتحباب قُرب الإمام مِنَ البيت الحَرام في الصّلاة.
    وفيه: قراءة النّبي - صلى الله عليه وسلم - بسُورة الطُّور في صَلاة الصُّبح.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الطواف بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ … وقوله -تعالى-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} البقرة: 158.



    الحَجُّ عِبادةٌ تَوقيفيَّةٌ عَلَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه إيَّاها بالفِعلِ والقَولِ وقد نَقَلوا لنا صِفةَ هذه العِبادةِ كما رَأوْها وأدَّوْها معه صلى الله عليه وسلم ورَضيَ اللهُ عنهم
    الحَديثُ يُوضِّحُ جانباً مِن جَوانبِ حجِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَداعِ فَقد كانَ قارنًا بيْنَ الحجِّ والعُمرةِ لأنَّه كانَ معَه الهَديُ ولِذلكَ سَعَى هو ومَنْ كان مثله سَعياً واحدًا
    عن عُرْوَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ -رضي الله عنها-: مَا أَرَى عَلَيَّ جُنَاحًا، أَنْ لَا أَتَطَوَّفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَتْ: لِمَ قُلْتُ؟ لِأَنَّ اللَّهَ -عز وجل- يَقُولُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ، فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ، لَكَانَ: فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما، إِنَّمَا أُنْزِلَ هَذَا فِي أُنَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، كَانُوا إِذَا أَهَلُّوا أَهَلُّوا لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَطَّوَّفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِلْحَجِّ، ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تعالى- هَذِهِ الْآيَةَ، فَلَعَمْرِي، مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
    الحديث أخرجه مسلم في الحج (2/928) باب: بيان أنّ السّعي بين الصّفا والمروة ركنٌ لا يصح الحجّ إلا به، وقد أخرجاه في الصحيحين مطولاً: عن عُروة قلت: أرأيتِ قول الله -تعالى-: {إنّ الصّفا والمروة مِنْ شعائر الله فمَنْ حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أنْ يطوّف بهما} قلت: فوالله، ما على أحدٍ جُناحٌ ألا يطوف بهما، فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابنَ أخْتُي! إنّها لو كانت على ما أوّلتها عليه، كانت: فلا جناح عليه ألا يطّوف بهما، ولكنها إنّما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أنْ يُسْلموا كانوا يُهلّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المُشلّل، وكان مَنْ أهلّ لها، يتحرّجَ أنْ يطوّف بالصّفا والمَروة، فسألوا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسُول الله، إنا كنّا نتحرّج أنْ نطوف بالصّفا والمروة في الجاهلية، فأنزلَ الله -عز وجل-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّه} إلى قوله: { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قالت عائشة: «ثمّ قد سنّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الطّوافَ بهما، فليس لأحَدٍ أنْ يَدعَ الطّواف بهما». وروى البخاري (1648) أيضًا: عن عاصم بن سليمان قال: قُلتُ لأنَسِ بنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ؟ قالَ: نَعَمْ، لأنَّهَا كَانَتْ مِن شَعَائِرِ الجَاهِلِيَّةِ حتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158). وفي صحيح مسلم: من حديث جابر الطويل، وفيه: أنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لمّا فَرَغَ مِنْ طَوافه بالبيت، عاد إلى الرُّكن فاسْتَلمه، ثمّ خَرَج منْ بابَ الصّفا، وهو يقول: {إنّ الصّفا والمَرْوة منْ شعائر الله} ثُمّ قال: «أبْدَأ بما بَدَأ الله به». وفي رواية النسائي: «ابْدؤوا بمَا بَدَأ اللهُ به»، فكلُّ هذه الأحاديث وغيرها، دلّت على مَشْروعية السّعي بين الصّفا والمروة.
