سُورُةُ الْأَعْلَى
يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
سُورَةُ (الْأَعْلَى): سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ[1]، وَآيُها تِسْع عَشْرَةَ آيَةً.
أَسْمَاءُ السُّورَةِ:
وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ أَسْمائِهَا: سُورَةُ (سَبِّحِ اسْمَ ربِّكَ الْأَعَلَى)، وَسُورَةُ (سَبِّحْ)، وَسُورَةُ (الأَعْلَى)[2].
الْمَقَاصِدُ الْعَامَّةُ لِلسُّورَةِ:
حَوَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْكَثيرَ مِن اْلمَقاصِدِ وَالْمَعَانِي الْعظيمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ[3]:
• تَنْزيهُ اللهِ سبحانه وتعالى، وَالإِشَارَةُ إلى وَحْدانِيَّتِهِ ؛ لِانْفِرادِهِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَخَلْقِ مَا في الْأَرْضِ مِمَّا فِيهِ بَقَاؤُهُ.
• الأَمْنُ مِنْ نَسْخِ الْآيَاتِ، وَبَيَانُ سُهُولَةِ الطَّاعَاتِ.
• الْحَثُّ عَلى الصَّلَاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ.
• ذِكْرُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيَا، وَلَا يَعْبَؤُونَ بِالْحيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ.
مِنْ فَضَائِلِ السُّورَةِ:
جَاءَ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ كَثيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
أولًا: ما ورد عن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِئَانِنَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ الْوَلَائِدَ وَالصِّبْيَانَ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ جَاءَ، فَمَا جَاءَ حَتَّى قَرَأْتُ: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ﴾ [سورة الأعلى: 1] فِي سُوَرٍ مِثْلِهَا»[4]، وفي هذا: مَشْروعِيَّةُ تَعَلُّمِ وَحِفْظِ سُورَةِ الْأَعْلى.
ثانيًا: ما ورد عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشيرٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ بِـ: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ﴾، وَ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴾»[5]، وفي هذا: مَشْروعِيَّةُ قِراءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ في صَلَاتَي الْعيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ.
ثالثًا: ما ورد عن جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُوْل اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِـ ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ﴾»[6]، وفي هذا مَشْروعِيَّةُ قِراءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ في صَلاةِ الظُّهْرِ.
رابعًا: مَا وَرَدَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِـ ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ﴾، وَ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾، وَ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾»[7]، وفي هذا: مَشْروعِيَّةُ قِراءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ في صَلاةِ الْوِتْرِ.
خامسًا: ما ورد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ: «فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِـ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ﴾، ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾، ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ﴾، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الحَاجَةِ»[8]، وفي هذا: مَشْروعِيَّةُ الْقِراءَةِ بِهذِهِ السُّورَةِ في صَلاةِ الْجَماعَةِ تَخْفِيفًا عَلى النَّاسِ.
شَرْحُ الْآيَاتِ:
قَوْلُهُ: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ﴾،أَيْ: نَزِّهْ رَبَّكَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الشَّرِيكِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النَّقَائِصِ[9]، ﴿ الأَعْلَى ﴾،الَّذِي لَهُ الْعُلُوُّ الْمُطْلَقُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ: عُلُوُّ الذَّاتِ، وَعُلُوَّ الْقَدْرِ، وَعُلُوُّ الْقَهْرِ[10].
قَوْلُهُ: ﴿ الَّذِي خَلَقَ ﴾، أي: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنَ الْعَدَمِ، ﴿ فَسَوَّى ﴾،أَيْ: فَأَتْقَنَ خَلْقَهُ عَلَى أَحْسَنِ صُورَةٍ[11]، وَجَعَلَهُ مُتَناسِبَ الْأَجْزاء غَيْر مُتَفاوِتٍ[12]، كَمَا قَالَ اللهُ: ﴿ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ﴾ [سورة القيامة: 38]، وَقَالَ اللهُ: ﴿ يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَك * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَك ﴾ [سورة الانفطار: 6-8]، وَقَالَ اللهُ: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم ﴾ [سورة التين: 4].
قَوْلُهُ: ﴿ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾،أَيْ: قَدَّرَ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيءٍ[13]، كمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [سورة الفرقان: 2]، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»[14] [15]، ومعنى: (هدى)، أَيْ: يَسَّرَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ مَا قَدَّرَهُ لَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ: بَيَانُهُ لِلْإِنْسَانِ سَبِيلَ الْخَيْرِ وَالشَّرِ[16]، كَمَا قَالَ اللهُ: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن ﴾ [سورة البلد: ١٠].
قَوْلُهُ: ﴿ وَالَّذِي أَخْرَجَ ﴾ مِنَ الْأَرْضِ، ﴿ الْمَرْعَى ﴾ مِمَّا تَرْعَاهُ الدَّوَابُّ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَالْعُشْبِ[17].