    وجوب السعي على الحاج
    وفي حَديثِ الباب: يَروي التَّابِعيُّ عُروةُ بنُ الزُّبَيرِ أنَّه سَألَ خالتَه أُمَّ المُؤمِنينَ، عائِشةَ -رضي الله عنها-، عن مَعنى قَولِ اللهِ -عز وجل-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158)؛ حيثُ فَهِمَ منها أنَّ السَّعيَ غَيرُ واجِبٍ على الحاجِّ، فأجابَتْه بأنَّه قد أخطَأ في فَهمِه، وأنَّ الآيةَ أُنزِلَتْ في الأنْصارِ؛ حيثُ كانوا قَبلَ أنْ يُسلِموا، يَحُجُّونَ لِصَنمٍ يُسَمَّى: مَناةَ، عِندَ المُشَلَّلِ، وهو جَبلٌ بَينَ مَكَّةَ والمَدينةِ، يُهبَطُ منه إلى قُدَيْدٍ، فكان مَنْ حَجَّ مِنَ الأنصارِ بعد الإسْلام، يَرى أنّ في السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ إثمًا عَظيما؛ لأنَّهما كان فيهما صَنمانِ يَعبُدُان منْ دون الله، وهما إسافٌ ونائِلةُ، وكانوا يَكرَهونَهما. فلَمَّا أسلَموا سَألوا رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن ذلك، فأنزلَ اللهُ -تعالى- هذه الآيةَ، فبَيَّنَ لهم أنَّه لا إثمَ عليهم في السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ، كما كانوا يَظُنُّونَ؛ لأنَّ السَّعيَ بَينَهما مِن شَعائرِ اللهِ، أيْ: مِن مَناسِكِ الحَجِّ والعُمرةِ، وقال الزُّهريُّ: ثمّ أخبَرتُ أبا بَكرِ بنَ عبدالرَّحمنِ بحَديثِ عائِشةَ، فأعجَبَه ذلك، وقال: إنَّ هذا لَعِلْمٌ، أيْ: إنَّ كلامَ عائِشةَ -رضي الله عنها- لَعِلْمٌ ما كُنتُ سَمِعتُه. ثمّ بَيَّنَ أنَّه سَمِعَ رِجالًا مِن أهلِ العِلمِ قالوا بغَيرِ الذي قالَتْه عائِشةُ -رضي الله عنها-، فإنَّهم لم يَخُصُّوا سَبَبَ نُزولِ الآيةِ بطائِفةٍ واحِدةٍ، وهي الأنصارُ الذين كانوا يَتحرَّجونَ مِنَ الطَّوافِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ، بل ذَكَروا طائِفةً أُخرى عَكْسَها، مِمَّن كان يُهِلُّ بمَناةَ، فكانوا يَطوفونَ كُلُّهم بالصَّفا والمَروةِ ولا يَتحرَّجونَ، فلَمَّا ذَكَرَ اللهُ -تعالى- الطَّوافَ بالبَيتِ ولم يَذكُرِ الصَّفا والمَروةَ في القُرآنِ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، كنَّا نَطوفُ بالصَّفا والمَروةِ في الجاهليَّةِ، وإنَّ اللهَ أنزَلَ في القُرآنِ الطَّوافَ بالبَيتِ، فلم يَذكُرِ الصَّفا والمَروةَ، فهل علينا مِن إثْمٍ أنْ نَطوفَ بالصَّفا والمَروةِ؟ وإنَّما سَألوا عن ذلك بِناءً على ما ظَنُّوه مِن أنَّ التَّطوُّفَ بِهما مِن فِعلِ الجاهليَّةِ، فأنزَلَ اللهُ -تعالى-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، قال أبو بَكرٍ: فأسمَعُ هذه الآيةَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} نزَلَتْ في الفَريقَيْنِ كِلَيْهما، في الأنصارِ الذين كانوا يَتحرَّجونَ، وقَومٍ مِنَ العَربِ الذين كانوا يَطوفونَ ثم تَحرَّجوا أنْ يَطوفوا بهما في الإسلامِ.
    فوائد الحديث
    1- مشروعية السّعي بين الصفا والمروة، وأنّه مِنْ شعائر الله في الحجّ والعمرة. 2- أهميَّةُ تَدارُسِ العِلمِ بَينَ العُلَماءِ وتَلاميذِهم؛ لِتَصويبِ المَفاهيمِ الخَطَأِ، وبيان الحقّ منَ الباطل. 3- الحَجُّ عِبادةٌ تَوقيفيَّةٌ، عَلَّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه إيَّاها بالفِعلِ والقَولِ، وقد نَقَلوا لنا صِفةَ هذه العِبادةِ كما رَأوْها وأدَّوْها معه - صلى الله عليه وسلم -، ورَضيَ اللهُ عنهم.
    باب: الطَّوافُ بالصَّفَا والمَرْوة سُبْعاً واحداً
    عن جَابِرِ بْنِ عبداللَّهِ - رضي الله عنه - قال: لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًاً وَاحِدًا. الحديث رواه مسلم في الحج (/930) باب: بيان أنّ السّعي لا يُكرّر. يقولَ جابرُ بنُ عبداللهِ -رَضيَ اللهُ عنهما-: «لم يَطُفِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولا أَصْحابُه بيْنَ الصَّفا والمَروةِ إلَّا طوافًا واحدًا». وفي رِوايةٍ زادَ: «طوافَه الأَوَّلَ» أي: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا، وكذا مَن كان مَعَه كان قارناً، لم يَسعَوْا بيْنَ الصَّفا والمَروةِ إلَّا سَعياً واحداً، وهوَ السَّعيُ الَّذي كانَ معَ طَوافِ القُدومِ، والقارِنُ يَكْفيهِ طَوافٌ واحِدٌ، وسَعيٌ واحدٌ؛ لأنَّ أفْعالَ العُمرةِ تَندرِجُ في أفْعالِ الحجِّ.
    الَّذين تمتَّعوا بالعُمرةِ إلى الحجِّ
    أمَّا الَّذين تمتَّعوا بالعُمرةِ إلى الحجِّ: فعليهم سَعْيانِ: سَعْيٌ لعُمرَتِهم، وسَعيٌ لحَجِّهم يومَ النَّحرِ، يُوضِّحُ ذلكَ ما رَواه البُخاريُّ -واللَّفظُ له- ومُسلمٌ: عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالتْ: «فطافَ الَّذينَ كانوا أَهلُّوا بالعُمرةِ بالبَيتِ وبينَ الصَّفا والمَروةِ، ثُمَّ حلُّوا، ثُمَّ طافوا طَوافًا آخرَ بعدَ أنْ رَجَعوا مِن منًى». أي: مَن كان مُتمتِّعًا، «وأمَّا الَّذين جَمَعوا الحجَّ والعُمرةَ» أي: مَن كان قارنًا «فإنَّما طافوا طَوافًا واحدًا».
    فوائد الحديث
    1- الإِهْلالُ بالحج إمَّا أنْ يَكونَ إفْراداً، أو قِراناً، أو تمتُّعاً بالعُمرةِ إلى الحجِّ. 2- القارن يكفيه سعيٌّ واحد، كما في حديث الباب، إمّا أنْ يجعلَه بعد طواف القُدُوم، كما فعلَ النّبيّ -عليه الصلاة والسلام-، أو بعد طواف الإفاضة، أو بعد طواف الوداع، ولا يُعيد الطواف حينئذٍ. وأمّا المتمتع فإنّه يسَعى سعيين: سَعياً لعُمْرته، ثمّ سعياً آخر لحجّه يوم النّحر. 3- وفيه: تسمية السّعي طوافًا. 4- الحَديثُ يُوضِّحُ جانباً مِن جَوانبِ حجِّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَداعِ، فَقد كانَ قارنًا بيْنَ الحجِّ والعُمرةِ؛ لأنَّه كانَ معَه الهَديُ؛ ولِذلكَ سَعَى هو ومَنْ كان مثله سَعياً واحداً.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ما يلزم مَنْ أحْرَمَ بالحَجّ ثمّ قَدِمَ مكّة مِنَ الطّوافِ والسّعي



    كان التَّابِعونَ يَسألونَ الصَّحابةَ رَضيَ اللهُ عنهم فيما أشكَلَ عليهم مِن شَرائِعَ وعِباداتٍ وكانوا مِنْ أحرَصِ النَّاسِ على تَعلُّمِ سُنَّةِ رَسولِ اللهِ [ واتباعها

    الجِماع مِن مَحظوراتِ الإحرامِ بل هو أشَدُّها حتى يَقضيَ المُحرِمُ مَناسِكَه ويَحِلَّ منها فلا يجوز الجِماع للمُحْرم بالحج أو العمرة حتى يَتحلّل وإذا جامع في العُمرة قبل الفراغ منْ سعيها فسَدَت العمرة
    عَنْ وَبَرَةَ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيَصْلُحُ لِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ، قَبْلَ أَنْ آتِيَ الْمَوْقِفَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا تَطُفْ بِالْبَيْتِ، حَتَّى تَأْتِيَ الْمَوْقِفَ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقَدْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطَافَ بِالْبَيْتِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْقِفَ، فَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَقُّ أَنْ تَأْخُذَ، أَوْ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا؟»، وفي رواية: رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحْرَم بالحجّ، وطَافَ بالبيت، وسَعَى بينَ الصّفا والمَرْوة.
    عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: عَنْ رَجُلٍ قَدِمَ بِعُمْرَةٍ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعاً، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وفي الباب حديثان، رواهما مسلم في الحج (2/905) وبوّب عليه بمثل تبويب المصنف.
    الحَديثِ الأول
    في الحَديثِ الأول: يَرْوي التَّابِعيُّ وَبَرةُ بنُ عبدالرَّحمنِ الكوفيُّ أنَّ رجُلًا سَأل عبداللهِ بنَ عُمرَ -رضي الله عنهما-: هَل يصِحُّ أنْ أَطُوفَ بالْبَيتِ بعدَ الإِحْرامِ، وقبلَ الوُقوفِ بعَرفةَ؟ وفي رواية لمُسلم: «وقد أحرَمتُ بالحجِّ» أي: أفرَدَ الإحْرامَ بالحجِّ، ولمْ يكنْ مُتمتِّعًا ولا قارِناً، سألَه ابنُ عُمرَ -رضي الله عنهما-: وأيُّ شيءٍ يَمنعُكَ مِن أنْ تَبدأَ بالطَّوافِ؟! وهذا دَليلٌ عَلى مُوافَقةِ ابنِ عُمرَ عَلى مشروعيّة الطَّوافِ أوَّلًا. فقالَ الرَّجلُ السَّائلُ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا تَطُفْ بِالْبَيْتِ، حَتَّى تَأْتِيَ الْمَوْقِفَ؟ وفي رواية: «إنِّي رأيتُ ابنَ فُلانٍ» يقصِدُ عبداللهِ بنَ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- «يَكرهُهُ» أي: كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يَنهى عن الِابْتداءِ بالطَّوافِ، قبلَ قُدُومِ عَرَفةَ. فقَالَ له ابْنُ عُمَرَ: فَقَدْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطَافَ بِالْبَيْتِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْقِفَ، فَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَقُّ أَنْ تَأْخُذَ، أَوْ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا؟». وفي رواية لمسلم: «وأنتَ أَحبُّ إلينا مِنه، رأينَاه قدْ فتَنَته الدّنيا» يقصِدُ أنَّه يقدِّمُ قولَ ابنِ عُمرَ على قولِ ابنِ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهم-، مُدَّعيًا أنَّ ابنَ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قد فَتنَتْه الدُّنيا؛ لأنَّه كان واليًا على البَصرةِ من قِبَلِ ابنِ عمِّه عليِّ بنِ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -، والوِلاياتُ تكونُ محلَّ الخطَرِ والفِتْنةِ، وأمَّا ابنُ عُمَرَ فلم يتوَلَّ شيئاً. فقال له ابنِ عُمرَ -رضي الله عنهما-: «وأيُّنا لمْ تَفتِنْه الدُّنيا» وهذا مِن إنْصافِه، وتَواضُعِه وزُهدِه، وردّه على طَعنِ الرَّجلِ على ابنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنه -، وبَيانًا منه لفَضلِ عبداللهِ بنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما. ثُمَّ أخبَرَ ابنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحْرمَ بالحجِّ، وَطافَ بالبَيتِ طوافَ القُدومِ سَبعةَ أشْواطٍ، وسَعى بينَ الصَّفا والمَروةِ، يَعني: أنَّه ابتدَأَ بالطَّوافِ والسَّعيِ قبلَ الخُروجِ إلى مِنًى وعَرفةَ. قالَ العلماء: إنْ كان المُحْرِمُ مُفرِدًا بالحجِّ، وقَعَ طَوافُه هذا للقُدومِ، وإنْ كان مُفرِداً بالعُمرةِ أو مُتمتِّعاً أو قارِنًا، وقَعَ عن طَوافِ العُمرةِ نَواه له أو لغَيرِه، وعلى القارِنِ أنْ يطوفَ طَوافًا آخَرَ للقُدومِ. والمشهورُ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أحرَمَ قارِنًا لحَجَّةٍ وعُمرةٍ معًا، فكان طوافُه - صلى الله عليه وسلم - لعُمرتِه، ثُمَّ أُدخِلتِ العُمرةُ في أعْمالِ الحجِّ. وقد ذكر الصحابي الجليل ابنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- للرَّجلِ قاعدةً يتَّبِعُها في طلَبِه للعِلمِ، وهي أنَّ سُنَّةَ اللهِ وسُنَّةَ رَسولِه - صلى الله عليه وسلم - أَحقُّ وأوْلى في الاتِّباعِ مِن قولِ فلان، وسُنَّةِ فُلانٍ. وقولُه: «إنْ كُنتَ صادِقًا» مَعناه: إنْ كُنتَ صادِقًا في اتِّباعِكَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلا تَعدِلْ عن فِعلِه.