قَوْلُهُ: ﴿ فَجَعَلَهُ ﴾، أي: بَعْدَ خُضْرَتِهِ، ﴿ غُثَاء ﴾،أَيْ: هَشِيمًا جَافًّا[18]، ﴿ أَحْوَى ﴾،أَيْ: مَائِلًا إِلَى السَّوَادِ بَعْدَ الخُضْرَةِ[19]؛ لِأَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ نِهَايَةٌ.
قَوْلُهُ: ﴿ سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنسَى ﴾، أَيْ: سَنُعلِّمُكَ أيُّها الرَّسُولُ الْقُرآنَ عَلَى لِسانِ جِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام، فَتَحْفَظُهُ، ولا تَنْسَى مِنْهُ شيْئًا[20].
قَوْلُهُ: ﴿ إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ ﴾، أيْ: نِسْيانَهُ مِمَّا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ[21].
قَوْلُهُ: ﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾،أَيْ: إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا ظَهَرَ مِنْ أَحْوالِكُمْ وَمَا بَطَنَ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكِ[22].
قَوْلُهُ: ﴿ وَنُيَسِّرُكَ ﴾، أَيْ: وَنُوَفِّقُكَ، ﴿ لِلْيُسْرَى ﴾، أَيْ: لِلشَّرِيعَةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ، وَهِيَ الإسْلامُ[23].
قَوْلُهُ: ﴿ فَذَكِّرْ ﴾، أَيْ: عِظْ بِالْقُرْآنِ، ﴿ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾،أَيْ: ذَكِّرْ مُطْلَقًا إِن نَّفَعَتِ الْمَوْعِظَةُ، وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ[24].
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرينَ إِلَى الْأَخْذِ بظَاهِرِ الْآيةِ، وَأَنَّهُ مَأْمورٌ بِالتَّذْكيرِ إِن نَّفَعَتِ الْمَوْعِظَةُ فَقَطْ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ تَنْفَعْ فَلَيْسَ بِمَأْمورٍ[25].
وَالْأَقْرَبُ -واللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمُرادِهِ- هُوَ: ما ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرينَ؛ لِوُجوهٍ أَهَمُّها ثَلاثَةٌ[26]:
الْأَوَّلُ: الْأَدِلَّةُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلى وُجُوبِ التَّذْكيرِ وَالْمْوْعِظَةِ نَفَعَتْ أَوْ لمْ تَنْفَعْ، كَقوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِين ﴾ [سورة الذاريات: 55]، وقَوْلِهِ: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّر ﴾ [سورة الغاشية: 21]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين ﴾ [سورة المائدة: 67]، وقَوْلِهِ: ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَاب ﴾ [سورة الرعد: 40]، وَغَيْرِهَا مِنَ الْآياتِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِـ: (إنْ) عَلى الشَّيْءِ لا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ آياتٌ؛ مِنْهَا: هَذِهِ الْآيَةُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: ﴿ وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا ﴾ [سورة النور: 33]، وقَوْلُهُ: ﴿ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون ﴾[سورة البقرة: ١٧٢]، وقَوْلُهُ: ﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ ﴾ [سورة النساء: 101]،فَإنَّ القَصْرَ جائِزٌ وإنْ لَمْ يُوجَدِ الخَوْفُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْآيَةَ اكْتَفَتْ بِذِكْرِ أَحَدِ الْأَمْرَينِ لِدَلالَتِهِ عَلى الثَّانِي، وَالتَّقْديرُ: (فَذَكِّر إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى أَوْ لَمْ تَنْفَعْ)، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ﴾ [سورة النحل: 81] الآيَةَ، وَالْمَعْنى: وَتَقِيكُمُ الْبَرْدَ، فَحُذِفَ الْبَرْدُ لِلْعِلْمِ بِهِ.
قَوْلُهُ: ﴿ سَيَذَّكَّرُ ﴾، أَيْ: سَيَتَّعِظُ وَيَنْتَفِعُ بِالْمَوْعِظَةِ[27]،﴿ مَن يَخْشَى ﴾، أَيْ: مَنْ يَخافُ اللَّهَ تَعَالَى، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ﴾ [سورة النازعات: 45][28].
قَوْلُهُ: ﴿ وَيَتَجَنَّبُهَ ا ﴾، أَيْ: يَتْرُكُ الْمَوْعِظَةَ وَلَا يَلْتَفِت إِلَيْها[29]،﴿ الأَشْقَى ﴾، بِمَعْنى: الشَّقِيِّ، وَهُوَ الشَّدِيْدُ الشَّقْوَةِ، وَهُوَ الْكَافِرُ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ شَقَاءً فِي الْآخِرَةِ؛ لِخُلُودِهِ فِي النَّارِ[30].