    فوائد الحديث
    وَرَعُ الصَّحابةِ عنِ خَوضِ بَعضِهم في أعْراضِ بعضٍ.
    وفيه: عَدمُ القَبولِ بتَزكيةِ النَّفْسِ في مَعرِضِ ازْدِراءِ الآخَرينَ.
    الحديث الثاني
    الحديث الثاني رواه البخاري في العمرة (1793) باب: متى يَحلُّ المعتمر؟ وفي هذا الحَديثِ يَروي التَّابِعيُّ عَمرُو بنُ دِينارٍ أنَّهم سَألوا عبداللهِ بنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: هل يَجوزُ أنْ يُجامِعَ الرَّجُلُ زَوجتَه وهو في العُمرةِ قَبلَ السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ؟ ومعلومٌ أنَّ الجِماعَ مِن مَحظوراتِ الإحرامِ بل هو أشَدُّها حتى يَقضيَ المُحرِمُ مَناسِكَه ويَحِلَّ منها، فلا يجوز الجِماع للمُحْرم بالحج أو العمرة، حتى يَتحلّل، وإذا جامع في العُمرة قبل الفراغ منْ سعيها، فسَدَت العمرة، ولزم المضي والاستمرار فيها، ثم قضاؤها من مكان الإحْرام بالأولى، مع ذبح شاةٍ عن كلّ واحدٍ منكما، تُذبحُ وتُوزع على فقراء مكة.
    وأمّا الجماع بعد السعي وقبل الحلق أو التقصير، فلا تفسد به العمرة، لكن تلزم فيه الفدية على التخيير. فأخبَرَه ابنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ مَكَّةَ، فطافَ بالبَيتِ الحرامِ سَبعةَ أشواطٍ، ثم صلَّى رَكعتَيْنِ خَلفَ مَقامِ إبراهيمَ، ثم سَعى بَينَ الصَّفا والمَروةِ، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21)، يُريدُ ابنُ عُمَرَ بذلك: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يكُنْ يَفعَلُ شيئًا مِمَّا ذكَرَه السَّائِلُ قَبلَ السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ.
    وَجهُ الاستِدلالِ
    ووَجهُ الاستِدلالِ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ العُمرةَ شَيئًا واحِدًا له أجزاءٌ: الطَّوافُ والصَّلاةُ خَلفَ المَقامِ، والسَّعيُ بَينَ الصَّفا والمَروةِ، ثم الحلق أو التقصير، فهذه أجزاءُ العُمرةِ، فلا يَصِحُّ أنْ يَقَعَ الرَّجُلُ على زَوجتِه بَينَ أجزائِها. وقد سألَ عَمرُو بنُ دِينارٍ جابِرَ بنَ عبداللهِ -رضي الله عنهما- أيضًا عن ذلك، فقال له جابِرٌ - رضي الله عنه -: لا يَقرَبِ الرَّجُلُ امرأتَه حتى يَطوفَ بَينَ الصَّفا والمَروةِ». رواه البخاري (1794)، أي: حتى يُتِمَّ عُمرَتَه بكُلِّ نُسُكِها، ويَحلِقَ أو يُقصِّرَ شَعرَه، ثم له أنْ يَتحلَّلَ ويُباشِرَ ما يَحِلُّ له.
    فوائد الحديث
    مَشروعيَّةُ إطلاقِ لَفظِ (الطَّوافِ) على السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ.
    كان التَّابِعونَ يَسألونَ الصَّحابةَ -رَضيَ اللهُ عنهم- فيما أشكَلَ عليهم مِن شَرائِعَ وعِباداتٍ، وكانوا مِنْ أحرَصِ النَّاسِ على تَعلُّمِ سُنَّةِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - واتباعها.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في دُخُولِ الكَعْبة والصّلاة فيها والدُّعَاء



    كان أصْحابُ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حريصين على معرفة سُنَّةِ النَّبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم واتّباعها والعمل بها وكان مِن أحرَصِهم على ذلك عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنهما
    الكَعبةُ المُشرَّفةُ هي بيتُ اللهِ العتيقُ ولها مكانةٌ عظيمةٌ في قلوبِ المسلمينَ وقد صلَّى النبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم في جَوْفِها وداخِلَها عامَ فتحِ مكَّةَ
    عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْفَتْحِ فَنَزَلَ بِفِنَاءِ الكَعْبَةِ، وأَرْسَلَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ فَجَاءَ بِالمِفْتَحِ فَفَتَحَ الْبَابَ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - وبِلَالٌ وأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، وأَمَرَ بِالْبَابِ فَأُغْلِقَ، فَلَبِثُوا فِيهِ مَلِيًاً، ثُمَّ فَتَحَ الْبَابَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَادَرْتُ النَّاسَ فَتَلَقَّيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - خَارِجاً، وبِلَالٌ عَلَى إِثْرِهِ، فَقُلْتُ لِبِلَالٍ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - اللهِ صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: بَيْنَ العَمُودَيْنِ، تِلْقَاءَ وَجْهِهِ. قَالَ: ونَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى؟ وعن ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَسَمِعْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: إِنَّمَا أُمِرْتُمْ بِالطَّوَافِ، ولَمْ تُؤْمَرُوا بِدُخُولِهِ! قَالَ: لَمْ يَكُنْ يَنْهَى عَنْ دُخُولِهِ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ، دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، ولَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ في قُبُلِ الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ. وقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ قُلْتُ لَهُ مَا نَوَاحِيهَا أَفِي زَوَايَاهَا؟ قَالَ بَلْ فِي كُلِّ قِبْلَةٍ مِنْ الْبَيْتِ.
    في الباب حديثان، رواهما مسلم في الحج (2/966) باب: استحباب دُخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة فيها، والدعاء في نواحيها كلها.
    الحَديث الأوّل
    يُخبِرُ عَبدُ اللهِ بنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- أنَّ النَّبيَّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - جاء يومَ فَتحِ مكَّةَ، وذلك في السَّنةِ الثَّامِنةِ مِن الهِجْرةِ، وكان يَركَبُ خَلْفَه أُسامةُ بنُ زَيدٍ - رضي الله عنه - على ناقَتِه الَّتي تُسمَّى القَصْواءَ، وكان معَه بِلالُ بنُ رَباحٍ وعُثْمانُ بنُ طَلْحةَ -رضي الله عنهما-، فأناخَ النَّبيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - راحِلَتَه عندَ البَيتِ الحَرامِ، وبعَثَ إلى عُثْمانَ بنَ طَلْحةَ يَجلِبُ له مِفْتاحَ البَيتِ الحَرامِ.
    عثمان بن طلحة - رضي الله عنه -
    وعثمان بن طلحة، هو الحَجَبي، قال النّووي: هو بفتح الحاء والجيم، منسوبٌ إلى حِجَابة الكعبة، وهي ولايتها وفتحها وإغْلاقها وخِدْمتها، ويقال له ولأقاربه: الحَجبّون والحَجبة، وهو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، واسم أبي طلحة عبدالله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري، أسلم مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص في هدنة الحديبية، وشهد فتح مكة، ودَفع النبي - اللهِ صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة إليه، وإلى أبي شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وهو ابن عم عثمان هذا، لا ولده، وقال: خُذُوها يا بني طلحة، خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، ثمّ نَزل المدينة، فأقام بها إلى وفاة النبي - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، ثم تحوّل إلى مكة، فأقام بها حتى توفي، سنة اثنتين وأربعين، وقيل: إنه اسْتشهد يوم أجنادين- بفتح الدال وكسرها- وهي موضع بقُرب بيت المقدس، كانت غزوته في أوائل خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وثبت في الصحيح: قوله - اللهِ صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ مأثَرةٍ كانت في الجاهلية، فهي تحتَ قدمي، إلا سِقاية الحاج، وسَدانة البيت»، قال القاضي عياض: قال العلماء: لا يجوزُ لأحَدٍ أنْ يَنْزعها منهم. قال: وهي ولاية لهم عليها منْ رسُول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، فتبقى دائمةً لهم ولذُرياتهم أبداً، ولا يُنازعون فيها، ولا يُشاركون ما داموا مَوجودين، صالحين لذلك.