قَوْلُهُ: ﴿ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ ﴾،أَيْ: يَدْخُلُهَا[31]، ويُقَاسِي حَرَّهَا،﴿ الْكُبْرَى ﴾،وَهِيَ نَارُ الْآخِرَةِ[32]، كَما قالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى ﴾ [سورة الليل: 14-15]، وَوَصْفُ النَّارِ بِ: (الْكُبْرى) لِلتَّهْوِيلِ وَالْإِنْذَارِ، وَالْمُرَادُ بِهَا: جَهَنَّمُ[33].
قَوْلُهُ: ﴿ ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا ﴾،فَيَسْتَرِيحُ، ﴿ وَلاَ يَحْيَى ﴾، أَيْ: حَيَاةً طَيِّبَةً تَنْفَعُهُ[34].
قَوْلُهُ: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ ﴾، أَيْ: ظَفِرَ وَفازَ، ﴿ مَن تَزَكَّى ﴾،أَيْ: طَهَّرَ نَفْسَهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي وَسَيِّئِ الْأَخْلاقِ، وَحَلَّاها بِالْإيمانِ وَالطَّاعَةِ[35].
قَوْلُهُ: ﴿ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ ﴾،أي: بِمَا شَرَع مِنْ أَنْواعِ الذِّكْرِ بِقَلْبِهِ وَلِسانِهِ، ﴿ فَصَلَّى ﴾،أَيْ: الصَّلَواتِ الخَمْسَ فِي أَوْقاتِهَا وَغَيْرَها مِنَ النَّوافِلِ، وَقِيلَ: الْمُرادُ بِالصَّلاةِ هُنا: صَلاةُ الْعِيدِ[36].
كَما أنَّ الْمُرادَ بِالتَّزَكِّي في الْآيَةِ الأُولى: زَكاةُ الْفِطْرِ[37]، وهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، ولَمْ تُفْرَضْ زَكاةُ الْفِطْرِ وَصَلاةُ الْعِيدِ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ[38].
قَوْلُهُ: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ ﴾،أَيْ: تُقَدِّمونَ وَتُفَضِّلونَ أَيُّهَا النَّاسُ[39]، ﴿ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾، أَيْ: الْفَانِيَةَ عَلى الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ[40].
قَوْلُهُ: ﴿ وَالآخِرَةُ ﴾الْمُشْتَمِلَةُ عَلى الجَنَّةِ، ﴿ خَيْرٌ ﴾ مِنَ الدُّنْيا ﴿ وَأَبْقَى ﴾؛ لِمَا فيهَا مِنَ النَّعيمِ الدَّائِمِ الَّذِيْ لَا يَنْقَطِعُ وَلَا يَزوْلُ[41]؛ وَلِهَذا فَالدُّنْيا لَا شَيْءَ بِالنِّسْبَةِ للآخِرَةِ، كَمَا فِيْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّصلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَوْضِعُ سَوْطٍ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وَمَا فِيَهَا، وَلَغَدْوَةٌ في سَبيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»[42].
قَوْلُهُ: ﴿ إِنَّ هَذَا ﴾ الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾[43].
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرينَ: الْمُشَارِ إلَيْهِ بِلَفْظِ: ﴿ إِنَّ هَذَا ﴾: جَمِيعُ السُّورَةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ وَالْوَعِيدِ عَلى الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْوَعْدِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى[44].
قَوْلُهُ: ﴿ لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى ﴾،أَيْ: الْمُنَزَّلَةْ قَبْلَ الْقُرْآنِ[45].
قَوْلُهُ: ﴿ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾، قوله: (صُحُفِ): بدل من (الصحف) في الآية السابقة مجرور، وعلامة جرِّهِ الكسرة[46]، وَالْمُرَادُ بِهَا -الصُّحُف-: صُحُفٌ أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى اشْتَمَلَتْ عَلى جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْمَواعِظِ[47].
بَعْضُ الْفَوَائِدِ الْمُسْتَخْلَصَ ةِ مِنَ الْآيَاتِ:
الْأَمْرُ بِالتَّسْبِيْحِ وَفَضْلُهُ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ﴾ [سورة الأعلى: 1]: الْأَمْرُ بِالتَّسْبيحِ، وَفي ذَلِكَ وُجوبُ تَسْبيحِ اسْمِ اللهِ وَتَنْزيهِهِ عَمَّا لَا يِليقُ بِهِ، فأَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِتَسْبِيْحِهِ الْمُتَضَمّنِ لِذِكْرِهْ وَعِبَادَتِهِ، وَالْخُضُوْعِ لِجَلَالِهِ، وَالْاسْتِكَانَ ةِ لِعَظَمَتِهِ، وَأَنْ يَكُوْنَ تَسْبِيْحًا، يَلِيْقُ بِعَظَمَةِ اللهِ تَعَالَىْ، بِأَنْ تُذْكَرَ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنِىْ الْعَالِيَةِ عَلَىْ كُلِّ اسْمٍ بِمَعْنَاهَا الْحَسَنِ الْعَظِيْمِ، وَتُذكَرَ أَفْعَالَهُ الَّتِيْ مِنْهَا أَنَّهُ خَلَقَ الْمَخْلُوْقَات ِ فَسَوَّاهَا"[48].
وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِالْأَمْرِ بالتَّسْبِيحِ في الرُّكوعِ وَالسُّجودِ؛ كَمَا فِي حَديثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه: أَنَّهُ قالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم ﴾ [سورة الواقعة: 74]، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : اجْعَلُوهَا فِي رُكوعِكمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ﴾ [سورة الأعلى: 1]، قالَ: اجْعَلُوهَا فِي سُجودِكُمْ»[49]. وَثَبَتَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم ؛ كما ورد عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ لَيْلَةٍ»، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَديثَ، وَفِيهِ: «ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، فَكَانَ رُكوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيامِهِ، ثُمَّ قالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قامَ طوِيلًا قَريبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَد، فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى»[50].
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهاءُ فِي حُكْمِ التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ علَى قَوْلَيْن:
القول الأول: أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وهذا مَذَهَبُ الْجُمْهورُ[51].
القول الثاني: أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَهذا مذَهَبُ الإِمَام أَحْمَد وَغَيْره[52]، وَهُوَ الرَّاجِحُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهِ وَأمْرُهُ لِلْوُجوبِ، وَقَالَ: «صَلُّوا كَما رَأَيْتُمونِي أُصَلِّي»[53].
(الْأَعْلَى) مِنْ أَسْماءِ اللهِ الْحُسْنى، وَبَيَان دلالَتِهِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ﴾ [سورة الأعلى: 1]: أَنَّ (الْأَعْلَى) مِنْ أَسْماءِ اللهِ الْحُسْنى، وَيَدُلُّ عَلى الْعُلُوِّ الْمُطْلَقِ الْكَامِلِ لَلهُ سبحانه وتعالى، وَقَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ سُبْحانَهُ بِالْأَعْلى؛ لِأنَّهُ تَعَالَى يَخْضَعُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ.
تَسْوِيَةُ اللهِ تَعَالَىْ لِخَلْقِهِ علَىْ صُوَرٍ مُخْتَلِفَة، لكُلِّ مخْلُوقٍ هَيْئَةٌ تُنَاسِبُه:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ﴾ [سورة الأعلى: 2]: أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ مَخْلوقٍ خِلْقَتَهُ الْمُناسِبَةَ وَالْمُلائِمَةَ لَهُ، كَما قالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴾ [سورة السجدة: 7]، وَقَالَ: ﴿ مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ﴾ [سورة الملك: 3]، وَهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا الْخَالِقُ سُبْحانَهُ، وَهِيَ عَلى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَطِبَاعٍ مُتَبَايِنَةٍ، ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [سورة النمل: 88][54].
الاسْتِدْلَالُ عَلَىْ وُجُوبِ تَنْزِيْهِ اللهِ تَعَالَى بِالنَّبَاتِ وَالزَّرْعِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى ﴾ [سورة الأعلى: 4-5]: أَنَّ مِنْ أَجَلِّ وَأَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تُوجِبُ تَنْزِيهَ اللهِ تَعَالَى وَتَسْبيحَهُ: تَفَرُّدُهُ سُبْحانَهُ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَإِنْباتِ الزَّرْعِ، وَإِثبَاتُ رُبُوبيَّةِ اللهِ تَعَالَى مُسْتَلْزِمٌ لِإِثْبَاتِ أُلُوهِيَّتِهِ سُبْحانَهُ.
الدَّعْوَةُ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي إِبْدَاعِ اللهِ فِي خَلْقِهِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى ﴾ [سورة الأعلى: 2-5]: دَعْوَةٌ لِلتَّفَكُّرِ فيمَا أَبْدَعَهُ اللهُ في خَلْقِهِ، تَقودُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ إِلى عُبودِيَّتِهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَالتَّعَلُّقِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَيَزدادُ إيمَانُهُ، وَيُواجِهُ الْحَياةَ وَشِدَّتَهَا وَهُمُومَهَا بِقَلْبٍ عامِرٍ بِالْإِيمانِ، ثَابِتٍ بِاليَقينِ، قَوِيٍّ بِالتَّوَكُّلِ، لَا تُزَعْزِعُهُ الْخُطوبُ وَالْمُدْلَهِمّ َاتُ.
يتبع