    قوله: «فأتاهُ به»
    قوله: «فأتاهُ به، فدخَلَ هو وأُسامةُ بنُ زَيدٍ، وبِلالُ بنُ رَباحٍ، وعُثْمانُ بنُ طَلْحةَ -رضي الله عنهم-، وأغْلَقوا البابَ عليهم، وفي رواية: «فأغلقها عليه» ضمير الفاعل يحتمل أنْ يكون لرسول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، فقد جاء في بعض الروايات: عن ابن عمر قال: كان بنو أبي طلحة يزعُمُون، أنّه لا يستطيع أحدٌ فتحَ الكعبة غيرهم، فأخذ رسُول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم - المِفْتاح، ففتحها بيده، لكنّها رواية ضعيفة، كما جاء في رواية أخرى «فأغلقاها عليه» والضّمير لعثمان وبلال، وهي رواية ضعيفة أيضًا، رواها مالك في الموطأ، والظاهر أنّ ضمير الفاعل لعثمان بن طلحة.
    فأمر بالباب فأغلق
    ففي الرواية الثانية «فأمر بالباب فأغلق» وفي الرواية الخامسة: «وأجَافَ عليهم عثمان بن طلحة الباب» فالمباشر للغَلْق هو عثمان، لأنّه مِنْ وظيفته، وأسْندَ الفعل «أجَافُوا عليهم الباب» في الرواية الرابعة، باعْتبارهم راضيين به، وإنّما أمَرَ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - بإغْلاق الباب، ليكونَ أسْكن لقَلْبه، وأجْمع لخُشُوعه، ولئلّا يَجْتمعَ الناسُ عليه، ويَدخلوا ويزدَحموا، فينالهم ضَرر، ويَتشوّش عليه الحال بسببِ لغَطهم، وقد يقال: إنّما أغْلقه خشيةَ أنْ يكثرَ الناس عليه، فيُصلّوا بصَلاته، فليتزمُوها فيشقّ عليهم، كما فَعلَ في صلاة الليل، حيثُ لمْ يَخْرج إليهم.
    قوله: «ثمّ مكثَ فيها»
    في الرواية الثانية: «فلَبثُوا فيه مَليا»، والضّمير في «فيه» للبيت، ومليّاً، أي: زَمَناً طويلاً. وفي الرواية الرابعة: «فأجافوا عليهم الباب طويلاً» أي: أغْلقوه عليهم زَمَناً طويلاً. وقوله: «فسألتُ بلالاً حينَ خَرَج» في الرّواية الثانية: «فبادرت الناس، فتلقيتُ رسُول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم - خارجاً، وبلال على إثْره، فقلت لبلال» وفي الرواية الرابعة: «فكنتُ أول مَنْ دَخل، فلقيتُ بلالاً فقلت». وفي الرواية الخامسة: «فخرج النبي - اللهِ صلى الله عليه وسلم - ورقيت الدرجة، وكانت قدر ثلثي ذراع، فدخلتُ البيت، فقلت». ومنْ مجموع الروايات يتبيّن: أنّ عبدالله بن عُمر حين فتح الباب، رَقَى الدّرجة التي تحت الباب، فدخل عقب خُرُوج النّبيّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، والتقى ببلال في الداخل قبل أنْ يَخْرج فسَأله، فمعنى «حينَ خَرَج» حينَ قَارب، وبَاشَرَ الخُرُوج. قوله: «ماذا صنع رسول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم -؟» أي: في داخل الكعبة. وفي الرواية الثانية: «فقلت لبلال: هل صلّى فيه رسُول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. قلت: أين؟ قال.... إلخ وهذه الرواية أوضح الروايات في سؤالِ ابن عمر لبلال، وقد ذكرتْ بعض الروايات بعضاً، وتركت بعضاً، وكأنه استثبت أنّه - اللهِ صلى الله عليه وسلم - صلّى في الكعبة، ثمّ سألَ عنْ مكان صلاته فيها.
    قوله: «بين العَمُودين تِلْقاءَ وَجْهه»
    أي: في مقابل اتّجاهه. وكان سقفُ الكعْبة آنذاك قائماً على ستة أعْمدة في صفّين، كلُّ صفٍّ يَعْترض البابَ ثلاثةُ أعْمِدة، فتركَ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - صفّ الأعْمدة القريب مِنَ الباب، وفي الصفّ المُقدّم ترك عَمُوداً عن يمينه، وعمودين عن شماله، وفي مواجهة حائط الكعبة، وخلف ظَهره باب الكعبة، وهذا معنى قوله في الرواية الأولى: «جعلَ عَمُودين عن يساره، وعَمُوداً عن يمينه، وثلاثة أعْمدة وَرَاءه». وقوله في الرواية الثانية: «بين العَمُودين تلقاء وجْهه». وقوله في الرواية الرابعة: «بين العَمُودين المُقدّمين». وقوله في الرواية السادسة والسابعة: «بين العمودين اليمانيين» بتخفيف الياء، لأنّهم جعلوا الألف بدل إحدى ياءي النّسب، وجوّز سيبويه التشديد. قال النووي: هكذا هو في مسلم: «عَمُودين عن يساره، وعَمُوداً عن يمينه». وفي رواية للبخاري: «عَمودين عن يمينه، وعَمُوداً عن يساره» وهكذا هو في الموطأ وفي سنن أبي داود. وفي رواية للبخاري: «عَمُوداً عن يمينه، وعَمُوداً عن يساره». اهـ وقد روى البخاري: أنّ عبدالله بن عُمر: كان إذا دَخَلَ الكعْبة، مَشَى قبل الوجْه حين يَدخل، ويجعل الباب قِبلَ الظُّهر، ويَمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قِبل وجْهه، قريباً من ثلاثة أذرع، فيُصلّي، يَتَوخّى المكان الذي أخبره بلالٌ، أنّ رسول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم - صلى فيه.
    مكوث النبي - اللهِ صلى الله عليه وسلم - داخل الكعبة
    فمَكَثَ النَّبيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - ومَن معَه داخِلَ الكَعْبةِ وَقْتًا طَويلًا، ثمَّ خرَجَ، فأسرَعَ النَّاسُ في الدُّخولِ إلى الكَعْبةِ، وكان عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أسْبَقَ النَّاسِ إلى الدُّخولِ، فلمَّا دخَلَ وجَدَ بِلالَ بنَ رَباحٍ - رضي الله عنه - واقفًا وراءَ البابِ، فسَأَلَه: أين صلَّى رَسولُ اللهِ - اللهِ صلى الله عليه وسلم -؟ فقال له: صلَّى بيْنَ ذَيْنِكَ العَمودَيْنِ المُقدَّمَينِ، وكان البَيتُ الحَرامُ على سِتَّةِ أعْمِدةٍ سَطرَينِ، أي: صَفَّينِ، وذلك قبْلَ أنْ يُهدَمَ، ويُبْنى في زمَنِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ -رضي الله عنهما-، فصلَّى النَّبيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - بيْنَ العَمودَينِ في الصَّفِّ الأوَّلِ، وجعَلَ البابَ خَلْفَ ظَهرِه، واستقبَلَ بوَجْهِه ما يَستَقبِلُه مَن يَدخُلُ البَيتَ مِن الجِدارِ، وكان عندَ المَكانِ الَّذي صلَّى فيه النَّبيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - مَرْمَرةٌ حَمْراءُ، وهي منَ الأحْجارِ النَّفيسةِ. قال ابنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: ونَسيتُ أنْ أسْأَلَه: كمْ صلَّى؟
    فوائد الحديث
    مَشْروعيَّةُ دُخولِ الكَعْبةِ، والصَّلاةِ بداخلها.
    وفيه: السُّؤالُ عن الشّيء مِنْ أجْلِ العِلمِ، والحِرصُ عليه.
    وفيه: تَواضُعُ النَّبيِّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، وحُسنُ عِشرَتِه لأصْحابِه، وحَملُه النَّاسَ على دابَّتِه.
    ما كان عليه أصْحابُ رَسولِ اللهِ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - مِنَ الحِرصِ على معرفة سُنَّةِ النَّبيِّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، واتّباعها والعمل بها، فَفِيها خير الدُّنْيا والآخِرةِ، وكان مِن أحرَصِهم على ذلك عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ -رضي الله عنهما-.
    أنّ الكَعبةُ المُشرَّفةُ هي بيتُ اللهِ العتيقُ، ولها مكانةٌ عظيمةٌ في قلوبِ المسلمينَ، وقد صلَّى النبيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - في جَوْفِها وداخِلَها عامَ فتحِ مكَّةَ.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •